الفصل السابع عشر: سفر دانيال والبحث عن المستقبل

(الرعيَّة، كانون الثاني 2012)

سفر دانيال والبحث عن المستقبل

الخوري بولس الفغالي

السؤال حول المستقبل يقلق كلَّ واحد منّا. فنريد ما يكون من أمر الغد. ونطلب الوسائل المشروعة واللامشروعة. الشابُّ ينظر إلى الأمام، والشيخ إلى الوراء. هذا يتذكَّر وذاك يبني القصور التي قد تكون مرَّات عديدة من الرمل، فتسقط أمام أوَّل ريح تهبّ. أنا متفائل فيكون المستقبل ورودًا. أنا متشائم يكون المستقبل سوادًا. المتفائلون يحلمون، والمتشائمون يصطادهم الماضي فلا يستطيعون بعدُ أن يتحرَّكوا.

والشرُّ الكبير حين يرى الإنسان أنَّ المستقبل يشبه سيّارة معطَّلة، موقَّفة. لا يرى أمامه ولا يرى وراءه. ماذا يستطيع أن يفعل ويداه مكبَّلتان، وفمه صامت وقلبه يكاد يتوقَّف عن الخفقان. ذاك كان الوضع الذي عرفه سفر دانيال: الزمن القاسي، الجور والظلم، الاضطهاد المتواصل على المؤمنين. لا تختنوا أولادكم بحيث يكونون مثل كلِّ الأولاد ولا يتميَّزون في شيء. لا تقتنوا التوراة ولا تقرأوها، فهناك شريعة واحد لجميع شعوب المملكة. أمّا الإله الذي يُعبد فهو "رئيس الآلهة"، زوش أو زيوس. وتمثاله يجب أن يكون حتّى في هيكل أورشليم. وإن لم يكن بالقبول، فبالإكراه.

بعد هذا، من يستطيع أن يحلم؟ وأيُّ مستقبل يطلُّ أمامنا؟ هذا لأنَّنا ننظر بأعين بشريَّة. هذا لأنَّنا اتَّكلنا على نفوسنا، وأردنا بناء مدينة وبرج على مثال ما فعل أهل بابل (تك 11: 1ي). أمّا دانيال فليس كذلك. فنظرته إلى المستقبل كلُّها أمَل ورجاء، فيشبه حزقيال الذي رأى السهل مليئًا بالعظام اليابسة. وتساءل: هل تحيا؟ بقدرة الله يصبح كلُّ شيء ممكنًا (حز 37). قال النبيّ: "فتنبأتُ (أي قلتُ كلام الله) كما أمرني الربّ، فدخل الروح في هذه العظام الميتة، "فعاشوا وقاموا على أقدامهم، جيشًا عظيمًا جدًّا جدًّا" (آ10). ومثل حزقيال عمل دانيال. الله هو في ما بيننا. هو في قلب المدينة وفي قلب القرية. ومع أنَّنا نرى في هذه "النبوءة" ربوات الملائكة وعددًا من الخلائق المخيفة، فنحن لا نخاف، لأنَّ دانيال جعل كلَّ هذا في خدمة إله يحبُّ ويعزِّي ويحرِّر. والمستقبل؟ حيث يكون الله هناك مستقبلنا.

*  *  *

عاش دانيال في القرن الثاني ق.م.، يوم كانت الدولة السلوقيَّة مسيطرة على البلاد، مع أشخاص مثل أنطيوخس الرابع إبيفانيوس، الذي حسب نفسه تجلِّي الله. ولكنَّ الأحداث التي يذكر تعود إلى القرن السادس، يوم مضى الشعب إلى المنفى البابليّ. هناك نبوخذنصَّر الذي حكم سنة 604-562 ق.م. وأوصل المملكة البابليَّة إلى ذروتها. أمّا ملك يهوذا في أيَّامه، فهو يوياقيم (609-598) الذي خضع لملك بابل، ثمَّ تمرَّد عليه، فتوفِّي قبل أن يمضي إلى المنفى. فنبوخذنصَّر يحتلُّ الفصول الأربعة الأولى من سفر داينال. في الفصل الأوَّل، نرى دانيال ورفاقه في بلاط ملك بابل: كيف يحافظون على هويَّتهم الدينيَّة والحضاريَّة وسط عالم وثنيّ يلقي بثقله عليهم بحيث لا يتميَّزون بشيء؟ في هذا الإطار نفهم أن يكونوا رفضوا أن يأكلوا من طعام الملك. في الفصل الثاني، نسمع نبوخذنصَّر يروي حلمه: تمثال يمتزج فيه الذهب والفضَّة والنحاس والحديد. وأخيرًا فيه الخزف، جاء حجر فضرب التمثال فسحقه.

أجاب دانيال: "أنت، أيُّها الملك، الأفكار التي صعدت على عقلك، وأنتَ على فراشك، هي نظرات إلى المستقبل: ذاك الذي يكشف الأسرار، عرَّفك ما سيكون" (2: 29). ربُّ السماء والأرض يكشف وحده الأسرار (آ28). الله سيِّد التاريخ. وملكوت الله ينتصر على الممالك. ذاك هو معنى الحجر الذي أسقط التمثال. في النهاية، يعترف نبوخذنصَّر فيقول: "حقًّا، إنَّ إلهكم هو إله الآلهة وربُّ الملوك وكاشف الأسرار".

في الفصل الثالث، صنع نبوخذنصَّر تمثالاً من ذهب، وفرض على الجميع أن يسجدوا له. رفض رفاق دانيال الثلاثة فأُلقوا في أتون النار. ولكنَّ النار لم تُصبهم، وجاء ملاك يرافقهم في النشيد: "مبارك أنت يا ربّ، يا إله آبائنا، ليُحمَد اسمك ويرتفع إلى الدهور!". وهكذا نجا الفتيان الثلاثة من النار، بانتظار أن ينجو دانيال من الأسود التي رُميَ في وسطها.

في الفصل الرابع، نقرأ حلم الشجرة وجنون الملك الذي مضى يعيش في الحقل "ويأكل العشب مثل الثور" (آ33). وحين عاد نبوخذنصَّر إلى رشده قال: "أسبِّحُ وأعظِّم وأحمد ملك السماء، الذي كلُّ أعماله حقّ، وطرقه عدل، ومن يسلك بالكبرياء فهو قادر أن يذلَّه" (آ37). كلُّ هذا يشير إلى أنطيوخس إبيفانيوس الذي يتصرَّف، في حياته كالوحوش.

في الفصل الخامس، نتعرَّف إلى بلشصَّر. لم يكن ملكًا، بل رافق والده نبونيد في المُلك. هذا أقام وليمة، وأكل وشرب مع ندمائه في الآنية المقدَّسة التي سُلبَتْ من الهيكل. ذاك ما فعل أنطيوخس إبيفانيوس حين سلب الهيكل كما روى 1مك 1: 21-24؛ 2مك 5: 15-16. إنَّ الدينونة القاسية تنتظره. ويحدِّثنا الفصل السادس عن دانيال الذي جُعل في جبِّ الأسود. أمّا الملك المذكور هنا، فهو داريوس الفارسيّ. مرَّ الملوك البابليُّون، وملوك الفرس، والإسكندر الكبير ثمَّ خلفاؤه من بطالسة مصر وسلوقيِّي أنطاكية. كلُّهم زالوا والله وحده باقٍ. ومهما يكن المستقبل قاتمًا بالنسبة إلى البشر، فهو بالنسبة إلى دانيال واضح يقرأه على الجدار: "أحصى الله ملكوته وأنهاه، وُزِنْتَ فوُجدتَ ناقصًا" (5: 26-27).

*  *  *

ذاك كان القسم الأوَّل من سفر دانيال (ف 1-6). وعنوانه: دانيال في بلاط ملوك بابل. كلُّ هذه العظمة، وكلُّ هذه القوَّة، وكلُّ هذا الغنى، ليس بشيء أمام الله وأمام خدَّامه. فحين قدَّم بلشصَّر التقدمات، قال له دانيال: "لتكن عطاياك لنفسك، وهب هباتك لغيري" (آ17). في النهاية، يكون الانتصار لملكوت الله وشعب الله، شرط أن يحافظوا على هويَّتهم وأمانتهم لعهد قُطع مع الربّ إلههم. أمّا القسم الثاني (ف 7-12) فيقدِّم لنا دانيال ذاك الرائي. تلقَّى أحلامًا ورؤى عجزَ عن تفسيرها، فأتاه ملاك يفسِّر له ما يراه ويفهم البُعد التاريخيَّ لهذا الوحي.

أوَّلاً، رأى دانيال أربعة وحوش وابن الإنسان (ف 7). فالوحوش تمثِّل الممالك: البابليِّين، المادّايِّين، الفرس، اليونان. هؤلاء الوحوش يخرجون من البحر ولكن ينتصر عليهم ملكوت الله الذي يمثِّله ابن الإنسان. وفي ف 7 هذا، يطلُّ أنطيوخس الذي يدلُّ عليه "قرن صغير" (آ8). هذا ما يعدُّنا لأن نقرأ ف 8 حيث تكون الحرب بين الكبش والتيس: الكبش هو مملكة بابل، والتيس الإسكندر الكبير الذي سوف يصبح أربعة قرون. ويُطرَح السؤال حول السبعين أسبوعًا التي وردت عند إرميا الذي اعتبر أنَّ المنفى ينتهي بعد سبعين أسبوعًا (إر 25: 11-12؛ 29: 10). فصاحب ف 9 الذي يعيش في الحقبة اليونانيَّة، يرى أنَّ قرونًا من الزمن مضت، والنور يبدو بعيدًا. لماذا هذا التأخُّر؟ بسبب خطايا الشعب. عندئذ تضامن دانيال مع شعبه. وأطلق صلاة بها يعترف بخطاياه وبخطايا شعبه: "أيُّها الربُّ الإله العظيم، المهيب، حافظ العهد والرحمة لمحبِّيه وحافظي وصاياه. خطئنا وأثمنا وعملنا الشرّ..." (آ4-5).

حتّى الآن، الملاك الذي فسَّر رؤى دانيال هو جبرائيل (8: 16؛ 9: 21). ويبدو أنَّه بعد 21 يومًا من الصلاة، أطلَّ وجهٌ ملائكيٌّ آخر، يستلهم وصفه كثيرًا من سفر حزقيال، وله من البهاء بحيث يرتعب أولئك الذين يشعرون بحضوره (10: 7) ومنهم دانيال نفسه. هذا الملاك يلقي نظرة على التاريخ منذ ملوك فارس حتّى أنطيوخس الكبير (ف 11). ويروي الملاك المواجهة بين اللاجيِّين الآتين من مصر والسلوقيِّين الآتين من أنطاكية، ويبدو عندئذٍ أنطيوخس كأنَّه يجسِّد الشرّ. فهو يواجه ملكوت الله الذي لأجله يقاتل الشعب ويموتون شهداء: "الناس الفاهمون في الشعب يعلِّمون الكثيرين، ولكنَّهم يسقطون بالسيف والنار والسبي والنهب" (11: 33). ولكن لماذا الخوف من الذين يقتلون الجسد؟ فالحياة الأبديَّة تنتظر الذين يموتون من أجل الربّ، ولو كانوا تحت التراب: "كثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون للحياة الأبديَّة" (12: 2). ويواصل النبيّ: "يضيئون كالنيِّرات في الأفلاك وكالكواكب إلى أبد الدهور" (آ3). أمّا الآخرون، المضطِهدون أوَّلاً، ثمَّ الذين خافوا العهد وتركوا إخوانهم في الضيق والتحقوا بالسلطة، هؤلاء تكون آخرتهم العار والرذل الأبديّ (12: 2). أو كما يقول الإنجيل: "البكاء وصريف الأسنان".

*  *  *

وقبل أن نعود إلى ف 13-14 مع خبر سوسنَّة، الذي يفهمنا أنَّ الله لا يتخلَّى عن الأبرياء، ويعرِّفنا إلى موقف دانيال من الأصنام، وهو موقف مستخفٌّ هازئ، قبل هذه العودة نودُّ أن نتعرَّف إلى أنطيوخس الكبير الذي حسب نفسه إلهًا. نقرأ أوَّلاً النصَّ الكتابيَّ في ف 11:

36     يفعل الملك كإرادته (لا كإرادة الربّ). يرفع نفسه، يعظِّم نفسه فوق كلِّ إله. ويتكلَّم بأمور مدهشة على إله الآلهة (أو: الربّ الإله. كأنَّه يقاوم الله). وينجح إلى إتمام الغضب (أو: الاضطهاد) لأنَّ ما تقرَّر سوف يُنفَّذ.

37     لا يبالي بآلهة آبائه ولا بمحبوب النساء (هو أدونيس أو تمُّوز)، وبكلِّ إله لا يبالي، لأنَّه يعظِّم نفسه على الكلّ (دعا نفسه: الإله المتجلِّي، إبيفانيوس).

38     يكرِّم آلهة الحصون (زوش الرومانيّ حامي القلعة التي تسيطر على الهيكل). يكرِّم إلهًا لم يعرفه آباؤه. يكرِّمه بالذهب والفضَّة والحجارة الكريمة والنفائس...

وبعد قراءة النصِّ الكتابيّ، نتعرَّف إلى ما قاله هيبوليت مفسِّر سفر دانيال في النصف الأوَّل من القرن الثالث. أصبح الملك أنطيوخس إبيفانيوس صورة عن الأنتيكرست أو المقاوم للمسيح، الذي حكمه يسبق المجيء الثاني ومُلكَ المسيح.

أنبأ دانيال برجاستين، رجاسة الإفناء ورجاسة الخراب. أمّا رجاسة الإفناء فما هي سوى إفناء أنطيوخس. ورجاسة الخراب ما هي سوى خراب العالم كلِّه، حين يأتي الأنتيكرست، بحسب كلام دانيال: يقوم لهلاك الكثيرين "يقسم الأرض مجّانًا، يرمي الغبار عليها، ولا تنجو أرض مصر... أولئك وحدهم ينجون من يده: أدوم وموآب وقوَّة أبناء عمُّون". هؤلاء هم المتحالفون معه، بسبب قراءتهم معه والذين سيكونون أوَّل من يعترف به ملكًا [...].

هذا الأنتيكرست الذي يكونون أعلنوه ملكًا، والذي يمجِّده الجميع بعد أن يضحي للعالم "رجاسة الخراب"، يملك 1290 يومًا بحسب نبوءة دانيال: "يعملون رجاسة الخراب 1290 يومًا، طوبى لمن ينتظر ويبلغ إلى 1335 يومًا" (دا 12: 11-12). لأنَّه حين تظهر الرجاسة وتقوم بحرب على القدِّيسين (أو: المؤمنين الذين استعدُّوا للموت من أجل إيمانهم)، جميع الذين يستطيعون أن يبقوا على قيد الحياة في أيَّام ملكه، ويقومون أيضًا 45 يومًا بحيث يبلغون إلى نهاية حقبة خمسين يومًا، يبلغون إلى ملكوت السماوات. فالانتيكرست لا يعيش جزءًا من هذه الحقبة (حقبة) الخمسين يومًا، إلاَّ لأنَّه يريد أن يشارك في ملكوت المسيح. هذا ما جعل إشعيا يقول: "ليُنزَع الشرِّير لئلاَّ يرى مجد الربّ" (إش 26: 10) وبولس يقول في رسالته إلى التسالونيكيِّين: "يزيله الربُّ يسوع بنفخة فمه ويدمِّره ببهاء مجيئه (الثاني، باروسيّا) (2 تس 2: 8). فالقدِّيسون هم الذين يرثون المسيح.

*  *  *

أجل، في النهاية، يكون النصر للمؤمنين مهما طال الضيق الذي يعيشون فيه. وفي أيِّ حال، زمن المحنة لا يطول أبدًا إلى ما لا نهاية، لأنَّ الربَّ لا يسمح بأن تتفوَّق التجربة على الإنسان، وإن كبرت فهو يجعل لنا مخرجًا. ويسوع قال: "لو لم تقصَّر تلك الأيَّام، لا يخلص أحد من البشر. ولكنَّ الله قصَّر تلك الأيَّام من أجل المختارين" (مت 24: 22).

ونطرح السؤال: لماذا اتَّخذ "دانيال" هذا الأسلوب لكي يوصل إلينا كلام الله؟ نتذكَّر أوَّلاً أنَّ الزمن زمن ضيق كبير. اضطهاد قاسٍ في البلاد. الهيكل تنجَّس ووُضع فيه تمثال زيوس (أو: زوش) إله الآلهة. والذين قاوموا لاقوا حتفهم. وكثيرون هربوا إلى الجبال من أجل المقاومة. أتُرى الله تخلَّى عن شعبه؟ أيريد إفناءه لأنَّه اعتبره خاطئًا على مثال ما حاول أكثر من مرَّة في البرِّيَّة لولا تشفُّع موسى؟ كلُّ هذا فكر بشريّ ويدلُّ على قصر نظر. أمّا المؤمن فهو مَن يرى، وهو يضمُّ نظره إلى نظر الربّ ويفهم أنَّ من يثبت إلى المنتهى فذاك يخلص.

ولكن ما الذي يؤكِّد لنا الخلاص والحاضر مظلم، معتَّم؟ أمانة الله. عاش الكاتب في القرن الثاني ق.م.، ولكنَّه عاد إلى القرن السادس، إلى أفظع كارثة عرفها شعب الله في تاريخه: أورشليم بأسوارها المهدَّمة. الهيكل سُلب وأُحرق. الملك قُتل مع أولاده وأفراد حاشيته. قوَّاد الجيش، وجهاء البلاد، المثقَّفون، أصحاب المهن... كلُّهم مضوا إلى السبي. ولم يبقَ في الأرض سوى شعب الأرض. هؤلاء يعملون ويدفعون الضرائب، ويُسخَّرون متى دعت الحاجة من قبل المحتلّ. ماذا ترك الله في أرضه؟ الخراب والدمار، القتل والدم. حينئذٍ أنشد المرتِّل: "لماذا رفضْتَنا يا الله إلى الأبد؟ لماذا يدخِّن غضبك على غنم مرعاك؟ ارفع خطواتك إلى خراب لانهاية له. في المعبد، حطَّم العدوُّ كلَّ شيء. زمجر خصومك حيث كنتَ تلتقي بنا، جعلوا رايتهم موضع رايتك..." (مز 74).

ولماذا عاد الكاتب إلى الماضي؟ هل ليبكي على الماضي وييأس؟ كلاّ. بل لينظر إلى أمانة الله التي لا تتزعزع. فبالرغم من كلِّ هذا، هل زال شعب الله؟ كلاّ. هو الآن يتألَّم ولكنَّه ليس ميتًا. فإذا كان الله أقامنا حتّى من الموت في الماضي، فلماذا لا يفعل اليوم؟ بل هو يفعل في الوقت الحاضر وسوف يفعل في المستقبل. ما المطلوب؟ الإيمان والثقة. ولكنَّ خطايانا حاضرة! هو أجاب بفم إشعيا: "إن كانت خطاياكم كالقرمز، تبيضُّ كالثلج. وإن كانت حمراء كالدود، تصير كالصوف. إذا شئتم وسمعتم، تأكلون خير الأرض. وإن أبيتم وتمرَّدتم، تُؤكلون بالسيف" (إش 1: 18-19). ومن يؤكِّد لنا ذلك؟ يقول النبيّ: "فم الربِّ تكلَّم". وكلمته لا ترجع إليه فارغة دون أن تفعل ما أُمرَت به. يكفي أن يقول لكي يُتمَّ ما يقول.

*  *  *

وهكذا عاد الكاتب الملهم إلى زمن البابليِّين والمادَّايِّين والفرس واليونان. قرأ التاريخ بنظر الله، لا بنظر البشر. جعل نفسه سنة 587-586 فرأى كيف أنَّ الربَّ يسود على الأحداث. تزول الممالك الواحدة بعد الأخرى، وملكوت الله باقٍ لا يتزحزح. تمثال كبير فيه جميع المعادن، خرج حجر من الجبل، فصار التمثال ركامًا. هذا الحجر خرج من جبل أورشليم، من الجبل الذي يصونه الربّ، من أساس الهيكل. عن هذا الحجر تكلَّم إشعيا: "ها أنا أضع في صهيون حجرًا صلبًا (امتُحن فقاوم)، حجر زاوية، حجرًا كريمًا، أساسًا مؤسَّسًا (أي حجر زاوية وحجر أساس). من آمن (أو: من استند عليه) لا يهرب (أو: لا يُهزم)" (إش 28: 16). عن هذا الحجر قال المرتِّل: "الحجر الذي رفضه البنّاؤون صار رأس الزاوية" (118: 22). فصار الكلام في الإنجيل عن يسوع المسيح (مت 21: 42). ويتواصل النصُّ: "من وقع على هذا الحجر تهشَّم، ومن وقع عليه هذا الحجر سحقه".

في هذا الوضع، كيف يتصرَّف المؤمنون؟ يحافظون على إيمانهم ومعتقدهم مهما كانت الظروف. هم لا يسيرون مع كلِّ ريح. فيكونون مثل الحرباء فيتلوَّنون بألف لون ولون. جاء نبوخذنصَّر البابليّ يفرض على دانيال ورفاقه بأن يأكلوا من طعامه. فلو جاروه، ماذا كانوا يفعلون عندما يأتي الفرس ثمَّ اليونان؟ مثل أشخاص عديدين في مجتمعا يتعلَّقون بصاحب سلطان، وربَّما يتعبَّدون له. أو هم يستفيدون من وجوده ما زال موجودًا. وعندما هو يتغيَّر يتغيَّرون هم فيلبسون لكلِّ "زعيم" اللباس الذي يريده. هؤلاء غنم أم بشر؟ فالخروف يضع رأسه في أليَّة الذي يسبقه ويمشي. أمّا الإنسان فهو حرّ. له شخصيَّته ولا ينحدر إلى مستوى الغنم كما حدث للمؤمنين في الشرق، فرافقوا المحتلّ. هو ينقلب إلى هذه الجهة فينقلبون معه. وهذا ما جعل الانحطاط يسيطر عندنا. نتخيَّل مثلاً أنَّ البعض من العرب بدأوا يدرسون التركيَّة ليكونوا أتراكًا يوم تدعو الحاجة.

أمّا دانيال ورفاقه فرفضوا أن يكونوا من هذه الفئة. جعلوا في قلوبهم أن لا يتنجَّسوا بأطايب الملك ولا بخمر مشروبه" (1: 8). طلبوا من رئيس الخصيان فاقتنع بموقفهم. وباركهم الله بعد امتحان دام عشرة أيَّام. بعدها "ظهرت مناظرهم أحسن وأسمن من كلِّ الفتيان الذين يأكلون من أطايب الملك" (آ15). ولنفترض أنَّ رئيس الخصيان لم يقتنع، فهم يستعدُّون أن يقاوموه مثل الإخوة السبعة وأمِّهم الذين فرض عليهم الملك أن يأكلوا طعامًا منجَّسًا. وهكذا ماتوا رافضين (2 مك 7).

"وصنع نبوخذنصَّر تمثالاً طوله ستُّون ذراعًا" (3: 1). يراه الناس من بعيد ويسجدون له. الكلُّ سجدوا بحسب المثل المعروف: "إذا رأيتَ الناس يعبدون العجل حشَّ واطعمه". وإن حنى الناس رؤوسهم قل: "يا قطّاع الرؤوس". هذا ما لم يفعله رفاق دانيال. اشتكوا عليهم حسدًا: "هؤلاء الرجال لم يجعلوا لك، أيُّها الملك اعتبارًا. هم لا يعبدون آلهتك ولا يسجدون لتمثال الذهب الذي نصبتَ" (3: 12). هم أصحاب وظائف. يمكنهم أن يتركوا وظيفتهم كما فعل يوحنّا الدمشقيّ حين خيَّروه بين الوظيفة والإيمان. ترك وظيفته وراح إلى دير مار سابا، قرب أورشليم. والوضع هو هو في أيَّامنا. نترك إيماننا من أجل منفعة مادِّيَّة: وظيفة، بيت، مال، مركز... يربحون العالم كلَّه... مساكين. وحين يندمون تكون فاتت ساعة الندم. وتاريخنا أكبر شاهد على ذلك.

غضب الملك. اغتاظ. عزلهم من وظائفهم. لم يتراجعوا. هدَّد: "فإن كنتم الآن مستعدِّين عندما تسمعون صوت القرن والناي والعود... إلى أن تخرُّوا وتسجدوا للتمثال الذي عملته" يكون لكم خلاص. "وإن لم تسجدوا في تلك الساعة، تُلقون في وسط أتون النار المتَّقدة. ومن هو الإله الذي ينقذكم من يدي؟" (آ15). لا مجال للنقاش ولا للمساومة. أجابوا: "لا يلزمنا أن نجيبك عن هذا الأمر" (آ16). إلهنا يعرف. هو ينجِّينا. ينجِّينا من النار كما فعل في الخبر. وفي منظورنا المسيحيّ، ينجِّينا من نار جهنَّم.

هل خافوا؟ كلاَّ. النار أكلت الذين أشعلوها. أمّا هم فكانوا فيها وهم ينشدون ويسبِّحون. وأتى إليهم ملاك يشاركهم. هكذا كان يفعل الشهداء في بدايات الكنيسة قبل أن يرموهم أمام الوحوش أو يأخذونهم إلى الموت. والقدِّيس بوليكرب، طلبوا منه أن يشتم المسيح. فكان جوابه بكلِّ هدوء: هو ما أساء إليَّ يومًا. ولا نقول شيئًا عن الذين كانوا "يبوِّلون" على الصليب ويطلبون من المسيحيّ أن يزيل هذا البول بلسانه.

وكما فعل الفتيان الثلاثة وخرجوا سالمين وفرضوا موقفهم المؤمن، كذلك فعل دانيال. أرادوا أن يمنعوه من الصلاة والتوجُّه إلى الله، هم يراقبونه. الصلاة ترتفع "إلى الملك" لا إلى الله. ومن عصى الأوامر يُلقى في جبِّ الأسود. كان ذلك في زمن داريوس (6: 25). وسوف يقول دانيال للملك: "إلهي أرسل ملاكه وسَدَّ أفواه الأسود فلم تضرَّني، لأنِّي وُجدتُ بريئًا قدَّامه، وقدَّامك أيضًا، أيُّها الملك، لم أفعل ذنبًا" (آ22). فالمؤمن الذي يعاقَب بسبب إيمانه ودينه ومعتقده، هو على حقّ ومضطهدوه مخطئون. فلو فعل ذنبًا، سواء كان من هذا الدين أو ذاك، فهو يستحقُّ العقاب. وإلاَّ، فالعقاب ينتظر المضطهِدين. ذاك ما قال بطرس: "فمن النعمة أن تدركوا مشيئة الله فتصبروا على العذاب متحمِّلين الظلم. فأيُّ فضل لكم إن أذنبتم وصبرتم على ما تستحقُّونه من عقاب. ولكن إن عملتم الخير وصبرتم على العذاب، نلتم النعمة عند الله" (1 بط 2: 19-20).

فالربُّ لا يسمح بأن يُظلَم البريء. ذاك هو الخبر الذي نقرأه في الفصل الثالث عشر من سفر دانيال. سوسنَّة امرأة فاضلة. شيخان من شيوخ اليهود راوداها فرفضت. حينئذٍ اتَّفقا على الوشاية بها. وكادت تمضي إلى النار، لو لم يُرسل الله دانيال، ومعنى اسمه دينونة الله. فبعد أن صلَّت هذه المرأة المظلومة (آ42)، جاء دانيال وصرخ بصوت عظيم: "أنا بريء من دم هذه المرأة" (آ46). ولمّا سألوه قال: "ما أغباكم يا بني إسرائيل! كيف تحكمون على امرأة إسرائيليَّة دون أن تفحصوا وتتحقَّقوا من الأمر؟" وفي النهاية، "صرخ الجمع كلُّه بصوت عظيم، وباركوا الله مخلِّص الذين يرجونه" (آ60).

*  *  *

أين قوَّة دانيال ورفاقه، واسم الأوَّل "حننيا"، أي الربُّ يتحنَّن. والثاني، "ميخائيل" أي من هو مثل الله. والثالث، "عزريا" أي الله يعين ويساعد. وما نلاحظ هو أنَّ الملك بدَّل هذه الأسماء الحلوة بأسماء مأخوذة من عنده، بحيث يضيع هؤلاء الفتيان الذين "هم من نسل الملك ومن الشرفاء" الذين هم "فتيان لا عيب فيهم، حسان المنظر، ماهرين في كلِّ حكمة، مدركين العلم ومتبيِّنين المعرفة، ولهم القوَّة على الوقوف (أو: الخدمة) في قصر الملك" (1: 3-4). ضاعت هويَّتهم، ضاع اسمهم، يجب أن يتعلَّموا لغة غير لغة الأجداد. وأن يأخذوا بعادات الملك فينسوا أصولهم. أما هذا الذي حصل في الزمن العثمانيّ مع هؤلاء الشبّان الذين كانوا يأخذونهم من بيوتهم ويمحون عنهم كلَّ صلة بالماضي، فيضيِّعون إيمانهم ومعتقداتهم وعاداتهم، ويصيرون أفرادًا في المجتمع لا اسم لهم ولا هويَّة أخذوها من بيوتهم؟ فالتاريخ يعيد نفسه. ولماذا حصل ما حصل؟ بسبب الخنوع والجبانة. بسبب ديانة سطحيَّة تجعل الإنسان يتركها ما دام على قيد الحياة. المهمّ أن يبتعد الخطر. حين توقَّفت الشهادة المسيحيّة، ضاع المسيحيُّون وصاروا أقلِّيَّة في الشرق بعد أن كانوا يملأون الشرق.

قوَّة دانيال في الحفاظ على الإيمان. والفرق شاسع في التاريخ بين أهل أرمينيا وأهل جيورجيا. هؤلاء أطاعوا، خضعوا، نسوا إيمانهم. أمّا الأرمن فرفضوا أن يبتلعهم المجتمع وكأنَّهم لقمة سائغة، أو "نعجة تقاد إلى الذبح، أو خروف صامت أمام الذين يجزُّونه لا يفتح فاه" (إش 53: 7). وهكذا أتى القرن التاسع عشر والقرن العشرون، وثبت كلُّ واحد في موقعه. بلد تحوَّل من مذهب إلى مذهب. فئة انتقلت من دين إلى دين، وأشخاص باعوا إيمانهم كرامة للرئيس الذي يسوسهم أو الباشا الذي يتحكَّم بهم.

رفض الفتيان الأربعة أن يكونوا "أشياء" في هذه الآلة الواسعة، كما كان الأمر في أوروبّا الشرقيَّة إبَّان الحكم الشيوعيّ، بحيث إنَّ نصف سكّان تشيكيا مثلاً لم ينالوا سرَّ العماد وتركوا كلَّ ممارسة مسيحيَّة. ممنوع عليكم الصلاة. أمّا دانيال فاعتاد أن يوجِّه قلبه إلى أورشليم، من خلال كوَّة مفتوحة في علِّيَّته" (6: 10). مثلهم كان اليابانيُّون الذين بشَّرهم القدِّيس فرنسيس كسفاريوس اليسوعيّ. نالهم الاضطهاد فمات من مات، والذين لبثوا على قيد الحياة ظلُّوا يمارسون إيمانهم خلال ثلاثة قرون من الزمن. ولمّا انفتحت اليابان إلى الغرب، عُرف هؤلاء فكانوا الخميرة التي حافظت على قوَّتها في المجتمع. والصينيُّون المسيحيُّون الذين اختفوا عن نظر الدولة الشيوعيَّة، فمارسوا إيمانهم دون "أن يماحكوا، دون أن يصيحوا بحيث يُسمَع صوتهم في الشوارع". ولكن حين فتحَت الإكليريكيَّة بقربهم، أطلُّوا برؤوسهم وبيَّنوا أنَّهم مسيحيُّون "عائشين تحت الأرض" مثل المسيحيِّين الأوَّلين "في الدياميس".

وهناك مشهد رائع يعطينا فكرة عن هؤلاء الفتيان. حلم نبوخذنصَّر حلمًا، ما من أحد عرفه بحيث يستطيع تفسيره. ماذا فعل دانيال؟ "مضى إلى بيته وأعلم حنانيا وميخائيل وعزريا أصحابه بالأمر ليطلبوا المراحم من قِبل إله السماوات" (2: 17-18). في الصلاة الأمور تتوضَّح. حينئذٍ كشف السرَّ لدانيال في رؤيا الليل، فبارك دانيال إله السماوات...: "وليكن اسم الله مباركًا من الآن وإلى الأبد، لأنَّه له الحكمة والجبروت، وهو يغيِّر الأوقات والأزمنة، ويعزل ملوكًا وينصِّب ملوكًا" (آ19-20). عندئذٍ مضى دانيال إلى الملك: "السرُّ الذي طلبَه الملكُ لا يقدر الحكماء ولا السحرة ولا المجوس ولا المنجِّمون أن يبيِّنوه للملك" (آ28). وحده الله، هو يعلِّم أخصَّاءه، هو يقوِّيهم، هو يثبِّتهم. ولولا قدرة الصلاة لما كان نجا الرفاق من النار ودانيال من الأسود. وسوسنَّة نجت بفضل صلاتها: "أيُّها الإله الأزليّ، أنت ترى الخفايا وتعرف كلَّ شيء قبل أن يكون. أنت تعرف أنَّ هذين القاضيين شهدا عليَّ بالزور، وها أنا أموت بريئة لأنِّي لم أصنع شيئًا ممّا افتريا عليَّ" (13: 12-13).

*  *  *

سفر دانيال توجَّه لا إلى فئة واحدة، بل إلى جميع الفئات. فجاء بعضه في اللغة الأراميَّة (2: 4-7)، التي كانت لغة الدواوين خلال الحكم الفارسيّ. والبعض الآخر في العبريَّة، لغة التوراة إجمالاً (1: 1-2: 3؛ ف 8-12). والقسم الثالث في اللغة اليونانيَّة. أوَّلاً، نشيد الفتيان الثلاثة حين كانوا في أتون النار. ثمَّ ف 13-14 حيث نجد تحقيرًا للآلهة الوثنيَّة. ثلاث لغات، ممّا يعني أنَّ هذا السفر لم يُكتَب دفعة واحدة. فالقسم الأقدم جاء في الأراميَّة (ف 2-6) أي في نهاية الحقبة الفارسيَّة (400-330 ق.م.). وأضيف ف 7 في اللغة الأراميَّة، كردٍّ على قوَّة أنطيوخس الرابع إبِّيفانيوس (175-164 ق.م.). وجاءت مقدِّمة (في الأراميَّة) فأمَّنت تماسك الكتاب. دُوِّن ف 8-12 في العبريَّة، في زمن المكابيِّين، ونُقلت المقدِّمة (ف 1) إلى العبريَّة. وأخيرًا، جاء ف 13-14 كخاتمة للكتاب. كلُّ قسم جاء جوابًا على الوضع الذي يعيش فيه المؤمنون. ما هو المستقبل الذي ينتظرنا؟ وكان الجواب: أمانة الله حاضرة. ولو كانت خطايا مرتفعة ارتفاع الجبال، فرحمة الربِّ أرفع من الجبال. وإذ لم نكن نحن أمناء فالربُّ يبقى أمينًا، لأنَّه لا يستطيع أن يُنكر نفسه.

سفر دانيال هو "رؤيا" مثل سفر الرؤيا في العهد الجديد. نحن لا نعرف مَن كتبه. والذين كتبوا أقسامه جعلوه على اسم "دانيال". هناك مقاطع "سيرويَّة" بمعنى أنَّ الراوي يصوِّر مغامرات البطل. ومقاطع يتكلَّم فيها "دانيال" عن نفسه في صيغة المتكلِّم المفرد: "ظهرت لي، أنا دانيال..." (8: 1). "رأيتُ، أنا دانيال، الرؤيا وطلبتُ المعنى" (8: 15).

هذا التمييز يُدخل في الكتاب مسافة بين الكاتب الحقيقيّ الذي لا نعرف اسمه، والكاتب المختَلَق الذي اتَّخذ اسمًا مستعارًا. فالكاتب المختلَق هو دانيال العائش في زمن المنفى البابليّ. أمّا الكاتب الحقيقيّ (ف 2-6) فهو العائش في زمن الفرس، ثمَّ في الحقبة اليونانيَّة (النصوص اليونانيَّة). فالمسافة التي تفصل الكاتب المختلق عن الكاتب الحقيقيّ تخصُّ ماضي الكاتب الحقيقيّ، ولكنَّها تخصُّ المستقبل للكاتب المختلق. فالكاتب المختلق يجعل نفسه سنة 587-586 بحيث إنَّ الأمور التي يدوِّنها تبدو وكأنَّه ينبئ بها، أو يخبر عنها قبل وقوعها. هذا هو المعنى الخاطئ لمفهوم النبيّ "الذي يعرف الغيب". لماذا يتصرَّف بهذا الشكل؟ لكي يقول إنَّ الله يسود الأحداث ويتسلَّط على الملوك والممالك، بحيث لا يُفلت شيء من يديه. إذًا، ينبغي على المؤمن ألاَّ يخاف مهما كانت الظروف، شرط أن يجعل الله في قلب التاريخ وفي وسط حياة جماعته. ففي النهاية، كلُّ شيء يؤول لخير الذين يحبُّون الربّ. ذاك ما قاله الرسول، وذاك ما دعا دانيال للعيش بحسبه.

ويبقى "الكاتب النهائيّ" الذي أعطانا سفر دانيال في الصيغة التي نقرأها الآن. من هو دانيال؟ لا دور له مميَّزًا في أسفار العهد القديم سوى أنَّه يُذكَر في سفر حزقيال (28: 3؛ رج 14: 14-20) ثلاث مرَّات، مع نوح وأيُّوب. هذا يعني أنَّه شخص عاش في قديم الزمان، 2000 سنة قبل المسيح في العالم البابليّ حيث يبدو حكيمًا، و1500 سنة في عالم أوغاريت أو رأس شمرا، حيث يبدو ملكًا عادلاً. وهكذا يكون الكاتب الملهم أخذ الاسم وكأنَّه يطلب من شعبه ومن الأمم الوثنيَّة التحلِّي بالحكمة والعدالة.

*  *  *

كان شخص رابع في أتون النار مع الفتية الثلاثة. رأى في هيبوليت "الكلمة الإلهيّ، خالق العالم المنظور والعالم اللامنظور، ما يُرى وما لا يُرى.

قولوا لي، يا أيُّها الفتيان الثلاثة، من كان الشخص الرابع الذي كان يتمشَّى وسط أتون النار، وكان ينشد المديح لله كما بفمٍ واحد معكم؟ صفوا لنا شكله وجماله، لكي نتعرَّف إليه حين نراه في لحمه (ودمه). من هو هذا الرجل الذي بواسطة فمكم عدَّد كلَّ الخلائق وما نسيَ واحدًا ممّا يوجَد الآن وما وُجد في الماضي؟ قضيتم فقط ساعة في أتون النار، ولكنَّكم عرفتم فيه كلَّ خليقة العالم. فالكلمة هو من كان معكم وهو من تكلَّم بفمكم، لأنّه وحده يعرف الطريقة التي بها خُلق العالم. مدهشة، يا أحبّائي، كلمات المديح الذي أنشده في أتون النار الفتية الثلاثة. هم ما نسوا شيئًا ممّا خُلق، لأنَّه وجب أن لا يمرَّ شيء وكأنَّه حرٌّ ومستقلّ. ولكنَّهم ضمُّوا كلَّ شيء، وسمَّوا كلَّ شيء: الكائنات التي هي فوق في السماء، وتلك التي على الأرض والتي تحت الأرض. وهكذا برهنوا أنَّ كلَّ كائن هو عبد الله الذي خلق كلَّ شيء بكلمته (المتجسِّدة) لئلاَّ ينتفخ أحدٌ كبرياء ويتخيِّل أنَّه غير مخلوق ولا سيِّد له.

في ف 7، بعد الكلام عن الحيوانات الأربعة التي مثَّلت أربع ممالك متعاقبة، تابع دانيال فقال: "شاهدتُ في رؤى الليل، وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى قديم الأيَّام، فقُرِّب قدَّامه. فأُعطي سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبَّد له كلُّ الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطانٌ أبديّ، لا يزول، وملكوته لا ينقرض" (7: 13-14).

حرفيًّا: هو إنسان. ابن البشريَّة تجاه الوحوش الأربعة. ومجيئه مع (أو: على ) سحب السماء جعله في علاقة مع العالم الإلهيّ، ساعة الوحوش صعدوا من الماء، مركز الشرِّ. إنَّ ابن الإنسان هذا لا يأتي من عند الله إلى البشر، بل هو يأتي من عند الله لكي يجلس على عرشه جلوسًا احتفاليًّا، فهو يمثِّل شعب قدِّيسي العليّ، ويُدعى لكي يشارك في ملك الله بالذات.

صورة ابن الإنسان صورة سرِّيَّة وقد لفتت نظر الكتّاب المسيحيِّين، لا سيَّما وأنَّ يسوع دعا نفسه ابن الإنسان، لا مرَّة وحيدة، بل مرَّات عديدة. أمّا الإنجيليُّون فما تردَّدوا في أن يروا في يسوع تتمَّة رؤيا دانيال. فإنَّ مت 24: 30 قدَّم مجيء المسيح في المجد موردًا الآيتين اللتين ذكرنا: "وتظهر في ذلك الحين علامة ابن الإنسان في السماء". أمّا مر 14: 62 فأورد كلام يسوع خلال محاكمته أمام عظيم الكهنة: "سترون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القدير وآتيًا مع سحب السماء" وربط رؤ 14: 14 صورة ابن الإنسان مع المسيح فقال: "ونظرتُ فرأيتُ سحابة بيضاء جلس عليها مثل ابن الإنسان وعلى رأسه إكليل من ذهب".

الخاتمة

هذا هو سفر دانيال. قرأ معنا التاريخ منذ سبي بابل سنة 587-586 حتّى زمن أنطيوخس الرابع وحكم السلوقيِّين. قال لنا أوَّلاً إنَّ الربَّ هو سيِّد الأحداث، فينبغي ألاَّ تخافوا والنصر في النهاية يكون لقدِّيسي العليّ، أي للمؤمنين. وعاد الكاتب إلى الوراء لكي يقول لنا إنَّ الله أمين لمواعيده. هو هو. أمسِ واليوم وإلى الأبد. كان مع شعبه ومع المؤمنين في كلِّ الأوقات ولا سيَّما في الأوقات العصيبة، ويكون اليوم وغدًا. هذا هو المستقبل الذي يجب أن يوجِّه أنظارنا. الله ليس ذاك البعيد بحيث لا يسمع. ولا هو ذاك النائم الذي يحتاج أن نوقظه. فإلهنا لا ينعس ولا ينام، وهو يعمل كلَّ يوم في سبيل أحبّائه. من أجل هذا قراءة سفر دانيال مفيدة جدًّا لنا. فمن خلال الرموز والصور، نعرف أنَّ هذا الكتاب دُوِّن من أجلنا اليوم. نقرأه لا لنقوم بحسابات حول نهاية العالم، كما يفعل الضالُّون والمضِلُّون، بل لنكتشف حضور الله في عالمنا. وحين ينضمُّ نظرنا إلى نظر الله في إيمان عميق وثقة ثابتة، تتحوَّل حياتنا وتنفتح عيوننا فنرى أبعد ممّا يراه الناس العاديُّون، ونفهم كلام الربِّ الذي قاله لتلاميذه: "تقوَّوا، أنا غلبتُ العالم".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM