الفصل الرابع عشر:الشعانين كأيقونة القيامة

الفصل الرابع عشر
الشعانين كأيقونة القيامة

بعد أن كتب إنجيل يوحنّا عن دخول يسوع إلى أورشليم، أشار إلى أنَّ التلاميذ لم يفهموا معنى ما حصل في ذلك الوقت (12: 16). ولكن «بعدما تمجَّد يسوع» تذكَّروا. أين مجد يسوع؟ حين يظهر أنَّه الابن الوحيد، ومرسَل الآب.
الكلمة صار بشرًا
وسكن بيننا
فرأينا مجده (1: 14)
رأيناه مجيدًا، ومن خلاله رأينا الآب، على ما قال يسوع نفسه: «من رآني رأى الآب، فكيف تقول: أرنا الآب؟» (14: 9). والابن الذي هو الكلمة «سكن». أمّا اللفظ اليونانيّ فيقول: جعل خيمته بيننا، بين خيامنا. هكذا كانت خيمة الله وسط خيام الشعب الأوَّل في البرِّيَّة. وهكذا سيكون الهيكل في قلب البلاد كرمز إلى حضور الله.
وهذا المجد الذي ناله يسوع منذ تأسيس العالم، بل قبل خلق الكون، تجلَّى خلال حياته على الأرض. تلك كانت صلاته الأخيرة قبل الانطلاق الأخير:
فمجِّدني الآن يا أبي لديك
بالمجد الذي كان لي عندك
قبل أن يكون العالم (17: 5).
يمكن أن يكون الكلام عن مجد الابن في الأزل، لدى الآب:
في البدء كان الكلمة
والكلمة كان لدى الله
وكان الكلمة الله.
ويمكن أن يكون عن سرِّ التجسُّد. فمشروع التجسُّد وإقامة الله بين البشر لم يكن سببُه الأوَّل خطيئة الإنسان. فاللاهوت الشرقيّ واضح في هذا المجال: إذا كان الإنسان خُلق على صورة الله كمثاله، فأين هي هذه الصورة؟ نجدها في يسوع المسيح الذي هو وحده الصورة التامَّة للآب، كما قال بولس الرسول. هذا يفهمنا كلام الرسول أيضًا: يسوع هو بكر الخلائق كلِّها. والبكر هو الأوَّل. وبعده جاءت السماوات والأرض والنجوم. من هنا نفهم شرح الآباء لسفر التكوين. فالفعل «قال» الذي يرد عشر مرَّات، يشير إلى الكلمة الالهيّ الذي به خُلق كلُّ شيء، وبدونه لم يُخلَق شيء بدونه، «لم يكن شيء ممّا كان» (1: 3).
تجلَّى هذا المجد خلال حياة يسوع على الأرض. ولكنَّ الوقت المميَّز لتمجيد يسوع هو وقت موته وقيامته. هنا نقرأ في امتداد خبر دخول يسوع إلى أورشليم هذا المقطع الرائع الذي فيه يضمُّ الإنجيليّ مسيرة الحاش والآلام، منذ النزاع في بستان الزيتون حتّى الارتفاع على الصليب.
جاء بعض اليونانيِّين يريدون أن يروا يسوع. وكيف يرونه؟ هو إنسان مثل سائر الناس، هو شابٌّ بين هؤلاء الشباب ولا شيء يفرِّقه عنهم. هذا في الخارج. فلو لبث الأمر هكذا، لكان هؤلاء الغرباء سألوا عنه أيًّا كان في هذا الجمع. ولكنَّهم أتوا إلى من يمكن أن يدلَّهم على عمق شخص يسوع. أتوا إلى فيلبُّس، وفيلبُّس مع أندراوس اقتاداهم إلى يسوع (12: 22)، عندئذٍ أجابهما يسوع:
جاءت الساعة
التي فيها يتمجَّد ابن الإنسان
إن كانت الحبَّة من الحنطة
لا تفع في الأرض وتموت
فهي تبقى مفردة.
وإذا ماتت،
أخرجت حَبًّا كثيرًا (آ23-24).
هو كلام عن الموت مع مَثل الحبَّة التي تُزرَع. في خطبة الأمثال (مت 13)، كان يسوع الزارع الذي خرج ليزرع حنطته. أمّا الآن، فهو الحبَّة المزروعة التي تموت لتعطي الثمار الكثيرة. ونتذكَّر أنَّ لفظ «كثير» في الكتاب المقدَّس يعني البشريَّة كلَّها على ما نقرأ في خبر العشاء السرِّيّ: «دمي... يُسفك من أجل الكثيرين لغفران الخطايا». ويتواصل النصُّ في طريقة رمزيَّة رائعة تجعل آلام الابن مجيدة:
«الأن نفسي قلقة، فماذا أقول؟
(أأقول): يا أبي نجِّني من هذه الساعة؟
ولكنِّي جئت من أجل هذه الساعة
يا أبي، مجِّدِ اسمك.»
فجاء صوت من السماء (يقول):
«مجَّدتُه وسوف أمجِّده أيضًا» (آ27-28).
الساعة هي ساعة الموت والقيامة، كما في لحظة واحدة. طلب يسوع في بستان الزيتون أن تبتعد عنه هذه الكأس. ولكنَّه أسرع فقال: «لا كمشيئتي، بل كمشيئتك». وهنا قال: «أنا جئت من أجل هذه الساعة». هو الهدف. هو الذروة. عندئذٍ يكون مجد الله كاملاً. وصل إلى الشعب اليهوديّ، وهو يصل إلى الأمم الوثنيَّة. عندئذٍ نفهم دخول يسوع إلى أورشليم الذي هو البداية، بانتظار الدخول إلى أورشليم السماويَّة. عندئذٍ تسير البشريَّة كلُّها في موكبه. ونحن نكون معه خلال أسبوع الآلام الذي تدعونا الكنيسة لكي نعيشه، والذي ينتهي يوم الأحد الكبير، يوم القيامة.
*   *   *
المسيح قام. المسيح انتصر على الشرِّ والموت. نمضي إلى لقائه بأغصان النخل. رمزُ النخل قديم، إنَّه شجرة مقدَّسة. في العالم الأشوريّ، أقام عليها الإله الشمس. والمصريُّون جعلوا الأغصان على المدافن كرمز إلى القيامة والحياة الدائمة. والنخل بأوراقه الخضراء يرمز إلى النصر والارتفاع والولادة الجديدة والخلود. وأغصان النخل التي بها استقبل الناس يسوع يوم الشعانين، صوَّرت مسبقًا قيامة المسيح في نهاية دراما الجلجلة. لهذا يصوَّر الشهداء وهم يحملون غصن النخل. هم انتصروا مع المسيح، ماتوا كما مات، وقاموا كما قام، على ما قال الرسول: «إن متنا معه نعيش معه. إذا صبرنا نملك معه» (2 تم 2: 11-12).
وكانوا يقولون إنَّ شجرة النخلُ حتّى لو كان فوقها الحملُ الثقيل. فالصعوبات التي تحلُّ بها، وبمن ترمز إليه، تنمي القوَّةَ عندها:
الحمل على النخيل لا يجعله ينحني
فالنصر له، وهو يعطي دومًا الثمار الحلوة
هكذا من يثق بالله، ويصلِّي صلاة الأبرار
تأتي دومًا فرقة من الملائكة
فتعينه في الساعات الصعبة.
ونتذكَّر المنتصرين في سفر الرؤيا. يصفهم الرائي فيقول (7: 9-10):
ثمَّ نظرتُ جمهورًا كبيرًا لا يُحصى،
من كلِّ أمَّة وقبيلة وشعب ولسان
وكانوا واقفين أمام العرش وأمام الحمل
يلبسون ثيابًا بيضاء
ويحملون بأيديهم أغصان النخل
وهم يصيحون بصوت عظيم:
«النصر لإلهنا الجالس على العرش وللحمل».
أقطار الأرض الأربعة هي حاضرة هنا، كما كانت عند صليب يسوع من خلال النسوة الأربعة اللواتي وقفن عند الصليب: أمُّه، أي أمُّ يسوع. وأخت أمِّه، أي سالومة، أمُّ يعقوب ويوحنّا. ومريم كلاوبا، أي أمُّ إخوة يسوع، يعقوب وسمعان ويوسي ويهوذا. ومريم المجدليَّة، تلك الخاطئة الكبيرة التي كانت أوَّل من بشَّر التلاميذ بالقيامة. هم «واقفون» وقفة القيامة، لا نومة الموت. هذا مع أنَّهم «ماتوا»، «قتلوا» في الاضطهاد، «مرُّوا في المحنة العظيمة» (آ14). لباسهم ثوب أبيض. هو علامة النصر والسماء، علامة القيامة. وهذا الثوب «غُسل بيد الحمل». يبدون تعساء في نظر العالم، لأنَّهم تركوا هذه الدنيا. ولكنّ الفرح يملأ وجوههم «أغصان النخل في أيديهم»، والنشيد في أفواههم، لا بصوت خافت، بل «بصوت عظيم». هم لا يندبون حظَّهم لأنَّ حياتهم انتهت، بل يهتفون: «النصر لإلهنا وللحمل». أجل، حمل الله الذي يحمل خطايا العالم، هو الآن في ملء «النصر». حرفيًّا: الخلاص. هذا ما يلتقي مع نشيد الذين استقبلوا يسوع يوم الشعانين: «هوشعنا». أي: هب الخلاص. تعالى إلى معونتنا. هو نداء إلى الله بعد النصر الذي ناله. هو نداء إلى الملك وهتاف كما قال القدِّيس أوغسطين: «لفظُ هوشعنا هو كلام توسُّل، يعبِّر بالأحرى عن عاطفة تخرج من القلب، أكثر منه فكر محدَّد... فماذا يعني للملك الأزليّ، ملك الدهور، أن يكون ملك البشر؟ فيسوع ما كان ملك إسرائيل الذي يفرض الضرائب، ويجنِّد الجيوش ويسلِّحهم، بل هو ليسوس النفوس ويقودها إلى ملكوت السماوات. فإن أراد أن يكون ملك إسرائيل، فهذا لم يشأه ليرتفع، بل ليدلَّ على لطفه من أجلنا. هي شهادة عن رحمته، لا علامة عن قدرته، لأنَّ الذي دُعيَ على الأرض ملك اليهود، هو في السماء ملك الملائكة».
هذا الملك هو حامل السلام لا الآتي بالحرب والدمار إلى العالم، شأنه شأن سلاطين الدنيا. وسوف يقول لبيلاطس: «مملكتي ليست من هذا العالم. فلو كانت من هذا العالم لكان جنودي يدافعون عنِّي» (يو 18: 36). أمّا في إنجيل لوقا، فهتفت جماعة التلاميذ: «تبارك الملك الآتي باسم الربّ. السلام في السماء، والمجد في العلى» (19: 38). فالكلام الذي قاله الملائكة يوم ميلاد المخلِّص، قاله التلاميذ في دخوله إلى أورشليم. فهو في موته، جاء يُحلُّ السلام على الأرض، بحيث لا يبقى بعيد ولا يبقى قريب، لأنَّهم جميعهم أبناء بيت الله. هنا نقرأ الرسالة إلى أفسس (2: 13-14):
أمّا الآن، ففي المسيح يسوع
صرتم قريبين بدم المسيح
فالمسيح هو سلامنا
جعل اليهود والأمم شعبًا واحدًا
وهدم الحاجز الذي يفصل بينهما.
السلام. كان بدم المسيح. بل يقول لوقا إنَّ بيلاطس وهيرودس تصالحا بعد أن كانا على خلاف. وهكذا رأى التقليد في أغصان الشجر التي حملها الماشون وراء يسوع، أغصان الزيتون التي ترمز منذ نوح إلى السلام بين الله والبشر. وكانت رواية قديمة تقول إنَّ صليب المسيح كان من الزيتون والأرز. وكانوا يقولون: «إن رأيتُ على بابك خشب زيتون مذهَّب، أدعوك في الحال هيكل الله».
كلُّ هذا انتقل إلى العالم الإسلاميّ، حيث الزيتونة هي الشجرة المركزيَّة، ومحور الكون، ورمز الإنسان الشامل. هذه الشجرة المباركة تجتمع مع النور لأنَّها تغذِّي السراج بزيتها. نقرأ في سورة النور (24: 35) ما يلي: «الله نور السماوات والأرض. مَثل نوره كمشكوة فيها مصباح. المصباحُ في زجاجة. الزجاجة كأنَّها كوكب دُريّ يُوقَد من شجرة مباركة، زيتونة لا شرقيَّة ولا غربيَّة. يكاد زيتُها يضيء ولو لم تمسَسْه نار، نور على نور. يهدي الله لنوره من يشاء، ويضرب الله الأمثال للناس. والله بكلِّ شيء عليم».
مثل هذا النصّ يشبَّه الله بكوَّة (مشكوة) فيها سراج، والسراج هو في زجاجة، والزجاجة تبدو مثل كوكب بلمعانه الكبير (دُريّ). أمّا النور فيأتيه من شجرة مباركة، هي الزيتونة، التي ليست من الشرق ولا من الغرب. الزيت يضيء، أو يكاد، دون تمسَّه نار.
*   *   *
هذا الملك أتى متواضعًا. ما ركب على بغلة كما كان الملوك في أرض يهوذا يفعلون. قال داود لحاشيته: «أَركبوا سليمان ابني على بغلتي... واهتفوا بالبوق وقولوا: ليحيَ الملك سليمان...» (1 مل 33-34). ولا هو ركب فرسًا، لأنَّ الفرس أداة الكبرياء والحرب. فقد حذَّر سفر التثنية: «فأقيموا عليكم ملكًا من بين إخوتكم... لا تقيموا رجلاً غريبًا عنكم، لئلاَّ يتغلَّب عليه أصلُه فيُكثر من الخيل ويزيد على ما عنده» (17: 15-16). وسوف يقول المزمور: «هؤلاء بالعجلات وهؤلاء بالخيل» (20: 8).
وتقول المزامير أيضًا: «أعلِّمك (أيُّها الإنسان)... أن لا تكون كالفرس والبغل بلا فهم، تكبحه بلجام ورسن فلا يقترب» (32: 9). ترك يسوع هذين الحيوانين، وأخذ الحمار الذي كان أكثر فهمًا من صاحبه. هنا نتذكَّر خبر بلعام، النبيّ الأراميّ، الذي دعاه بالاق، ملك موآب، فيروي عنه سفر العدد: «قام بلعام في الصباح وركب جحشته... فاشتدَّ غضبُ الله لذهابه، ووقف ملاك الربِّ في الطريق تجاهه... فرأت الجحشة ملاك الربّ» (22: 21-23). أمّا بلعام، فانتظر طويلاً قبل «أن يرى ملاك الربِّ واقفًا في الطريق وسيفه مسلول بيده، فوقع ساجدًا على وجهه» (آ31).
أجل، الجحشة فهمت، والنبيّ تأخَّر. هي صورة عن الشعب الذي رفض استقبال يسوع، كما سبق له ورفض السماع للربّ. فقال فيهم إشعيا: «الثور عرف من اقتناه، والحمار معلف صاحبه، أمّا إسرائيل فلا يعرف، وشعبي لا يفهم» (1: 3). ويواصل النبيّ: «استهانوا بالله وأداروا له ظهورهم» (آ4). هذا ما نراه في خبر دخول يسوع إلى أورشليم. «قال الفرِّيسيُّون بعضهم لبعض: أرأيتم كيف أنَّك لا تنفعون شيئًا؟ ها هو العالم كلُّه يتبعه!» (يو 12: 19). وفي الواقع، أتى اليونانيُّون. هذا في إنجيل يوحنّا. أمّا عند لوقا، فاحتجَّ الفرِّيسيُّون: «يا معلِّم، قلْ لتلاميذك ليسكتوا!». فأجابهم يسوع: «إن سكت هؤلاء، هتفت الحجارة!». هو رفضٌ مطلق ليسوع ولما يحمل من خلاص.
هذا الرفض سنجده بكلِّ قوَّته في إنجيل متّى. في خبر الآلام: «دمه علينا وعلى أولادنا». وعلى الصليب، هو الهزء بالمصلوب: «يا هادم الهيكل وبانيه في ثلاثة أيَّام! إن كنتَ ابن الله، فخلِّصْ نفسك وانزل عن الصليب» (مت 27: 40). وما نستغربه هو ما فعله رؤساء الكهنة والفرِّيسيُّون: سمعوا أنَّ يسوع سيقوم بعد ثلاثة أيَّام (آ63)، فأرادوا أن يمنعوا هذه «القيامة». حينئذٍ طلبوا من هيرودس «أن يحرس القبر إلى ثلاثة أيَّام» (آ64). وفي النهاية، شيَّعوا أنَّ التلاميذ سرقوه (28: 12ي).
أمّا يسوع فتابع مسيرته بعد الدخول إلى أورشليم في التواضع ووداعة القلب. وكذلك يوم القيامة. ترك اليهود وحالهم، وبدأ فجمع التلاميذ في الجليل ومن هناك أرسلهم مزوَّدين بالروح القدس.
أهل التواضع فهموا. قال القدِّيس أوغسطين: «ضمَّ الإنجيليّ إلى خبر ما حصل، قولاً نبويًّا ليُري أنَّ رؤساء اليهود، الذين أعماهم شرُّهم، لم يفهموا مطلقًا أنَّ النبوءات التي قرأوها تمَّت في يسوع المسيح. بحسب ما كُتب: "لا تخافي يا ابنة صهيون، فها ملكك يأتي راكبًا على جحش ابن أتان"»... ويواصل القدِّيس أوغسطين كلامه رابطًا بين الشعانين والقيامة: «حين جعل ربَّنا قوَّة القيامة تسطع، تذكَّروا أنَّ هذه الأمور كُتبتْ عنه، وأنَّ ما فعلوه له كان التتمَّة. أي لم يفعلوا إلاَّ ما سبق وقاله لهم».
*   *   *
وننهي كلامنا بهذه الأبيات المأخوذة من يعقوب السروجيّ حول أحد الشعانين. والاسم يرتبط بهوشعنا. والنشيد هو الميمر 18 كما طبعه الكاهن اللعازريّ الأب بول بيجان:
يا نبع الحياة الذي شرب منه الموتى ونالوا الحياة،
افتحْ لي نفسك، وبرِّدْ عطشي من ينبوعك.
أيُّها الساقي الذي جرى في الأرض العطشى فوهب الثمار،
أشربُ منك وأهتف بصوت جليّ: كم أنت لذيذ!
5    يا بئرًا حديثة نقروها بالرماح على الجلجلة،
اصعدي وهبي سقيًا لوجداني المحتاج إلى ينبوعك
يا ابن الله الذي دعا نفسه الماء الحيّ،
هب لي أن أشرب وأشبع منك وأتكلَّم عنك.
عاد السروجيّ إلى سفر العدد في كلام عن نشيد البئر (21: 17-18). هذه البئر حُفرت بالعصا، بالصولجان، بالرمح. وهكذا نصل إلى الرمح الذي به طُعن صدرُ المصلوب. فالموضوع كلُّه هو الحياة وينبوع الحياة. فالشعانين توصلنا عمليًّا إلى الجلجلة، ومن الجلجلة إلى القيامة.
15    كم من مجال للحبِّ لكي يتكلَّم عن تجلِّيك
هب لي الكلمة التي تروي جمال تواضعك.
من المركبة إلى الجحش ابن الأتان الذي استقرضتَ،
أنزلك حبَُّّك، ومن هو كفوء ليروي خبرك:
من فرقة الكروبيم التي لا تُفحَص،
20    زيَّحك مركوب متواضع، في أرضنا، فكيف أدينك؟
من بين العجلات والوجوه وأجنحة اللهيب،
حملتك مراحمُك وها ابن الأتان يزيِّحك.
من عظمة هذا العرش المملوء نورًا
إلى الصغارة التي تبسط حبَّها مع الأولاد.
25    من ذلك الظهر (= ظهر الكروبيم) الذي امتلأ عيونًا،
إلى هذا المركوب الذي لا يوجَد في العالم أحقر منه.
من بين صفوف والأجواق القائمة من اللهيب
إلى جمع صغير يحمل الأغصان في أسواق صهيون.
هي المقابلة الهائلة بين السماء والأرض، ما يناله الابن من قبل الكروبيم والسرافيم، وما يناله يسوع من هذه الجماعة الصغيرة. والسبب في كلِّ هذا هو حبُّ ابن الله ومراحمه التي أحدرته إلى هذا الاتِّضاع. فكيف تجرَّأ الناس البسطاء، بل الأولاد، أن يقتربوا من هذا النور الذي لا يُدنى منه، من اللهيب والنار المحرقة. رفض الشعب اليهوديّ هذا الإكرام يُقدَّم للابن، فاحتجّوا:
قالوا له: "قلْ لهم ليسكتوا!" فأجابهم:
"إن هم سكتوا، هتفَتِ الحجارة وسبَّحت".
وهكذا كان كما قال معلِّم الحقّ!
لو أنَّهم سكتوا لتكلَّمت الحجارة، كما قال.
175    حان الوقت الذي فيه ينبغي التسبيح للابن،
وإن أنكروه كانت الحجارة تؤدِّي له السبح.
لو أنَّ الأطفال ما سبَّحوا بأغصان النخيل،
لسبَّحتِ الحجارةُ الصمّاء بكنّاراتها.
ربُّ الملوك ركب جحشًا ابن أتان
180    فتحرَّكتِ الطبيعة لتؤدِّي له المجد على تواضعه.
وجب على الكهنة والكتبة ورؤساء الشعب
أن يعلنوا هذا التسبيح المطلوب.
وإذ تفكَّر الشيوخ بالتسبيح الذي حان وقتُه
هبَّ الصبيان ليؤدُّوا السبح بشعانينهم (بالأوشعنا).
وتوسَّع السروجيّ وأطال في التسبيح المطلوب من الطبيعة، من الشمس والقمر... وبالأحرى من الشعب اليهوديّ. وهكذا يصل إلى الكنيسة، شعب الله الجديد:
275    تسبِّحك ربِّي الأفواهُ الناطقة بألسنتها،
وترتِّل تسبحتك الطبائع الخرساء بأشكالها
تشكرك ربِّي الطبيعة كلُّها التي تجدَّدت بك،
فكلُّها ملزَمة بأن تشكر تواضعك باندهاش.
يسجد العلوّ، لأنَّك نزلتَ لدى الأرضيِّين،
280    ويسبِّحك العمق، لأنَّك أرفع من العلويِّين.
يصيح فرحًا لك ربِّي الجمعُ الذي خلَّصته، بيعةُ الشعوب،
لأنَّك حرَّرتها من عثرات الأصنام الخربة.
في يومك ترقص بنتُ الأراميِّين، وبك تبتهج،
بدل ذلك، حزنَتْ بنتُ العبرانيِّين، احتقرَتْ وغضبت.
285    ها الشبّان يسبِّحونك بأغصان (أخذت) من الأشجار،
فاختلط صوتُ تسبيح الشيوخ بصوت الصبيان.
... ...
آلاف آلاف السماويِّين يرتِّلون التسبيح لك.
300    وهم لا يهدأون من تسبيح رفرفة (أجنحتهم)؟
ها البيعةُ البتول التي أرجعْتها من السبي،
تهتف لك، هي الغنيَّة بك والمبتهجة.
الجميع يشكرونك لأنَّهم تجدَّدوا بمجيئك
مبارك أنت من الجميع، ولك التسبيح بكلِّ لسان.




















Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM