الفصل العاشر:أناجيل الطفولة، خبر المجوس

الفصل العاشر
أناجيل الطفولة، خبر المجوس

غسبار، ملكيور، بلشاصر. ثلاثة ملوك أتوا من المشرق  ليسجدوا للطفل الإلهيّ. قال بروتوإنجيل يعقوب: «وإذ كان يوسف يستعدُّ للانطلاق إلى اليهوديَّة، كانت حركة كبيرة في بيت لحم اليهوديَّة، لأنَّ مجوسًا أتوا قائلين...» (21/1). وتحدَّث إنجيل بسودو متّى عن مجيء المجوس وعددهم: «وجدوا الطفل يسوع جالسًا على ركبتَي مريم. عندئذٍ فتحوا كنوزهم، وأعطوا عطايا غنيَّة جدًّا إلى مريم وإلى يوسف. أمّا إلى الطفل، فقدَّم كلُّ واحد منهم قطعة من الفضَّة. بالإضافة إلى ذلك، قدَّم واحد الذهب، والثاني البخور، والثالث المرّ» (16/2).
أخبار عديدة حول المجوس الذي نقرأ عنهم في مت 2: 1-12. بحسب أوريجان كان يسوع ابن سنتين حين وصل المجوس إلى أورشليم. (شرح إنجيل متّى 23). وبحسب مرجع آخر، رأى المجوس النجم قبل مولد يسوع بسنتين.
عن المجوس تحدَّث القدِّيس باسيل في إحدى عظاته: «ركضت النجوم من أعلى السماء، وترك المجوس الأمم الوثنيَّة، والأرض قدَّمت استقبالاً في المغارة». وتحدَّث أحد الرهبان عن معنى الهدايا بالنسبة إلى سرِّ المسيح: «أعطوا الذهب فعظَّموا الملك. قرَّبوا البخور فعبدوا الإله. قدَّموا المرَّ فرأوا فيه ذلك المائت» . وقال راهب آخر: «الذهب يدلُّ على الحكمة السماويَّة... والبخور على الصلاة النقيَّة... والمرُّ على إماتة اللحم (والدم)».
ولكن ينبغي أن نعود إلى النصِّ الإنجيليّ كما رواه القدِّيس متّى، وأخذت عنه النصوصُ المنحولة على اختلافها، مع بعض التفاصيل التي أضيفت من هنا وهناك. ونتوقَّف عند الكلمات الهامَّة قبل أن نستخلص المعنى الروحيّ الذي يبعدنا عن صور مشوِّقة استغلَّها الكثيرون وأوَّلهم الأراميُّون أو السريان ففرحوا بأن يكون المجوس انطلقوا من عندهم ومضوا ليسجدوا للطفل الإلهيّ.
اللفظ الأوَّل: المجوس ܡܓܘܫܐ. عاد العربيّ إلى السريانيّ والسريانيّ إلى اليونانيّ magoς. اعتبر بعض الشرّاح  أنَّ هؤلاء المجوس انتموا إلى طبقة الكهنة وعلماء التنجيم في الشرق . ظنَّ البعض أنَّ «المشرق» anatolwn  ܡܕܢܚܐ هو عرابيا.
ولكن بصعوبة نستطيع القول إنَّ عرابيا هي موطن المجوس. في عدد من النصوص القديمة، يأتي المجوس من بلاد فارس أو من بابلونيا. مثلاً: شيشرون، في الشرائع (2/10: 26)؛ فيلون، الشرائع الخاصَّة (3: 100). وعُرف الكلدانيُّون أو الفرس بالعرافة والتنجيم، وضمَّ اليونان والرومان المجوس الكلدانيِّين إلى القوى السحريَّة والإنباء بالمستقبل وتفسير الأحلام. وعُرفت السلطة الرومانيَّة الرسميَّة بحسن استقبال المجوس، وهيرودس عُرف بسخائه تجاه المدن الوثنيَّة (يوسيفس، الحرب اليهوديَّة، 90-93). وتحدَّث فرجيل عن أينه بطل الإنياذة (2694)، عن نجمة وجَّهته في طريقه لكي يؤسِّس رومة. وأتت الإلاهة بالنار أو بالنور لكي توجِّه الماضين من أرغو (في اليونان) بحثًا عن جزَّة الذهب. وفي هذا الإطار من الصور القديمة نستطيع أن نذكر تلك النار التي كانت تقود الشعب العبرانيّ في البرِّيَّة، ليلاً، والغمامة، نهارًا: «وارتحلوا... وكان الربُّ يسير أمامهم نهارًا في عمود سحاب ليهديهم في الطريق، وليلاً في عمود نار ليضيء لهم، لكي يمشوا نهارًا وليلاً» (خر 13: 20-21).
هؤلاء المجوس قادهم كوكب أو نجمة، فوصلوا إلى البيت حيث الطفل وأمّه. تحدَّث بلعام عن ذاك الكوكب الذي يَبرز من يعقوب (عد 24: 17). ويقول فيه هذا النبيّ «الأراميّ»: «أراه ولكن ليس الآن، أبصره ولكن ليس قريبًا». ذاك «البليغ» وهذا معنى اسمه، جاء من فاتور على النهر في أرض عمّاي (22: 5) التي هي فترو على الفرات في أرام (تث 23: 5). هذا «النبيّ» انجذب من أرام، أو من عمون (حسب السريانيّ واللاتينيّ) ليتحدَّث عن «كوكب يعقوب»، وها هم المجوس انجذبوا بهذا الكوكب الذي هو يسوع المسيح.
أتوا من المشرق. أين هو المشرق؟ حيث كانت جنَّة عدن، كما قال سفر التكوين: «وغرس الربُّ الإله، جنَّة في عدن شرقًا» (2: 5)، أو: إلى الشرق. وإذ يتحدَّث الكتاب عن أبناء سام، يقول: «كان مسكنهم من ميشا حينما تجيء نحو سفار، جبل المشرق» (تك 10: 30). ويبقى النصُّ الروحيّ الأجمل، كلام النبيّ في ما يُسمّى رؤيا إشعيا (ف 24-27) فيه كلام عن هتاف المسكونة للإله البارّ، العادل:
24: 14    هؤلاء يرفعون أصواتهم
ويهتفون لعظمة الربِّ
وأولئك من جهة البحر يترنَّمون.
15    يمجِّدون الربَّ في المشرق
اسم الربِّ، إله إسرائيل
وفي جزر البحر هناك
16    من أطراف الأرض،
سمعنا من ينشد:
المجد (للإله) البارّ!
هو المعنى الروحيّ قبل أن يكون المعنى التاريخيّ. ويطرح القدِّيس أوغسطين في العظة الرابعة حول الدنح (إبيفانيا) سؤالاً: «ما كان المجوس؟» ويجيب: «باكورة الأمم. كان الرعاة من اليهود، والمجوس من الأمم. أولئك أتوا من قريب، وهؤلاء (أي المجوس) من بعيد. ولكن هؤلاء وأولئك أسرعوا إلى حجر الزاوية». ونتذكَّر في هذا المجال كلام النبيّ إشعيا: «سلام للبعيدين، سلام للقريبين» (57: 19).
وتابع القدِّيس أوغسطين كلامه: «إذًا، ما تجلَّى يسوع للعلماء ولا للأبرار. هو الجهل الذي يتفوَّق في «غلاظة» الرعاة، والكفر في احتفالات المجوس النجسة. ذاك الذي هو حجر الزاوية ضمَّ هؤلاء وأولئك، لأنَّه جاء يختار ما هو جهالة ليخزي الحكماء، وجاء يدعو الخطأة لا الأبرار، لكي تتوقَّف كلُّ عظمة عن التكبُّر، وكلُّ ضعف عن الإحباط».
وجاءت حاشية تقول: «كان المجوس ملوكًا. وإن هم لم يقدِّموا سوى ثلاثة أنواع من الهدايا، فهذا ليس البرهان بأنَّهم كانوا فقط ثلاثة، بل لكي يمثِّلوا بهذا العدد أبناء نوح الثلاثة، الذين سوف يعتنقون الإيمان في يوم من الأيّام. أو إن لم يكن هؤلاء الأمراء سوى ثلاثة، إلاَّ أنَّه كان معهم حاشية عديدة». وتضيف الحاشية: «هم ما أتوا ليسجدوا بعد سنة على ميلاد يسوع، الذي كان في مصر. ولا أتوا إلى المذود، بل كان ذلك في اليوم الثالث عشر لولادته. من أين أتوا؟ يعلِّمنا الإنجيليّ فيقول: «من المشرق». وتتواصل الحاشية: «ونستطيع القول أيضًا إنَّه ليس من المدهش أنَّهم وصلوا خلال 13 يومًا إلى بيت لحم. ركبوا الأفراس العربيَّة والجمال المعروفة بسرعتها في المشي».
هذا القسم الأخير كان جوابًا على القدِّيس جيروم: «وهكذا عرف خلفاء بلعام، بالنبوءة، الظهور المقبل لهذه النجمة. ولكن يمكن أن نتساءل كيف أنَّ المجوس، سكّان الكلداي، أو الفرس، أو أقاصي الأرض، استطاعوا أن يصلوا في وقت قصير إلى أورشليم». وردَّ الذهبيّ الفم في تفسيره لمتّى: «ربَّما انطلقوا بقيادة النجم الذي سبقهم سنتين قبل ولادة المسيح دون أن تنقصهم مؤونة الطعام خلال سفرهم».
وراح من يقول: «إن كان هؤلاء الملوك خلفاء بلعام، فهم ما كانوا بعيدين عن أرض الموعد، فاستطاعوا أن يعبروا في وقت قصير المسافة التي تفصلهم عن أورشليم. ولكن لماذا قال الإنجيليّ إنَّهم أتوا من المشرق؟ لأنَّ الأرض التي أقاموا فيها كان موقعها على الحدود الشرقيَّة لليهوديَّة. كم هي فكرة رائعة تلك التي تجعلهم يأتون من المشرق، لأنَّ جميع الذين يأتون إلى الربّ، لا يستطيعون أن يأتوا إلاَّ بإلهامه أو بقيادته، لأنَّه هو المشرق الحقيقيّ بحسب هذا القول النبويّ: «... ها رجل يأتي، اسمه المشرق».
وقبل الكلام عن الهدايا من ذهب ومرّ ولبان، بحيث نصل إلى سام وحام ويافث، وبالتالي إلى القارّات الثلاث التي عُرفت في ذلك الوقت، أي آسيا وأفريقيا وأوروبّا، نورد مقطعًا من القدِّيس أوغسطين في عظته حول الدنح:
كان اليهود قد رأوا عددًا كبيرًا من الملوك يُولدون ويموتون. فهل جاء المجوس ليبحثوا عن واحد منهم ويعبدوه؟ كلاَّ. لأنَّ السماء لم تعلمهم بوجود واحد من هؤلاء الملوك. إذًا، ليس إلى ملك من ملوك اليهود، شبيه بالذين رأتهم أورشليم في قصورها. ظنَّ هؤلاء المجوس الساكنون في الأقطار البعيدة والغرباء كلَّ الغربة عن مملكة اليهود، أنَّه يجب عليهم أن يؤدُّوا مثل هذا الإكرام العظيم. ولكنَّهم علموا أنَّ الذي وُلد الآن هو من العظمة بحيث يستحقُّ سجودهم، لكي ينالوا حقًّا الخلاص الآتي من لدن الله. فهذا الملك لم يكن كبير السنِّ ليرى جمهور الحاشية الممالقين يزحفون حوله. وما كان الأرجوان يشعُّ على كتفيه ولا التاج على رأسه. لم يكن هناك بطانة لامعة من الخدم ولا أبُّهة الأسلحة المخيفة ولا ضجيج انتصاراته، ما يجتذب من أقاصي الأرض رجالاً أتوا يضعون عند قدميه تمنِّياتهم وطلباتهم الحارَّة. هو طفل وُلد الآن، نائمًا في مذود يضمُّ إلى جسم ضعيف فقرًا جعله حقيرًا. ولكن وراء هذه التعاسة الخارجيَّة، يختفي شيء كبير لم يحمله من الأرض بل من السماء، اهتمَّ بأن يعلِّمهم أنَّ هؤلاء الرجال، باكورة الأمم، عرفوا من هو. قالوا: «رأينا نجمه في المشرق». عرَّفوا الناس بما رأوا، وفي الوقت عينه سألوا. آمنوا وبحثوا. هي صورة الذين يسيرون على ضوء الإيمان، والذين يرغبون يومًا أن ينعموا بالرؤية الواضحة.
المسيح نفسه كان انتظار الأمم التي وُعد بنسلها العديد إلى أبينا المغبوط إبراهيم، وهو نسل سوف يتكاثر لا بانتشار الدم بل بخصب الإيمان. فالله شبَّه نسله (= نسل إبراهيم) بكثرة النجوم لكي يحرِّك في نفس أبي جميع الأمم، انتظار نسل سماويّ محض، لا علاقة له بالأرض. إذًا بظهور نجم جديد دُعيَ الوارثون المرموز عنهم بالنجوم، لكي يكوِّنوا هذا النسل الذي هو موضوع المواعيد. وهكذا، فكواكب السماء التي أدَّت الشهادة للوعد، تؤدِّي أيضًا الإكرام لحقيقة تتمَّته.
*  *  *
ثلاث هدايا قُدِّمت للطفل الإلهيّ. الذهب. اعتاد الفينيقيُّون بشكل خاصّ أن يأتوا بالذهب من أوروبّا، من أوفير، من ترشيش. نقرأ في سفر الأخبار الثاني: «أرسل له (لسليمان) حيرامُ بواسطة عبيده، سفنًا وعبيدًا يعرفون البحر، فأتوا مع عبيد سليمان إلى أوفير وأخذوا من هناك أربع مئة وخمسين وزنة ذهب، وأتوا بها إلى الملك سليمان» (8: 18). لا مجال لنقد أدبيّ نقوم به في قراءة هذا النصّ، ولكن إذا كان الكلام عن حيرام الذي ملك سنة 736-749، فالملك العبرانيّ هو أحاز، ملك يهوذا. ولكن نُسب هذا الغنى إلى سليمان لأنَّ كتاب الأخبار أراد تعظيم هذا الملك الذي بنى الهيكل.

أين تقع أوفير؟ اختلف الشرّاح. ولكن أين نريد أن يمضي الفينيقيُّون في السفن، إلاَّ باتِّجاه أوروبّا. وما قلناه عن أوفير نقوله عن ترشيش، التي هي ترتاسوس Tartessos، تلك المملكة المركَّزة حول نهر في إسبانيا اسمه وادي الكبير Guadalquivir. هنا نتذكَّر نبوءة حزقيال في شأن صور: «ترشيش تاجرت معك، بكثرة، بكلِّ أنواع الغنى. بالفضَّة والحديد والقصدير...» (27: 12). ونعود إلى عهد سليمان. «كان للملك في البحر سفن ترشيش مع سفن حيرام، فكانت سفن ترشيش تأتي مرَّة كلَّ ثلاث سنوات. أتت سفن ترشيش حاملة ذهبًا وفضَّة...» (1 مل 10: 22). ومن يمثِّل أوروبّا بين أبناء نوح؟ هو يافث كما نقرأ في لائحة الشعوب. «وبنو ياوان: آليشة، ترشيش وكتيم ورودانيم» (تك 10: 4). أي أفريقيا الشماليَّة، مع إليسار شقيقة بغماليون ملك صور، وإسبانيا، ثمَّ قبرص وبعد ذلك الشعب الرومانيّ، وأخيرًا رودس.
والبخور. يأتي من سبأ. نقرأ في إر 6: 20 في اتِّهام يوجِّهه النبيّ إلى شعبه الذي يمزج العبادة الخارجيَّة مع رفض في العمق لكلِّ توبة: «لماذا يأتي لي (شعبي بـ) البخور الذي يحمله من سبأ، والقصب المعطَّر من أرض بعيدة»؟ شبأ هي عرابيا الجنوبيَّة، أو جنوب الجزيرة العربيَّة. هو يأتي من آسيا. وبنو سام هم الذين يقيمون في آسيا. وبنو حام يقيمون في أفريقيا: كوش أو النوبة التي تقابل الحبشة وجنوب السودان. ثمَّ مصر، وليبيا التي دُعيَتْ فوط في النصوص القديمة (تك 10: 6).
جاء المجوس بالذهب من أوروبّا، وبالبخور من آسيا، وبالمرّ من أفريقيا، وهكذا مثَّلوا القارّات الثلاث التي عُرفت في القديم. حين نتذكَّر أنَّ تك 1-11 كان آخر ما كُتب في الأسفار الخمسة، أي حوالي القرن 5-4 ق.م، نفهم أنَّ «الجغرافيا» كانت معروفة. وحين نتذكَّر أنَّ المسيحيَّة كانت منتشرة في هذه القارّات الثلاث يوم دُوِّن الإنجيل المتّاويّ، نفهم نيَّة كاتبه الذي تعدَّى الشعب اليهوديّ، كما تعدَّت الرسالة إلى العبرانيِّين كهنوت اللاويِّين وقفزت فوق موسى لكي تصل إلى ملكيصادق. وهكذا وصل متّى إلى نوح وأبنائه مع بناء عالم جديد جاء على أثر الطوفان. في ميلاد يسوع، تجدَّد نسل إبراهيم، فما عاد أبناؤه على مستوى اللحم والدم، بل على مستوى الإيمان. ومملكة داود لم تَعُد فقط تلك المملكة الأرضيَّة الضيِّقة، بل صارت «الملكوت» الموعود للبشر جميعًا. فبدأت الرسالة بهذا الإعلان: «توبوا! اقترب ملكوت السماوت» (مت 4: 17). وفي خبر المجوس، أراد يسوع بميلاده أن يجدِّد الخليقة التي تطهَّرت بماء الطوفان ثمَّ عادت إلى الخطيئة خصوصًا مع برج بابل. وها هي في ميلاد يسوع تأتي من البعيد، على مستوى الزمان كما على مستوى المكان، لتسجد ليسوع الجالس على ركبتَي أمِّه. وهكذا يمكن الكلام عن «ثلاثة» مجوس، أو ثلاثة ملوك وثنيِّين أتوا من القارَّات الثلاث بعد أن قرأوا في الطبيعة ولاسيَّما في الكوكب المضاء ولادة الابن الإلهيّ بحيث تتمُّ نبوءة إشعيا في كلام على أورشليم:
60: 1    قومي استنيري (أو: كوني نورًا)
لأنَّ نورك جاء
ومجد الربِّ أشرق عليك.
2    فها هي الظلمة تغطِّي الأرض
والظلامُ الدامسُ الأمم
أمَّا عليك فيُشرق الربُّ
ومجدُه عليك يُرى.
3    فتسير الأمم في نورك
والملوك في ضياء إشراقك.
4    ارفعي عينيك حواليك وانظري
كلُّهم اجتمعوا أتوا إليك.
6    تغطّيك كثرة الجمال
كلُّها تأتي من سبأ
تحمل ذهبًا ولبانًا
وتبشِّر بتسابيح الربّ.

الخاتمة
في هذه المداخلة تعرَّفنا إلى مريم التي لم يعرفها يوسف، بحيث ولدت ابنها في البتوليَّة. ومع إنجيل لوقا، فهمنا أنَّ مريم اختارت البتوليَّة، لأنَّ أمَّ المسيح تكون بتولاً على ما قال إشعيا: «ها إنَّ العذراء تحبل وتلد ابنًا ويُدعى اسمه عمانوئيل، أي إلهنا معنا». أمّا إخوة يسوع وأخواتهم، فهم في المعنى الروحيّ نحن، الذين ما استحى أن يدعونا إخوته كما قالت الرسالة إلى العبرانيِّين (2: 11). يبقى أنَّ إخوة يسوع المذكورين في الأناجيل الإزائيَّة، هم أبناء كلاوبا ومريم الأخرى التي كانت عند الصليب مع مريم أمِّ يسوع وأخت أمِّه والمجدليَّة. أربع نساء يمثِّلن الكون بأقطاره الأربعة، كما مثَّلت النساء الأربع اللواتي ذُكرن في نسب يسوع (1: 1-17)، الأبعاد الأربعة التي منها أتى العالم الوثنيّ ودخلوا في سلالة إبراهيم، سلالة الإيمان، وسلالة داود. سلالة ملكوت الله. فنسبُ يسوع يتألَّف من البعيدين والقريبين، من الوثنيِّين واليهود. إليه جاء اليهود للسجود في شخص الرعاة، والوثنيُّون أو بالأحرى الأمم التي خرجت من نوح في شخص أبنائه الثلاثة، سام وحام ويافث، الذين انتشروا في آسيا وأفريقيا وأوروبّا. هم ثلاثة أشخاص، بل ثلاث قارّات، بل المسكونة كلُّها أتت لتسجد للطفل الإلهيّ، كما قال لوقا عن «المسكونة» (2: 1) التي جاءت تكتتب في زمن أوغسطس قيصر.
ويبقى يوسف مع صورة مشوَّهة سيطرت في عقولنا: قيل هو الشيخ العجوز الذي جاء به الربُّ ليحامي عن مريم البتول. خطأ. هو شابٌّ بين الثامنة عشرة والعشرين. قيل عنه إنَّه كان أرملاً وله أربعة صبيان وربَّما عددٌ من البنات. تزوَّج مرَّة أولى، وها هو يخطب مريم بانتظار الزواج الثاني. كلاّ. لماذا الدفاع عن بتوليَّة مريم في الأناجيل المنحولة على حساب شخص يوسف الذي عادل مريم في عيش البتوليَّة والتكريس للطفل الإلهيّ حتّى عمر الاثني عشر عامًّا؟ قال يسوع في الهيكل: «ينبغي أن أكون في ما هو لأبي» (لو 2: 49). فهم يوسف واختفى تاركًا ابن الله يسير بحسب مشيئة الآب السماويّ. وأخيرًا اعتُبر أنَّه شكَّ في «طهارة» مريم حين رآها حبلى، فأراد أن يطلِّقها؟ كلاّ. هو ما أراد أن يطلِّقها، لا جهرًا ولا سرًّا. ولا هو تراجع رحمة منه. ما هذه الشفقة التي لا تخرج مربِّي الطفل الإلهيّ من الإطار البشريّ، وهنا اليهوديّ! دخل يوسف في السرِّ الإلهيّ. أحسَّ في أعماق قلبه أنَّ أمامه امرأة «ممتلئة نعمة»، تشعُّ نورًا وقداسة، وأنَّ من تحمله في حشاها هو ابن الله، لهذا امتلأ بالخوف المقدَّس، وأراد أن يبتعد لأنَّه أحسَّ بنفسه أنَّه رجل خاطئ، وبالتالي لا يستحقُّ أن يكون مع مريم ومع الذي تحمله في حشاها. أراد أن يهرب، فطلب منه الملاك أن يأخذ مريم. فتجاوز ذاته وتفكيره البشريّ، وما إن قام من نومه حتّى فعل مثل مريم، «فعل كما أمره ملاك الربّ، وأخذ مريم إلى بيته». مريم لم تعرف رجلاً، ويوسف لم يعرف مريم. على هذا المستوى نقرأ الإنجيل. وإن نزلنا عن هذا المستوى لا نكون أمام كلمة الله، بل أمام أفكار البشر وتصوُّراتهم. لهذا يليق بنا أن نقف صامتين أمام سرِّ الحبل الإلهيّ ونردِّد كلام النبيّ إشعيا: «كما علت السماوات عن الأرض، هكذا علت طرقي عن طرقكم وأفكاري عن أفكاركم» (55: 9).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM