الفصل السادس عشر: حكمة يشوع بن سيراخ على منعطف في حياة الشعب

الفصل السادس عشر
حكمة يشوع بن سيراخ على منعطف في حياة الشعب
هذا الكتاب الذي دُوِّن في اللغة العبريَّة حوالي سنة 200 ق.م. فعرفه القدِّيس جيروم في القرن الرابع، وأورد نصوصه كتّاب يهود حتّى القرن العاشر ب.م. هذا الكتاب الذي ضاع أو ضيَّعوه فراح في عالم النسيان، وُجدت نصوص منه سنة 1896 في مجمع يهوديّ، في القاهرة القديمة، ثمَّ في مصعدة ومغاور قمران حوالي منتصف القرن العشرين. هذا الكتاب اسمه حكمة يشوع بن سيراخ، تمييزًا له عن حكمة سليمان الذي دُوِّن حوالي سنة 50 ق.م. وفي اللغة اليونانيَّة.
هذا الكتاب الذي عرف نسختين في اللغة العبريَّة، واحدة انتقلت إلى اللغة اليونانيَّة، خمسين سنة بعد تدوينها، أي حوالي سنة 130 ق.م.، وواحدة طويلة، تمَّت بين القرن الأوَّل ق.م. والقرن الأوَّل ب.م.، ومنها وصلَتْ نصوص في القرنين التاسع عشر والعشرين. أمّا السريانيَّة البسيطة فأخذت بالنسخة العبريَّة الطويلة.
تداول اليهود في فلسطين النسخة العبريَّة القصيرة قبل أن تُنقَل إلى اليونانيَّة في الإسكندريَّة. ثمَّ كانت ترجمة يونانيَّة أخرى: طويلة، بين القرن الأوَّل والقرن الثاني ب.م. ومنها أخذ اللاتين ودعوا الكتاب: كتاب الكنيسة، لأنَّ المعمَّدين الجدد اعتادوا أن يسمعوا نصوصه منذ أيَّام القدِّيس قبريانس، في أفريقيا الشماليَّة، في القرن الثالث المسيحيّ.
أمّا الترجمات الحديثة التي نعرف فتنطلق من النصِّ اليونانيّ القصير على أن تضع في الحاشية الإضافات الآتية من النصِّ اليونانيّ الطويل، ومن الترجمة السريانيَّة والترجمة اللاتينيَّة. هذا يعني أنَّ هذا النصَّ ملهم، وإن أخذناه عن اليونانيَّة. كما يُطرَح سؤال هامّ حول الإلهام الذي لا نجده فقط في النصِّ العبريّ، بل في النصِّ اليونانيّ والسريانيّ واللاتينيّ أيضًا. والبرهان على ذلك حكمة يشوع بن سيراخ التي وُجدَت نصوصها المختلفة في هذه اللغات حيث لا نعرف أيَّها سبق الآخر. كلُّ هذا يُعتبر كلام الله الذي توجَّه في لسان من الألسنة بانتظار أن يصل إلى جميع الألسنة.
* * *
ما يميِّز سفر يشوع بن سيراخ هو أنَّه وحده بين أسفار العهد القديم من نعرف اسم كاتبه. لا شكَّ في أنَّ التقليد اعتبر أنَّ موسى دوَّن الأسفار الخمسة أو التوراة بشكل ضيِّق، وأنَّ صموئيل لعب دورًا في أسفار صموئيل، وأنَّ داود هو صاحب المزامير، وسليمان صاحب الكتب الحكميَّة. ولكنَّ الأكيد الذي نجده في ابن سيراخ لا نجده بالنسبة إلى أيِّ سفر من أسفار العهد القديم.
هو نفسه وقَّع كتابه: في اليونانيّ: «أنا يشوع بن سيراخ بن إليعازر الأورشليميّ كتبتُ في هذا الكتاب أقوالاً في آداب السلوك والمعرفة، أفاضتها الحكمةُ من قلبي» (50: 27). وتبعت السريانيَّة هذا القول. وفي العبرانيّ: «شمعون بن يشوع بن إلعازر، بن سيراخ».
من هو يشوع هذا؟ هو أحد الوجهاء في أورشليم، كاتبٌ بين الكتبة، تشرَّب منذ حداثته من حبِّ الشريعة، واهتمَّ بأن ينقل إلى الآخرين، بشكل عامّ، وإلى الشبيبة بشكل خاصّ، ثمرة تأمُّله وخبرته. وهكذا فتح مدرسة من أجل المحيط الذي يعيش فيه. قال:
تعالوا إليَّ أيُّها المحتاجون إلى التأديب،
أيُّها الجهّال، ولازموا مدرستي (51: 23)
وسبق له فقال:
• تعبي لم يكن من أجلي أنا وحدي،
بل لكلِّ من يطلب الحكمة (24: 34)
• من طلب الشريعة امتلأ منها (شبع)،
أمّا المرائي فيعثر فيها.
• فاشهدوا أنَّ ما جنيتُه لم يكن لي وحدي،
بل أيضًا لكلِّ من يطلب المعرفة (33: 18)
• اسمعوني، يا عظماء الشعب،
وأصغوا إليَّ يا رؤساء الجماعات (آ19)
هذا المعلِّم الكبير بحثَ بشغف عن الحكمة: «انظروا كم تعبتُ قليلاً فوجدتُ كثيرًا من الراحة. لا يهمُّكم كم تنفقون للحصول على الحكمة، لأنَّه أقلُّ ممّا تكسبونه» (51: 27-28). واستفاد من الأسفار التي قام بها (34: 9-11)، وبعضها في مهمّات رسميَّة (39: 4)، فمرَّ في صعوبات عديدة نجّاه الله منها. قال: «أحمدك لأنَّك خلَّصتني من لهيب النيران التي أحاطت بي... ومن أعماق الموت وأكاذيب الألسنة...» (51: 4-5). ولكن مع ذلك، يبدو أنَّه عاش حياة هادئة، تحيط به امرأة اختارها أفضل اختيار، وأولادٌ ربَّاهم بالطريقة القاسية ليتجنَّب كلَّ إزعاج في المستقبل. اهتمَّ كثيرًا بالهيكل والكهنوت وشعائر العبادة، ولكن يبدو أنَّه لم يكن كاهنًا. فهو الكاتب فقط، وهو يحسب مهنته أرفع المهن في المجتمع.
* * *
منذ سنة 301ق.م.، كانت فلسطين خاضعة لمصر البطالسة، ولبثت كذلك قرنًا من الزمن تقريبًا. وسنة 198 ق.م.، انتقلت إلى يد السلوقيِّين بعاصمتهم أنطاكية. راعى الملكان أنطيوخس الثالث (223-187) وخلفُه سلوقس الرابع (187-175) الشعب اليهوديَّ وحافظا على امتيازاتهما، كما ساعدا على إصلاح الهيكل وطقوسه، وذلك في أيَّام سمعان بن أونيّا الكاهن الأعظم: «رمَّم الهيكل وجدَّده، ووضع حوله الأساس للسور المزدوج الشامخ، وفي أيَّامه حفر حوضًا للمياه (للاغتسال قبل الصلاة) كان أشبه بالبحر اتِّساعًا» (50: 1-3).
ولكنَّ فتوحات الإسكندر عرَّفت العالم اليهوديَّ الى حضارة آتية من عالم اليونان: هي الهلِّنيَّة. فانتشرت انتشارًا واسعًا. ولكنَّ هذه الحضارة كانت ملتبسة: مزْج الديانات، تمجيد الجسد ولاسيَّما في الرياضة حيث الأبطال يكونون عراة. أحسَّ ابن سيراخ أنَّ التقاليد اليهوديَّة هي في خطر، وكذلك متطلِّبات الديانة الأساسيَّة، فقال (2: 12-14):
12    ويل لقلب خائفٍ ويد متراخية
ولخاطئ في طريقين يسير
13    ويلٌ لقلب ضعيف لا يؤمن،
لأنَّه لن يكون في أمان.
14    ويلٌ لكم يا من فقدتم الصبر
ماذا تفعلون يوم يفتقدكم الربّ؟
نلاحظ هنا واجب الحفاظ على الإيمان، والابتعاد عن الخوف والتراخي أمام حضارة تفرض نفسها بكلِّ الوسائل، من إغراء وإكراه. فيبقى على المؤمن أن يتحلَّى بالصبر. عالمان يتصارعان، عالم الإله الواحد الذي لا يرضى بصورة ولا بتمثال، وعالم الآلهة المتعدِّدة مع زوش رئيس الآلهة وتمثاله الضخم الذي سيُوضَع في الهيكل بقوَّة السلاح. وهكذا جاءت ساعة الاختيار: هل هناك تنازلات كما بدأ الصادوقيُّون يفعلون، أم الحفاظ على نقاوة الإيمان؟
في هذا المناخ كتب يشوع بن سيراخ ليدافع عن الإرث الدينيّ والثقافيّ في العالم اليهوديّ، عن النظرة إلى الله وإلى العالم: في الحضارة اليونانيَّة، العالم أزليّ مثل الله. أمّا في العالم اليهوديّ، ففعلُ الإيمان يُطلق الكتاب المقدَّس كلَّه: «في البدء خلق الله السماوات والأرض». والاختيار الإلهيّ يميِّز شعب الله، فكيف يذوب هذا الشعب وسط الشعوب. من داخل هذا، كتب ابن سيراخ ليقنع الذين حوله أنَّ الشعب العبرانيّ يمتلك في الشريعة الموحاة الحكمة الحقيقيَّة، بحيث لا يحتاج الفكرَ اليونانيّ وحضارته.
عندئذٍ قدَّم نظرة شاملة تجمع الديانة التقليديَّة وحكمة الشرق كما تعمَّق فيها انطلاقًا من خبرته الخاصَّة. قال في ف 51:
13    في أيَّام شبابي،
قبل أن أباشر أسفاري،
طلبتُ الحكمةَ عاليًا في صلواتي.
14    أمام الهيكل تضرَّعتُ لأجلها،
وإلى آخر أيَّامي التمستُها.
15    حتَّى أزهرَتْ كباكورة العنب،
ففرحَ بها قلبي
ومنذ شبابي،
وأنا أسير في طريقها باستقامة.
وهكذا قدَّم هذا «الحكيم» كتابًا يدويًّا يتحدَّث لليهوديّ عن السلوك العمليّ الذي يجب أن يسلكه إذا أراد أن يكون أمينًا لربِّه وللشريعة. ولمّا نُقل الكتاب إلى اليونانيَّة، أراد الحفيد، بعد خمسين سنة، أن يمتدَّ هذا التعليم إلى خارج البلاد: فمن أراد أن يتعلَّم، ويُصلح حياته ويعيش بحسب الشريعة يقرأ هذا الكتاب. وها نحن نقدِّم، على سبيل المثال كلامًا في الوداعة والتواضع، نقرأه في ف 3:
17    كنْ وديعًا يا ابني في كلِّ أعمالك،
فيحبُّك الذين يرتضيهم الربّ.
18    تواضَعْ كلَّما ازددتَ عظمة،
فتنال حظوة عند الربّ.
19    قدرةُ الربِّ عظيمة جدًّا،
ومع هذا فهو يتمجَّد بالمتواضعين.
هو تعليم يتوجَّه إلى العائشين في فلسطين وفي خارج فلسطين، بعد أن انتقل إلى لغة عالميَّة هي اللغة اليونانيَّة. وبالرغم من ضغط القوى الوثنيَّة، وتفجُّر الفساد الذي يعمل في الداخل، فعلى المؤمن أن يحفظ نفسه من الاستسلام أمام الهجمة الهلِّنيَّة التي تدفعه لأن يخسر هويَّته. والنتيجةُ كتابٌ يتوجَّه إلى كلِّ من يريد بصدقٍ وإخلاص أن يتصرَّف كإنسان يهوديٍّ في عالم يتبدَّل. فالمؤمن لا يستطيع أن يتجاهل الأوضاع الجديدة، ومع ذلك عليه أن يتعامل معها لئلاَّ يخسر تاريخًا مع الله بدأ مع موسى، بل مع إبراهيم الذي يبقى المنارة لنسله وهو من نال البركة حين دعاه الله فلبَّى الدعوة بحيث تباركت فيه جميع شعوب الأرض (تك 12: 1ي).
* * *
ونتعرَّف الآن إلى مضمون الكتاب. أقوال وأقوال بشكل أمثال نرى بعضها في سفر الأمثال. واليونانيّ وضع عددًا من العناوين على هذا المقطع أو ذاك. مثلاً في 2: 1: «مخافة الله في المحنة». وضع صعب مع اضطهاد أنطيوخس الكبير، كما يخبرنا سفرُ المكابيِّين الأوَّل (1: 2-4، 12-15). فلا بدَّ من الصبر للمحافظة على الإيمان:
1    يا ابني، إن أردتَ خدمة الربِّ
فأعدَّ نفسك للمحنة.
2    إجعل لنفسِك قلبًا مستقيمًا وتسلَّحْ بالشجاعة
ولا تخف في وقت الشدَّة.
3    تمسَّك بالربِّ ولا تبتعد عنه
فتُكرَّم في أواخر حياتك.
4    تقبَّل كلَّ ما يحلُّ بك
وفي اتِّضاعك كن صبورًا.
5    فالذهب تمتحنه النارُ
والمختارون في أتون الاتِّضاع.
يبدأ الكتاب بقصيدة لمجد الله الخالق ولحكمته، كأنَّ في ذلك جوابًا على تساؤلات أيُّوب. ويعود هذا الموضوع ليفصل بين قسم وقسم في فكر يشوع بن سيراخ. وهكذا تبدأ المجموعة الأولى (1: 1-10) بنشيد لحكمة الله:
1    كلُّ حكمة هي من الربّ
وتبقى معه إلى الأبد.
2    من يعدُّ رمل البحار،
من يعدُّ قطرات المطر وأيَّام الدهر؟
3    من يقيس ارتفاع السماء،
واتِّساع الأرض وعمق البحار؟
ويتواصل النشيد في قلب مملوء بالإيمان بالله وبالثقة أنَّ الحكمة تأتي من عنده لا من عند البشر ولو كانوا من الفلاسفة الذين انتشرت آثارهم في حوض البحر المتوسِّط. بعد هذا، ترتبط الحكمة بالمخافة (1: 11-13):
11    مخافة الربِّ شرف ومجد
فرحٌ وإكليل ابتهاج.
12    مخافةُ الربِّ تُسرُّ القلب
وتطيل العمر وتفرحه وتسعده.
مخافة الربِّ عطيَّةٌ من الربّ
تجعل الإنسان في طرق المحبَّة.
13    من يخاف الربَّ تَطيب آخرته
وفي يوم موته ينال البركة.
14    رأس الحكمة مخافة الربّ
نشأت مع المؤمنين في الرحم.
نلاحظ هنا الصفتين الأساسيَّتين عند المؤمن: الحكمة الآتية من عند الربّ والجواب عليها في المخافة التي هي علاقة الأب بابنه والتلميذ بمعلِّمه. هما تولدان مع الإنسان وهو في حشا أمِّه، وتنموان في ظلِّ الهيكل الذي يأتي إليه الحجّاج ثلاث مرَّات في السنة. ويعلن ابن سيراخ كيف تعمل فينا الحكمة: فشجاعة ترافقها الثقة بالنفس ضروريَّة للانطلاق في الحياة (2: 12). أمّا الخطوات الأولى فهي التقوى البنويَّة (3: 1-16) ومراعاة الذين سبقوا «الشباب» الذين هم في بداية حياتهم (3: 17-27). أعمال الرحمة تمرِّن الإنسان وتجعله محبوبًا من الله ومن الناس. كلُّ هذا يصل بنا إلى مديح للحكمة التي تربِّي أولادها وترفعهم إلى المجد ولو مرُّوا في المحن. فهذه المحن تعلِّمهم الكثير (4: 11-19)
11    الحكمة تعظِّم أبناءها
وتهتمُّ بالذين يطلبونها.
12    من أحبَّها أحبَّ الحياة
ومن أمَّها باكرًا يمتلئ سعادة.
* * *
هنا تنتهي المجموعة الأولى وتبدأ الثانية حيث التلميذ يتعلَّم كيف يميِّز القيم الحقيقيَّة ويبتعد عن تلك المزيَّفة: خجلٌ صالح وخجل رديء. ثقة واعتداد بالنفس. صداقة مفيدة وصداقة تحمل الخطر. نقرأ ف 6:
13    ابتعدْ عن أعدائك
واحذر أصدقاءك.
14    الصديق الأمين ملجأ حصين
من وجده وجد كنزًا.
15    الصديق الأمين لا يعادله شيء
وقيمته بلا حدود.
16    الصديق الأمين دواء الحياة
والذين يخافون الربَّ يجدونه.
17    من خاف الربَّ أحسن اختيار أصدقائه
فمثلما يكون الإنسان يكون أصدقاؤه.
بعد ذلك تأتي دعوة أخرى من «المعلِّم» إلى «التلميذ» ليدخل في مدرسة الحكماء في مخافة الله، بشجاعة وتواضع بحيث لا يحسب الإنسان نفسه وصل إلى الحكمة ولا يحتاج النموّ فيها (6: 18-37):
18    تأدَّبْ يا ابني في أيَّام شبابك
فتبقى حكيمًا حتّى مشيبك.
19    كالحارث والزارع أقبِلْ إليها
وانتظر ثمارها الصالحة.
تلك كانت افتتاحيَّة المجموعة الثانية، وهي تُدخل التلميذ في مسيرة الحياة داخل المجتمع (7: 1-14: 19). كلُّ عناصر المجتمع البشريِّ تمرُّ أمامنا: محيط العمل والمحيط العائليّ، والكهنة والفقراء، الشيوخ في نهاية حياتهم والموتى، والغضوب والجاهل وكلُّ الطبائع البشريَّة، النساء والرفاق، المقتدرون والرؤساء. يستفيد المعلِّم من كلِّ هذا ليعلِّم تلميذه أنَّ خير الأمور وسطها، وهذا أمر صعب في استعمال الخيرات الفانية، لأنَّ الموت لا يوفِّر الكرامات ولا الثروات. أمّا الكلمة الأخيرة في هذا التعليم فليست فكرة الموت، بل مخافة الله. ويُمتدَح الحكيم الذي يخاف الله (14: 20ي):
20    هنيئًا لمن يهتمُّ بالحكمة
وبعقله يفكِّر فيها.
21    هنيئًا لمن يراعي طرقها
ويكشف أسرارها!
22    يسعى وراءها كالصيّاد،
وبانتظارها يكمن في الطريق.
وبعد أن يقف الإنسان أمام الله (15: 11ي) ويعرف حرِّيَّته في أن يحفظ الوصايا أو لا سمح الله يتركها، في أن يختار بين الماء والنار، بين الحياة والموت، يدعوه «المعلِّم» لأن يمتدح الخالق (18: 1ي):
1    الحيُّ الدائمُ خلق الكون
وهو الربُّ الصالح وحده.
2    لم يَدَع أحدًا يحيط بمآثره
فمن يحيط بكلِّ أبعادها؟
3    يدير الكونَ بإصبعه
وكلُّ شيء رهن مشيئته.
* * *
في المجموعة الثالثة نكتشف تحذيرين اثنين: من اللسان وإفراطه في الكلام، ومن الشهوة التي يمكن أن تجرَّ الإنسان إلى البعيد: «لا تثرثر على أحد، صديقًا كان أم عدوًّا» (19: 8). ثمَّ: «إن سمعت كلامًا فاحفظه حتّى القبر، ولا تخف فهو لا يفجِّرك. الأحمق يعاني من كتمان السرّ، مثلما تعاني امرأة أوجاع المخاض» (آ10-11). ونقرأ في ف 20 حول الكلام والصمت:
7    الحكيم يسكت في الوقت المناسب
أمّا الثرثار الجاهل فلا تهمُّه الأوقات.
8    الكثير الكلام يمقته الناس
والذي يحتكر حقَّ الكلام يُبغَض.
وبعد صلاة طلب فيها المعلِّمُ السيادة على النفس (23: 1-6: «أيُّها الربُّ الإله، يا سيِّد حياتي، لا تتركني لنزواتي...)، تنتهي هذه المجموعة بتنبيهات حول استعمال الكلام (23: 7-15) والدعارة (23: 16-27). والختامُ نشيدٌ تمتدح فيه الحكمةُ نفسها (ف 24):
1    وسط شعبها
تغنِّي الحكمةُ مديحها.
2    في جماعة الله العليّ
وأمام جبروته تغنِّي فتقول:
3    من فم العليّ خرجتُ
وكالضباب غطَّيتُ الأرض.
4    في السماء جعلتُ مسكني
وعرشي في عمود السحاب.
من أين أتت هذه الحكمة؟ من عند الله، لا من عند البشر. وهي أين تقيم؟ أفي عالم اليونان، في أثينة؟ أفي العالم الهلِّينيّ، في الإسكندريَّة أو أنطاكية؟ كلاّ. فقالت عن نفسها:
8    أمرني خالق الجميع، خالقي،
وعيَّن لي مسكني فقال:
»اسكني في بني يعقوب
وتسلَّمي ميراثك في شعب إسرائيل.»
9    من البدء خلقني ومن الأزل،
وأنا إلى الأبد أبقى.
10    في المسكن المقدَّس، في حضرته خدمتُ
فتثبَّتَتْ في صهيون إقامتي.
11    في المدينة المحبوبة وجدتُ راحتي،
وفي أرض الربِّ يكون ميراثي.
فأين تريدون أن تذهبوا، يا أبناء يعقوب؟ أتحسبون حكمة الله أو كلمة الله بعيدة عنكم؟ كم أنتم مخطئون! من زمان قيل لكم: لا حاجة للصعود إلى السماء، ولا النزول إلى عمق البحر (تث 30: 12-13). لا حاجة للذهاب إلى البعيد. «الكلمة، قريبة منكم جدًّا، في أفواهكم هي، وفي قلوبكم، لتعملوا بها» (آ14). الكلمة تؤكل كما كان الأمر بالنسبة إلى حزقيال (3: 1) وإلى يوحنّا في سفر الرؤيا (10: 9-10). وكذلك الحكمة، فنقرأ ابن سيراخ دائمًا في ف 24:
13    هناك شمختُ كأزرة في لبنان،
أو كسروة في جبل حرمون.
14    كنخلةٍ في عين جدي نموتُ
وكشجرة الورد في أريحا.
كزيتونة قويَّة في السهل،
وكالدلبة على مجاري المياه.
18    أنا أمُّ المحبَّة البهيَّة
والمخافة والعلم والرجاء الطاهر.
أعطي جميع أولادي
الذين اختارهم الله، عطايا خالدة.
19    تعالوا إليَّ أيُّها المشتاقون
واشبعوا من ثماري.
20    فذكري أحلى من العسل
وميراثي أحلى من شهد العسل.
21    من أكلني جاع أيضًا،
ومن شرب منِّي عطش أيضًا.
22    من سمع لي لا يخيب،
ومن عمل بأقوالي لا يخطأ.
أوردتُ هذا النصَّ الرائع قبل الدخول في المجموعة الرابعة (ف 25-33) التي تنتهي هي أيضًا بخاتمة تشبه ما كان في المجموعة الثالثة، حيث يتحدَّث ابن سيراخ عن نفسه وهو الماضي إلى الكرم (ف 33):
16    أنا كنتُ آخر من استفاق
ليلتقط في الكرم وراء القطّافين.
17    ببركة الربِّ لحقتُ بالآخرين
وأمتلأتْ معصرتي كواحد منهم.
18    فاشهدوا أنَّ ما جنيتُه لم يكن لي وحدي،
بل لكلِّ من يطلب التعليم.
وتبقى مخافة الله وحفظ وصاياه في قلب اهتمامات هذا «الحكيم». وهو يستعيد ويستعيد مواضيع يراها ضروريَّة في المجتمع: حول النساء (ف 25-26)، حول الكلام الذي ينتهي بالنميمة وبالخلاف بين الأصحاب والجيران. ويطلب منّا أن نؤدِّي خدمة إلى من هم بقربنا وهكذا يكون التبادل حاضرًا (ف 29).
1    من أعار قريبه مالاً كان رؤوفًا به،
ومن مدَّه بالعون حفظ الوصايا.
2    أمِّنْ قريبك في وقت حاجته،
وأوفِه ما له عليك ولا تتأخّر.
3    كن صادقًا وأمينًا معه،
فتنال في كلِّ حين حاجتك.
وتنتهي هذه المجموعة بإدخالنا إلى جوِّ الأسرة والحياة المرتاحة في البيت (ف 29):
21    أصل المعيشة الماء والخبز واللباس
وبيتٌ إليه تأوي.
22    حياة الفقير في كوخ له حقير
خيرٌ له من الولائم الفاخرة في بيت سواه.
23    إقنعْ بالقليل والكثير على السواء
فلا ينالك توبيخٌ ممَّن يحيط بك.
* * *
وتبدو المجموعة الخامسة كأنَّها وصيَّة ابن سيراخ، لأنَّ إطارها الموت حيث يكون الحديث عنه أكثر من مرَّة، وخصوصًا في البداية وفي النهاية. أمّا البداية فتعرِّفنا إلى ما يفعل الحكيم حين تقترب ساعته (ف 33):
20    لا تسلِّط عليك ابنك في حياتك
ولا امرأتك ولا أخاك ولا صديقك.
ولا تودع عند أحد أموالك
لئلاَّ تندم فتضرع إليه كي يردَّها.
21    ما حييتَ وما دام فيك نَفَس
لا تسلِّط أحدًا عليك.
22    فخير لك أن يحتاجك بنوك
من أن تعتمد أنت عليهم.
24    فقط في الأخير، في ساعتك الأخيرة،
تقسم ميراثك للورثة.
وفي نهاية هذه المجموعة، يتوجَّه الحكيم إلى الموت وكأنَّه شخص حيّ يحاوره (ف 41):
1    أيُّها الموت، ما أمرَّ ذكرك
على من يعيش هانئًا في بيته،
خاليًا من كلِّ هم، ناجحًا في كلِّ أمر،
قادرًا بعدُ على قبول اللذائذ.
2    أيُّها الموت، أهلاً بحُكمك على الفقير،
على الضعيف الخائر العزيمة
على الهرم المثقل بكلِّ همّ
على اليائس من الحياة الفاقد الصبر.
كانوا يقولون: تطول حياتُك ما دامت تليق بك. أمّا أيُّوب فأراد أن يرتاح سريعًا من هذه الحياة، كما تمنَّى لو أنَّه مات في حشا أمِّه، أو هو كان بعد طفلاً على ثديها أو في حضنها. والسبب: لأنَّ الأفق مسدود أمامه. كذلك هو مسدود بالنسبة إلى ابن سيراخ، لأنَّه ما عرف القيامة التي تحدَّث عنها دانيال، حيث الصدِّيقون«يضيئون كاللآلئ في السماء» (12: 3) بعد أن يستيقظوا إلى الحياة الأبديَّة (آ2). عمليًّا لم يخرج هذا «الحكيم» من النظرة القديمة في العالم العبرانيّ حيث الحياة تنتهي في «الشيول» أو مثوى الأموات، حيث الراقدون كلُّهم يكونون في موضع واحد، أبرارًا كانوا أو أشرارًا، وهم هناك لا يستطيعون أن يمجِّدوا الله ويسبِّحوه، فيكونوا كالخيالات التي لا قوام فيها. لهذا اعتبر ابن سيراخ أنَّ من كانت حياته حلوة، يجب أن تطول. ويجب أن تقصر إن كانت بائسة. وبعد هذا، لا يبقى له سوى أن يستسلم:
3    لا تخفْ من الموت، وتذكَّرْ
أنَّ الأواخر يموتون كما الأوائل.
4    هكذا الربُّ قضى على كلِّ حيّ،
فكيف تقاوم ما ارتضاه العليّ؟
5    أعشر سنين أم مئة أم ألف،
في الشيول، لا حساب على العمر.
كم نحن بعيدون عن العهد الجديد، حيث يقول الرسول: «الحياة عندي هي المسيح، والموت ربحٌ لي» (فل 1: 21). فالموت ليس النهاية في المسيح، والمؤمن لا ينتقل من الحياة إلى الموت، بل عكس ذلك. والربُّ يسوع يقول لنا: «الحقَّ الحقَّ أقول لكم: من يسمع كلامي ويؤمن بمن أرسلني، فله الحياة الأبديَّة، ولا يحضر الدينونة، لأنَّه انتقل من الموت إلى الحياة» (يو 5: 24).
ويبقى الإرث الذي تركه ابن سيراخ، بعد موته، خبرته في الحياة التي تتجاوز حدود شعبه (34: 9ي)، وهو من تعلَّم الكثير حين اتَّصل بالناس فحافظ على الاعتدال الذي هو مفيد جدًّا للصحَّة.
والقسم الأخير في حكمة يشوع بن سيراخ يحدِّثنا عن الخلق (ف 42-43) كما في سفر أيُّوب. وفي النهاية، يأتي امتداح الآباء، من أخنوخ ونوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب وموسى وهرون... وصولاً إلى القضاة وصموئيل وداود وسليمان والأنبياء.... كلُّ هذا يجد ذروته مع سمعان بن أونيّا (50: 1) الذي عرفه ابن سيراخ وتحدَّث عنه حين شاهده في خدمته الكهنوتيَّة «مثل كوكب الصبح والبدر في تمامه» (آ6).
* * *
نظرة شاملة وسريعة إلى كتاب واسع جدًّا. دُوِّن في العبريَّة قبل الكلام عن قيامة الموتى، فانحصرت خلفيَّته في الأرض ولم تتطلَّع إلى السماء. ولمّا نقل الحفيد أقوال الجدّ، تبدَّل الفكر اللاهوتيّ فجاءت عبارات تتحدَّث عن القيامة وخصوصًا في النسخة الطويلة. والنصّ السريانيّ والنصّ اللاتينيّ قرأا هذا الكتاب على ضوء العهد الجديد، فما توقَّف غناه عند لغة واحدة، هي العبريَّة، ولا عند لغتين، بل عند أربع لغات. وهكذا نكون أمام غنى مرَّ في أكثر من لغة وثقافة في العالم القديم: الصداقة، الإحسان، التربية، الأطبّاء والمرضى، الغنى والفقر، الولائم وطريقة المشاركة فيها. وهذا دون أن ننسى تاريخ الشعب الأوَّل والذبائح وشعائر العبادة للإله الواحد والخلق والحرِّيَّة البشريَّة والموت.
يشوع بن سيراخ هو أوَّلاً كتاب حكمة آتية من عند الله. أمّا الفكرة المركزيَّة فهي مخافة الله. حسب البعضُ أنَّ هذا الحكيم يقدِّم ديانة مبنيَّة على الشريعة. ولكن ما يؤسِّس كلامه هو تقواه الشخصيَّة بحيث يتطلّع إلى المجازاة في هذه الدنيا بانتظار أن تنفتح عيناه على الأبديَّة في خطِّ دانيال وسفر المكابيِّين الثاني، حول القيامة، وفي خطِّ سفر الحكمة حيث نعرف أنَّ نفوس الأبرار هي في يد الله. وهكذا كانت حكمة يشوع بن سيراخ في امتداد سفر الأمثال مع إطلالة على العهد الجديد حيث يتعلَّم المؤمن أن يرضي الله والبشر في هذا العالم، فيعرف بداية سعادة عرفها الآباء الذين امتدح هذا المعلِّم حياتهم وسلوكهم.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM