الفصل الخامس عشر: نشيد الأناشيد الحبُّ الإلهيّ والحبُّ البشريّ

(الرعيَّة، كانون الثاني 2012)

نشيد الأناشيد

الحبُّ الإلهيّ والحبُّ البشريّ

الخوري بولس الفغالي

 

"أنام وقلبي مستفيق. ها صوت حبيبي يدقُّ. افتحي لي، يا أختي، يا رفيقتي،، يا حمامتي، يا كاملتي. رأسي امتلأ بالطلّ وجدائلي بندى الليل" – "خلعت ثوبي فكيف ألبسه؟ غسلت رجليَّ فكيف أوسِّخهما؟" من الكوَّة يمدُّ حبيبي يده فتتحرَّك له أحشائي. فأقوم لأفتح لحبيبي... أفتحُ ولكنَّ حبيبي كان مضى وراح" (5: 2-6).

دائمًا في الليل. هي الساعة التي يأتي فيها الربُّ لكي يحمل وحيًا إلى الإنسان. فإبراهيم يتحاور مع الله: أين هو الوارث الذي تعطيني؟ فيقول الكتاب: "ولمّا مالت الشمس إلى المغيب. وقع أبرام (إبراهيم) في نوم عميق. فقال له الربّ..." (تك 15: 12). ومثله يعقوب ويوسف وخصوصًا صموئيل الذي سمع صوت الربِّ يدعوه المرَّة بعد المرَّة. وفي النهاية قال: "تكلَّم، يا ربّ، فإنَّ عبدك يسمع" (1 صم 3: 10). أو هو "سامع". أذناه دائمًا مصغيتان.

من الذي يتكلَّم؟ العروس. ومن هي عروس الربّ؟ كلُّ واحد منّا. رجلاً كان أو امرأة. هي تنام كما كان صموئيل قرب تابوت العهد، رمز حضور الله في وسط شعبه. وما إن سمع همسة الربِّ فهتف: "ها أنا، يا سيِّدي" واستيقظ (آ4).

العروس نائمة ولكنَّ "قلبها" لا ينام. هي تنتظر "حبيبها". ومن هو حبيب النفس؟ يسوع المسيح. صوته يدقُّ. وفي العبريَّة: "يتدفَّق" مثل نهر لكي يغمر "حبيبته".

"افتحي لي". قال الربُّ في الإنجيل: "من يَقرَع يُفتَح له" (مت 7: 7). ولكن الآن، من يقرع؟ من يقول: افتحي؟ لا النفس. لا أنا، لا أنتَ وأنتِ. الربُّ هو من يقرع والمؤمن هو من يفتح أو لا يفتح. هنا نتذكَّر سفر الرؤيا حيث يأتي يسوع المسيح بأكثر من اسم إلى أسقف مدينة لاودكيَّة (في تركيّا). هو "الأمين". أو الثابت. الذي لا يدقُّ مرَّة ويمضي، بل يلحّ كما فعل "حبيب" نشيد الأناشيد، الذي في النهاية مدَّ يده من الكوَّة. هو "الشاهد" جاءنا من عند الآب وهو يشهد لحبِّ الله للبشر، هو الإله الذي أرسل ابنه. وهو "الصادق" وسط كذب العالم، على ما يقول المزمور: "الله صادق وكلُّ إنسان كاذب". جاء الربُّ وقال: "أنا واقف على الباب أدقُّه. فإن سمع أحد صوتي وفتحَ الباب دخلتُ إليه وتعشَّيتُ معه وتعشَّى هو معي" (رؤ 3: 2).

تخيَّلوا الربَّ مثل شحّاذ. ماذا جاء يطلب؟ الحبّ. يدقُّ وينتظر. كما هو صبور وباله طويل! "إن سمع أحد". الشرط الأوَّل أن نسمع. والسماع مع الله يفترض الصمت العميق والصمت الإيجابيّ، المستعدّ لأن يُنفِّذ ما يُطلَب منه. على مثال إيليّا النبيّ الذي غمره "صوت هادئ ضعيف" (1 مل 19: 12). سمع إيليّا الصوت وخاف أن ينظر إلى هذه النار المحرقة. "ما بالك هنا يا إيليّا؟" (آ13).

العروس سمعَتْ. ولكنَّها شابهت أسقف لاودكيَّة. لم تفتح، فيا ليتها فتحت، لكان الربُّ دخل واحتفل "بالعشاء السرّيّ" الذي أكله مع تلاميذه ليلة آلامه. ناداها بأربعة أسماء: "أختي". نحن لا ننسى ما تقوله الرسالة إلى العبرانيِّين: "ما استحى الربُّ أن يدعونا إخوته" (2: 11) وأخواته. وفي مفهومنا البشريّ، كيف ينادي الأخ أخته بحيث يكون بقربها! والصفة الثانية: "يا رفيقتي". نحن نمشي معًا. يدًا بيد. فالحبيبة لا تمشي وراء الحبيب كما اعتاد الشرق أن يرى. تمشي معه، ترافقه. وكما قال أحد التلاميذ ليسوع: "أتبعك إلى حيث تمضي". هو استعداد تامّ. لا عند هذه النفس. فضَّلت أن تبقى نائمة، أن لا تتحرَّك. "يا حمامتي". والحمامة معروفة بالحبِّ. معروفة بالوداعة. معروفة بالأمانة. والصفة الرابعة: "يا كاملتي". قال أحد الآباء: الله لا يدعونا لأنَّنا كاملون بل ليجعلنا كاملين. وفي ترجمة أخرى: يا كلَّ شيء لي. فتخيَّل ماذا يقول الربُّ لكلِّ واحد منّا يستطيع أن يسمع: "أنت كلُّ شيء لي". لهذا استطاعت العروس أن تقول: "أنا لحبيبي وحبيبي لي". اتِّحاد عميق وأيُّ اتِّحاد!

اشتاق الحبيب إلى الحبيبة. هنا لا بدَّ من أن نتذكَّر النفوس الرفيعة كيف تحدِّثنا عن مجيء الربِّ إليهنَّ؟ القديس يوحنّا الصليب. القدِّيسة تريزيا الأفيليَّة. القدِّيسة تريز الصغيرة. والقدِّيس شربل صاحب الصلاة العميقة، العميقة. ويا ليته كتب لنا بعض خبرته مع "الحبيب" مع "العريس السماويّ" كما تقول الليتورجيّا: "على فراشي تذكَّرتُ الربّ".

أعطاها سببين. الأوَّل: هو الليل. والثاني: الندى بلَّل رأسي. قلب الحبيبة قاسٍ. لم تتحرَّك. هنا نتذكَّر موضوع القساوة عند الأنبياء. قال إشعيا بفم الربّ: "أجعل قلب هذا الشعب قاسيًا، وأذنيه مثقلتين، وعينيه مغمضتين" (6: 10). هي طريقة بشريَّة تبيِّن أنَّ الله هو في أصل كلِّ حركاتنا. ولكن عمليًّا، الشعبُ يقسِّي قلبه، وكلُّ واحد منّا حين لا يريد أن يسمع، أن يتحرَّك. وصورة القساوة النموذجيَّة هي فرعون في سفر الخروج. ولكنَّ الله لا يتوقَّف. فأرسل حزقيال: "تقول لهؤلاء البنين (والبنات) الذين عاندوا وقست قلوبهم..." (حز 2: 4).

ولو نسمع الأعذار التي قدَّمتها العروس لعريسها: "خلعتُ ثوبي فكيف ألبسه؟ غسلتُ رجليَّ فكيف أوسِّخهما؟". أيَّتها الحبيبة، خلعت ثوبك ألا تعرفين أن تلبسيه؟ أيَّتها الحبيبة، ألا تعرفين أن تغسلي رجليك مرَّة ثانية؟ هو الكسل. هو التراخي. الربُّ يدعونا ونحن لا نتحرَّك. والظروف عديدة في حياة كلِّ واحد منّا. الاجتماع الأسبوعيّ يوم الأحد؟ نعتذر: أنا تعِبٌ، أريد أن أنام لأنِّي سهرتُ السبتَ مساء حتّى ساعة قريبة من الصباح. هناك لقاء حول الإنجيل؟ وماذا سوف يُقال لنا من جديد. العظة طويلة. ولكنَّ السماع على الراديو أو التلفزيون أو الأنترنيت لا يجعلنا نملّ. وفي أيِّ حال، ماذا يبقى لنا؟ يأتينا ضيف فنوقف التلفزيون. ويأتينا ضيف الضيوف، وأهمُّ ضيف في العالم، ولكنَّنا لا نتحرَّك. "قلب الربِّ يشتعل بالحبِّ لنا". ونحن بعيدون عنه نطلب حبًّا هنا أو هناك ونلبِّي رغبة هنا وهناك.

والإنجيل يعطينا مثلاً من أمثال يسوع في هذا المعنى: "ملك أقام وليمة في عرس ابنه" (مت 23: 2). من هو الملك؟ الله بالذات كما قال المزمور: "الربُّ ملك فلتبتهج الأرض" (مز 97: 1). وابنه يسوع المسيح. وما هي المناسبة لدعوة الملك: العرس ومع العرس الوليمة. من هو العريس؟ يسوع. ومن هي العروس؟ كلُّ واحد منّا. "وأرسل الله خدمًا يستدعي المدعوِّين إلى العرس". أمّا الخدم هم الأنبياء بالدرجة الأولى، ثمَّ جميع الذين يحملون كلام الله، من رسل ومعلِّمين وغيرهم. فهل لبَّى الناس الدعوة؟ كلاّ. وقدَّموا الأعذار التي لا بأس بها، ولكنَّها تستطيع أن تنتظر. واحد خرج إلى حقله. ويجب أن يخرج في هذا اليوم، لا غدًا! أيُّ عذر هذا. وآخر مضى إلى تجارته. وآخر اشترى بقرًا ولا بدَّ أن يجرِّبها. كلُّ الأشغال جاءت وقت الوليمة، وقت العرس... ولكنَّ المدعوِّين لبثوا خارجًا، في الظلام، مثلهم مثل الابن الأكبر الذي توسَّل إليه والده فلم يتحرَّك (لو 15: 28). ويبقى في الخارج إلاَّ أن "نتنازل" ونفتح الباب له.

*  *  *

هذا هو المعنى الأساسيّ لنشيد الأناشيد. قال فيه أوريجان ابن القرن الثالث المسيحيّ، مهنِّئًا من يقرأه، مقابلاً إيَّاه مع أقسام الهيكل من قدس يدخله الكهنة ومن قدس أقداس لا يدخله إلاَّ رئيس الكهنة، وهو لا يدخل إلاَّ مرَّة في السنة. ثمَّ هي مقابلة ثانية مع السبت وسبت السبوت، لأنَّ طريقتنا في رفع مقام شيء أو شخص يقوم بأن نجعله مفردًا بين الجموع: "سبت السبوت" يعني أفضل السبوت. "ملك الملوك" يعني أعظم الملوك ولا ملك غيره. وكذلك نقول: ربُّ الأرباب (1تم 6: 15)، لا لأنَّ هناك ربًّا (أو: أربابًا) آخر غير الربِّ الإله (1 كو 8: 6)، بل لنعلن أنَّه وحده الربّ. قال أوريجان:

"عرفنا بواسطة موسى بوجود "قدس" (أو: مكان مقدَّس)، ولكن أيضًا بوجود "قدس الأقداس" (أي أقدس مكان في الهيكل) (خر 26: 34). وهناك "السبت" وهناك أيضًا "سبت السبوت" (لا 16: 31). وكذلك نعرف بواسطة سليمان بوجود نشيد ولكنَّنا نعرف أيضًا بوجود "نشيد الأناشيد" (نش 1: 1) أي أعظم نشيد وأجمل نشيد. سعيد هو من يدخل في "القدس"، هذا لا شكَّ فيه. ولكن أسعد بكثير من يدخل في "قدس الأقداس" (عب 9: 7). سعيد من يحتفل بالسبت وأسعد من يحتفل بسبت السبوت (لا 25: 8). وسعيد أيضًا من يفهم الأناشيد والأغاني – فما من إنسان يُنشد إن لم يكن في عيد – ولكن أسعد بكثير من ينشد نشيد الأناشيد.

فالذي يدخل إلى القدس يحتاج إلى الكثير ليؤهَّل لولوج قدس الأقداس. والذي يحتفل بالسبت، الذي نظَّمه الربُّ في أيِّ حال، فهو يحتاج بعدُ إلى الكثير ليحتفل بسبت السبوت. وأيضًا لا نجد بدون جهد، الإنسانَ الذي يشقُّ طريقًا عبر جميع الأناشيد الموجودة في الكتب المقدَّسة، فتكون له القوَّة بأن يرتفع إلى نشيد الأناشيد.

نشيد الأناشيد. أجمل نشيد. بضعة فصول. ليس بالكتاب الطويل. يخبرنا عن حبِّ الله لشعبه، وحبِّ المسيح لكنيسته كما قالت الرسالة إلى أفسس: "أيُّها الرجال، أحبُّوا نساءكم مثلما أحبَّ المسيح الكنيسة وضحَّى بنفسه من أجلها، ليقدِّسها ويطهِّرها بماء الاغتسال والكلمة، حتَّى يزفَّها إلى نفسه كنيسة مجيدة لا عيب فيها ولا تجعُّد ولا ما أشبه ذلك، بل مقدَّسة لا عيب فيها" (5: 25-27).

ومع ذلك، يخاف الناس من قراءة هذا السفر الرائع؟ لماذا؟ لأنَّه لا يصف فقط الحبَّ الإلهيّ، بل الحبَّ البشريَّ أيضًا. وبما أنَّنا في حضارة تسيطر عليها الغرائز والتجاوزات على مستوى الحياة بين الرجل والمرأة، فنحن لا نعود نعرف كيف نرتفع من الحبِّ الزواجيّ الذي هو الذروة في حياة البشر والذي يصل بنا إلى حبِّ الله كما الزوج يحبُّ زوجته. نستطيع أن نتذكَّر ما قاله إشعيا وهو الذي اتَّخذ زوجته من عالم الزنى، الذي هو الخيانة، فدلَّ على أنَّ الله أحبَّنا ويحبُّنا دائمًا ولو كنّا معه "زناة" أي خونة، فنحبُّه ونحبُّ غيره، على مثال الشعب الذي كان على جبل الكرمل. قال لهم إيليّا: اختاروا بين الربِّ الإله وبين البعل.

فمن أراد أن يقرأ نشيد الأناشيد على أنَّه كتاب غزليّ، شهوانيّ، ننصحه بأن  يقرأه، لأنَّه يشبه عندئذٍ من ينتهك الأقداس. ونعود هنا إلى أوريجان الذي يقول للذين يعتبرون هذا الكتاب خطرًا عليهم: "أن يقارب إنسان هذا السفر فقط بحسب اللحم والدم، مثل هذا الإنسان يتولَّد له من هذا الكتيِّب مخاطرة وخطر. فإذ هو لا يعرف أن يفهم أسماء الحبِّ بطهارة وآذان عفيفة، يميل من الإنسان الباطنيّ إلى الإنسان الخارجيّ واللحميّ، وبمناسبة الكتب الإلهيَّة يُحرَّك ويُدفَع إلى ملذَّة اللحم والبدن. لهذا أعطي تشبيهًا ونصيحة (1 كو 7: 25؛ 2 كو 8: 10) لكن من لم يتحرَّر بعد من عوائق اللحم والدم، ولم يتخلَّ عن استعداد الطبيعة المادّيَّة (الجسديَّة): ليمتنع كلِّيًّا عن قراءة هذا الكتاب الصغير وما يُقال في شأنه".

أتذكَّر مرَّة إحدى الراهبات. قالت لي: هو كتاب غزليّ ومن الأفضل أن لا نقرأه. فأعطيتها مثلاً أوَّل: "حبيبي قلادةُ مُرٍّ لي، بين ثدييَّ موضعه" (1: 13). المرُّ هو ما يحرِّك الحواسّ، كما يقول أم 7: 17: "عطَّرتُ فراشي بمرٍّ وعود وقرفة". استُعمل في مصر في طقوس الخصب، وفي الكتاب من أجل صنع زيت المسحة (خر 30: 23)، مسحة المذبح ومسح الكهنة. ولكن ما شكَّك الراهبة الشطر الثاني: "بين ثدييَّ موضعه". أجبتُ: "إذا الرجل لا يتجامع مع المرأة، هل يكون أولاد؟" قالت: "كلاّ". قلت: "هو أعظم عمل على الله به يصبح الرجل خالقًا مع المرأة، وإن قالا كما قالت حوّاء: "رُزقتُ رجلاً من عند الربّ" (تك 4: 1). ثمَّ رُحت إلى الرمز. قُسمت أرض فلسطين قسمين، الجنوب والشمال وجاء الهيكل في الوسط فيحمل البركة إلى جنوب البلاد وشماله. والثدي هو ما يطعم الطفل ويقيته، كما كان يفعل الربُّ في البرِّيَّة مع المنِّ والسلوى والمياه من الصخرة.

فمن لا يفهم الرموز ويتوقَّف عند الجسد وما يمكن أن يحرِّك من غرائز، هذا الكتيِّب ليس له. وكانت عبارة ثانية ترد في بداية نشيد الأناشيد، حيث تقول العروس لعريسها في صيغة الغائب المؤنِّث وكأنَّها تستحي بأن تتوجَّه إليه مباشرة: "ليقبِّلني بقبلات فمه لأنَّ تودُّدك (وقال البعض: ملاطفة ومداعبة) أطيب من الخمر". نحن في معنى أوَّل في إطار الحياة الزوجيَّة بين الرجل والمرأة، حيث لا أسرٌ ولا إكراه ولا هذه الوسائل المستعملة التي يغيب عنها الحبُّ الحقيقيُّ فينسى الرجل أن يحترم امرأته وتعامل المرأة الرجل بطريقة يستحي الناس من ذكرها. ونعود هنا إلى بداية المقال حيث تحدَّثنا عن احترام الربِّ لحبيبته التي أتى يزورها. وهكذا نقول عن الرجل بالنسبة إلى زوجته: هو احترام تامّ! لا يكسر الباب. لا يفرض إرادته بالقوَّة إن لم يكن بالعصا. لا يهدِّد ولا هي تهدِّد.

هذا على مستوى الحبِّ الجسديّ، الحبِّ البشريّ. وعلى المستوى الروحيّ والعلويّ. يُطرَح السؤال: لماذا قُبَل فمه؟ وها هو الجواب: "حين تعود النفس وترتدُّ يُعطى لها أن تقبِّل قدمي الربِّ". أما هذا الذي فعلته الخاطئة في بيت سمعان الفرِّيسيّ؟" وقفت من خلف عند قدميه وهي تبكي، وأخذت تبلُّ قدميه بدموعها وتمسحهما بشعرها وتقبِّلهما وتدهنهما بالطيب" (لو 7: 38). "ثمَّ ترتفع النفس في حركة ثانية فتقبِّل يده، وهذا ما يدلُّ على الصداقة والقرب والحياة الحميمة مع الربّ. وفي نهاية الصعود، تُعطى لها قبلة الفم التي تدلُّ على الاتِّحاد الكامل مع العريس الإلهيّ".

ونعود أيضًا إلى أوريجان: "إلى متى يُرسل إليَّ الحبيب قبلاته بواسطة موسى؟ أريد أن أكتفي بشفتي حبيبي. فليأتِ هو بنفسه: لينزل هو نفسه!". لقد انتهى زمن الأنبياء، فليأتِ المسيح. لقد ذهب زمن المرسلين، فليأتِ العريس نفسه. "أتوجَّه إليك يا أبا ذاك الذي وعدتَ به: ارحم حبِّي وأرسله إليَّ. لا يكلِّمْني بعد بواسطة الملائكة والأنبياء! بل ليأتِ هو شخصيًّا ويقبِّلني بقبلات فمه". وماذا نفعل نحن حين نتناول القربان المقدَّس؟ نقبِّل الربَّ وهو يقبِّلنا. نجعل شفاهنا على جسده ودمه. هو اتِّحاد حميم حميم. نبَّه بولس الرسول كلَّ من لا يعرف ماذا يعمل حين يشارك في الجسد والدم. المناولة هي قبلة حبيب نفوسنا. نأخذ الجسد بيدنا. نلمس به عيوننا. نضعه على شفاهنا. فماذا يبقى لنا سوى أن ننشد كما أنشدت مريم حين حلَّ الابنُ في حشاها.

*  *  *

لو أنَّ نشيد الأناشيد كتاب غزل وحبٍّ بشريّ فقط، لما كان دخل في الكتاب المقدَّس. قال الناس: "ماذا جاءت تعمل في العهد القديم قصيدة الحبِّ هذه؟ أو هذه القصائد التي يمكن أن تُنشَد في الأعراس؟ وقال بعض الشرّاح إنَّها جاءت من شرق الأردنّ والكلام عن الرعاة، وربطها آخرون بلبنان الذي ذُكر أكثر من مرَّة لأنَّه موضع الخصب والزهو والخمور والفرح. واعتبر آخرون أيضًا أنَّه دُوِّن في زمن سليمان، لأنَّهم قرأوا اسم "ش ل م ه" وهو اسم يرتبط بالسلام. فمنذ البداية يمكن أن نقول بأنَّ هذا النشيد قُدِّم لسليمان في يوم عرسه. ومن هي عروسه؟ لا امرأة من النساء المعروفات، بل اسمها يرتبط هو أيضًا بالسلام. هي "ش ل و م ي ت". نحن هنا على مستوى الرموز، لا في قلب الواقع، لاسيَّما ونحن نعرف أنَّ سليمان تزوَّج نساء عديدات فما عرف الأمانة الزوجيَّة، وخصوصًا لم يعرف الأمانة لله. قال عنه سفر الملوك الأوَّل في حكم على حياته: "وأحبَّ الملك سليمان نساء غريبات كثيرات مع بنت فرعون: موآبيّات، عمُّونيّات، أدوميَّات، صيدونيَّات، حثِّيَّات..." (11: 1). فأمالت النساء قلبه، فما كان قلبه كاملاً مع الربِّ الإله.

كان كلام عن سليمان في نشيد الأناشيد: "هوذا تحت سليمان، حوله ستُّون جبَّارًا..." (3: 7). ويتواصل الكلام عن غنى هذا الملك الذي اشتهر بحكمته، ولكنَّها حكمة قادت المملكة إلى التقسيم في عهد ابنه: "الملك سليمان عمل لنفسه تختًا من خشب لبنان، عمل أعمدته فضَّة، وروافده ذهبًا..." (آ9-10). ثمَّ في آ11: "اخرجن يا بنات صهيون، وانظرن الملك سليمان بالتاج الذي توَّجته به أمُّه في يوم عرسه، في يوم فرح قلبه".

لا، الملك المثالي ليس سليمان الذي نعرفه في التاريخ. فهذا أدَّبه الربُّ كما يؤدَّب البشر (2صم 7: 14). وخسر "لطف" الله ورحمته. لا، هذا ليس الزوج المثاليّ، ولا العريس المثاليِّ، ولا الحبيب المثاليّ. فينبغي أن ننظر إلى أبعد منه ومن كلِّ إنسان. وهكذا نصل إلى ابن الإنسان يسوع المسيح. فهو الذي تستطيع العروس أن تنشده: "في الليالي، على فراشي أطلبُ من يحبُّه قلبي، أطلبه فلا أجده" (3: 1-2).

نادت العروس عريسها لكي يعود، ولكنَّه ذهب وكأنَّه لم يسمع صوت ندائها. فذهبت تطلبه، تبحث عنه. راحت في الليل تجوب الشوارع مثل امرأة يائسة، مثل مغرمة مجنونة تبحث عن عريسها. أضاعته لأنَّها منشغلة بأمور عديدة، بينما المطلوب هو واحد (لو 10: 42). هنا تأوَّهت تريزيا الأفيليَّة: أشغالها كثيرة، ولا وقت لها تكرِّسه للتأمُّل ولكنَّ الربَّ ليس هنا. هو يختفي ويصمت. فتهتف: "آه، يا ربِّي! أما يكفيك أن تتركني في هذه الحياة التعيسة التي أحتملها حبًّا لك، فأقبل أن أعيشَ على الأرض حيث كلُّ شيء يمنعني من التمتُّع بك".

نشيد الأناشيد. كتاب ساحر، ولكنَّه في الوقت عينه محيِّر. حين أراد اليهود أن يجعلوه بين الأسفار القانونيَّة. وقع جدال كبير جدًّا. كيف يقبل تقليد المعلِّمين أن يُقرأ "درج النشيد" في عيد الفصح! قالوا: "علَّمنا معلِّمونا: من يُنشد مثل نشيد دنيويّ آية واحد من نشيد الأناشيد، يجتذب الشرَّ على العالم". وقال رابِّي عقيبة المتوفِّي سنة 135 ب.م.: "إذا ردَّد اثنان بصوت واحد نشيد الأناشيد خارج زمانه واعتبروه مثل غناء (عاديّ) لن يكون لهما نصيب في العالم الآتي".

نشيد الأناشيد نقرأه قراءة روحيَّة ورمزيَّة أو لا نقرأه. في العالم اليهوديّ، يدلُّ على حبِّ الله لشعبه. في العالم الأرثوذكسيّ والكاثوليكيّ، ينشد علاقة المسيح بالكنيسة، كما قال الرسول إلى أهل كورنتوس: "فأنا أغار عليكم غيرة الله، لأنِّي خطبتكم لرجل واحد وهو المسيح، لأقدِّمكم إليه عذراء طاهرة" (2 كو 11: 2). وما قاله الرسول لكنيسة محلِّيَّة في مدينة كورنتوس، يمكن أن يُقال للكنيسة الجامعة. وأنشد سفر الرؤيا نشيد الحمل فقال: "هللويا! المُلك للربِّ إلهنا القدير! لنفرح ونبتهج! ولنمجِّده لأنَّ عرس الحمل جاء وقتُه، وتزيَّنت عروسه، وأعطيَتْ أن تلبس الكتّان الأبيض الناصع" (19: 6-8).

هذه العروس التي كانت "سوداء" (1: 5) لأنَّها كانت عبدة، وتشتغل في حرِّ الشمس في الحقول، صارت بيضاء، كما قالت بعض المخطوطات اليونانيَّة (8: 5). هي "مشرقة كالصبح، جميلة كالغمر، بهيَّة كالشمس" (7: 10). ويصفها العريس: هي جميلة، هي حسناء (آ4) ويطيل الوصف فلا نعود نعرف إن كان شابٌّ ينشد فتاة، أو يسوع يُنشد كنيسته: "جميلة أنت، يا رفيقتي، جميلة أنت! عيناك حمامتان". ونتذكَّر في تقاليدنا كيف العروس تغطِّي وجهها، وحين يأتي العريس يَرفع الحجاب. ذاك ما يقول نش 4: 1: "من وراء حجابك". ويواصل "التغزُّل" بالعروس. شعرها أسود، أسنانها رائعة، شفتاها، فمها، خدُّها، عنقها، ثدياها. وينهي العريس وصفه: "جميلة كلُّك يا رفيقتي، وما فيك عيب، تعالَيْ معي من لبنان يا عروس، معي من لبنان" (آ8). هنا نصل إلى اللاهوت المريميّ الذي انطلق بقوَّة منذ القرن الثاني عشر مع القدِّيس برنار مثلاً وآخرين وآخرين في التقليد الفرنسيسكانيّ خصوصًا مع القدِّيس بوناونتورا (1221-1274). أمّا التقليد الإنجيليّ فيسير في خطِّ أوريجان ويتوقَّف عند العلاقة بين المسيح ونفس المؤمن.

ونعود إلى أوريجان الذي رأى تراتبيَّة في مختلف الأناشيد البيبليَّة. أمّا الآن فهو يقرأ الأسفار التي نُسبَتْ إلى سليمان: الأمثال، الجامعة وأخيرًا نشيد الأناشيد. هذا يأتي في الدرجة الثالثة، لا لأنَّه أقلُّ أهمِّيَّة، بل لأنَّه يتطلَّب استعدادًا وعمليَّة تطهير قبل الدخول في هذا العالم الروحيّ الرفيع. وما يلفت نظرنا هو أنَّ جميع مفسِّري الكتاب المقدَّس تبعوا خطَّ أوريجان:

"نحاول أوَّلاً فنبحث عن السبب، ساعة كنائس الله تقبَّلت ثلاثة كتب دوَّنها سليمان. سفر الأمثال وُضع كالأوَّل فيما بينها. والثاني هو الذي ندعوه سفر الجامعة. وسفر نشيد الأناشيد هو في المركز الثالث...

فهذا الكتاب يقوم في المكان الأخير لكي نأتي إليه بعد أن نتطهَّر في عاداتنا ونتعرَّف العلمَ وتمييز الأمور الفاسدة والحقائق اللافاسدة: لئلاَّ نتشكَّك أبدًا بهذه الصور التي بها يُصوَّر ويُرسَم حبُّ العروس لعريسها السماويّ، أي النفس الكاملة لكلمة الله. فبعد أن نتجاوز ما به تطهَّرت النفس بفضل أعمالها وعاداتها، وتُقاد إلى تمييز الأمور الطبيعيَّة، نصل بأهليَّة إلى الأمور التعليميَّة والموستيَّة ، وبحبٍّ صادق وروحيّ نرتفع إلى مشاهدة الله".

ويتواصل الكلامُ انطلاقًا من 2: 5-6: "أعينوني بعصير التفّاح، فأنا مريضة من الحبّ. ليت شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني". قال أوريجان: "إن كان أحدٌ في مكان ما أحرقَه هذا الحبُّ الأمين، حبُّ كلمة الله، إن كان أحد – كما يقول النبيّ – نال الجرح العذب و"السهم المختار" (إش 49: 2) إن كان أحد اخترقته نبلةُ علمه المحبوبة بحيث صار يتنهَّد شوقًا إليه، نهارًا وليلاً، بحيث لا يستطيع بعد أن يتكلَّم عن شيء آخر، بحيث لا يريد أن يسمع شيئًا آخر، بحيث لا يُسرُّ أن يرغب ويتمنَّى ويرجو آخر سواه، فهذه النفس تقول بحقّ: "أنا مجروحة من الحبّ".

*  *  *

وكما أوريجان، كذلك علَّمنا تيودوريه القورشيّ أحد معلِّمي أنطاكية في القرن الخامس فقال: نشيد الأناشيد كتاب روحيّ. فلا تتوقَّفوا على المستوى الغزليّ والشهوانيّ. وفي أيِّ حال، إذا تركنا الرموز والاستعارات في الكتاب المقدَّس، فنحن لن نفهم شيئًا من كلام الله.

"في رأيي، حين تقرأون هذا المؤلَّف وحين ترون مضمونه – العطور، القبلات، الفخذ، البطن، السرَّة، الخدَّان، التفّاح، الناردين، الزيت المعطِّر، المرّ وكلُّ شيء من هذا النوع – لأنَّ المهاجمين على نشيد الأناشيد جهلوا طرق التعبير الخاصَّة بالكتاب الإلهيّ، ما أرادوا أن يمضوا إلى عمق الأشياء ويتجاوزوا حجاب الحرف ليدركوا الروح في الداخل، وكما في مرآة أن يشاهدوا مجد الربِّ بوجه مكشوف. ولكن، لأنَّهم فهموا بشكل بشريّ (على مستوى اللحم والدم) هذه الكلمة، انجرُّوا إلى هذا التحقير. ولكن وجب عليهم أن يلاحظوا: أنَّ الكتاب الإلهيّ يقول في العهد القديم أمورًا كثيرة بشكل صُوَريّ. وأن يستعمل بعض الألفاظ ويدعونا لنفهم شيئًا آخر تحت غطائها".

بعد هذه النصيحة من تيودوريه القورشيّ، ننطلق لكي نتعرَّف إلى الغنى الذي يتضمَّنه نشيد الأناشيد على جميع المستويات. نشيد كلُّه حركة: لقاء بين الحبيب والحبيبة، ثمَّ انفصال، هي تبحث عن حبيبها، تجده، ثمَّ تضيِّعه. أما هذا الذي يحصل معنا في حياتنا الروحيَّة بحسب مقال القدِّيس أوغسطين: ما كنت طلبتَني، بحثتَ عنِّي لو لم تجدني. يبدأ النشيد بقبلة وينتهي بإشارة إلى هرب الحبيب. قال القدِّيس برنار: "ما أجمله كلام! يبدأ بقبلة، وجه ساحر في الكتاب المقدَّس، يُعدُّنا بلا تعب ويدفعنا لكي نتابع القراءة". وتأتي الأفعال: اجذبني، لنركض، تعالَ، ارجع... والأماكن: التلال، البرِّيَّة، لبنان. "هو صوت حبيبي. ها هو آتٍ طافرًا على الجبال، قافزًا على التلال" (2: 8). "من هذه الطالعة من البرِّيَّة؟" أمّا العريس فينشد: "لعين جنات وبئر مياه حيَّة نازلة من لبنان" (4: 15).

والصور... عيناك حمامتان. شعرك أسود مثل الماعز، أو: "كالسوسنة بين الأشواك، رفيقتي بين البنات". وإذ يصف العريس عروسه، يجعل صورة تجاه كلِّ عضو من جسمها: الشفتان مثل سلك القرمز. الخدَّان مثل فلقتَيْ رمّان. العنق مثل برج داود...

أغاني تُنشَد، ويرافقها الرقص ربَّما. لهذا تكلَّم الشرَّاح عن الوجه الغزليّ. أجل، انطلق الكتاب من الحبِّ بين الرجل والمرأة، ليصل إلى الحبِّ بين الله وشعبه، وبين الربِّ وكلِّ واحد منّا. أما هكذا فعل هوشع. انطلق من خبرته مع زوجته، وإن كانت فاشلة، ليتحدَّث عن خبرة الله مع شعبه، التي فشلَتْ مرَّات عديدة. وهي لا تزال تفشل مع كنيسته العارفة بأنَّها تضمُّ في حضنها الأبرار والخطأة، وبأنَّه لا يحقُّ لها أن تجمع الزؤان قبل نهاية العالم (مت 13: 49).

لا بأس أن نقرأ هذه المقاطع الحلوة من الوجهة السيكولوجيَّة، أو على مستوى العلاقة بين الزوج وزوجته. لا بأس أن نكتشف جمال الشعر الذي يُنشَد في آذان من يفهمه، بحيث لا ترى الجواهر تحت أقدام الخنازير (مت 7: 6). فالنتيجة تكون عكس ما توخَّينا وتعود الخنازير علينا.

ولكن هل نتوقَّف عند الصور وننسى الحقيقة التي يريد أن يوصلها الكتاب إلينا؟ عندئذٍ نشبه الولد الذي ندلُّه على القمر، فلا يرى سوى إصبعنا. وهل نضع تفكيرنا المسبق فوق النصِّ الكتابيّ فنلوِّنه بعيوننا، ونكتشف فيه لا معناه العميق، بل المعنى الذي وضعناه نحن فيه. هنا نفهم أهمِّيَّة معرفة الذات لكي نعرف الله، على ما قال القدِّيس أوغسطين: "أعطني أن أعرف نفسي، أعطني أن أعرفك". فعلى النفس المؤمنة أن تعرف ذاتها وتمارس التمييز إذا أرادت أن تبلغ إلى معرفة كلمة الله (يسوع) وإلى الحياة. "حين يكلِّم المسيح عروسه، أي نفوس المؤمنين، فهو يجعل جوهر الخلاص والسعادة في العلم ومعرفة الذات. فكيف تعرف النفس ذاتها؟... على النفس أن تقتني معرفة ذاتها بنوعين: ما هي في ذاتها، وكيف تتحرَّك. أي ماذا تملك في جوهرها وفي استعداداتها. فينبغي مثلاً أن تفهم إن كان عندها استعدادٌ صالح أم استعداد رديء، وإن كان عندها نيَّة مستقيمة أم لا. وإذا كانت نيَّتها مستقيمة، وامتلكت ذات الثبات من أجل جميع الفضائل، لكي تفهم ولكي تعمل، أو فقط من أجل ما هو ضروريّ وما هو سهل. وإن اعتبرَتْ أنَّها قادرة على النموِّ والتقدُّم في فهم الأشياء وزيادة الفضائل، أو أن تتوقَّف وتبقى حيث استطاعت أن تصل. وإذا كانت قادرة فقط أن تعمل لنفسها أو أيضًا أن تكون مفيدة للآخرين فتحمل لهم بعض الفائدة، إمّا بكلمة التعليم وإمّا بمثال أعمالها".

وننهي كلامنا تحت عنوان واحد: الحبُّ الجسديّ والحبُّ الروحيّ وهما واحد. الحبُّ البشريّ والحبُّ الإلهيّ هما واحد. وكلُّ حبٍّ بشريّ مهما كانت درجته عميقة أو سطحيَّة، فهو ينبع من الله ويقود إلى الله. وإن كان ناقصًا فالربُّ يكمِّله. نأخذ مثلاً أوَّلاً من "الزهار" أو الكتاب البهاء" الذي وصل إلينا من العالم اليهوديّ: "اخرج وانظر. عروس مريضة من الحبِّ لترى عريسها، حين تلمحه. فالحبُّ الذي تشعر به نحوه يتَّخذ اندفاعًا فتبدأ بمديحه. إن هو لم يُرد هذا المديح، يُصمت اندفاع الحبِّ الذي بدأتْ به. ولكن كيف يستطيع السكون قلبها وإرادتها؟" والقدِّيس يوحنّا الصليب (1542-1591) يشرح كلام العريس: "ارجعي، أيَّتها الحمامة، فهو الظبيّ المجروح يظهر على القمَّة بأشجارها، ونسيم طيرانك يجعله يشعر بالبرودة". ويشرح يوحنّا الصليب: "وسط الرغبات الحارقة واشتعال الحبِّ التي عرضَتْها النفس في المقاطع السابقة، يزور الحبيبُ بعض المرَّات عروسه بحنان عفيف وعذب، كما بقوَّة حبٍّ كبيرة. عادة تتجاوب اشتعالات الحبِّ وضيقه السابق بدرجة واحدة مع عطايا يمنحها الله في زياراته هذه. تمنَّت النفس بحرارة أن ترى عيني عريسها الإلهيَّتين. فتجاوب الحبيب مع تنهُّداتها وكشف لها بعض عظمته، بعض شعاعات من ألوهته. والعريس يشبِّه نفسه هنا بالظبي. ما يتميَّز به الظبي هو أنَّه يقف في المواضع المرتفعة، وأن يرمي نفسه، إن جُرح، في برودة الأمواه. فإن هو سمع الظبية تبكي ويفهم أنَّها مجروحة، يسرع بقربها ويلاطفها بحنان. هذا ما يفعله الآن العريس. حين يرى عروسه التي جرحها الحبُّ ويسمعها تبكي. يركض إليها بعد أن جُرح هو نفسه جُرحَ الحبّ. فبين الحبيبين، الجرح مشترك ومشترك أيضًا الوجع الذي ينتجه. فكأنَّه يقول: "عودي إليَّ، يا عروسي. إن كان جرحك حبِّي، فأنا جُرحتُ بجرحك فأركض إليك بسرعة مثل الظبي".

الخاتمة

تلك هي قراءتنا لنشيد الأناشيد. انطلقنا من الحبِّ الإلهيّ فوصلنا إلى الحبِّ البشريّ. وكان بالإمكان أن ننطلق من الحبِّ البشريّ فنصل إلى الحبِّ الإلهيّ، على ما فعل هوشع النبيّ: "أتزوَّجك إلى الأبد". ولكن كيف فهم النبيُّ هذا الحبّ؟ انطلاقًا من خبرته، بعد أن نقَّاها من أيِّ عنصر بشريّ، فارتفع حبُّه إلى حبِّ الله، حين غفر لزوجته واستعادها مع أنَّها خانته. مثل هذا الكتاب يُقرأ على مهل، ونتوقَّف عند كلِّ كلمة. فهو خلاصة الكتاب المقدَّس كلِّه، لاسيَّما حين نعرف أنَّ الله محبَّة، وأنَّ كلَّ مشروعه هو مشروع محبَّة. ولكن كيف السبيل إلى الفهم؟ عدنا إلى النفوس الروحيَّة، العميقة، وهكذا تجنَّبنا التوقُّف عند القشور. فالشعر لا يُقرأ كما النثر، والواقع يضيء عليه الرمز فيمنعنا أن نقرأ الحرف ونتوقَّف عنده فنموت. نحن نقرأ الكتب المقدَّسة وخصوصًا نشيد الأناشيد قراءة روحيَّة. عندئذٍ نفهم أنَّ الله يُقيم وسط شعبه، كما الكيل وسط أرض فلسطين، وما يُقال عن العريس نفهمه "حضورًا حسِّيًّا" لله. فحين تقول العروس عن عريسها "ساقاه عمودا رخام"، فهي لا تتكلَّم عن شابٍّ من الشباب، بل عن العمودين اللذين كانا عند مدخل الهيكل ولكلِّ واحد اسمه: ياكين، بوعز (2أخ 3: 17). في هذا المناخ ندخل لكي نقرأ نشيد الأناشيد، والويل لنا إن قرأناه قراءة عاديَّة. فحتّى الحبُّ البشريّ الذي جعله الربُّ في قلب العريس والعروس ليس بالحبِّ العاديّ. لهذا يهتف نشيد الأناشيد: الحبُّ قويّ كالموت. بل هو أقوى من الموت، لأنَّ كلَّ شيء يزول، حتّى الإيمان والرجاء، ولا يبقى في النهاية سوى المحبَّة (1 كو 13: 13)، لا يبقى سوى الله.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM