الفصل العاشر:الله يرافقنا، الله معنا

الفصل العاشر
الله يرافقنا، الله معنا

أزمة هائلة حلَّت بالبلاد، الخوف يسيطر في كلِّ مكان. صار الملك والناس يرتجفون ارتجاف الورق على الشجر. أيمضون إلى الأشوريِّين القريبين من هنا ويلجأون إلى حمايتهم؟ أيتطلَّعون إلى مصر التي هي على الحدود؟ وبماذا يكمن الخطر؟ تحالفت أرام بعاصمتها دمشق مع أفرائيم بعاصمتها السامرة مع «ممالك» أخرى للوقوف سدًّا منيعًا في وجه الزحف الأشوريّ. رفض الملك أحاز أن يدخل في هذا الحلف، فانطلقت عليه الحرب الأراميَّة الأفرائيميَّة، وخاف بشكل خاصّ أن يفرغ العرش إذا لم يكن له ولدٌ يرثه. نحن وحدنا وما من أحد معنا. تركَنا الله. تخلَّى عنّا. ماذا يكون مصيرنا؟ وأطلَّت صرخة إشعيا تدعو الناس إلى الإيمان بالله والثقة التامَّة بمن اعتاد أن يكون بقرب شعبه وبجانب المتَّكلين عليه. وأطلق كلمته الشهيرة: عمانوئيل: معنا هو الله. وهو اسم يُكتَب على الطفل الذي يأتي من الملكة الصبيَّة، ويكون مجيئه آية من السماء. وبما أنَّ الله يرافقنا سوف ترون ما يشكِّل العدوّ الهاجم على البلاد: «ذنَبا شعلتين مدخَّنتين» (إش 7: 4). فماذا يشكِّلان في وجه من هو نار آكلة؟! وكانت النتيجة أنَّ المهاجمين انسحقوا بفعل المدِّ الأشوريّ ونجت أورشليم بصلابة إشعيا وبإيمان أورشليم التي هي مدينة الله.
أجل، الله معنا. الله يرافقنا. هذا ما نكتشفه في حياة الناس الذين وضعوا ثقتهم بالله. بل هو الربُّ يكون بقربهم ساعة لا ينتبهون. وطوبى لهم إن عرفوا من أين جاءهم العون. ونتوقَّف عند شخص يعقوب الذي استطاع أن يقول: «معك يا ربّ، لا السيل يغمرني ولا الأعماق تبتلعني ولا الهاوية تطبق فمها عليَّ» (69: 16).
*  *  *
يعقوب. هو الضعيف بالنسبة إلى أخيه عيسو، المشعر، الذي نرى فيه الرجل الرجل، الذي سيأتي «على أخيه» مع أربعمئة رجل. لهذا أحبَّه أبوه، وطلب منه أن يصطاد له صيدًا ويهيِّئ له طعامًا فيباركه. هو البكر. هو الشجاع. هو «المحارب» الذي لا يحتاج إلى من يسنده. قال الكتاب: «ولمّا شاخ إسحق وكلَّت عيناه من النظر، دعا عيسو ابنه الأكبر (وقال له): "خذْ عدَّتك وجعبتك وقوسك واخرج إلى البرِّيَّة، وتصيَّدْ لي صيدًا وهيِّئ لي الأطعمة التي أحبّ"» (تك 27: 1-4).
أمّا يعقوب فهو لا يزال في «حضن أمِّه». اختاره الربُّ الذي يفضِّل الضعفاء على الأقوياء أو «يحطُّ المقتدرين عن الكراسي». لا نتطلَّع إلى حيلة يعقوب ووالدته، بل نتذكَّر أنَّ طريق الربِّ غير طريق البشر. هم يستندون إلى البكر. ولكنَّ وجه البكر يبدو معتَّمًا في الكتاب. قايين هو البكر وهو المميَّز. لمّا وُلد قالت حوّاء: «رُزقتُ (أو: اقتنيت، ق ن ا. مثل قايين) من الربِّ ابنًا» (تك 4: 1). ولمّا وُلد هابيل، لم تقل أمُّه الكلام عينه. فقال الكتاب: «وعادت وولدت أخاه هابيل». اسمه يدلُّ على الضعف، على الذي لا فائدة فيه. إنَّه يرعى الغنم ولا يستطيع أن يعمل في الحقل. هو أخٌ لقايين وكأنَّ لا علاقة له بوالديه. ثمَّ إنَّ نسل قايين سيعرف القوَّة والانتقام والصناعات. ومع ذلك، اختار الله هابيل، لا قايين. والكتاب لا يقول السبب. بل ستأتي التقاليد اللاحقة وتشرح لماذا فضَّل الله ذبيحة هابيل على ذبيحة قايين.
وماذا يشكِّل إسحق أمام إسماعيل؟ هو أصغر من أخيه وكان بالإمكان أن يبتلعه. لهذا خافت ساره على ابنها وطلبَتْ من إبراهيم أن يطرده مع أمِّه. وكيف وصفه الكتاب؟ «يكون رجلاً كحمار الوحش (وحشيًّا، لا يدجَّن)، يده على كلِّ إنسان ويد كلِّ إنسان عليه ويعيش في مواجهة إخوته» (تك 16: 12). وقبالته إسحق. ومع ذلك، ما اختار الربُّ إسماعيل مع أنَّه البكر، ومع أنَّه القويّ. راح في الصحراء وضاعت أخباره لولا أنَّ الكتاب جعله أبًا لنسل عديد. أَمّا إسحق فهو المختار من الله الذي سمع من الله فما نزل إلى مصر، كما فعل إبراهيم ويعقوب. «ظهر له الربّ وقال له: لا تنزل إلى مصر. اسكن في الأرض التي أقول لك». ويتحدَّث الكتاب عن البركة التي نالها بالرغم من الجوع في البلاد: «وزرع إسحق في تلك السنة فأصاب مئة ضعف» (آ12). هي الذروة في الغلَّة، وبالتالي ملء البركة. «فعظمت مكانته وتزايدت، فصار رجلاً عظيمًا جدًّا». لا من عنده، بل من عند الربّ «الذي يصنع فينا العظائم» (لو 1: 49) إذا كنّا في الوضاعة والتواضع والضعف.
ويوسف لم يكن بكر يعقوب، ولا يهوذا كان البكر، بل رأوبين، ونحن نعرف كيف تصرَّف هذا البكر: «صعد على مضجع أبيه فدنَّسه» (تك 49: 4). أجل، الله هو من يختار. وهكذا اختار يعقوب وفضَّله على عيسو. وبيَّن الكتاب كيف أنَّ عيسو باع البرَكة لقاء «طبيخ من العدس» (تك 25: 32). قال: «ما لي والبكوريَّة، فأنا صائرٌ إلى الموت» (آ32). سيطر عليه الجوع فتخلَّى عن أهمّ ما في حياة الإنسان، وسيكون له أن يبكي بعد أن نال يعقوب البرَكة (تك 27: 38). وسوف يتحدَّث التقليد عن هذا البكاء كما نقرأ في عب 12: 16-17 الذي حكم على عيسو حكمًا قاسيًا: «وأن لا يكون أحدٌ فيكم زانيًا أو سفيهًا مثل عيسو الذي باع بكوريَّته بأكلة واحدة. وتعلمون أنَّه لمّا أراد بعد ذلك أن يرث البركة خاب وما وجد مجالاً للتوبة، مع أنَّه طلبها باكيًا».
*  *  *
في محطَّة أولى، ساعدت الأمُّ ابنها على تقديم الطعام للوالد، الذي لم يميِّز بين عيسو ويعقوب. «فتقدَّم يعقوب إلى إسحق أبيه، فجسَّه وقال: "الصوت صوت يعقوب، واليدان يدا عيسو"» (تك 27: 22). ولبث إسحق متردِّدًا: «هل أنتَ حقًّا ابني عيسو؟» قال (يعقوب): «أنا هو» (آ24). وبالرغم من تصرُّف البشر الذي يبدو ملتويًّا، نال يعقوب البرَكة: «تخدمك الشعوب، وتسجد لك الأمم. سيدًا تكون لإخوتك وبنو أمِّك يسجدون لك. ملعون من يلعنك ومبارك من يباركك» (آ29). ولمّا جاء عيسو أجابه الوالد بالنسبة إلى أخيه: «باركته ومباركًا يكون» (آ34).
أجل، اختار الله يعقوب بالرغم من إرادة البشر. كما سوف يختار أفرائيم بدل منسَّى، مع أنَّه البكر. أراد يوسف البرَكة إلى البكر. أمّا يعقوب «فمدَّ يديه مخالفًا، فوضع يمينه على رأس أفرائيم وهو الأصغر» (تك 48: 13-14).
وها هو الربُّ يرافق يعقوب. أوَّلاً، هرَّبته أمُّه من غضب عيسو أخيه، وأرسلته إلى لابان أخيها، إلى سهل أرام (تك 28: 5). والتقت إرادة الوالد مع إرادة الوالدة فبارك يعقوب أيضًا وأرسله ليأخذ له امرأة من موطن الأجداد، لا من أرض كنعان. أمّا عيسو فشابه قايين، وأخذ يبتعد شيئًا فشيئًا عن البيت الوالديّ: «تزوَّج امرأتين من بنات الحثِّيِّين». عندئذٍ تأوَّه إسحق: «سئمتُ حياتي» (تك 27: 46). وأوصى يعقوبَ ألاّ يأخذ من بنات كنعان؛ فمضى من بئر سبع، القريبة من برِّيَّة سيناء. وها نحن أمام خبرة خاصَّة مع الربّ.
«فوصل يعقوب عند غياب الشمس إلى موضع رأى أن يبيت فيه. فأخذ حجرًا من حجارة الموضع ووضعه تحت رأسه ونام هناك» (تك 28: 11). أحسَّ يعقوب أنَّه وحده، بعد أن هرب من أخيه وانفصل عن والديه. لا يملك شيئًا سوى هذه العصا. ما قيمة حياته؟ ترك الجميعَ وتركه الجميعُ. ولكنَّ الله لم يتركه. قال الكتاب: «فحلم أنَّه رأى سلَّمًا منصوبة على الأرض، رأسها إلى السماء، وملائكة الله تصعد وتنزل عليها» (آ12). ليست السماء بعيدة، بل قريبة ويستطيع أن يصعد يعقوب إليها، بواسطة السلَّم وبرفقة الملائكة. وفوق كلِّ هذا «كان الله واقفًا على السلَّم». أيُّ نعمة هذه النعمة! ولا يكتفي اللّه بأن يكون صامتًا، بل كلَّم يعقوب فقال: «أنا الربُّ إله إبراهيم أبيك وإله إسحق». هو الربُّ كان مع أبي وكان مع جدِّي. وهو الآن حاضر معي ويكلِّمني ويقول لي: «لا أتخلَّى عنك حتّى أفي لك بكلِّ ما وعدتُك» (آ15). وعده بأرض يقيم عليها. وبنسل يكون كتراب الأرض كثرة (آ14).
حسب يعقوب أنَّه وحده. كم أخطأ. فالله أتى إليه في الحلم كما اعتاد أن يفعل. وأرسل له الملائكة الذين يعدُّون الطريق للظهور الإلهيّ. وحين أفاق يعقوب من نومه، وعى حضور الله ورفقتَه له. فقال: «الربُّ في هذا الموضع ولا علم لي» (آ16). مرَّات عديدة لا ننتبه إلى حضور الله في حياتنا. وهكذا استحى يعقوب من نفسه: الربُّ معي. الربُّ هنا وأنا غافل! عندئذٍ هتف: «ما أرهب هذا الموضع! ما هذا الموضع إلاَّ بيت الله وباب السماء!» (آ17). أنت لست غريبًا حين تكون في بيت الله. أنت لا تكون وحدك حين تكون السماء مفتوحة. فالله يرعاك من الأعالي، يرافقك من فوق. كانت صورتان في مسيرة الخروج. الأولى في الليل: نار الله تسير أمام الجماعة. هو مشعلٌ يزيل العتمة بقدر ما يتقدَّم موسى والذين معه. والثانية في النهار: غمامة تحمي السائرين من أشعَّة الشمس الحارقة. فهم في الصحراء حيث لا شجر ولا ظلّ يحمي قافلة الله المتوجِّهة إلى لقاء الربِّ. قال سفر الخروج في هذا المجال: «وكان الربُّ يسير أمامهم (مثل قائد جيش) نهارًا في عمود من سحاب، ليهديهم في الطريق، وليلاً في عمود من نار ليضيء لهم. فواصلوا السير نهارًا وليلاً» (خر 13: 21).
*  *  *
كيف يتذكَّر يعقوب هذه الخبرة قبل أن ينطلق إلى محطَّة ثانية تصل به إلى سهل أرام؟ «وبكَّر». هذا الفعل يدلُّ على الاجتهاد في تتميم ما يطلب منّا الربّ. «في الغدّ». لا مجال للتأخُّر إلى يومين وثلاثة. فختمُ الربُّ حاضر ولا يزال طريئًا إذ أحسَّ يعقوب بعاطفة الخوف والرهبة أمام الحضور الإلهيّ. تلك عاطفة المؤمن التي تُفهمه أنَّه ضعيف أمام قدرة الله. خاطئ أمام قداسة الله. ضائع، حيران حين الطريق تنبسط أمامه. «أخذ الحجر الذي وضعه تحت رأسه، ونصبه عمودًا (علامة ثابتة) وصبَّ عليه زيتًا ليكرِّسه للربّ» (آ18). تبدَّل يعقوب. ويجب أن يتبدَّل اسم المكان بعد أن تبدَّلت وجهته. لم يعد مرتبطًا بآلهة الزراعة. لم يعد اسمه «لوز»، واللوز شجرة مقدَّسة وهي تسبق سائر الأشجار حين تزهر. صار اسم المكان: بيت إيل، بيت القدير، بيت الله.
وعد الربُّ يعقوب بأن يعطيه أرضًا ونسلاً. وها هو يعِدُ الله من خلال نذر ينذره. أربعة أمور. الأوَّل: «إن كان الله معي». ألم تشعر بذلك يا يعقوب؟ «فالربُّ لا يهمل الذين يطلبونه» (مز 9: 12). الثاني: «إن حفظني في هذه الطريق التي أسلكها». سوف يقول التقليد إنَّ يعقوب وصل بسرعة غريبة، وكأنَّ الله حمله. الثالث: «إن رزقني (الله) خبزًا آكله وثيابًا ألبسها». كلُّ هذا حصل له حين التقى بابنة خاله عند العين. أتت قبل سائر الرعاة: «دحرج الحجر عن فم البئر، وسقى الغنم. وقبَّل راحيل ورفع صوته وبكى» (29: 10)، من الفرح بدون شكّ. والرابع: «إن رجعتُ سالمًا إلى بيت أبي». إذا تحدَّثنا عن هذه «الشروط» التي يضعها يعقوب، نبتسم بعض الشيء من تصرُّف الإنسان تجاه الله. ومع ذلك، بدا الله وكأنَّه قبِل بما نذره يعقوب.
يومًا بعد يوم سوف يرى يعقوب أنَّ الله معه. إنَّه يرافقه. أوصله إلى البئر حيث كانت راحيل. بعد ذلك كان في بيت خاله حيث وجد عملاً. وتزوَّج واقتنى الماشية بشكل حسدَه أولاد خاله الذين اعتبروا أنَّه سارق، فقالوا: «أخذ يعقوب كلَّ ما لأبينا، وممّا لأبينا جمع كلَّ هذه الثروة» (تك 31: 1).
حاول الخال أن يستغلَّ ابن أخته. في الأصل، بدل أن يزوِّجه راحيل التي أحبّ، خدعه وأعطاه ليئة. وسيقول يعقوب في النهاية: «أرى أباكما تغيَّر نحوي عمّا كان عليه من قبل. ولكن إله أبي كان معي» (آ5). يعقوب وحده في أرض غريبة. خاله أقوى منه، وأولاد خاله. ولكنَّه أحسَّ أنَّ الله كان معه، وحفظه. ثمَّ قال لراحيل وليئة: «أنتما تعرفان أنِّي خدمتُ أباكما بكلِّ قدرتي. وأبوكما غدر بي وغيَّر أجرتي عشر مرَّات. ولكنَّ الله لم يدَعْه يُسيء إليَّ» (آ6).
أجل، الله حفظ يعقوب وهو في سهل أرام. وها هو يحفظه الآن سالمًا بعد أن لحق به لابان ورجاله، «وسعى وراءه مسيرة سبعة أيَّام» (آ22). وكان بودِّه أن يستعيد النساء والبنين حاسبًا ابن أخته عبدًا. جاء وحده ويعود وحده. جاء فقيرًا ويمضي فقيرًا. هنا يروي الكتاب: «جاء الله إلى لابان الأراميّ في الحلم ليلاً وقال له: "إيَّاك أن تكلِّم يعقوب بخير أو شرّ"» (آ24).
وهكذا خاف لابان أن يُسيء إلى يعقوب. وذكر هو نفسه تدخُّل الله: «والآن أنا قادر أن أعاملك بسوء لولا أنَّ إله أبيك كلَّمني البارحة...» (آ29). حفظ الله يعقوب من خاله لابان، وسوف يحفظه من أخيه عيسو. قال الكتاب: «فأسرع عيسو إلى لقائه، وعانقه، وألقى بنفسه على عنقه وقبَّله، وبكيا» (تك 33: 4). وقدَّم يعقوب هديَّة لأخيه كأنَّها تعويض عمّا مضى، وراح كلُّ واحد في طريقه، بانتظار أن يجتمعا حول أبيهما عند ساعة موته: «وفاضت روح إسحاق ومات وانضمَّ إلى آبائه شيخًا شبع من الحياة. ودفنه عيسو ويعقوب ابناه» (تك 35: 29).
*  *  *
وقبل العودة إلى كنعان وظهور الربِّ ليعقوب في بيت إيل (تك 35: 9-15)، بحيث تنتهي المسيرة التي انطلقت من هناك، نتوقَّف عند خبرة روحيَّة ثانية عرفها يعقوب قبل الدخول إلى أرض الآباء. دعاها الشرّاح: صراع يعقوب مع الله. كان ذلك عند معبر يبُّوق. بعد أن عبرت العيال كلُّها، لبث يعقوب وحده. إلى أين هو داخل؟ وهل يحقُّ له أن يعود إلى هنا كما مضى منذ عشرين سنة؟ لا بدَّ من «عماد» خاصّ، وغطْس في سرِّ الله. كلُّ هذا صوَّره الكتاب بشكل صراع بين اثنين: بين يعقوب ورجل. دعاه سفر هوشع (12: 5) ملاكًا. ولكنَّنا سنعرف هنا أنَّه الله بالذات، حين دعا يعقوب اسم المكان «فنوئيل» أي وجه الله. وقال: «رأيت الله وجهًا لوجه ونجوت بحياتي» (تك 32: 31).
رفض يعقوب أن يترك «هذا الرجل» وشأنه، مع أنَّ الصباح اقترب من الطلوع. قال: «لا أتركك حتّى تباركني» (آ28). وسأله عن اسمه. أجاب: «يعقوب». وهناك عند مجاز يبُّوق تبدَّل الاسم. لم يعُد ذاك المقاتل مع الله ومع البشر: تعقَّب أخاه عيسو. اختلف مرَّات مع خاله. وها هو الآن يقاتل الله وكأنَّه يريد أن يدخل إلى أرضه من دون إذنه. حسب نفسه ذاك القويّ، فإذا هو يُضحي ذاك «العارج من وركه» (آ32). مرور الربِّ لا يكون عابرًا، بل يترك أثرًا في الجسم، كعلامة على أثر آخر لا يُرى. وهكذا تحوَّلت حياة يعقوب. في ضعفه تغلَّب على الأقوياء. لهذا صار اسمه «إسرائيل»، أي الربُّ هو القويّ. ما حصل لأبي الآباء هذا من صعوبات، تجاوزها بقدرة الله، لا بقدرته الخاصَّة، ولا بحيلته التي ما انطلت، تقريبًا، حتّى على أبيه. وهذه القوَّة سترافق يعقوب حين يحلُّ الجوع ويمضي إلى مصر مع عياله. فبعد أن ذبح ذبائح، دعاه الله وقال له: «أنا الله إله أبيك. لا تخف أن تنزل إلى مصر... أنا أنزل معك إلى مصر وأنا أصعدك من هناك» (تك 46: 3-4).
*  *  *
لا مجال للخوف والله معه. راح إبراهيم ولكنَّه رجع إلى أرض كنعان. وإسحق مُنع من الذهاب إلى مصر. أمّا يعقوب فشجَّعه الله: نمضي معًا ونعود معًا. حقًّا الله هو عمانوئيل: الله معنا. أو: معنا هو الله. سيكون رفيق أبناء يعقوب في نزولهم إلى مصر وفي عبورهم البحر والمسيرة في البرِّيَّة، بانتظار الصعود إلى أرض موآب وعبور الأردنّ. الربُّ معنا شرط أن نكون معه ولا نتذمَّر في كلِّ خطوة كما فعل العبرانيُّون في البرِّيَّة. فالمسيرة مع الله تفترض عريًا وتجرُّدًا. لا نتعلَّق بأيِّ شيء. بل نترك وراءنا كلَّ شيء ونسير بقيادة الربّ. الآكام تنخفض، والوديان ترتفع، المعوجّ يصبح قويمًا والأرض الوعرة تصبح سهلاً، لأنَّ الربَّ تكلَّم (إش 40: 4-5). وتتحوَّل الصحراء كما قال إشعيا أيضًا: «تفرح البرِّيَّة والبادية، ويبتهج القفر ويزهر مثل النرجس. أجل، يزهر إزهارًا، ويبتهج ويرنِّم طربًا... تتفجَّر المياه وتُجرى الأنهار وينقلب السراب غديرًا والرمضاء ينابيع ماء...» (35: 1-2، 6). هي طريق سالكة، طريق القداسة (آ8). صارت هكذا لأنَّ الربَّ مرَّ من هنا. فمن لا يرافقه. من لا يناديه: عمانوئيل. يا إلهنا أنت معنا. من لا يقول له: «أنت إلهنا مدى الدهر، أنت إلى الأبد يا هادينا» (مز 48: 15).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM