الفصل الثامن: من أورشليم الأرض إلى أورشليم السماويَّة

الفصل الثامن
من أورشليم الأرض
إلى أورشليم السماويَّة

«سبِّحي، يا أورشليم، الربَّ، هلِّلي لإلهك يا مدينة مصونة. فالربُّ مكَّن مغاليق أبوابك وبارك بنيك في داخلك. جعل تخومك سالكة ومن أجود الحنطة أشبعك». هكذا ينشد مز 147 الله الخالق والفادي. هو أسَّس أورشليم ومنح لها الحماية (آ13-14). هاجمتها الجيوش الأفرائيميَّة والأراميَّة في الثلاثينات من القرن الثامن، فبانت مثل «ذنبين مشتعلين مدخِّنين» (إش 7: 4). وحوالي سنة 700، أتى سنحاريب الأشوريّ الذي اعتدَّ بأنَّه «صعد رؤوس جبال لبنان وقطع أطول أرزه وأفضل سروه...» (إش 37: 24). ووصل إلى أورشليم. فما الذي قال له الربُّ بفم نبيِّه؟ «لن يدخل هذه المدينة، ولا يرمي إليها سهمًا، ولا يتقدَّم عليها بترس، ولا ينصب عليها مترسة» (آ33). فأورشليم هي مدينة الله. هي المصونة، صهيون أو صيون كما في النصِّ العبريّ. وقال النبيّ لسنحاريب: «تزدريك وتسخر منك البكر الابنة المصونة، تميل برأسها عنك ابنة أورشليم» (آ22). ذاك هو الإطار التي تُتلى فيه المزامير حول أورشليم، حول صهيون أو المدينة المصونة.
*  *  *
أورشليم التي كانت في القديم مدينة الإله شاليم، اتَّخذت معنى آخر. صارت «مدينة السلام». فهتف لأجلها المرنِّم: «اطلبوا السلام لأورشليم. قولوا: ليسعد أحبّاؤك. ليكن السلام في أسوارك والسعادة في قصورك. إكرامًا لإخوتي ورفاقي أدعو لك بالسلام. إكرامًا لبيت الربِّ إلهنا، أطلب لك الخير» (122: 7-9). هذا المزمور الذي هو أحد المزامير الذي يُنشده الحجَّاج وهم صاعدون من أريحا إلى أورشليم، هذا المزمور الذي بدايته إعداد للدخول إلى المدينة المقدَّسة، وارتقاء عتبة الهيكل، هذا المزمور الذي هو أكثر من مسيرة مادِّيَّة توصلنا إلى مكان معيَّن، هذا المزمور هو نشيد الفرح الذي يغمر قلوب الآتين للقاء الربّ. ونحن لا نأتي «مشتَّتين»، كلُّ واحد في طريقه وهو يتلو صلاته الخاصَّة. نحن نصعد معًا مجموعين موحَّدين، مثل جسم واحد، مثل جسم كامل. «الأسباط الاثني عشر». والرقم 12 يدلُّ على الكمال، يدلُّ على كلِّيَّة. فمهما كان عددنا، فنحن نمثِّل شعب الله كلَّه.
الوجهة معروفة منذ نترك البيت، ووجهتنا محدَّدة. قالوا لنا: هذا وقت الحجّ والانطلاق. فأنشد المؤمن الذي يستعدُّ لأن يترك كلَّ شيء وراءه: «فرحتُ بالقائلين لي إلى بيت الربِّ نذهب» (آ1). فبيت الربِّ هو بيتُ المؤمنين، بيت البشر كلِّهم. وهو هناك يستقبل الجميع ولا يميِّز بين عبد وحرّ، بين رجل وامرأة، بين قريب وبعيد. كلُّهم أبناؤه وبناته. ودقَّ «الإمام» على الأبواب، باكرًا. فالانطلاقة الصباحيَّة علامة الاستعداد والاندفاع من أجل الوصول بأسرع وقت. الربُّ ينتظرنا ليستقبلنا في دياره، يقف على الباب. يعدُّ المائدة، عندئذٍ نشبه يعقوب الماضي إلى أرام. قيل عنه إنَّه في خطوة واحدة كان هناك لأنَّ الله حمله. كما نشبه التلاميذ الذين كانوا في البحر وهم يجدُّون لكي يصلوا إلى البرّ. دنا يسوع من القارب وقال لهم: أنا هو لا تخافوا. كلمة واحدة كانت كافية. وقال لنا الإنجيل: «فوصل القارب في الحال إلى الأرض التي يقصدونها» (يو 6: 21).
هكذا المؤمنون المنطلقون في الحجّ. بسرعة وصلوا. وتوقَّفوا، لا ليرتاحوا، بل ليتأمَّلوا: «تقف أقدامنا هناك في أبوابك يا أورشليم. أورشيلم المبنيَّة كمدينة توحِّد وتجمع بيننا» (آ2-3). أحجارها متماسكة، متراصَّة، لا انفصال بينها ولا ثلوم بحيث يستطيع العدوُّ أن يسيء إليها ليدخل ويخرِّب. والجميع يكونون حول الملك الداوديّ وصولاً إلى ابن داود.
*  *  *
فأورشليم عاصمة سلالة داود ومدينة الملك العظيم. وهذا ما يقودنا إلى مزمور آخر، مز 132. هنا يذكِّر الملك الربَّ بمواعيده. متى يأتي ويقيم في أورشليم التي صارت خرابًا يبابًا، التي هي اليوم بدون أسوار، التي هيكلها الذي أعيد بناؤه صغير جدًّا؟ الكهنة هم هنا «بالثياب الموشَّاة» (آ9). هذا في الخارج، وفي الداخل «بثياب البرِّ»، لأنَّهم لا يطلبون سوى العمل بمشيئتك والعيش برضاك. والأتقياء أيضًا «يرنِّمون». فاللاويُّون انقسموا. منهم على الآلات الموسيقيَّة وغيرهم على الغناء. إذا كان الملك آتيًا، يستقبلونه بالفرح والأغاني والزغاريد. فماذا لا يفعلون حين يأتي إليهم ملك الملوك؟
«قمْ يا ربّ إلى ديارك، أنت وتابوت عزَّتك» (آ8). تابوت العهد، ذاك الصندوق الذهبيُّ الذي احتوى لوحي الشريعة وجرَّة المنّ وعصا هارون، يرمز إلى حضور الله وسط شعبه. تابوت العهد بعيد، إذًا الله بعيد. تابوت العهد قريب، إذًا الله قريب. ولكن أهو صنم من الأصنام؟ كلاّ. ولكنَّه يذكِّر المؤمنين بالوصايا، ولاسيَّما الملك والذين حوله، بعد أن اعتَبروا نفوسَهم آلهة يأمرون ويتآمرون. قال المزمور: «إن حافظ بنوك على عهدي وفرائضي». هو شرط لا بدَّ منه. فالحياة مع الله نداء وجواب. هو لا يعاملنا كأطفال وقاصرين يحتاجون إلى من يطعمهم كما الطير يطعم فراخه. هناك شروط لا بدَّ منها. الله أمين. ونحن نكون أمناء. نسمع كلامه من خلال الوصايا. نتَّكل على عنايته مهما كانت الظروف قاسية. ونتحلَّى بالقداسة لأنَّ الربَّ إلهنا قدُّوس ونحن نقتدي به.
وإذا أتممنا، إذا أتمم أبناء داود مطالب الربِّ يكون لهم أن يجلسوا على العرش إلى الأبد (آ12). أين؟ بحضور الله، الذي يفرح بالعودة إلى مدينته. «هذه هي دياري إلى الأبد. فيها أقيم لأنِّي اشتهيتها» (آ14).
تذكَّر المؤمنون الأيَّام السالفة، حين كانت أورشليم في أيدي القبائل اليبُّوسيَّة. مدينة حصينة يدافع عنها «الأعمى والأعرج». ولكن أخذها داود، وبدَّل اسمها خصوصًا مع البرج الذي بناه فيها. صارت مدينة داود، مدينة الملك. ولكن أيُّ ملك؟ الملك الأرضيّ؟ كلاّ، بل هي مدينة الملك العظيم (مز 48: 3)، مدينة الله. هي صيون (لا صهيون كما تشوَّه الاسم والمعنى)، أي المدينة المصونة. فالربُّ يقيم فيها، يصونها، يحفظها بحيث حُسبَتْ منيعة لا يمكن الدخول إليها.
ولكن دخل إليها شيشق ملك مصر، في زمن رحبعام بن سليمان «فنهب كلَّ ما في خزائن هيكل الربِّ وقصر الملك» (1 مل 14: 26). وهدَّدها الأشوريُّون وكادت تسقط في أيديهم. سنة 597 ق.م.، حاصرها نبوخذ نصَّر وفعل ما فعله شيشق (2 مل 24: 13). وكان ذلك في عهد الملك يوياكين. والمرَّة الثالثة كانت سنة 587-586 ق.م. حين هُدمَت الأسوار وأُحرق الهيكل ومضى الشعب إلى السبي.
ولكن أهذه أورشليم التي يدافع عنها الله؟ هي حجارة بحجارة. واليوم صارت موطن البغض والحقد والقتال، حيث كلُّ واحد يدافع عن «عرينه» ولا يسمح لأحد أن يدخل إليه. مثل هذه المدينة بوجهها المادّيّ، عفاها الزمن. ومنذ القديم وُضعت الشروط لمن يريد الدخول إليها.
*  *  *
«يا ربّ، من يجاور مسكنك، ومن يسكن في جبل قدسك؟» (مز 15: 1). من يجسر أن يقترب ويكون جارك؟ من يحقُّ له أن يُستقبَل في خيمتك المقدَّسة؟ تلك الخيمة التي رافقت الشعب العبرانيّ خلال مسيرته في البرِّيَّة. فيأتي إليها موسى ويكلِّم الربّ والربُّ يكلِّمه، كما الصديق صديقه. تلك الخيمة التي أقامها داود فى أورشليم ووضع فيها تابوت العهد (2 صم 6: 17). أين موقع هذه الخيمة؟ على جبل القدس. والقدس سوف يصبح اسم أورشليم في العالم العربيّ. أو نقول: «الجبل المقدَّس». وكيف تقدَّس؟ حين أقام الله عليه وطرد الأصنام التي كُرِّمت عليه.
والشروط هي: السلوك بنزاهة. لا غشَّ ولا كذب. ممارسة الصدق والعدالة في المعاملة. هذا على مستوى العمل. وعلى مستوى اللسان، «لا يستقبل أيَّ تعيير لقريبه». كما يقول النصُّ اليونانيّ. وكما يقول السريانيّ: «يتكلَّم الحقُّ في قلبه». لا مكان للدجل على لسانه. فيعقوب أخو الربّ قال لنا: «من هو كامل بلسانه كامل في كلِّ شيء». وتنتهي الشروط بطلبين عامَّين: «لا يسيء إلى أحد بشيء». هو لا يعمل للغير ما لا يريد أن يعمله الغير له. ثمَّ: «لا يجلب العار على قريبه». أي لا يقول له الكلام النابي القاتل، على ما قال الربُّ يسوع في نظرة جديدة إلى الوصايا: «قيل لكم لا تقتل، أمّا أنا فأقول لكم: من قال لأخيه راقه استحقَّ الدينونة». في السريانيَّة: لا يقبل الرشوة على قريبه.
كلُّها وصايا ترتبط بالمحبَّة الأخويَّة. هو درس لنا حين نأتي يوم الأحد إلى القدّاس. هل نحن مستعدُّون للدخول إلى بيت الربّ؟ في الماضي، كانوا يطلبون منّا الصوم. والرسول طلب من المؤمنين أن يفحصوا ذواتهم قبل المشاركة. والمزمور 15 طلب منّا أن نكون أنقياء بالقلب واليد واللسان، وإلاَّ لا نستحقّ، فينبغي أن نترك قرباننا ولا نقترب من المذبح.
*  *  *
وضاعت أورشليم ومضى الشعب إلى السبي. ثُلمت الأسوار فصارت مستباحة لكلِّ غريب، لكلِّ عابر سبيل. أمّا الهيكل فلم يبق منه شيء بعد أن أُحرق، وهو المعمول بالخشب، خشب الأرز والسرو من أيَّام سليمان. وها هو كاتب سفر الملوك الثاني يصفُ ما حصل في ذلك اليوم التعيس الذي امتدَّ ثلاث سنوات: «وفي السنة التاسعة للملك صدقيا، في العاشر من الشهر العاشر. أي نهاية كانون الأوَّل سنة 589. «زحف نبوخذ نصَّر مع جميع جيوشه على أورشليم وحاصروها، وبنوا عليها المتاريس. فدخلت المدينة تحت الحصار إلى السنة الحادية عشرة (أي سنة 587 ق.م.) للملك صدقيا. وفي اليوم التاسع من الشهر الرابع، اشتدَّ الجوع... وفي اليوم السابع من الشهر الخامس (نهاية تمُّوز) في السنة التاسعة عشرة للملك نبوخذ نصَّر ملك بابل، جاء نبوزردان، قائد حرسه وكبير حاشيته، إلى أورشليم، وأحرق فيها هيكل الربِّ وقصر الملك وجميع بيوت الأشراف، وهدم جنودُه كلَّ أسوارها وسبى نبوزردان سائر الذين بقوا في المدينة... لكنَّه ترك من مساكين الأرض، بعض الكرّامين والفلاَّحين...» (2 مل 25: 8-12).
تلك حالة أورشليم، مدينة الله. لم تعد كذلك بعد أن تركها الله لكثرة شرورها، ولكنَّه لم يترك شعبه، بل سيكون معه، سواء الفقراء الذين لبثوا في الأرض، أو أولئك الذين راحوا في طريق المنفى إلى بابل. «وذهب مجد الربِّ عن عتبة الهيكل ووقف على الكروبيم... عند المدخل الشرقيّ» (حز 10: 18-19). من هناك انطلق المسبيّون باتجاه بابل.
ويصف المزمور 74 ما حصل بعد دمار أورشليم: «لماذا خذلتنا يا الله طويلاً (ولا نهاية لحالتنا). وتصاعد غضبُك على غنم مرعاك؟» (آ1). تذكَّر، تذكَّر... تعال وانظر إلى خرائب لا نهاية لها. «فالأعداء حطَّموا كلَّ شيء في مقدسك. زمجروا في وسط معبدك ورفعوا راياتهم علامة النصر. أعملوا فؤوسهم في أخشابه، كما في غابة كثيفة. حطَّموا النقوشات كلَّها، بالمطارق والمعاول جميعًا. أحرقوا بالنار مقدسك. ودنَّسوا مسكن اسمك... (آ4-7). ماذا ينتظر الله ليدافع عن مدينته وهيكله؟ لهذا يواصل المرتِّل صلاته: «إلى متى يا الله يعيِّرنا المضايقون، ويستهين العدوُّ باسمك على الدوام؟ لماذا تردُّ يمينك (إلى الوراء، ولا تضرب بها) يا الله؟ أخرجها من جيبك واضرب» (آ10-11).
*  *  *
في هذه الحال، هل يخسر الشعب الإيمان؟ هل يتراخى وييأس؟ هنا نقرأ مز 46 وعنوانه: «الربُّ القدير معنا». كانوا يطلبون الحماية من البشر. أمّا اليوم ففهموا أنَّ لا حماية إلاَّ بيد الله. في الماضي، كان السور يحيط بالمدينة، واليوم ضاعت الأسوار، ونحن أضعف من أن نقف وندافع عن مدينتنا؟ بعد اليوم صار الله نفسه السور المنيع. وهكذا ينطلق النشيد «الله حماية لنا وعزَّة، ونصير عظيم في الضيق. فلا نخاف وإن تزحزحت الأرض، ومالت الجبال إلى قلب البحار، وتدفَّقت مياهها وجاشت، وارتعشت من ارتفاعها الجبال» (آ2-4). نتذكَّر أنَّ المياه علامة الشرِّ، والبحر يحمل الموت. فذاك ما حصل للمصريِّين في كبريائهم وعنفوانهم. أمّا المتَّكلون على الربِّ فما أصابهم مكروه. ونقول الشيء عينه عن تلك السفن الضخمة التي بناها رجال الملك حزقيا. ماذا كان نصيبها؟ انكسرت وغرقت. فلماذا كلُّ هذا المال يُرمى في البحر والشعب جائع محتاج؟
تلك مياه الموت. ومياه الحياة؟ هي تخرج من أساسات الهيكل. «جداول النهر تفرّح مدينة الله، مساكنَ العلي المقدَّسة. الله في داخلها فلا تتزعزع، ينصرها ما طلع الصبح» (آ6). الله يعيش مع أورشليم. تنام ينام. تستيقظ يستيقظ، هو الحارس والحامي. «تضجُّ الأمم وتتزعزع الملوك وعلى صوت الله تموج الأرض» (آ7). أخطار وأخطار. ولكنَّ المرتِّل يهتف مع الشعب: «ربُّ الأكوان معنا، ملجأنا إله يعقوب» (آ8) الذي هو والد الاثني عشر، وبالتالي والد الشعب كلِّه.
وماذا يفعل؟ هل يحطِّم الأعداء؟ كلاّ. فالله لا أعداء له. فالبشر كلُّهم بناته وبنوه. ويريد للجميع الحياة والسعادة: إذًا، ماذا فعل؟ منع وجود الأسلحة. لماذا الحرب وكلُّهم إخوة وأخوات؟ لماذا تريدون الموت يا أولادي؟ توجَّه إلى هذا الفريق: هاتِ سلاحك. وتوجَّه إلى الآخر: هاتِ سلاحك. كلُّهم سمعوا صوته، أطاعوه. فَهُم في أورشليم، مدينة السلام، فلمَ يكدِّسون الأسلحة ويكدِّسون؟
«تعالوا انظروا أعمال الربّ، أعماله العجيبة في الأرض» (آ9). هل أرسل البرَد على الأعداء كما روى سفر يشوع؟ كلاّ. هل جعل الأعداء يقتلون بعضهم بعضًا كما حدث مع جدعون؟ كلاّ. «كسر القوس» وكلَّ قوس، ولا تُستعمل بعدُ السهام. «قطع الرمح»، فصار مثل عصا الراعي. «أحرق الدروع بالنار». فلا حاجة لها بعد اليوم، لأنَّ السلاح أُزيل من الجماعة.
«كفُّوا واعلموا أنِّي أنا الله. أتعالى في الأمم، أتعالى في الأرض» (آ12). قال الله في هوشع: أنا الله وما أنا إنسان، فلا أتصرَّف مثلكم، أحارب كما تحاربون وأقاتل كما تقاتلون، أنا فوق وأريد أن أرفع الناس إلى هناك، بحيث لا يلبثون متعلِّقين بعوائد البشر من جمع السلاح والانطلاق إلى الحرب في بداية كلِّ ربيع. ذاك ما كان يفعله الأشوريُّون والبابليُّون كلَّ سنة. الله بعيد جدًّا عنَّا. وهنا يتبدَّل معنى آ12 حيث المصلُّون لا يكونون فقط من الشعب العبرانيّ، بل من جميع الشعوب، الذين يستطيعون كلُّهم أن يهتفوا: «ربُّ الأكوان معنا، إله يعقوب ملجأنا». ما هو إله مدينة من المدن التي قد تخرب، بل إله البشر الذين يريد لهم الحياة ويريدها بوفرة.
وبعد مزمور 46 وما فيه من صرخة ثقة باتِّجاه الله الذي يحمي مدينته كما يحمي جميع المدن من الخراب، الذي لا يقاتل، بل يلغي كلَّ قتال ويحرق السلاح فيحوِّله إلى أدوات تُستعمل في الفلاحة والحصاد وما سواهما من الأمور، عندئذٍ يأتي المؤمنون إلى أورشليم ويعبِّرون عن فرحتهم. «فليفرح الجبل المصون ولتبتهج مدن يهوذا، لأجل أحكامك أيُّها الربّ. طوفوا بصهيون ودوروا حولها، وعدُّوا الأبراج التي فيها. تطلَّعوا بقلوبكم إلى حصونها وتمعَّنوا جيِّدًا في قلاعها، لتخبروا الجيل الآتي أنَّ الله هو إلهنا مدى الدهر، وهو إلى الأبد هادينا» (48: 12-15).
الشعب يُنشد كلَّ هذا وهو في منفاه، وينتظر ساعة العودة. هم يتألَّمون من العبوديَّة التي يعيشون فيها. يُنشدون لكي يستعيدوا الأمل. يُنشدون حين يجتمعون للصلاة أو لتذكُّر الأخبار المقدَّسة. ولكن أن يُطلَب منهم أن يُنشدوا للمحتلّ، لذاك الذي يسخِّرهم، فهذا مستحيل «على أنهار بابل هناك جلسنا، فبكينا عندما تذكَّرنا المدينة المصونة. على الصفصاف القريب علَّقنا كنّاراتنا» (مز 137). لا نشيد بعد اليوم، بل بكاء وبكاء، على ما نقرأ في سفر المراثي: «عيناي تسيلان أنهار دموع على انسحاق بنت شعبي، عيناي تدمعان بلا انقطاع ولا راحة لي... عيناي تقرَّحتا على البكاء على بنات مدينتي» (3: 48-51).
«بنت شعبي» أي مدينة شعبي. هي فقط «المدينة» ولا مدينة غيرها في نظر المبعَدين عنها. فماذا بقي منها؟ من هنا تنطلق المراثي: «كيف جلست وحدها المدينة (التي كانت) ملأى بالناس. صارت كأرملة بغتة وهي (التي كانت) العظيمة في الأمم، (التي كانت) السيِّدة في البلدان، صارت تحت الجزية. تبكي بكاء في الليل، ودموعها على خدَّيها لا معزِّي لها» (1: 1-2).
إذا كانت أورشليم على هذه الحال، فكيف يطلب منّا الذين سبونا أن نُنشد لهم؟ هم يعذِّبوننا ونحن نفرِّحهم! ومن أين الفرح؟ قالوا: «أنشدوا لنا من أناشيد المدينة المصونة» (آ3). لا وألف لا. «كيف ننشد نشيد الربِّ في أرض غريبة؟» ويهتف الشاعر: «إن نسيتك يا أورشليم فلتنسني يميني. ليلتصق لساني بحنكي إن كنتُ لا أذكرك، إن كنتُ لا أعلي أورشليم على ذروة فرحي» (137: 4-6).
*  *  *
في هذا الإطار نقرأ مز 68 وبدايته: «يقوم الله فيشتِّت معاديه ويَهرب مبغضوه من وجهه. كما يتبدَّد الدخان يبدِّدهم، وكما يذوب الشمع أمام النار يبيد الأشرار أمام الله» (آ2-3). هذا المزمور هو نشيد مديح لله: «أنشدوا لله، رتِّلوا لاسمه. سبِّحوا للراكب في البراري. الربُّ اسمه فاهتفوا أمامه» (آ5).
وهناك الصور والأوصاف المتعدِّدة التي ترسم لنا الإله فيبدو وكأنَّه حاضر أمامنا اليوم وفي كلِّ يوم. هو يعمل كما قال لنا الربُّ يسوع ولا يتوقَّف: «خيرًا عظيمًا أمطرتَ يا الله، وشعبك في ضعفه أنت قوَّيته، رعيَّتك وجدَت مقامًا هناك، وبجودك يا الله هيَّأت للمساكين» (آ11-12).
هذا الربُّ هو إله الخلاص فيُقال فيه: «أبو اليتامى ومعين الأرامل. الله يُسكن الشريد بيتًا، ويخرج الأسرى إلى الانفراج» (آ6-7). كلُّ هذا ننشده في الاحتفال الليتورجيّ: «بألوف من المركبات جاء الربُّ من سيناء إلى المكان المقدَّس» (آ18). هو تطواف مقدَّس، ما زالت الكنيسة تعيشه في زمن القيامة المجيدة. فالبداية واضحة: «يقوم» أو: «ليقمْ». مساكين معادوه. وضعوا الجنود عند قبره ليجعلوا هزيمته إلى الأبد، وليُبقوه في قبضة الموت. إلى أين مضى هؤلاء الجنود الذين كانوا قرب القبر؟ هربوا وأخبروا بالقيامة مع أنَّهم لا يؤمنون بها. وهرب رؤساء كهنة اليهود والذين معهم من الحقيقة. كذبوا. قالوا: تلاميذه سرقوه، وما زالوا هاربين إلى الآن. لا يمكن أن يكون يسوع، هذا الذي عرفناه على طرقات الجليل واليهوديَّة، هو المسيح المنتظر. إذًا، أين هو المسيح؟ أتى أم لم يأتِ بعد؟ وفي النهاية صار المسيح هو اليهود. بانتظار أن يخلقوا أكثر من مسيح بدءًا بابن الكوكب وصولاً إلى آخرين وآخرين من الأنبياء، من الماضي ومن الحاضر.
«يقوم الله». قام ابن الله في اليوم الثالث، ولا حاجة إلى انتظار آخر: معه جاء الخلاص وتمّ. فمن أراد أن يكون في ركبه يفرح بالانتصار معه، وإلاَّ يبقى على قارعة الطريق مثل طيما بن طيما الأعمى. ويواصل المزمور نشيده: «صعدتَ إلى العلاء أيُّها الربّ، تقود أسراك إلى الأسر. لتقبل جزية المتمرِّدين عليك، وتسكن هناك أيُّها الربُّ الإله» (آ19). فالصعود إلى السماء صورة عن نهاية التدبير الخلاصيّ الذي قام به الربُّ يسوع، وهو لا يصعد وحده، «كلُّ الذين أعطيتني أريد أن يكونوا معي ليروا المجد...». ونتذكَّر خصوصًا أنَّ الصعود في المجد يفترض الصعود على الصليب. قال الربّ: «وأنا إذا ما ارتفعتُ رفعتُ إليَّ كلَّ إنسان»، ذاك الذي يرضى بهذه المسيرة، على ما قال الربّ: «من أراد أن يتبعني يحمل صليبه». ومن لا يحمل الصليب لا يكون تابعًا ليسوع، لكن تابعًا لنفسه.
*  *  *
هل ارتفع يسوع في أورشليم؟ كلاّ. بل رُفع على الجلجلة، على تلَّة خارج المدينة المقدَّسة التي رفضته، بل عيَّرته واعتبرته لعنة بعد أن عُلِّق على خشبة، أو بالأحرى دفعت الحاكم لكي يعلِّقه على الصليب. تبرَّأت منه وهتفت «ليُصلب»، وفضَّلت عليه لصًّا، اسمه برأبّا. وتجرَّأت على القول: دمه علينا وعلى أولادنا. قالت الرسالة إلى العبرانيِّين: «ولذلك مات يسوع في خارج باب المدينة ليقدِّس الشعب بدمه. فلنخرج إليه، إذًا، في خارج المحلَّة حاملين عاره، فما لنا في الأرض مدينة باقية، ولكنَّنا نسعى إلى مدينة المستقبل» (13: 12-14). أجل، لا مكان لنا بعدُ في أورشليم الأرض، بل نتطلَّع إلى أورشليم السماويَّة التي اشتفَّها الأنبياء من بعيد فقال، مثلاً، إشعيا فيها: «قومي استنيري فنورك جاء، ومجد الربِّ أشرق عليك. ها هو الظلام يغطِّي الأرض، والسواد الكثيف يشمل الأمم، وأمّا عليك فيشرق الربُّ وفوقك يتراءى مجده» (60: 2).
أهذه هي أورشليم القدس التي نعرفها اليوم، مقسومة بين شعبين يعيشان العنف اليوميّ، والاستعداد للقتل والدمار؟ لا وأكثر من لا. إذا كان المسيح خرج من أورشليم هذه، فيعني أنَّ المسيحيَّ يتطلَّع إلى أورشليم السماويَّة. أورشليم الأرض تلصقنا بالنسل الذي من الجارية، وتعود بنا إلى العبوديَّة. عبوديَّة الشريعة الموسويَّة وما فيها من نقص وعودة إلى الوراء. هكذا فعل الغلاطيُّون فدعاهم الرسول وقال لهم: «أيُّها الغلاطيُّون الأغبياء! من الذي سحر عقولكم، أنتم الذين ارتسم أمام عيونكم المسيح وإيَّاه مصلوبًا» (غل 3: 1). أنرفض الصليب بعد أن انبسط على العالم، ومنحنا حرِّيَّة أبناء الله؟
وتحدَّث الرسول عن هاجر التي تلد للعبوديَّة. هي من جبل سيناء، «وجبل سيناء في بلاد العرب، وهاجر تعني أورشليم الحاضرة التي هي وبنوها في العبوديَّة» (غل 4: 24-25). فهل الذين يعيشون في العبوديَّة يقدرون أن يحرِّروا أبناء سارة، أبناء الإيمان، أبناء الوعد؟ ومع ذلك، عديدون هم الذين يطلبون مثل هذه العبوديَّة التي تحدرنا إلى الأرض وتبقينا هناك. وإن رفعتنا إلى السماء، أمَّنت لنا كلَّ الملذّات الجسديَّة من طعام وشراب وأمور أخرى.
ويعلن بولس: «أمّا أورشليم السماويَّة فحرَّة وهي أمّنا» (آ26). نحوها ينطلق المؤمنون، وقد رآها يوحنّا فدعانا للتعرُّف إليها: «فحملني الروح إلى جبل عظيم، شاهق، وأراني أورشليم المدينة المقدَّسة نازلة من السماء من عند الله، وعليها هالة مجد الله» (رؤ 21: 10).
آلاف، بل ملايين يأتون إلى هذه المدينة (أو: النهر) أو تلك ويعتبرونها مقدَّسة. ويعتبرون أنَّهم إن زاروها وقاموا ببعض الممارسات التي فيها الكثير من الوثنيَّة والأمور العتيقة، أمَّنوا لهم السعادة هنا وفي الآخرة. وبقدر ما يكثر العدد يحسُّ الناس هؤلاء أنَّهم بقرب الله. أبناء الأرض يلبثون على الأرض مثل تلك المرأة المحدودبة التي كان فمها ملتصقًا بالأرض، وهي لا تقدر أن تنتصب ولا أن ترفع رأسها (لو 13: 11). دعاها يسوع، «وضع يده عليها، فانتصبت قائمة في الحال ومجَّدت الله» (آ13). غضب رئيس المجمع. ويغضب اليوم كثيرٌ من المسؤولين. يجب أن تبقى هذه المرأة منحنية إلى االأرض. لا مكان للحرِّيَّة إلاَّ في المسيح الذي قال عندئذٍ: «أما يحلُّ كلُّ واحد منكم يوم السبت رباط ثوره أو حماره من المعلف ويأخذه ليسقيه؟» (آ15). أناس عديدون مربوطون، أو هم يربطون نفوسهم ليلبثوا عبيدًا، أو ينحنون وراء من يقودهم كما يُقاد «الثور والحمار»، والويل له إن حاول أن يقطع الرباط.
*  *  *
نحن المؤمنين نتطلَّع إلى أورشليم السماويَّة، التي تعطينا، لا سلام العالم الكاذب الذي هو عبوديَّة وسحق للإنسان، بل السلام الداخليّ. فأورشليم السماويَّة أبوابها مفتوحة ليل نهار. أورشليم السماويَّة «لا تحتاج إلى الشمس والقمر، لأنَّ مجد الله ينيرها والحمل (يسوع السيح) هو مصباحها. تمشي الأمم في نورها، وملوك الأرض يحملون مجدهم إليها» (رؤ 2: 23-24). تلك هي أورشليم التي أنشدتها المزامير. هي التي ينيرها الله ويعيد بناءها كلَّ يوم (مز 147: 2)، بحجارة حيَّة هم المؤمنون الذين جُعلوا «في بناء مسكن روحيّ». هم حجارة مؤسَّسة على الحجر (يسوع المسيح) الذي رفضه البنّاؤون فصار رأس الزاوية (1 بط 2: 7). تلك مدينة المؤمنين. أمّا الذين رفضوا هذا الحجر، اليهود وأمثالهم، فصار لهم هذا الحجر «حجر عثرة وصخرة سقوط» (آ8). ويقول يسوع: «من وقع على هذا الحجر تهشَّم، ومن وقع عليه هذا الحجر سحقه» (لو 20: 18). نحن نختار: أن نكون في البناء من أجل أورشليم الجديدة، أم نُسحَق عند حائط المبكى ولا نعرف أن نتحرَّر من أورشليم الأرض.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM