الفصل التاسع:أناجيل الطفولة، مريم ويوسف

الفصل التاسع
أناجيل الطفولة، مريم ويوسف

حين نتطلَّع إلى إنجيل متّى، نكتشف عمارة كبيرة مبنيَّة على أربعة عواميد في أربع زوايا، مع عمود في الوسط يشكِّل حجر الزاوية، أو حجر الغلقة الذي يُنهي البناء ويكمله. أمّا العمود الوسطيّ فهو عظة الجبل (ف 5-7)، والعواميد الأربعة الأخرى، فهي عظة الإرسال (ف 10) وعظة الأمثال (ف 13) والعظة إلى الجماعة (ف 18) وعظة النهاية (ف 24-25). أمّا المدخل فهو إنجيل الطفولة الذي يغطِّي الفصلين الأوَّلين، وهو يبدأ مع إبراهيم وداود وينتهي مع إقامة العائلة المقدَّسة في الناصرة: «وجاء إلى مدينة اسمها الناصرة فسكن فيها» (2: 23). ولكنَّنا لن نبقى داخل هذه العمارة، بل ننطلق مع جماعة متّى إلى «جميع الأمم» (28: 19). فالذي عرفْنا اسمه عمانوئيل أي الله معنا (1: 23) حين دخلنا إلى هذا الإنجيل، يعلن لنا في النهاية وهو يرسلنا: «ها أنا معكم طوال الأيّام إلى انقضاء الدهر» (28: 20).
أمّا نحن فنتوقَّف عند المدخل لنكتشف اللاهوت العميق الذي يسيطر على الإنجيل كلِّه، فنكتشف بعض العناصر التاريخيَّة التي تقودنا إلى نظرة روحيَّة. نترك وراءنا عددًا من المسائل التي تُطرَح اليوم فتجعلنا ننسى أنَّ الإنجيل هو قراءة للمؤمنين قبل أن يكون موضوع بحث في الحضارة اليهوديَّة أو اليونانيَّة الرومانيَّة. ونطرح موضوعين: نسب مريم ويوسف، خبر المجوس. ونبدأ بالكلام عن مريم ويوسف، تاركين خبر المجوس الى جزء ثانٍ وهكذا تكون خاتمة واحدة للموضوعين.

إذا كان لوقا قرأ في أناجيل الطفولة ما يخصُّ مريم بالدرجة الأولى بحيث جاء يوسف في الدرجة الثانية، فإنجيل متّى سلَّط الضوء على يوسف أوَّلاً وذُكرت مريم بالنسبة إلى يوسف: «ويعقوب وَلد يوسف زوج مريم التي ولدَتْ يسوع الذي يُدعى المسيح» (1: 16). وفي المقطوعة التالية (آ18-25)، نعرف أنَّ مريم «مخطوبة ليوسف» (آ18) الذي يُطلَب منه أن يأخذها إلى بيته (آ20) مع أنَّها حبلى قبل أن يعرفها. وما يلفت النظر هو أنَّ مريم تُذكَر وحدها دون يوسف حين مجيء المجوس: «ودخلوا البيت فوجدوا الطفل مع أمِّه مريم فركعوا وسجدوا له» (2: 11) . ونبدأ الكلام عن مريم.
أ- مريم المخطوبة ليوسف
اسمها يرتبط بالمحبَّة (م ر ي) إذا عدنا إلى اللغة المصريَّة ، كما اسم موسى. وجاءت في سلسلة نسب المسيح تقفل المسيرة وتحطِّم الترتيب الذي سبق وقرأناه: إبراهيم ولد إسحاق، إسحاق ولد يعقوب (1: 2). هو الرجل يتَّصل بابنه، على مستوى الجسد أو على مستوى الإيمان وحين نصل إلى يوسف، لا نقرأ: يوسف ولد يسوع، بل يوسف هو رجل مريم، وهي التي ولدت يسوع (آ16). ما الذي حصل لتنكسر القاعدة؟ سوف نعرف فيما بعد أنَّ أبا هذا الطفل هو الله الآب، لا يوسف بن داود.
ففي ما يُدعى «إنجيل النسبة» (1: 1-17)، يقدِّم لنا متّى خلفيَّة يسوع في تاريخ شعب إسرائيل . هكذا اعتاد أن يفعل التقليد الكهنوتيّ. ومن الأهمِّيَّة بمكان أن يصل «الكاهن» أو «اللاويّ» إلى سبعة جدود له . أمّا متّى فقدَّم الرقم 14 ثلاث مرَّات، وإن يكن الجيل الثالث مؤلَّفًا من 13 اسمًا فقط.
أجداد معروفون في هذا النسب: إبراهيم رجل الإيمان. إسحاق الذي سيكون في التقليد المسيحيّ صورة عن يسوع في ذبيحته. يعقوب أبو القبائل الاثنتي عشرة، مع يوسف مخلِّص إخوته ويهوذا الذي منه خرج داود وسليمان وسائر الملوك. فتاريخ يسوع لا ينفصل عن تاريخ شعبه، لا بواسطة أبيه بل بواسطة أمِّه: «فلمّا جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولودًا لامرأة، مولودًا تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبنِّي» (غل 4: 4).
وتاريخ يسوع لا ينفصل أيضًا عن مهمَّة الكنيسة إلى الأمم، وهي ضمنيَّة في هذا التاريخ . فكما أورد أسماء الرجال الذي يوجزون العهد القديم بما فيه من ميراث غنيّ ، كذلك أورد أسماء أربع نساء، وتوَّجهنَّ باسم مريم. وهكذا نعود إلى الرقم خمسة، مع مريم في الوسط تحيط بها نساء أربع أتَين من أربع جهات الأرض. قيل عن هؤلاء النسوة إنَّهنَّ خاطئات، فجاء أولادهنَّ بشكل غير نظاميّ. فراعوت «اضطجَعَتْ عند رجليه (أي رجلَي بوعز) إلى الصباح، ثمَّ قامت قبل أن يقدر الواحد أن يعرف صاحبه» (را 3: 14). وفي لغة اليوم بدت زانية، وبالتالي يكون جدُّ داود البعيد ابن زنى، فنقرأ: «بوعز ولد عوبيد (من راعوت)، وعوبيد ولَد يسّى ويسّى ولد داود» (را 4: 21-22)، الذي هو «الملك» (مت 1: 6).
وقبل راعوت، هناك راحاب والدة بوعز (آ5). كتب عنها سفر يشوع ما يلي: «ذهبا (الجاسوسان) ودخلا بيت امرأة زانية اسمها راحاب واضطجعا هناك» (2: 1). وحين «احتلال» أريحا، نبَّه يشوع رجاله: «تكون المدينة وكلُّ ما فيها «ح ر م» للربّ. وراحاب الزانية فقط تحيا، هي وكلُّ من معها في البيت، لأنَّها خبَّأت المرسلَين اللذين أرسلناهما» (6: 17) . اسمها يكفي للكلام عنها، وسوف يقول التقليد إنَّها تزوَّجت يشوع. من هذا القبيل نفهم أنَّ بها دخل يشوع في نسب يسوع، والاسمان متشابهان. وقال التقليد إنَّها كانت جدَّة أنبياء عديدين .
وتامار. لو نعرف مع من زنت؟ مع حميِّها، مع يهوذا نفسه. زوَّجها ابنَه الأكبر (تك 38: 6)، فما أنجبَتْ له ولدًا. وبحسب شريعة السلفيَّة، زوَّجها ابنَه الثاني الذي رفض أن يعطيها ولدًا يكون في الواقع ابن أخيه البكر. عندئذٍ وجب على يهوذا أن يزوِّجها ابنه الثالث، لكنَّه خاف «إن يموت مثل أخويه» (آ12). فهل تبقى تامار بدون أولاد، وهي المرأة القديرة؟ وضعت قناعًا على وجهها ووقفَتْ على الطريق، لأنَّ يهوذا كان سوف يمرُّ من هناك فدخل عليها، بعد أن ظنَّها زانية، فحبلت منه. جاء من يخبره: «زنت تامار كنَّتك، وها هي حُبلى من الزنا» (تك 28: 24). ولمّا علم أنَّها حُبلى منه قال: «هي أبرُّ منِّي» (آ26). أرادت أن يكون لها نسلٌ. وهذا النسل دخل في سلالة المسيح.
والمرأة الرابعة هي «التي لأوريّا» (مت 1: 6)، أي امرأة أوريّا. واسمها في سفر صموئيل الثاني «بتشابع». أخذها داود فدخلت إليه فاضطجع معها... ثمَّ رجعت إلى بيتها. وحبلت المرأة، فأرسلَتْ وأخبرت داود وقالت: «إنِّي حبلى» (2 صم 11: 4-5).
أربع نساء حبلن بشكل بعيد عن الشريعة وعن الوصايا، ولاسيَّما حسب ما يقول العهد الجديد. هنَّ خطأة، حبلٌ غير عاديّ. وحبل مريم غير عاديّ أيضًا. ولكن شتّان بين هؤلاء الأربع وبين مريم، الممتلئة نعمة. هو عالم من الخطأة دخله يسوع بواسطة أمِّه. لا مع النساء الأربع، بل مع النسب كلِّه. هل كان إبراهيم «بارًّا» حين باع امرأته مرَّتين، مرَّة في مصر لفرعون (تك 12: 10ي)، ومرَّة في أرض الفلسطيِّين، لأبيمالك (تك 20: 1ي)؟ ونقول الشيء عينه عن إسحاق بالنسبة إلى رفقة (تك 26: 7ي). أمّا يعقوب فاشتهر بخداعه تجاه أخيه وأبيه وخاله. ممّا يعني أنَّ اختيار النساء الأربع لم يكن فقط لأنَّهنَّ خاطئات، بل لأنَّهنَّ أتين من الأمم المحيطة بأرض الربّ، فدخلن في شعب الله ودخل معهنَّ أولادهنَّ.
جاءت تامار من كنعان، مع أنَّ إبراهيم منع ابنه إسحاق من أن يأخذ «من بنات الكنعانيِّين» (تك 24: 23). وراحاب من أريحا، تلك المدينة التي حُرِّم على العبرانيِّين أن يتعاطوا معها ومع أهلها، والتي عنها قال يشوع: «ملعون قدَّام الربِّ الرجل الذي يقوم ويبني هذه المدينة» . راعوت هي من موآب، وشعبها لا يستطيع أن يدخل إلى جماعة الله قبل الجيل العاشر. ذاك ما قال سفر التثنية (23: 3). أمّا امرأة أوريّا فهي من بني حثّ، الذين نبَّه إسحاق عيسو منهم (تك 26: 34-35: كانت مرارة نفس لإسحاق ورفقة).
ولكن ما نلاحظ هو أنَّ هؤلاء النسوة يُقمن إلى الشرق من فلسطين وغربها وشمالها وجنوبها. أي في اتِّجاه الأقطار الأربعة. فيبقى أنَّهنَّ صرن من شعب الله، لا بواسطة ولادة طبيعيَّة، بل بواسطة الإيمان، شأنهنَّ شأن المرأة الكنعانيَّة التي كانت هي أيضًا ابنة إبراهيم في شهادة يسوع: «عظيم إيمانك أيَّتها المرأة، فليكن لك ما تريدين» (مت18:15). فنذكر مثلاً الحوار بين راعوت وحماتها نعمي. قالت هذه: «ليس لنا سوى توراة واحدة ووصيَّة واحدة: الربُّ إلهنا السرمديّ إله واحد ولا إله معه». قالت لها راعوت: «سيكون قومك قومي وإلهك إلهي» . أمّا بتشابع فستكون أمَّ سليمان بن داود الملك، الذي اشتهر بحكمته وهو السامع لكلام والدته. «وتامار أمُّنا، ما توخَّت الزنى. ولكن حين رفضت أن تنفصل عن بني إسرائيل فكَّرت وقالت: «أفضِّلُ أن أموت لأنِّي اتَّحدت بحميَّ من أن أمتزج بالأمم» .
ويُطرَح السؤال: لماذا لم يذكر الإنجيليّ أمَّهات الشعب العبرانيّ مثل سارة ورفقة وراحيل وغيرهنَّ؟ لأنَّنا إذا قرأنا مثلاً سفر الأخبار نراه اعتاد أن يذكر اسم الرجال دون النساء . أمّا متّى فاكتفى بذكر النساء الأمميّات اللواتي دخلن في نسب يسوع فأدخلن شعوبهنَّ معهنَّ، بانتظار شعوب القارات الثلاث مع المجوس الذين أتوا من مشرق الشمس، وقادهم الكوكب وأنار طريقهم إلى البيت الذي يقيم فيه الطفل مع أمِّه.
وتبقى علاقة مريم بيوسف: هي مخطوبة، أي حسب ما نعرف من الشرع الإسلاميّ: كتبت كتابها. عُقد الزواج. وكان الوالدان يقومان بهذا العمل، أو بالأحرى الوالد من هنا والوالد من هناك. هو «زواج» في معنى «الاحتفال»، فلا يبقى سوى أن يأخذ العريس عروسه إلى بيته.
وفي أيِّ عمر كان هذا يتمّ؟ باكرًا. وإن تأخَّر، حين تبلغ الفتاة والشابّ. والزواج؟ قالت التقاليد: في سنة 18 بالنسبة إلى الرجل أو العشرين. نقرأ مثلاً في فصول الآباء : «كان [رابّي شموئيل الصغير] يقول: «ابن الخامسة [لدراسة] الكتاب. وابن العاشرة لدراسة [المشناة]، وابن الثالثة عشر لدراسة [الوصايا]، وابن الخامسة عشر [لدراسة] التلمود، وابن الثامنة عشر للزواج، وابن العشرين للسعي [وراء لقمة العيش]، ولابن الثلاثين القوَّة، ولابن الأربعين الفهم...». هذا يعني أنَّ «أسطورة» يوسف ذلك الشيخ الذي تزوَّج مريم وهو كبير السنّ لكي يحافظ على بتوليَّتها، هي مجرَّد نسج الخيال ، وكأنَّ مريم تحتاج إلى سند بشريّ لكي تحافظ على بتوليَّتها.
والأسطورة الثانية أنَّه كان له أولاد من زواج أوَّل، وهم الذين ندعوهم إخوة يسوع  وأخواته (مر 6: 3). ذاك ما قالته الأناجيل المنحولة التي حلَّت في تقاليد مسيحيَّة محلَّ الأناجيل القانونيَّة، وراح الشرّاح يتوسَّعون في هذا الأمر ليجدوا حلاًّ لمشكلة إخوة يسوع . أهكذا نفهم بتوليَّة مريم التي اتَّخذت فيها قرارًا حين دعاها الملاك؟ قالت: «أنا لا أعرف رجلاً» (لو 1: 34). هل نحن هنا على مستوى بشريّ؟ كلاَّ. فلو كان معنى هذه العبارة: لم أعرف بعدُ رجلاً، لكان الملاك قال لها: أنت مخطوبة إلى يوسف وتستطيعين أن تمضي إلى بيته ويكون لك لا ولدٌ واحد فقط، بل الأولاد العديدون. أمّا مستوى كلام مريم للملاك فهو على مستوى لاهوتيّ وروحيّ: مريم تلك المخطوبة، عرفت أنَّها تكون «بتولاً» لأنَّها أمُّ المسيح، وأمُّ المسيح تكون بتولاً بحسب كلام النبيّ إشعيا كما جاء في اليونانيَّة: «ها إنَّ العذراء تحبل وتلد ابنًا يُدعى عمانوئيل» (7: 14؛ رج مت 1: 23). أتُرى مريم وعدَتْ بأنَّها تكون بتولاً حتّى ولادة يسوع، وبعد ذلك «تأخذ راحتها» وتلد الأبناء والبنات العديدين؟
ولكن من الصعب على الذين يعتبرون إنجيل متّى كتابًا مقدَّسًا أن يرفضوا حدث الميلاد البتوليّ. انطلق الإنجيليّ من تتمَّة الكتاب والمعجزة التي حصلت، فتوقَّف لا عند المعنى التاريخيّ أوَّلاً، بل عند النظرة اللاهوتيَّة. ونشير هنا بشكل عابر أنَّ مريم كان عمرها اثني عشر عامًّا أو أربعة عشر عامًّا بحسب الأناجيل المنحولة. أمّا العادة فتطلب من والد الفتاة أن يزوِّجها في عامها الثالث عشر، حين تصير עלמה: فتاة، كما نقرأ في النصِّ الإشعيائيّ العبريّ (7: 14).

ب- يوسف البارّ
حين نقرأ السلسلة في إنجيل متّى (1: 1-7)، نفهم أنَّ يوسف يأتي في خطِّ المؤمنين بدءًا بإبراهيم، كما يأتي في خطِّ الملوك منذ داود مرورًا بسليمان ورحبعام وأبيّا... بحيث أعطى يسوع الصفة الملوكيَّة: يسوع هو ابن داود. والد يوسف هو يعقوب في هذه السلسلة، وهو اسم لا نعرف عنه شيئًا. قالت عنه الأناجيل المنحولة إنَّه كان شيخًا، شأنه شأن زكريّا، والد يوحنّا المعمدان، وإنَّ له أولادًا من زواج أوَّل، كما سبق وقلنا.
تحدَّث عنه البروتوإنجيل يعقوب أنَّه كان نجّارًا ناجحًا، يبني البيوت. وفي 9/3 مضى لكي ينظِّم مشاريعه. قال لمريم بعد الخطبة: «الآن أترككِ في بيتي لأنِّي ماضٍ أبني منازلي ثمَّ أعود إليك، والربُّ يحفظك». وفي إنجيل الطفولة أو بسودومتّى نقرأ: «إذ كان يحصل هذا (بشارة مريم)، كان يوسف في كفرناحوم منهمكًا في شغله، لأنَّه كان نجّارًا، ولبث هناك تسعة أشهر» (10/1). ونحن لا ننسى خبر يوسف في فم يسوع: هو النجّار. كما يقول عنه أيضًا خبر طفولة يسوع.
في الأناجيل القانونيَّة، دُعيَ يسوع «ابن النجّار» (مت 13: 55) احتقارًا في فم أبناء بلدته الناصرة، حين سمعوه يعلِّم بسلطان، «فتعجَّبوا وتساءلوا: "من أين له هذه الحكمة وتلك المعجزات"» (آ54). وهكذا «رفضوه». أمّا في مر 6: 3 فيسوع هو «النجّار ابن مريم». لا شكَّ في أنَّه تعلَّم هذه المهنة على يد والده. وفي إنجيل يوحنّا تساءل اليهود: كيف يعرف يسوع كلَّ هذا وهو الذي لم يمرَّ في مدارس الكتبة. لهذا، تحدَّثت الأناجيل المنحولة عن يسوع الذي كان «متعلِّمًا»، أو قالت: هو ما كان محتاجًا إلى تعليم. نقرأ مثلاً في خبر طفولة يسوع: «حين رأى يوسف أنَّه (= أي يسوع) ذكيّ ما أراده أن يبقى أمِّيًّا، فجاء به إلى معلِّم. فقال له المعلِّم قل: ألف. ثمَّ أضاف: قل: باء. فقال له يسوع: قل لي أوَّلاً ما هي الألف فأقول لك ما هي الباء» (14/1-2). ونقرأ في 15/1-2: «وأتى معلِّم آخر فقال ليوسف: أعطني إيّاه (أي: يسوع) فأعلِّمه. فأخذ يسوع. ولمّا دخل هذا إلى المدرسة، لم يقرأ ما هو مكتوب، بل فتح فمه وتكلَّم في الروح بحيث ارتعب المعلِّم وسقط أرضًا وهو يتوسَّل إليه. فاجتمع أناس عديدون في هذا الموضع، وجميع الذين رأوا ذلك اندهشوا».
ونطرح السؤال: هل كان يوسف مجرَّد نجّار؟ هذا ما لا نظنُّه. فسلالته ملوكيَّة وهو متجذِّر في بيت لحم، ولذلك مضى إلى بلدته من أجل الإحصاء. وإذا كان ابنه مهدَّدًا بيد هيرودس وجنوده، فلأنَّ هذا الابن «ملك» ابن «ملك». لهذا هرب به يوسف إلى خارج البلاد، وبعيدًا عن سلطة هيرودس. وإذا كان يوسف ذاك النجّار الفقير العائش في قرية حقيرة لم يذكرها العهد القديم مرَّة واحدة (يو 1: 46)، فكيف له أن يعرف أنَّ هيرودس مات؟ من أخبره بذلك وهو العائش «مهجَّرًا» بعيدًا عن بلده؟ وأبعد من ذلك، كيف استطاع هذا «النجّار» المخفيّ أن يدرس الأحوال السياسيَّة فيقابل بين خلفاء هيرودس الكبير الذي مات سنة 4 ق.م.؟ قال الخبر المتّاويّ: «سمع (يوسف) أنَّ أرخيلاوس يملك على اليهوديَّة خلفًا لأبيه هيرودس، فخاف أن يذهب إليها» (مت 2: 22). وهكذا مضى يوسف مع مريم ويسوع وأقاموا في الناصرة.
هذا يعني أنَّ يوسف لم يكن «نجّارًا» في الأصل. فهو من سلالة رفيعة. ولكن كما سبق وقلنا، دُعيَ احتقارًا، لا لدى اليهود، بل اليونان الذين كانوا يحتقرون المهن اليهوديَّة. أمّا الأتقياء في الشعب العبرانيّ، فكانوا يمتلكون مهنة يدويَّة. فنذكر بولس الذي كان «صانع خيام». ولمّا أتى إلى كورنتوس، أقام عند أكيلا وبرسكيلا لأنَّه كان «من صناعتهما» (أع 18: 3). ونعرف معلِّمين كبارًا، منهم من كان «فرّانًا» وآخر «حدَّادًا». وفي أعمال يوحنّا، نعرف أنَّ الرسول اشتغل في الحمَّامات.
والصفة الأهمّ بالنسبة إلى يوسف هو أنَّه كان «بارًّا». والبرارة تعني الصدق في التعامل مع الله وحفظ الوصايا وممارسة الشريعة على المستوى الأخلاقيّ كما على المستوى الطقسيّ. في هذا المجال، شابه يوسف زكريّا وإليصابات والدَي المعمدان. قال فيهما إنجيل لوقا: «وكانا كلاهما بارَّين أمام الله، سالكين في جميع وصايا الربّ وأحكامه بلا لوم» (1: 6) . هي نظرة دفاعيَّة أوَّلاً: تمتَّع يوسف «بقداسة» خاصَّة، فكان مُعَدًّا لكي يكون مربِّي يسوع مع مريم. ثمَّ نظرة خلقيَّة. فالأولاد يتعلَّمون من والديهم. هكذا يوحنّا المعمدان. وهكذا يسوع. منذ البداية أراد متّى أن يعطي «التعليم» من خلال مثال يوسف، في حياة زوجيَّة مثاليَّة.
ولكن جاء ما يهدِّد هذه «البرارة». قال الإنجيل: «تبيَّن قبل أن تسكن (مريم) معه (مع يوسف) أنَّها حبلى» (1: 18). هذا غير مقبول على المستوى البشريّ. سبَّق الإنجيل الخبر وقال لنا من أين جاء هذا الحبل: «من الروح القدس». ذاك الذي رفَّ في المياه منذ بداية الخليقة (تك 1: 3)، كوَّن في حشا مريم بشريَّة يسوع، جسده، لحمه ودمه. أُبعد كلُّ تدخُّل بشريّ. فكيف يتصرَّف الإنسان ولاسيَّما في العالم الشرقيّ القديم؟ أتراها زانية؟ وفي هذه الحال، كيف يتصرَّف يوسف؟
في العالم اليهوديّ، الزانية تُرجَم هي وزوجها، والنصّ الكتابيّ واضح: «وكلُّ من زنى بامرأة إسرائيليّ  آخر، يُقتَل الزاني والزانية» (لا 20: 10). وراح سفر التثنية في الخطِّ عينه: «إن وُجد رجل يضاجع امرأة لها زوج، فالرجل المضاجع والمرأة يُقتلان معًا. هكذا تزيلون الشرَّ من بني إسرائيل» (22: 23). وماذا يحصل إذا كانت الفتاة مخطوبة؟ يعطي سفر التثنية الجواب: «وإذا كانت فتاة بكر مخطوبة لرجل، فصادفها رجل في المدينة فضاجعها، فأخرجوهما إلى باب تلك المدينة وارجموهما بالحجارة حتّى يموتا، لأنَّ الفتاة لم تصرخ صراخ النجدة وهي في المدينة، ولأنَّ الرجل ضاجع فتاة مخطوبة من بني إسرائيل. هكذا تزيلون الشرَّ من بينكم» (آ23-24).
هناك استثناء: إذا كانت الفتاة المخطوبة في الحقل. يُقتَل الرجل وحده «لأنَّ لا خطيئة عليها» (آ26). وإن لم يُمسَك الرجل، تُرجَم المرأة وحدها. ذاك ما كاد يحصل لتلك المرأة التي أُمسكت في زنى فأتوا بها إلى يسوع (يو 8: 1-11): «موسى أوصانا في الناموس أنَّ مثل هذه تُرجم» (آ5).
لو كان يوسف «بارًّا» في المنطق اليهوديّ، لوجب عليه أن يطلب رجمها. أن يشهِّرها ، بحيث يعرف الجميع خطيئتها. ولكنَّه لم يفعل. أبقى ما يريد أن يعمله في الخفاء laqra. يجب أن لا يعرف أحد بما يفعل. كما لا يريد أن يعرف أحد وضع «مريم». هكذا تنجو من «العقاب» إذا حُسب أنَّ لها عقابًا. وما الذي عزم أن يفعل؟ هل يطلِّقها؟ الفعل اليونانيّ apolusai يعني: حلَّ من قيد أو رباط، ترك، حرَّر. وهكذا تكون «مريم» حرَّة بأن تفعل ما تشاء. في معنى ثانٍ، يعني الفعل: حرَّر شخصًا من اتِّهام. قيل إنَّه سارق فبُرئ من التهمة. وفي معنى ثالث: طلَّق، سرَّح، صرف.
ولكن يأتي الملاك ويمنعه أن يفعل، أن يترك مريم، أيًّا يكن السبب. ونطرح السؤال الثاني: إن كان يوسف «بارًّا» في نظرة مسيحيَّة، فلا يُسمَح له أن يترك امرأته ولا أن يطلِّقها. بل يجب عليه أن يغفر لها.
هنا يُطرح السؤال: هل اعتبر يوسف مريم «زانية» فأراد أن يطلِّقها؟ ولكنَّه عاملها بالرحمة  كما يقول عدد من الشرّاح؟ انطلق هؤلاء من أقوال الآباء بأنَّ يوسف شكَّ في أمر مريم: منذ يوستين النابلسيّ في الدفاع عن المسيحيِّين والحوار مع تريفون، إلى القدِّيس أمبرواز أسقف ميلانو، إلى القدِّيس أوغسطين، إلى يوحنّا الذهبيّ الفم الذي راح يعزِّي الأزواج الذين خانتهم نساؤهم، ويعطيهم مثل يوسف الذي دلَّ على خضوعه وطاعته رغم الصعوبة التي مرَّ فيها . ونورد عن حيرة يوسف ما قاله الذهبيّ الفم في الموعظة الرابعة حول إنجيل متّى:

انظروا إنسانًا محبًّا للحكمة معتَقًا من أشدِّ الأهواء طغيانًا، إذ إنَّكم تعرفون ما أعظم الغيرة. وقد قال (الكتاب) عنها بوضوح، «لأنَّ الغيرة هي حميَّة الرجل، فلا يتوانى يوم الحساب» (أم 6: 34). «الغيرة قاسية كالجحيم» (نش 8: 6). ونحن نعرف أنَّ الكثيرين اختيروا ليقدِّموا أنفسهم، إلاَّ أنَّهم وقعوا في شكِّ الحسد. لكنَّ الأمور هنا ليست مسألة حسد، لأنَّ الجنين في بطن مريم يدينها. ومع ذلك كان يوسف طاهرًا من الهوى، بحيث أنَّه كان راغبًا عن أن يحزن العذراء في شيء مهما صغر. كان الاحتفاظ بها في منزله تجاوزًا للشريعة. لكنَّ تشهيرها وجرَّها إلى المحكمة كانا ليؤدِّيا بها إلى الموت: إنَّ يوسف لم يفعل شيئًا من هذا، بل تصرَّف تصرُّفًا يسمو على الشريعة. فالنعمة آتية، ولذلك يليق وجود سمات كثيرة لتلك المواطنيَّة السامية. كما أنَّ الشمس لا تُظهر أشعَّتها، بل تنير المسكونة هكذا المسيح أيضًا، حتى قبل مجيئه أضاءَ على كل العالم لما كان على وشك الشروق من ذلك الرحم».
ومقابل الذهبيّ الفم نقرأ ما تركه العلاّمة مار ديونيسيوس يعقوب ابن الصليبيّ مطران مدينة آمد في كتاب الدرّ الفريد في تفسير العهد الجديد
فيوسف بعلها كان بارًّا  وما أراد أن يشهرها (فرغب  أن يحلَّها  بطريقة خفيَّة ). إذًا البرّ (أو: العدالة) يُقال عن الذي لا يجور ولا يظلم إنسانًا. فالذي اقتنى نوعًا واحدًا من أنواع العدالة يُدعى بحقٍّ عادلاً. إذًا ندعو عادلاً (أو: بارًّا) من تزيَّن بكلِّ الفضائل. وها عدالة هذا كانت معارضة للناموس (أو: الشريعة) الذي قال: «يدك تكون فيها أوَّلاً» . وكما كانت العدالة تحذِّره من أن يُشهرها (ܢܦܪܣܝܗ) فهذه كانت تقنعه أن يحلَّها (= يتركها) في سكون.
وأيضًا، بماذا تراءى يوسف أنَّه (رجل) بارّ؟ أو هل عرف (أو: ظنَّ) أنَّ البتول قدِّيسة (ܚܣܝܬܐ، طاهرة) أو فاجرة؟ فإن كانت فاجرة وجب أن يشهِّرها ويوبِّخها. وإن قدِّيسة (طاهرة) (وجب عليه) أن يحتفظ بها ويعتني بها. لكنَّه كان عادلاً ورحيمًا. فعدالته لم تسمح له أن يُبقي الفاجرة في بيته. والرحمة نصحته أن يتركها (ܢܫܪܐ) خفية. ولهذا رضي (أو: رغب) أن يحرِّرها سرًّا، لئلاَّ يُرى أنَّه يُقيم مع سافلة فيكون متجاوزًا الناموس.
وهذه أيضًا: خفية (سرًّا). إذا أشفق عليها وما شهَّرها لئلاَّ يُحكم عليها بالموت.
وأيضًا: كان بارًّا لأنَّه لم يشهرها إذ لم يرَ فيها خطيئة.
وأيضًا لأنَّه سمع بحبل إليشباع (أو: إليصابات) وصمت زكريّا وارتقاص يوحنّا، فحُسِبَ أنَّ هذه أيضًا هي معجزة. ولهذا ما حسبها مثل زانية ولا أبقى عليها مثل نقيَّة.

لماذا تحدَّث الآباء عن «شكِّ يوسف»؟ لكي يدافعوا عن نقاوة مريم في وجه التيّار اليهوديّ الذي اتَّهم مريم بأنَّها زنت مع جنديّ رومانيّ. وإن تحدَّثوا عن برارة يوسف، فلكي يبيِّنوا تقواه وطاعته لأمر الربّ، وبهذا يكون مثالاً للمؤمنين.
ولكنَّ هناك نظرة روحيَّة تبدِّل قراءة الكلمات بشكل حرفيّ. فهل «البارّ» هو فقط ذاك الذي يحفظ الوصايا؟ بل أكثر من ذلك. هو الذي يبحث عن مشيئة الله ويتبعها مهما كانت الظروف، وخصوصًا لو فُرض عليه أن يرتفع فوق كلِّ الاعتبارات الأرضيَّة. فكما مريم نسيَت كلَّ ما انتظرته النساء في أرض إسرائيل وجعلت نفسها في خدمة مشروع الربّ، هكذا يوسف: مشروع الربِّ عالٍ جدًّا، كيف وضعه في هذه الحال التي ما كان ليتوقَّعها، لا هو ولا أيُّ إنسان على الأرض؟ والكلام عن الخوف؟ هل نبقى فقط في قراءة حرفيَّة فيها يخاف يوسف من «العار» له ولبيته وللعشيرة كلِّها؟ عندئذٍ لا نكون أمام قراءة روحيَّة، ولا أمام قراءة إنجيليَّة تنقلنا من العهد القديم إلى العهد الجديد.
فالخوف معروف في التقليد البيبليّ: هي عاطفة الإنسان أمام الحضور الإلهيّ. ذاك ما اختبره موسى مع العليقة الملتهبة (خر 3: 6)، وجدعون عندما رفع التقدمة، فقيل له: "لا تخف"» (قض 6: 23)، ووالد شمشون. ثمَّ زكريّا عند تقدمة البخور: «فظهر له ملاك الربِّ واقفًا عن يمين مذبح البخور. فلمّا رآه زكريّا اضطرب ووقع عليه خوف. فقال له الملاك: «لا تخف يا زكريّا» (لو 1: 11-13). ذاك كان خوف يوسف. فالله ظهر له من خلال حشا مريم. أحسَّ بإيمانه ما سوف يسمعه من فم الملاك في الحلم: «هي حُبلى من الروح القدس» (مت 1: 20). والنور يشعُّ فيها، كما قال الذهبيّ الفم. حين نعرف أنَّ يوحنّا تحرَّك في حشا أمِّه إليصابات حين حيَّتها مريم، وذلك خلال دقيقة واحدة، فماذا يكون شعور يوسف وهو الذي يلتقي بمريم مرارًا وهي خطِّيبته؟
لا. ما شكَّ يوسف دقيقة واحدة بمريم. كيف يظهر له الظلام، والنورُ يملأ البيت؟ وإذا كان ذاك البارّ، كيف يسمح لنفسه أن «يدين» مريم. ولماذا لا تكون مريم أخبرته بالسرِّ الذي في حشاها. هنا نعود إلى ديونيسيوس الصليبيّ في شرح إنجيل متّى
رغب أن يحرِّرها سرًّا. أي إذ لا يعرف اليهود حين يُرى الحبل، تباحث معها ممَّن هي حبلى. أمّا هي فأجابته: «من الروح (القدس)». ولكنَّه لبث قائمًا في التردُّد (ܦܘܫܟܐ)، كما قال يعقوب السروجيّ. فإن هو من الروح، ينبغي أن لا يقترب منها، وإن من الزنى (ينبغي) أن لا يخلط (أو: يمزج) نقاوته مع جسمٍ زنى. ففكَّر أن يتركها سرًّا (خفية) لئلاَّ يقتلها اليهود فيصبح هو مذنبًا.
وقال آخرون: لم تَقُل له مريم شيئًا، لأنَّها عرفت أنَّه لا يصدِّق كلامها. فالأمر مدهشٌ عجيب. ولكن إن هو سمع سوف يضطرب أيضًا. ففكَّرت في نفسها: ذاك الذي أراد أن يتجسَّد (ܐܬܒܣܪ) منها هو الذي يعتذر عنها. ثمَّ لا يليق أن تكشف السرَّ الذي استودعها الملاك، حسب الكلمة: «من آمن بالروح أخفى الكلمة».

وجد يوسف نفسه أمام سرٍّ عجيب. كيف يحقُّ له وهو «الخاطئ» أن يكون بقرب هذه القداسة! كيف يحقُّ له وهو الإنسان الضعيف أن يلامس الألوهة، كما قال أفرام السريانيّ: حمل يوسف ذاك الذي يختفي فيه قديم الأيّام. نظر إلى طفل ملقى في القمط وفيه تختفي الكنوز التي تكفي الجميع. لا ما خاف يوسف أن تكون مريم «زانية» ولا شكَّ فيها دقيقة واحدة، بل خاف أن يكون بقرب من تحمل النور في حشاها. خاف أن تحرقه. فأراد أن يبتعد عنها، وهو العارف أنَّ الله نار آكلة. فشابه بطرس بعد الصيد العجيب، الذي قال ليسوع: «ابتعد عنِّي يا ربُّ لأنِّي رجل خاطئ» (لو 5: 8). اعتراه الخوف والدهشة. ولكنَّ الربَّ قال له: «لا تخف» (آ10). وما أحلى ما قاله في هذا الصدد أوريجان:
إن كان يوسف لم يشكَّ بامرأته، فكيف يكون بارًّا حين يطلِّق تلك التي لم يمسَّ فضيلتها شيء؟ أراد أن يطلِّقها لأنَّه اعتبر نفسه غير أهل من أن يقترب من هذا السرِّ العظيم الذي تمَّ فيها.










Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM