الفصل الحادي عشر: هكذا أحبَّ الله العالم

الفصل الحادي عشر
هكذا أحبَّ الله العالم

الحوار بين يسوع ونيقوديمس حوار بين العالم المسيحيّ والعالم اليهوديّ. جاء نيقوديمس في نظرة فوقيَّة وكأنَّه يريد، باسم العالم اليهوديّ، أن يفرض نفسه على يسوع، بعد مجمع يمنية أو يبنة الذي جعل القطيعة تامَّة بين اليهود والكنيسة الناشئة: «كلُّ من يعترف بأنَّ يسوع هو المسيح يُطرَد من المجمع» (يو 9: 22). بدأ فأعلن: «نحن نعرف». ولكنَّ معرفة اليهود تختلف عن معرفة الكنيسة. لهذا أتى جواب يسوع هادمًا كلام محاوره: «أنت معلِّم في إسرائيل ولا تعرف» (يو 3: 10). وينتقل الخطاب من المتكلِّم المفرد («أقول لك»، آ3) إلى المتكلِّم الجمع: «نحن نتكلَّم بما نعرف، ونشهد بما رأينا، ولكنَّكم لا تقبلون شهادتنا» (آ11). ينبغي على العالم اليهوديّ أن يرتفع من «أمور الدنيا» إلى «أمور السماء»، ومن الرمز في ما عمل موسى حين رفع الحيَّة في البرِّيَّة، إلى الحقيقة التي فيها «يجب أن يُرفَع ابن الإنسان» (آ14). والغاية: نوال «الحياة الأبديَّة». وهكذا نصل إلى موضوعنا حول المحبَّة. وهنا محبَّة الله، لا لفئة صغيرة، لا لليهود وحدهم، لا فقط للمسيحيِّين الذين صلَّى المسيح لأجلهم ليلة آلامه (يو 17: 20)، بل لأجل العالم، لأجل البشر كلِّهم، يهودًا ووثنيِّين. والعبارة التي نقرأ:
3: 16    هكذا أحبَّ الله العالم
حتّى وهب ابنه الأوحد
فلا يهلك كلُّ من يؤمن به
بل تكون له الحياة الأبديَّة.
17    والله أرسل ابنه إلى العالم
لا ليدين العالم،
بل ليخلِّص به العالم.
ثلاثة مواضيع في آ16: مشروع الله: هكذا أحبَّ. وبكلام آخر: أحبَّ الله إلى حدٍّ كبير. تنفيذ المشروع: وهب ابنه. والهدف: إعطاء الحياة الأبديَّة.
1-    مشروع الله
منذ بداية الحوار بين يسوع ونيقوديمس، كان كلام عن الولادة الجديدة وعن الدخول إلى ملكوت الله. وبعبارة مقابلة: الدخول إلى الحياة الأبديَّة. فكان سؤال نيقوديمس: «كيف يمكن هذه tauta (صيغة الجمع، الأمور) أن تكون؟» (آ9). هو أمر صعب جدًّا، بل مستحيل. وكان محاور يسوع تساءل إن كان عليه أن يدخل إلى بطن أمِّه مرَّة ثانية ويُولَد. ما الذي يدعو إليه يسوع؟ وجاء الفعل «يقدر» dunatai: «كيف يقدر إنسان؟» «هل يقدر؟». لا شكَّ، هذا أمر مستحيل على الناس، لا على الله.
وتبدأ الآية مع «هكذا» outwς. أجل، هكذا تتمُّ الولادة الجديدة، هكذا يكون الخلاص. وما الذي يدفع الله إلى مثل هذا العمل؟ المحبَّة، تلك العاطفة العميقة التي تدفع الشخص لأن يفعل. لا سبب آخر. ولسنا هنا على المستوى البشريّ: ماذا نفعل أو لا نفعل؟ وما هي الفائدة إن فعلنا وما هو الضرر إن لم نفعل؟
استعمل النصُّ agapai. هو فعل واسع يدلُّ على حبِّ إنسان لإنسان، كما نقرأ في مت 5: 43: «سمعتم أنَّه قيل: أحبب قريبك...» أو في أف 5: 25: «أيُّها الرجال، أحبُّوا نساءكم». أو في 1 يو 2: 10: «من أحبَّ أخاه ثبت في النور».
ويدلُّ agapai على حبِّ إنسان ليسوع. «لو كان الله أباكم لأحببتموني».
كما يدلُّ على حبِّ إنسان لله. نقرأ في مت 22: 37: «فأجابه يسوع: أحِبَّ الربَّ إلهك بكلِّ قلبك». وفي رو 8: 28: «ونحن نعلم أنَّ الله يعمل سويَّة مع الذين يحبُّونه...». وفي 1 كو 2: 9: «... أعدَّه الله للذين يحبُّونه».
ويدلُّ على حبِّ الله للإنسان: «من أحبَّني أحبَّه أبي».
وعلى حبِّ الله ليسوع كما نقرأ في يو 3: 35: «الآب يحبُّ الابن...». وفي يو 10: 17: «قال يسوع: والآب يحبّني لأنِّي أضحِّي بحياتي».
وأخيرًا، حبُّ الإنسان للأشياء. في لو 11: 43: «أيُّها الفرِّيسيُّون، تحبُّون مكان الصدارة»؛ في يو 3: 19: «أحبَّ الناس الظلام على النور»؛ في عب 1: 9: «تحبُّ الحقَّ وتبغض الباطل»؛ في 1 يو 2: 15: «لا تحبُّوا العالم ولا ما في العالم».
إنَّ الموصوف agaph (الحبّ، المحبَّة) هو واحد بين أربعة أسماء عرفها اليونان للدلالة على الحبّ. أوَّلها storgh (والفعل stergein) يدلُّ على عاطفة الحنان التي يشعر بها الوالدون طوعًا تجاه أولادهم. أو الأولاد فيما بينهم. أو تجاه والديهم. ثانيها، eroς (الفعل eraw) يدلُّ على الرغبة الجامحة. ثالثها: jilein (الفعل jilew). هو الحبُّ بكلِّ بساطة والتعلُّق بالشخص والتعاطف معه. مبدأيًّا، فيها التبادل في الحبّ. في بعض المرَّات يكون فعل jilein قريبًا من فعل agapan.
ويبقى agaph في العهد الجديد. هو الحبُّ الذي يتحدَّد موقعه على مستوى العقل، وهو يتضمَّن المعرفة والحكم. وعلامته «التفضيل». مثلاً يتحدَّث سفر الرؤيا (12: 11) عن المؤمنين الذين غلبوا الوحش لأنَّهم «ما أحبُّوا حياتهم حتّى الموت»، أي ما فضَّلوا حياتهم على الموت. هم اختاروا الموت، لا الحياة. مثل هذا الحبِّ يترافق مع إكرام عميق، نعبِّر عنه بالأقوال والأعمال. رج 1 يو 3: 18: «بالعمل والحقّ en ergw kai alhqeia. يختلف agaph عن حبٍّ يبقى في القلب، بل هو يتجلَّى، يُظهر ذاته، يقدِّم براهينه. وهذا ما نقرأ في يو 3: 16: «أحبَّ الله...». ودلَّ الله على هذا الحبِّ حين أرسل ابنه. عادة، الكبير يحبُّ agapan الصغير، واللهُ الإنسانَ أو العالم. وهذا يفترض على المحبوب أن يُظهر عرفان الجميل.
*  *  *
هو فعل «أحبَّ» من قبل الله إلى البشر. هنا نقرأ: «العالم» kosmoς. إنَّ اللفظ اليونانيّ يعني أوَّلاً: الترتيب، النظام. ثمَّ: الزينة والمجد والكرامات. أمّا الفعل kosmein فيحتفظ دومًا بالمعنى الأساسيّ: «رتَّب». ثمَّ «أعدَّ» المائدة، أو السراج إذ يضع فيه الزيت. فنقرأ مثلاً في ابن سيراخ (29: 26): «تعالَ، يا نزيل، جهِّز المائدة». هو فعل kosmew. أو حز 23: 41: «أمامه مائدة مهيَّأة». أو مت 25: 7 في كلام عن العذارى اللواتي «هيَّأن» أو: «زيَّنَّ» مصابيحهنَّ ekosmhsan taς lampadaς.
في سي 38: 28: «يصرف قلبه إلى إتمام أعماله، وسهرَه في تزيينها على الدوام» kosmhsai epi sunteleiaς. في هذا المعنى أتى الله بالخليقة إلى الوجود. وما اكتفى بذلك، بل رتَّبها ووضع كلَّ شيء في مكانه (مز 104: 24) فصار الكون مرتَّبًا ترتيبًا (سي 16: 27؛ 42: 21). وما ندعوه «كوسموس»، «مسكونة» هو نظام العالم. وهذا التريتب الحكيم يعطي جمالاً للأشخاص وللأشياء (سي 25: 1؛ جا 12: 9).
هذا الكون الذي خلقه الله ورتَّبه، أضاع ذاته. راح إلى الهلاك. دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت. فالله لا يرضى بذلك، ولهذا أرسل ابنه «حين تمَّ الزمان». من هنا، عرف العهد الجديد معنيين للفظ kosmoς. من جهة، العالم، الكون، البشريَّة. فنقرأ في مت 25: 34:  «رثوا الملكوت المعدَّ لكم منذ تأسيس العالم». وفي روم 1: 20: «لأنَّ أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم». وفي عب 4: 3: «الأعمال أكملت منذ تأسيس العالم». هذا العالم خلقه الله (أع 17: 24) بواسطة ابنه وكلمته (يو 1: 3، 10؛ كو 1: 16؛ عب 1: 2).
ولكن من جهة ثانية، صار هذا الكوسموس معارضًا لعمل الله. يتحدَّث 2 بط 2: 20 عن «نجاسات العالم» ويع 1: 27 عن الإنسان الذي يحفظ نفسه بلا دنس من العالم. في هذا المعنى نفهم كلام الربِّ يسوع الذي نبَّه تلاميذه بأنَّهم في العالم ولكنَّهم ليسوا من العالم (يو 15: 19). وبما أنَّ العالم شرِّير فهو سيُدان (يو 12: 31)، بعد أن اعتبر إبليس أنَّه «سيِّد» الكوسموس. وهو يمنحه ليسوع إن خرَّ وسجد له (لو 4: 6-7).
إذًا هناك التباس في معنى «كوسموس» على مستوى العهد الجديد. أمّا المعنى في يو 3: 16 فهو البشريَّة ومعها الخليقة كلُّها التي «تئن وتتمخَّض» (رو 8: 22) وترجو أن «تُعتَق من عبوديَّة الفساد إلى حرِّيَّة مجد أولاد الله» (آ21). أجل، الحبُّ جعل أمامنا مشروع الله.
2-    وهب ابنه
لا، لم يبقَ مشروع الله في الغيب، بل نال تنفيذًا من قِبَله تعالى، وإلاَّ لا يكون الحبُّ حقيقيًّا، بل نوايا طيِّبة تبقى على مستوى النوايا.
«حتّى» wste. هي تتقابل مع outwς (هكذا). هي مؤلَّفة من wς ثمَّ te. فهي تعني هنا: بحيث. أو: وصلنا إلى نقطة لا يمكن الرجوع عنها. أحبَّ الله، وكانت نتيجة حبِّه أنَّه «أعطى». وماذا أعطى؟ أعطى كلَّ ما له: ابنه الوحيد. هذا يلتقي مع كلام بولس الرسول: «ما بخل بابنه، بل أسلمه إلى الموت من أجلنا جميعًا. فكيف لا يهب معه كلَّ شيء؟» (رو 8: 32).
edwken: أعطى، وهب، بذل، جعل. يرد فعل «أعطى» ثلاثًا وستِّين مرَّة في إنجيل يوحنّا بحيث يشكِّل واحدًا من موتيفات motifs هذا الإنجيل، وهذا مع العلم أنَّه لا يرتبط صراحة بالمحبَّة في كلِّ الظروف. بالإضافة إلى 3: 16 هناك 3: 35: «أحبَّ الله الابن فجعل dedwken كلَّ شيء في يده». ثمَّ 17: 24: «أعطيتني من المجد لأنَّك أحببتني». في بعض النصوص، يعطي الآب الابنَ، بشكل صريح، السلطانَ أو التلاميذ أو أيَّ شيء آخر. ففي 5: 22: «جعل الدينونة كلَّها للابن». وفي 6: 37: «ومن وهبه الآب لي يجيء إليَّ». أو: «لا أخسر أحدًا ممّن وهبهم لي» (آ39). يتحدَّث يسوع عن خرافه التي تسمع صوته... «الآب وهبها لي» (10: 29).
فالآب يهب ابنَه التلاميذ، والحياة في ذاته (5: 26). وهبه أن يعمل ويأمر، ووهبه الكأس، كأس الآلام والموت (يو 18: 11). ووهبه المجد وملء السلطان. نقرأ في «الصلاة الكهنوتيَّة»: «يا أبي، جاءت الساعة، فمجِّدِ ابنك ليمجِّدك ابنك بما أعطيته من سلطان على جميع البشر حتّى يهب الحياة الأبديَّة للذين وهبتهم له» (17: 1-2). ثلاث مرَّات يرد فعل «أعطى»: الآب أعطى: edwkaς: أنت أعطيت الابنَ السلطان على جميع البشر. ثمَّ dwsh: الابن يعطي الحياةَ الناسَ الذين وُهبوا له. والمرَّة الثالثة dedwkaς: نعود إلى الآب وهو من أعطى الناس للابن.
وكما يعطي الله ابنَه ما يعطيه، كذلك يعطي البشر الخبز: «ما أعطاكم موسى الخبز من السماء، أبي وحده يعطيكم الخبز الحقيقيّ من السماء». ويعطيهم الشريعة (1: 17) كما يعطي ابنه في هذه الآية التي ندرس (3: 16). هو من أعطى السلطة لبيلاطس لكي يخلي سبيل يسوع أو يصلبه (19: 11). الآب يعطي الروح (14: 16) كما يعطينا كلَّ ما نطلب باسم يسوع (15: 16) وخصوصًا نعمة الخلاص. نقرأ في 6: 65 بشكل حرفيّ: «قلت لكم: لا أحد يقدر أن يأتي إليَّ إن لم يكن مُعطى له (بشكل نعمة) من قبل الآب (أن يأتي)». هو في صيغة المجهول. الآب يعطينا فنأتي إلى الآب، ولا نكون مثل الذين أخذوا يتراجعون عن يسوع. لهذا فبطرس يقول باسم رفاقه وباسمنا: «إلى من نذهب، يا ربَّنا، وعندك كلام الحياة الأبديَّة» (آ68).
الآب يعطينا. والابن أيضًا يعطينا edwken: «السلطان أن نكون أولاد الله» فصل (1: 12). يعطينا «الروح» (3: 34) فنستطيع أن نتكلَّم بكلام الله، على ما نقرأ في إنجيل متّى (10: 20). قال يسوع للذين أرسلهم: «لا تهتمُّوا حين يسلمونكم كيف أو بماذا تتكلَّمون... فما أنتم المتكلِّمون، بل روح أبيكم السماويّ يتكلَّم فيكم».
ويتواصل فعل «أعطى» في إنجيل يوحنّا. فالابن يعطي مياه الحياة. هو الحوار بين يسوع والسامريَّة حيث يطلب يسوع أوَّلاً: «أعطيني لأشرب» (4: 7). بانتظار أن يقول: «لو كنت تعرفين عطيَّة dwrean الله. ومن هو الذي يقول لك: «أعطيني doς me لطلبت أنت منه فأعطاك edwken an soi» (آ10). ويتواصل الحديث إلى أن يقول يسوع: «أمّا من يشرب من الماء الذي أعطيه egw dwsw، فلن يعطش أبدًا. بل الماء الذي أعطيه a dwsw يصير فيه نبعًا يفيض بالحياة الأبديَّة» (آ14). عندئذٍ قالت له السامريَّة: «أعطني doς من هذا الماء، يا سيِّدي» (آ15).
والربُّ يعطي الناسَ الطعام (6: 27)، فيقولون له: «أعطنا كلَّ حين من هذا الخبز» (آ34)، كما يعطي حياته من أجل حياة العالم (آ51). في يو 10: 28 يعلن يسوع أنَّه يعطي خرافه «الحياة الأبديَّة». وفي 14: 27 قال: «سلامًا أترك لكم، سلامي أعطيكم، لا كما يعطيه العالم أعطيه أنا». نحن هنا في إطار الخلاص.
إذا عدنا إلى العهد القديم وبشكل خاصّ إلى سفر التثنية حيث يرد فعل didwmi عشرات المرَّات، فالعطيَّة تتوجَّه فقط إلى شعب إسرائيل. في تث 7: 13 نقرأ: «الأرض التي أقسم أن يعطيها لك». وفي 8: 10: «لأجل الأرض الصالحة...» عطيَّة محدَّدة في شعب، وعطيَّة مادِّيَّة: الأرض. أمّا في إنجيل يوحنّا، فالله يعطي ابنه للعالم كلِّه. وهذا الحبّ هو من النوع ذاته الذي به يحبُّ الآب ابنه (3: 35؛ 15: 9؛ 17: 23). والمثال على المستوى السرديّ هو حبُّ يسوع لأحبّائه، الذي به دخل إلى ملكوت العداء (1: 10-11: لا بيته قبله، ولا العالم) ليمنح لهم الحياة (11: 5، 7-8)، وذلك بواسطة الصليب: «حيث أنا ذاهب لا تقدرون أنتم أن تجيئوا» (13: 33). مثل هذا الحبِّ هو مثال للمؤمنين في الحبِّ حتّى التضحية بالذات: «أحبُّوا بعضكم بعضًا. ومثلما أنا أحببتكم، أحبُّوا أنتم بعضكم بعضًا» (آ34). هذا الحبُّ الخاصُّ هو من لدن الآب والابن. هي نظرة مسيحيَّة واضحة منذ البداية: «في هذه الشدائد ننتصر بالذي أحبَّنا» (رو 8: 37). ونقرأ في غل 2: 20: «مع المسيح صُلبت، فما أنا أحيا بعد، بل المسيح يحيا فيَّ. وإذا كنتُ الآن أحيا في الجسد، فحياتي هي في الإيمان بابن الله الذي أحبَّني وضحَّى بنفسه من أجلي». هذا في الحلقات البولسيَّة (أف 2: 4؛ 5: 2، 25؛ 2 تس 2: 16) وبالأحرى في الحلقات اليوحنّاويَّة (1 يو 3: 14؛ 4: 10، 19؛ رؤ 1: 5؛ 3: 9).
*  *  *
تحدَّثنا مرارًا عن الابن uioς وأضيفت الصفة monogenhς: الأوحد. حين الكلام عن يسوع المسيح، نعرف أنَّه ابن الله. هكذا أعلنه بطرس في قيصريَّة فيلبُّس: «أنت المسيح ابن الله الحيّ» (مت 16: 16). وسأله رئيس الكهنة: «هل أنت المسيح ابن الله؟» (مت 26: 61) وتحدَّاه إبليس إن كان ابن الله (مت 4: 3، 6)، كما أنَّ «لجيون» قال له: «ما لنا ولك، يا ابن الله؟ هل جئتَ قبل الوقت لتعذِّبنا؟» (مت 8: 29). هذا اللقب نجده في الإنجيل الرابع: في فم يوحنّا المعمدان (1: 34) ونتنائيل (آ49). أعلن يسوع أنَّ الموتى «يسمعون صوت ابن الله» (5: 25) وسأل اليهود: لماذا يتعجَّبون إن دعا نفسه «ابن الله» (10: 36).
ويرتبط الابن بالآب من خلال ضمير المتكلِّم: «هذا هو ابني الحبيب» (مت 3: 17). في وقت العماد كما في مشهد التجلِّي (مت 17: 5). أمّا في الإنجيل الرابع فنجد لفظ الابن uioς، إمّا وحده وإمّا قبالة الآب. ففي النصِّ الذي نقرأ: «الله أرسل الابن، أرسل الوحيد...» (3: 16). ثمَّ في آ17: «ما أرسل الله الابن إلى العالم...». وفي آ35: «الآب يحبُّ الابن». وفي آ36: «من يؤمن بالابن له الحياة الأبديَّة» ولكن «من لا يؤمن بالابن لا يرى الحياة».
فكما نقول الآب، نقول الابن أيضًا: قال يسوع: «لا يقدر الابن أن يفعل شيئًا من عنده، بل يعمل ما يرى الآب يعمله. فما يعمله الآب يعمله الابن مثله. فالآب يحبُّ الابن ويريه كلَّ ما يعمل» (5: 19-20). تلك هي العلاقة بين الآب والابن، وهكذا يرسل الآب الابنَ من أجل خلاص العالم، لا من أجل هلاكه.
وهذا الابن هو الوحيد أو الأوحد monogenhς، لا ابن له غيره. هكذا أُعلن منذ مطلع الإنجيل: «ابن وحيد من عند الآب» (1: 14). هذا الابن الوحيد، وحده رأى الله، وهو في حضن الآب (آ18).
والكلام عن الوحيد يجد صورة بعيدة في إسحاق، الذي أراد والده إبراهيم أن يقدِّمه والده على الجبل، بعد أن طلب الله منه ذلك. هنا نتذكَّر أقوال آباء الكنيسة حين يقابلون بين ذبيحة الابن وذبيحة إسحاق. ونورد مقطعًا من رومانوس المرنِّم: هو الآب يتكلَّم: «كما إسحاق حمل الخشبة (أو: الحطب) على كتفه، كذلك ابني حمل الصليب على كتفيه. حبُّك الكبير كشف لك المستقبل. فانظر إلى الكبش المأخوذ في الخشبة (في الحطب). حين ترى كيف هو ممسَك: بالقرنين هو مقيَّد. هذان القرنان صورة عن يدَيْ ابني. اذبح لي هذا الكبش وأنا أحفظُ لك ابنك، لأنِّي أنا مخلِّص نفوسكم أهب كلَّ خير».

3-    إعطاء الحياة الأبديَّة
ماذا كان مشروع الله؟ وما هو هدفه؟ هناك «لا» مرَّتين. لا «ليهلك» mh aplhtai لا «ليدين» krinh. ولكنَّ العبارة أطول: «ما أرسل الله الابن ليدين...» في الماضي، حين كان الملك يزور مدينة من مدنه، فهمُّه الأوَّل أن يعاقب المذنبين، أن يهلك apollumi، لهذا كانت زيارته باعثًا على الخوف. وهذه الفكرة لبثت ظاهرة في الديانات وإن تروحنت بعض الشيء: هو الخوف والمهابة. هي زيارة الأب لأولاده.
وكرَّر الإنجيل الفكرة عينها، فجعل apostellw (أرسل) موضع didwmi (أعطى). فهذا الفعل مع الاسم apostoloς يدلُّ على حامل رسالة، مثل المنادي الذي ينطلق أمام الملك، أو الآتي من بعيد ليبشِّر الشعب بالنصر. فإنَّ فلافيوس يوسيفس تحدَّث عن وفادة apostolon اليهود إلى رومة (العاديّات اليهوديَّة 17: 30). نحن أمام إرسال في مهمَّة إلى خارج البلاد. apostoloς هو المرسَل، الموفد. هذا ما يقودنا إلى الكثافة الدينيَّة لهذا اللفظ في العهد الجديد، ولاسيَّما عند القدِّيس بولس الذي كان أوَّل من كتب في اللاهوت المسيحيّ فتبعه الإنجيليُّون.
فهناك الأصل الساميّ שלח الذي لا يعني «المرسل»، بل العضو في الجماعة اليهوديَّة، واللقب لا ينطبق على الأنبياء. أمّا الرسول المسيحيّ فله طابع رسميّ مع تشديد على الأصل الإلهيّ وعلى سلطة الرسل. فالرسول له طابع دينيّ. هنا نقرأ ما فعله يسوع قبل أن يختار رسله: «قضى يسوع ليله في الصلاة. وعند الصباح دعا تلاميذه واختار منهم اثني عشر وهم الذي سمّاهم رسلاً apostolouς wnomasen» (لو 6: 13). بين التلاميذ الذين تبعوا يسوع وقاسموه حياته وانتموا إليه (كتلاميذ תלמידים)، ميَّز اثني عشر ليمثِّلوه بشكل خاصّ، وينضمُّوا إليه عن قرب وتكون لهم بالتالي سلطة مميَّزة. هنا نقرأ مر 6: 7: «ودعا الاثني عشر وابتدأ يرسلهم اثنين اثنين، وأعطاهم سلطانًا على الأرواح النجسة» (رج مت 10: 1-2). نال الرسل سلطة exousia يسوع فاستطاعوا أن يمارسوا مهمَّتهم. وفي أيِّ حال، إن كانوا أُرسلوا فإنَّ الذي أرسلهم سبق وأُرسل. هذا ما قال بعد القيامة: «كما أرسلني الآب أرسلكم أنا أيضًا» (يو 20: 21).
أجل، أُرسل يسوع، لا ليهلك، لا ليدين، والدينونة تعني عادة الحكم وبالتالي العقاب والحساب، حيث يمثُل كلُّ واحد ليؤدِّي حسابًا عن أفعاله. كلُّ هذا بعيد عن مجيء يسوع إلى العالم. هو جاء لكي يخلِّص ina swqh. ذاك هو الوجه السلبيّ. نحن في خطر، يأتي من يخلِّصنا. نحن قريبون من الموت، يأتي من يحيينا ويقيمنا (هو 6: 1-2). والمخلِّص هو المحامي والمحرِّر والفادي والشافي، معطي المطر، معطي الحياة. قيل: الله يخلِّص البشر، والمسيح مخلِّصنا (لو 2: 11). والإنجيل يحمل الخلاص إلى كلِّ من يؤمن (رو 1: 16). أجل، الخلاص هو للمؤمن، على ما قال الإنجيل: «من آمن واعتمد يخلص، ومن لا يؤمن يُدان» (مر 16: 16). ويقابل هذا الكلام بشكل واضح ما قال الربُّ في إنجيل يوحنّا: «وإن سمع أحد كلامي ولم يؤمن به فأنا لا أدينه، لأنِّي لم آتِ لأدين العالم بل لأخلِّص العالم. ومن رذلني ولم يقبل كلامي، فله من يدينه...» (يو 12: 47-48).
الخلاص هو الوجه السلبيّ. وهناك الوجه الإيجابيّ: «الحياة الأبديَّة» zwhn aiwnion. لا مكان بعدُ للموت مع يسوع المسيح. لأنَّنا، ونحن في هذا العالم «ننتقل من الموت إلى الحياة» (يو 5: 24). ونقرأ في يو 8: 51: «وإن كان أحد يحفظ كلامي فهو لن يرى الموت إلى الأبد». اندهش اليهود الذين سمعوا يسوع. ونحن اليوم نندهش إن لبثنا على مستوى الحرف وفي العالم المادّيّ. أمّا كلام الربِّ فهو الحياة الأبديَّة، الحياة مع الله، التي تنجِّينا من الموت الثاني (رؤ 2: 11). فالإنسان ليس كائنًا ماضيًا إلى الموت، كما يقولون، بل إلى الحياة. لا إلى الهلاك بل إلى الخلاص. ذاك كان مشروع الله منذ تأسيس العالم. ذاك ما تقول الرسالة إلى أفسس: «تبارك الله أبو ربِّنا يسوع المسيح، الذي باركنا بكلِّ بركة روحيَّة في السماوات، في المسيح، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قدِّيسين وبلا لوم أمامه في المحبَّة» (1: 3-4).
*  *  *
مع أنَّ الصورة التي يقدِّمها يوحنّا عن حبِّ الله والتي تعبِّر عن التضحية بالذات، هي مفهوم مسيحيّ مميَّز، إلاَّ أنَّها تبقى مفهومة لدى أناس لا مسيحيِّين عاصروه. فالأفلاطونيَّة التقليديَّة ضمَّت الحبَّ إلى الرغبة، ومن هنا لم تضمَّها إلى الألوهة. والديانة اليهوديَّة إجمالاً تأسَّست بالأحرى على التبادل والواجب، لا على اهتمام الإله بسعادة الإنسان. فتقليد هومير الملحميّ قدَّم صورة عن المائتين الذين تحبُّهم الآلهة المختلفة. ولكنَّه كلامٌ عن بعض المائتين لا عن البشريَّة كلِّها. هو كلام عن متوسِّل فردٍ ينظر إلى الإله. ثمَّ إنَّ الإله في الألياذة فضَّل مائتين على آخرين، وقاتل معهم ولم يسمح لأحد بأن يقتلهم، ومع ذلك، هو لم يُرد طوعًا بأن يضحِّي بنفسه من أجلهم. ولكن كانت ديمتر أو إيزيس من الإلاهات المحبّات.
وشدَّد التقليد اليهوديّ مرارًا على حبِّ الله الخلاصيّ، الوافر تجاه الأبرار أو تجاه إسرائيل. هذا التقليد ينبع من التعليم البيبليّ حول العهد (تث 7: 7-13؛ 10: 15؛ 23: 5؛ 33: 3؛ إش 63: 9؛ هو 11: 1). وإذ لا ينسى إشعيا نظرة الشموليَّة، يستطيع أن يتكلَّم عن الإصلاح بعد الدينونة بلغة حبِّ الله الخاصّ لإسرائيل (43: 4؛ 63: 9). وفي بعض التقاليد القديمة، يدخل الله في آلام شعبه، ويشاركهم في المنفى. الأمر واضح في حزقيال حيث يستعدُّ الله لأن يرافق شعبه إلى بابل (حز 10: 18ي). ثمَّ يعود معهم بعد العودة من السبي (حز 43: 4). وأحسَّ بعض المعلِّمين في القرن الثاني المسيحيّ أنَّ الله يهتمُّ بالفرد في إسرائيل أكثر ممّا يهتمُّ بجميع الأمم. فمن المستحيل على الله أن يبغض إسرائيل (سفري تث 24/3: 1). وفي أحد التقاليد المتأخِّرة أحبَّ الله إسرائيل إلى حدٍّ جعل نفسه «نجسًا» إذ كشف عن نفسه في موضع عبادة الأصنام لكي يفتديهم (خر ربه 15: 5). وكانت بعض التيّارات في التقليد اليهوديّ قد شدَّدت على أنَّ الله يحبُّ ejilhsen كلَّ البشريَّة التي أحبَّها (سيب 1: 72). إلاَّ أنَّ نصوصًا أخرى دلَّت أنَّ الله، في معنى مطلق، ما أحبَّ agapa أحدًا إلاَّ ذاك الذي يبقى أمينًا للحكمة (حك 7: 28)، أو أحبَّ فقط ما كان موضوع حبِّ إسرائيل الوحيد في العالم (عد ربه 14: 4. نُسب إلى رابي إليعازر بن زكريّا، 70-135 ب.م.). وهناك نصوص عديدة فيها لا يتوجَّه حبُّ الله إلى العاصين.
*  *  *
أمّا يوحنّا فما شدَّد فقط على حبِّ الله الخاصّ لجماعة مختارة (يو 17: 23)، بل للعالم (1يو 2: 2؛ رج 1تم 2: 4؛ 2 بط 3: 9). و«العالم» قد يعني بعض المرّات «اليهود» (15: 18-16: 2) كما يعني السامريِّين في 4: 42 (هذا في معنى أوَّل). أمّا يسوع وهو «نور العالم» (8: 12) في خطِّ إش 42: 6؛ 49: 6؛ 60: 3 («نور الأمم»)، فهو يتطلَّع في الإنجيل اليوحنّاويّ إلى البشريَّة كلِّها، موضوع حبِّه. وهذا يبقى حبًّا للمؤمنين الذين يقفون تجاه الرافضين الذين يصيبهم الغضب الإلهيّ. ومع ذلك، إن كان الله وهب ابنه من أجل العالم، فهذا يدلُّ على أنَّه يقدِّر العالم. بل إنَّ بعضهم راح إلى القول بأنَّ الله أحبَّ العالم أكثر ممّا أحبَّ ابنه الوحيد.
إنَّ الآب أرسل ابنه «إلى العالم» في ولادته (18: 37)، وهو يترك العالم في تمجيده (16: 28). «في العالم» عبارة يوحنّاويَّة متواترة (3: 19؛ 6: 14؛ 10: 36، إلخ). قد تدلُّ إلى دخوله كبشر في العالم، في ولادته (16: 21) أو بداية كرازته (17: 18)، وهذا ما يجعلنا في الكرستولوجيا الرفيعة التي فيها ترك يسوع مجده السماويّ وصار مائتًا (17: 5؛ رج 1: 19).
ما أتى يسوع ليدين العالم، ليحكم على العالم. هذا لا يعني أنَّ العالم لا يُحكم عليه. ففي لاهوت يوحنّا، حُكِم على العالم منذ الآن، ويخلص فقط أولئك الذين تجاوبوا مع عطيَّة الله على الصليب. فالخلاص هو وجهة محوريَّة في مهمَّة يسوع (3: 17، 35-36؛ 4: 22، 42؛ 5: 21-24، 34، إلخ). وإن تكن لغة الخلاص اليوحنّاويّ تتميَّز بصعوبة عمّا في المسيحيَّة الأولى. وحدهم السامريُّون دَعوا يسوع مخلِّص swthr (4: 42 كما في 3: 7، وهذا ينطبق على «العالم»). وفي هذا الحوار فقط مع المرأة السامريَّة تكلَّم يسوع عن الخلاص swthria. مقابل هذا، فعل «خلَّص» swzw يرد مرارًا في عودة إلى مهمَّة يسوع، دون كلام عن الخطر الذي يتعرَّض له البشر، هذا مع أنَّ السياق يتحدَّث عن الخلاص من عالم الخطيئة ومن الدينونة (5: 34؛ 10: 9؛ 12: 47).
وتبدو الدينونة أيضًا موتيفًا motif محوريًّا في هذا الإنجيل. مع krisiς (3: 19؛ 5: 22، 24، إلخ) أو krinw (3: 17، 18؛ 5: 22، 30، إلخ). فمهمَّة يسوع الحاضرة ليست الدينونة (3: 17-18؛ 8: 15؛ 12: 47). ولكنَّ العالم يبقى تحت الدينونة (3: 18-19؛ 12: 31؛ 16: 8، 11). يسوع سوف يدين في النهاية. وطريقة جواب الشعب له في الحاضر تُحدِّد مصيرهم (12: 48). فالذين لا يؤمنون به يواجهون الدينونة (5: 24، 29). وحين يدين يسوع، تكون دينونته عادلة (5: 30؛ 8: 16)، مثل دينونة أبيه (5: 22؛ 8: 50) الذي منحه السلطان أن يدين (5: 22، 27).

الخاتمة
تلك كانت مسيرتنا في قراءة يو 6: 16-17 لكي نتعرَّف إلى حبِّ الله للعالم. فهذا الحبُّ دفعه لكي يرسل ابنه إلى العالم. رأى الكون في ضلال والبشريَّة تتخبَّط في الشرّ، فجاء ابنه، تجسَّد، صار إنسانًا شبيهًا بنا في كلِّ شيء، ما عدا الخطيئة. الهدف، خلاص العالم. لا الدينونة أوَّلاً، ولا الهلاك للخطأة على ما انتظر يوحنّا المعمدان: «ها الفأس على أصل الشجرة». ولكنَّ الحبَّ يطلب الحبّ، والله الذي أحبَّنا يطلب منّا أن نحبَّه وأن نتجاوب مع نداء الابن لنا. هذا يعني أنَّه تكون فئتان: واحدة لا تعرف الدينونة، وأخرى تمرُّ في الدينونة. «فالذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا الطالحات إلى قيامة الدينونة» (5: 19). مشروع الله واضح: الخلاص. ولكنَّ هناك من يختار الهلاك. مشروعه لنا الحياة، ولكن هناك من يختار الموت. هو يقدِّم لنا السعادة، وهناك من يفضِّل الشقاء. كلُّ هذا يجعلنا في إطار سفر التثنية الذي هو «إنجيل يوحنّا» بالنسبة إلى العهد القديم «جعلتُ اليوم أمامك الحياة والسعادة، الموت والشقاء» (تث 30: 15). يبقى علينا أن نختار!

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM