الفصل التاسع:قراءة ثانية لمسيرة الشعب، تثنية الاشتراع

(الرعيَّة، حزيران 2012)

تثنية الاشتراع

قراءة ثانية لمسيرة الشعب

الخوري بولس الفغالي

عندما نقرأ سفر التثنية واسمه اليونانيّ معه Deutéronome الشريعة الثانية، نتساءل هل هذا هو كلام الله وكتابته انتهت بعد العودة من المنفى سنة 538 ق.م.؟ في مفهوم العديدين في شرقنا ليس هو كلام الله، لأنَّه لم يخرج من فم الله، وكأنَّ لله فمًا مثل أفواهنا. عندما نقرأ سفر التثنية الذي دُعيَ السفر الخامس من أسفار موسى، ونعرف أنَّ موسى لم يكتب منه كلمة واحدة ولا هو عرف به، يتساءل الأصوليُّون: أما هو موسى الذي كتب الأسفار الخمسة؟ وذلك على ما قال لي أحدهم: من كتب سفر التكوين؟ إذا لم يكن موسى فليس هو كلام الله. عندما نقرأ سفر التثنية نتساءل: لماذا هذا الكتاب الذي يكرِّر ما سبقه؟ أتُرى نسخ الأسفار السابقة بمعنى أزالها وأبطلها فلم تعد ذات فائدة، بل في حكم الملغاة؟ ولماذا تلغي خبرةٌ روحيَّة خبرة أخرى سبقتها؟ أما يصحُّ أن يكون اللقاء مع الله متعدِّد الوجوه وإن هو انطلق من حدث أساسيّ؟ أمّا هنا فهو الخروج من مصر والمسيرة في البرِّيَّة وصولاً إلى جبل موآب، على مشارف الأرض المقدَّسة. فسَّر سفر الخروج هذه المسيرة مبرزًا أهمِّيَّة جبل سيناء حين اجتمع الآتون من مصر ليسمعوا الوصايا. وفسَّر سفر العدد المسيرة عينها مشدِّدًا على خطيئة الشعب. فبالرغم من كلِّ حسنات الله، ما زال يتذمَّر فكانت النتيجة أنَّ جميع الذين خرجوا من مصر ولبثوا يتطلَّعون إلى مصر ماتوا في البرِّيَّة، فما وصل منهم إلاَّ يشوع بن نون وهو من قبيلة أفرائيم، أحد أبناء يوسف، وكالب بن يفنَّة ابن القبائل الموآبيَّة الذي ارتبط بيهوذا. فحتّى موسى وهارون لبثا خارج الأرض التي وُعد بها إبراهيم لتكون أرض الإيمان والعبادة للإله الواحد. أمّا سفر التثنية فجاء مكمِّلاً لسفر اللاويِّين. هذا شدَّد على الممارسات الدينيَّة المنطلقة من عالم الكهنة. أمّا سفر التثنية فحمل تقاليد اللاويِّين الذين ارتبطوا بنشر الكلمة أكثر من تقدمة الذبائح، فانطلقوا من محبَّة الله "من كلِّ القلب ومن كلِّ النفس ومن كلِّ القوَّة" (6: 4) ليصلوا إلى القريب، بحيث اعتبر الشرَّاح سفر التثنية في العهد القديم، يقابل إنجيل يوحنّا في العهد الجديد لأنَّه يشدِّد على المحبَّة، ويقدِّم الشريعة القديمة في إطار من الحنان الأبويّ، حيث الكلام يصل إلى القلب مركز العاطفة والإرادة والعمل، ولا يتوقَّف عند الممارسة الخارجيَّة، حيث الواحد يخاف من جاره إن هو مسَّ شيئًا من الفرائض القديمة.

*  *  *

  1. سفر التثنية وموسى

بداية الكتاب مع موسى، والنهاية مع موسى. أمّا البداية فجاءت كما يلي: "هذا هو الكلام الذي كلَّم به موسى جميع إسرائيل، في عبر الأردنّ، في البرِّيَّة، في العربة، قبالة سوف بين فاران وتوفل ولابان وحصيروت وذي ذهب، أحد عشر يومًا من حوريب على طريق جبل سعير إلى قادش برنيع. ففي السنة الأربعين، في الشهر الحادي عشر في الأوَّل من الشهر كلَّم موسى بني إسرائيل حسب كلِّ ما أوصاه الربُّ إلههم" (1: 1-3).

تحديد المكان وتحديد الزمان. العربة أوَّلاً. تدلُّ أساسًا على سهل يكاد يكون الكلأ فيه معدومًا، حتّى في الشتاء. أمّا البرِّيَّة فتعطي عشبًا في زمن الشتاء. أين تقع العربة هذه؟ "قبالة سوف". فإن "ي م. س و ف" أو بحر البرديّ يقابل "البحر الأحمر". بعد العبور، نظر العبرانيُّون إلى الوراء فشاهدوا كيف وصلوا إلى هنا بالرغم من البحر أمامهم وجيش فرعون وراءهم. لا مجال بعد للحنين إلى مصر مع البطِّيخ واللحم والسمك وسائر المأكولات. ويحدِّد المكان أيضًا: "بين فاران وتوفل...". أمَّا فاران فمنطقة صحراويَّة واقعة إلى الشمال الشرقيّ من سيناء. نتذكَّر أنَّ إسماعيل هرب إلى هناك بحسب تك 21: 21. في هذه المنطقة واحة اسمها قادش برنيع. هي مدينة مقدَّسة إلى الجنوب من بئر سبع. ثمَّ تُذكر مواقع أخرى نجدها في سفر العدد، وكأنَّ كاتب التثنية يريد أن يضع حدًّا فاصلاً مع سفر العدد. أسلوب الكلام متبدِّل كلُّه.

المسيرة تمتدُّ على أحد عشر يومًا لعبور برِّيَّة سيناء. من حوريب (الخراب أو البرِّيَّة القاحلة) الذي يقابل سيناء في سفر الخروج. هناك تلقَّى موسى وحي اسم الله (خر 3: 1)، وإلى هناك مضى إيليّا لمّا هرب من وجه إيزابل (1 مل 19: 8). نقطة الانطلاق حوريب. ونقطة الوصول جبل سعير. هو إلى الجنوب من البحر الميت وإلى الغرب من العربة. إذا كانت المسافة أحد عشر يومًا، فلماذا وصل الشعب مع موسى بعد أربعين سنة؟ نتذكَّر أنَّ رقم أربعين يدلُّ على جيل كامل. هكذا فنيَ جيل مصر كلُّه، ولن يدخل إلى الأرض الموعود بها سوى جيل جديد، ذاك الذي وُلد في البرِّيَّة ولم يعرف انجذابات مصر.

وتحديد الزمان. هو بالنسبة إلى عبور البحر الأحمر، بداية جيل جديد. الشهر الحادي عشر يقابل شهر كانون الثاني في منطقنا الحديث، أي شهرين قبل الاحتفال بالفصح. فسفر التثنية رأى فيه بعض الشرّاح احتفالاً ليتورجيًّا شبيهًا بذاك الذي كان حول جبل سيناء. كلَّم الربُّ موسى وموسى كلَّم الشعب. وعلى جبل موآب سوف يسمع كلام الربّ، لا شخصٌ واحد، بل الجماعة كلُّها، لأنَّ الشعب ترك الخوف الذي غشيه على جبل سيناء، فقال لموسى: "تكلَّم أنت معنا فنسمع، ولا يتكلَّم الله معنا لئلاَّ نموت" (خر 20: 19). أما هنا فنقرأ: "الربُّ إلهنا كلَّمنا في حوريب" (تث 1: 6). كلَّمنا كلَّنا وما اكتفى بشخص واحد ولو كان موسى. وجاء الكلام في صيغة المخاطب الجمع (أنتم): "كفاكم قعود في هذا الجبل، تحوَّلوا وارتحلوا". ولكن بعد ذلك بقليل، ننتقل من صيغة المخاطب الجمع إلى صيغة المخاطب المفرد. فكلام الله لا يتوجَّه فقط إلى الجمع الكبير، إلى "الحشد"، وبقدر ما يكون هذا الحشد كبيرًا نعتبر أنَّ الإيمان صار حاضرًا! حاشا وكلاَّ. ففي سفر التثنية، كلام الله هو لي، لك، لكِ، لكلِّ واحد منّا بمفرده، وأنا أختار أن أسير في طريق الربِّ فتكون لي الحياة، أو أبتعد فتكون النهاية طريق الهلاك والموت. نقرأ في آ8: "انظر". أنتَ. أنت لا تسير في قافلة، ولا في قطيع، بل تجيب على نداء الله الذي يقول لك: انظر، افتح عينيك. اعرف حالك إلى أين أنت ماضٍ. وفي موضع آخر: "اسألْ عن الأيَّام الأولى التي كانت قبلك، عن اليوم الذي خلق فيه الله الإنسان على الأرض، من أقصى السماء إلى أقصاها..." (4: 32).

*  *  *

بداية سفر التثنية مع موسى الذي قدَّم لهم لوحة تاريخيَّة في قسمين. جاء القسم الأوَّل (1: 6-4: 44) بشكل إخباريّ، اعتاد اللاويُّون أن يروونه على الناس حين يأتون إلى العيد. والخاتمة: "هذه هي الشريعة التي وضعها موسى أمام بني إسرائيل" (4: 44). وبعد ذلك (4: 45-11: 32) يأتي إرشاد يحثُّ فيه "الواعظ" المؤمنين على حفظ الوصايا والفرائض، بدءًا بالوصايا العشر (5: 1ي) التي جاءت نسختها مختلفة عن نسخة سفر الخروج (ف 20). وتشكَّك "الأصوليُّون": هل يتكلَّم الله بشكلين أم بشكل واحد. فهو الإله الواحد وما يقوله يجب أن يبقى جامدًا لا يتحرَّك. لا وألف لا. كلمة الله حيَّة لأنَّها تصدر عن الله الحيّ. وهي ليست في السماء بعيدة عنَّا، فنقول: "من يصعد لأجلنا إلى السماء ويأخذها لنا ويسمعنا إيَّاها لنعمل بها" (30: 12). ألا يتكلَّم الله في اللغة العبريَّة، في اللغة اليونانيَّة، في اللغة السريانيَّة، في اللغة العربيَّة؟ قال السريان: الله تكلَّم في الجنَّة مع آدم في اللغة السريانيَّة. ورأى المعلِّمون اليهود أنَّ الله لا يتكلَّم إلاَّ العبريَّة. وهكذا كلُّ ترجمة تشوِّه كلام الله. اجتهِدوا كلُّكم وتعلَّموا العبريَّة وإلاَّ فأنتم خارج الجنَّة! أمّا بولس الرسول فنسف هذه المقولة حيث "المختون" أعظم من "اللامختون"، فاللغة اليونانيَّة تساوي اللغة العبريَّة في القداسة وتتجاوزها في أمور عديدة.

إلى متى نقبل أن يكون سقراط وأفلاطون وأرسطو تعلَّموا الفلسفة من موسى؟ إلى متى ننغلق على ذواتنا ونرى في كتبنا المقدَّسة كلَّ العلوم، حتّى ما يتعلَّق بالذرَّة؟ كانت خبرة خاطئة عرفتها المسيحيَّة ولكنَّها تخلَّصت منها، والحمد لله. وفي أيِّ حال، تتغلَّب تقاليد الآباء على كلام الله، كما قال الربُّ للكتبة والفرِّيسيِّين (مت 15: 1-2). وأعطى مثلاً: "الوصيَّة تقول: أكرم أباك وأمَّك". ولكنَّكم تدورون حول الوصيَّة بحيث تمنعون كلَّ مساعدة عن الوالدين خلال الشيخوخة. والنتيجة كلام إشعيا الذي أورده الإنجيل: "هذا الشعب يكرِّمني بشفتيه وأمّا قلبه فبعيد عنِّي. باطلاً يعبدونني وهم يعلِّمون تعاليم هي وصايا الناس" (مت 15: 8-9).

أتعرفون كم صارت الوصايا العشر عند اليهود؟ 613 وصيَّة. أيُّ مؤمن يستطيع أن يعرفها ويمارسها، لاسيَّما وأنَّهم يقولون: "من سقط في واحدة منها سقط فيها كلَّها". وهكذا صارت الشريعة حملاً ثقيلاً ونيرًا يشبه نير البقر فيقتل الإنسان بدلاً من أن يحييه. أمّا يسوع فقال: "نيري ليِّن وحملي خفيف" (مت 11: 30). هكذا تكون الراحة لنفوسكم: وجمع كلَّ "الفرائض" في وصيَّة المحبَّة: محبَّة الله ومحبَّة القريب. لا تحديد وكأنَّ الناس قاصرون ولا يعرفون أن يتصرَّفوا. فيجب أن يأتيهم صوت من السماء أو رؤيا أو انخطاف. وكأنَّ كلَّ شيء يأتي من فوق، فيبقى على الإنسان أن يخضع، أن يستسلم، أن يلصق جبينه في الأرض، فيبدو الله مثل فرعون، نقبِّل الأرض سبع مرَّات قبل أن نصل إلى قدميه!!

قال سفر التثنية للمؤمن: "الكلمة قريبة منك جدًّا. في فمك وفي قلبك للعمل بها" (30: 14). هي في فمي أقولها، أردِّدها. أطبعها في قلبي لأعمل بها. موسى مات من زمان بعيد، كلَّمه الله. أما يستطيع أن يكلِّم غيره؟ ولماذا يكرِّر نبيٌّ ما قاله نبيٌّ آخر؟ أليس عند الله سوى كلمة واحدة "جامدة" يحملها الواحد بعد الآخر، منذ آدم حتّى اليوم؟ كم نحن ضالُّون! كم نحن مخطئون؟ فالنبيّ إرميا تأثَّر بكلام التثنية، قال: "ها أيَّام تأتي، يقول الربّ، أجعل شريعتي في داخلهم، وأكتبها على قلوبهم... ولا يعلِّم واحد صاحبه، وكلُّ واحد أخاه، قائلاً: أعرف الربّ، لأنَّهم كلَّهم سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم..." (إر 31: 31-34).

*  *  *

بداية التثنية مع موسى، والنهاية مع موسى أيضًا، وما يُدهش عند قارئي الكتاب المقدَّس قراءة حرفيَّة هو توقُّفهم عند خبر موت موسى. يقولون: موسى كتب الأسفار الخمسة وبالتالي كتب خبر موته ودفنه. أجاب بعضهم: تنبَّأ على ذلك. أو: أراه الله موته قبل الوقت. فنقل أحرفًا عبريَّة آتية من السماء. ورأى بني إسرائيل يبكونه. وجاء من يصحِّح: هو كتب كلَّ شيء ما عدا خبر موته! وهكذا نختار ما كتبه موسى وما لم يكتبه. ما يرضي عقلنا نأخذه. وما يزعجنا نتركه. وهذا ما يحصل في عدد من الكتابات القديمة والحديثة الرافضة مثلاً أن يكون يسوع هو الكلمة وابن الله. قال يسوع: "أنا والآب واحد". هو كلام مجازيّ! حتّى على مستوى العمل: كيف نغفر هذا العدد من المرَّات؟

سوف نرى أنَّ موسى لم يكتب سفر التثنية، بل إنَّ هذا السفر امتدَّ على أجيال وأجيال. كان هناك تقليد، كانت نواة عادت إلى خبرة البرِّيَّة، فأعيدت قراءتها. وتوسَّع المؤمنون في شرحها لكي يطبِّقوها على وضعهم في مختلف تاريخهم. أمّا الكلام عن موت موسى ودفنه في مكان لا يعرفه أحد، فهو ردٌّ على الذين أرادوا أن يمضوا إلى حيث دُفن. "فمات موسى هناك عند الربّ. ودفنه في الوادي، في أرض موآب، مقابل بيت فغور، ولا يعرف إنسان قبره إلى يومنا" (34: 5-6). من دفنه؟ بنو إسرائيل. ولكنَّ البعض قال: "الربُّ دفنه بيده دلالة على كرامته. وراحت التقاليد اليهوديَّة تتحدَّث عن صراع مع الشيطان انتهى بانتصار الله ودفن موسى "في الوادي".

 

  1. كتابة سفر التثنية

انتهت عند العقلاء من زمان روايةٌ تقول: "فانصرف موسى ونزل من الجبل ولوحا الشهادة (أو: الوصايا) في يده. لوحان مكتوبان على جانبيهما. من هنا ومن هناك كانا مكتوبين. واللوحان هما صنعة الله. والكتابة كتابة الله منقوشة على اللوحين" (خر 32: 15-16). صار الله يعمل في الطين. ثمَّ هو كتب بيده، بإصبعه الوصايا. وفي أيِّ لغة؟ لا لغة مقدَّسة إلاَّ اللغة العبريَّة. لهذا رُفضت الكتب التي وصلت إلينا في اليونانيَّة مثل سفر الحكمة أو يشوع بن سيراخ وغيرهما. فالله يعرف لغة واحدة! وكلُّ شعب يعتبر أنَّ اللغة المقدَّسة لغته! كم يهزأ منّا الناس في القرن الحادي والعشرين. وينبغي خصوصًا أن يُكتَب كلُّ شيء في زمن موسى، وكلُّ ما يُكتب بعده هو "محرَّف". يعني: مال عن وجهته. لم يَعُد كلام الله، بل كلام البشر. وكلَّ مرَّة نريد أن نرفض كتابًا نقول إنَّه محرَّف. أمّا كتابنا فوحده حقيقيّ على مثال "إنجيل برنابا" الذي دُوِّن في القرن السادس عشر، في اللغة الإيطاليَّة وسمَّى نفسه "الإنجيل الحقيقيّ". أمّا الأناجيل الأربعة فهي محرَّفة. ومن هو برنابا هذا الذي كان أحد الاثني عشر؟ هو في خيال راهب ترك رهبنته وإيمانه، وكتب إنجيلاً حرَّف فيه الأناجيل الأربعة.

الحمد لله أنَّ ماني المبتدع انتبه إلى هذا الوضع حين عزم على تأسيس "كنيسة" فكتب جميع كتبه قبل وفاته. هكذا لا تحرَّف أقواله بعد مماته. ومثله الديانات الهنديَّة. وإلاَّ يصبح "الوحي" كتابًا بشريًّا. "أمّا "توراة موسى" التي تحدَّثت عن "لوحي حجر مكتوبين بإصبح الله" (خر 31: 18؛ تث 9: 10) فأحسَّت بالرمز الكامن وراء هذا الكلام للتشديد على حضور الله في الوصايا. لهذا عادت إلى الوراء وصحَّحت الأمور: موسى هو الذي كتب الوصايا. فبعد خبرة العجل الذهبيّ، قال الربُّ لموسى: "انحَتْ لك لوحين من حجر فأكتب أنا..." (خر 34: 1). في درجة أولى، صنع موسى نفسه اللوحين، لا الله. وقيل: الله سوف يكتب. ولكن بعد ذلك، "قال الربُّ لموسى: اكتب أنت هذه الكلمات..." (خر 34: 28).

لا. الله لا يكتب. بل يستعين بيد بشريَّة. والله لا يجعل أمام عيوننا كلامًا نقرأه كما نسمع في ظهورات عديدة اليوم وفي الماضي. كلُّ هذه الأمور تضلُّ الشعب وتمنعه من أن يفكِّر فيصبح مثل إناء متحرِّك ينفِّذ ما يُطلَب منه. أما هذا الذي يحصل اليوم في البدع الآتية من الغرب؟ ولكنَّ الصحيح أنَّ الله يجعل حقيقته في قلوب البشر وهم يكتبونها بلغتهم وبطريقتهم وبنفسيَّتهم. فالكتب المقدَّسة دوَّنها إنسان من الناس. وهي ما دُوِّنت مرَّة واحدة، بل كانت تغتني يومًا بعد يوم إلى أن وصلت إلينا في صيغتها النهائيَّة. ونأخذ مثلاً نعرفه جميعًا: مز 51 (50): "ارحمني يا الله". صلاة قالها أحد الخطأة التائبين. ربَّما يكون كاهنًا. ولكن جاء وقت أُحرق الهيكل ولم يبقَ موضع للذبائح، فأضيف: "لأنَّك لا تُسرُّ بالذبيحة. وإلاَّ كنتُ أقدِّمها. ولا ترضى بمحرقة. الذبائح لك يا الله هي الروح المنكسرة (التائبة، النادمة). فالقلب المنكسر والمنسحق لا ترذله يا الله" (آ18-19). إذًا، لا حاجة بعد إلى الذبائح. ولكن تبدَّلت الحالة بعد أن أُعيد المذبح وبُني الهيكل سنة 518 ق.م. فأضاف كاهن ثالث: "حينئذٍ تُسرُّ بالذبائح المفروضة (ذبائح الأبرار)، سواء كانت محرقة أو تقدمة تامَّة. فقال: "حينئذٍ يقدِّمون على مذبحك العجول" (وهي أفضل التقدمات وأغناها) (آ20-21). ولمّا ارتبطت المزامير بداود على أنَّه كاتبها وملحِّنها، وهو النبيّ مع أنَّه ليس بنبيّ، وُضعت مقدِّمة لا يعتبرها الشرَّاح من صلب المزمور: "مزمور لداود عندما جاء إليه ناتان النبيّ بعد أن دخل على بتشابع". هذا المزمور يعود إلى 2 صم 12 مع صرخة داود: "أخطأتُ إلى الربّ" فقال ناتان: "الربُّ نقل عنك خطيئتك" (آ13). عند ذلك فهم البعض معنى كلام مز 51: 16: "نجِّني من الدماء يا الله، أيُّها الإله، أيُّها الإله مخلِّصي". ووعد المؤمن بأنَّه سيخبر الناس بالخلاص الذي ناله، فقال: "فأعلِّم الأثمة طرقك، والخطأة إليك يرجعون" (آ15). ووجد الملك عذرًا له: "ها أنا في الإثم صُوِّرتُ (أو: ولدتُ) وبالخطيئة حبلت بي أمِّي" (آ7).

وتطلُّ الصرخة: أين هو كلام الله؟ أين هو الكتاب المقدَّس؟ ما هذا إلاَّ كلام بشريّ. لا شكّ. هو كلام بشريّ وكلام إلهيّ. والنصُّ الملهم هو الذي بين أيدينا اليوم. فالكتاب المقدَّس بعهديه القدِّيم والجديد، مختلف عن جميع الكتب المقدَّسة التي عرفتها الحضارات والأديان، وحتّى بعض الظهورات التي تطلُّ علينا بين الحين والآخر لم ينزل كلام من الله في لغة من اللغات، بل نزل ابن الله الكلمة حيث قال يوحنّا: "الله لم يره أحد قطّ. الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو أخبر عنه" (يو 1: 18). فالابن، الكلمة صار بشرًا وسكن بيننا (آ14). غير أنَّ هذا الابن لم يكتب كلمة واحدة. فكلُّ ما تركه بعض ما كتب بإصبعه على الرمل (يو 8: 6). من كتب؟ الرسل كتبوا كلامه في القلوب، وجاء بعضهم من دوَّن الأناجيل. المسافة بعيدة. يا ليت "برنابا" القريب جدًّا من يسوع، يُصحِّح لنا الأناجيل! وكمال الصليبي يمضي إلى الجزيرة العربيَّة وينبش لنا الإنجيل الأراميّ في أرض الجزيرة! أإلى هذه السفاهة وصل الفكر في العالم العربيّ؟ وهو تكرار وتكرار. وعلْك وعلْك. واندهاش أمِّيِّين ولو كانوا أساتذة في الجامعة. كذلك الرافض رأيي حول اللغة العبريَّة التي استعملها الصليبيّ. فسألته: هل تعرف العبريَّة؟ قال: لا. فأجبته: وما قيمة رأيك!

  1. تكوين سفر التثنية

في الأساس كانت مجموعة شرائع نقرأها في ف 12-25. هو برنامج ينطلق من تركيز كلِّ شيء حول شعائر العبادة، حيث لا يكون سوى معبد واحد: "تخرِّبون جميع الأماكن حيث عَبدَت الأممُ التي ترثونها، (عبدت) آلهتها على الجبال الشامخة، وعلى التلال، وتحت كلِّ شجرة خضراء..." (12: 2). ثمَّ "لا تفعلوا هكذا (أي كما يعبدون هم) للربِّ إلهكم، بل المكان الذي يختاره الربُّ إلهكم من جميع أسباطكم ليضع اسمه فيه، وليسكن فيه. إلى هناك تأتون" (آ4-5).

أمّا المكان الذي اختاره الربُّ فهو هيكل أورشليم. هي الحقبة الأخيرة. ولكن سبقتها حقبة كانت فيها شكيم المعبد الذي اختاره الله، وهذا ظاهر من دعوة يشوع من أجل تجديد العهد (يش 24)، ثمَّ معبد شيلو حيث كان عالي وصموئيل (1 صم 1-3).

وهكذا نفهم أنَّ الله لا يرتبط بمكان واحد، مهما كان هذا المقام مقدَّسًا. وحتّى أورشليم سوف يتركها الربُّ قبل أن تسقط بيد البابليِّين، ويقف عند الجبل الشرقيّ لكي يرافق الماضين إلى المنفى (حز 12). وعندما يعودون يعود معهم (حز 43: 1-2).

من حمل هذه النواة الاشتراعيَّة؟ اللاويُّون. كانوا مجموعة مارسوا الوظائف العباديَّة في معابد مملكة الشمال. وأتوا إلى أورشليم حين الزحف الأشوريّ سنة 734 ق.م. وما بعد. وخصوصًا بعد سقوط السامرة سنة 722. ضاعت هويَّة مملكة الشمال بعاصمتها السامرة. ولكنَّ التقاليد لبثت حيَّة واندمجت مع تقاليد الجنوب بعاصمته أورشليم. كلُّ ذلك حصل في زمن الملك حزقيّا (716-687) الذي قام بإصلاح عباديّ (2 مل 18: 4). فنال مديح الكاتب المتأثِّر بتثنية الاشتراع: "لم يكن مثله في جميع ملوك يهوذا ولا في الذين كانوا قبله" (آ5).

كان تفاعل بين اللاهوتيِّين الآتين من الشمال وبين الملك حزقيّا، الذي ساند البرنامج اللاهوتيّ حيث هُدمَت المعابد هنا وهناك بفعل الاجتياحات المتواصلة، فاجتمع كهنة هؤلاء المعابد في أورشليم التي بقي هيكلها وحده قائمًا ولم تصل إليه يد العدوّ. ولكن عاد الأشوريُّون إلى المنطقة وفرضوا سلطتهم الحربيَّة والاقتصاديَّة، كما فرضوا السلطة الدينيَّة مع الآلهة التي حملوها من بلادهم. عندئذٍ أُخفيَ ما جُمع، والذي كان اسمه الكودكس الاشتراعيّ، الذي سيظهر إلى الوجود سنة 622 في عهد الملك يوشيّا، الذي نال المديح الذي ناله حزقيّا (2 مل 24: 25).

عندئذٍ تكوَّنت المدرسة الاشتراعيَّة مع قراءة "النواة" لدى الكهنة، والاستماع إليها في البلاط الملكيّ. وكان تفاعل ثانٍ بين النشاط الأدبيّ والتاريخ السياسيّ، حيث "المجموعة الاشتراعيَّة" أثَّرت تأثيرًا كبيرًا في السياسة الملكيَّة. في هذا المناخ، عرف "سفر التثنية" نسخة جديدة أُضيف إليها الكثير ممّا يعكس الاختبارات الملموسة في هذه الحقبة. هنا أطلَّت الصلاة اليوميَّة التي يتلوها المؤمن: "اسمع يا إسرائيل، الربُّ إلهنا واحد، فتحبَّ الربَّ إلهك... ولتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك. وقُصَّها على أولادك، وتكلَّم بها حين تجلس في بيتك، وحين تمشي في الطريق وحين تنام وحين تقوم..." (6: 4-7).

والتزم المؤمن كما سبق الله والتزم. "اليوم (هذا) أمرك الربُّ إلهك أن تعمل بهذه الفرائض (أو: الشرائع) والأحكام (أو: الأعراف). فاحفظها واعمل بها من كلِّ قلبك ومن كلِّ نفسك (أو: كيانك). أنت وعدتَ الربَّ اليوم أن يكون هو لك إلهًا، وأن تسلك في طرقه، وتحفظ فرائضه (ما يفرض عليك من أجل نموِّك) ووصاياه وأحكامه، وتسمع لصوته (فهو يكلِّمك في أعماق قلبك) (26: 16-17).

*  *  *

ولكن مات الملك يوشيّا فجأة حين أراد أن يقف في وجه الملك المصريّ، نخو. توقَّف العمل الملكيّ ولكنَّ التقاليد الدينيَّة لبثت تفعل فعلها في النفوس مع تفاؤل رائع إلى أن حلَّت الكارثة بيد نبوخذ نصَّر، الملك العظيم، الذي وضع حدًّا لمملكة يهوذا ودمَّر العاصمة تدميرًا كاملاً، وسبى السكّان ولاسيَّما الطبقة الحاكمة، وطبقة الصنّاع، والطبقة الفكريَّة. ولكن ما أراد لاهوتيُّو التقليد الاشتراعيّ أن يروا في هذه الأحداث البرهان بأنَّ الله كان ضعيفًا فما استطاع أن يخلِّص الأمَّة ولا أن يحمي بيته، الهيكل. وخصوصًا رفضوا أن يميلوا بوجوههم إلى الآلهة البابليَّة التي بدت، في الظاهر، أقوى من الربِّ الإله، وشرحوا هذه الكارثة على أنَّها عقاب من الله ونتيجة الاستخفاف بشريعة الله ووصاياه.

تعرَّض اللاهوتيُّون لهذا الوضع المؤلم والدمار الجذريّ، فتحدَّوا الظروف وأعطوا معنى لكلِّ هذا التاريخ الذي وصل إلى نهايته. لا حاجة بعدُ إلى سلطة الملك من أجل القيام بالإصلاحات في البلاد. فالإصلاح يبدأ في قلب كلِّ واحد، كما في قلب الجماعة ككلّ. "وأوصى موسى وشيوخ إسرائيل الشعب قائلاً: "احفظوا جميع الوصايا التي أوصيكم بها اليوم" (27: 1). وتطلُّ البركات الموجَّهة إلى كلِّ واحد من المؤمنين سواء كان بعد في مملكة يهوذا وأورشليم، أو مضى إلى المنفى البابليّ: "وإن سمعت سمعًا (أو: حقًّا. هو تشديد) لصوت الربِّ إلهك لتحرص (لتسهر) أن تعمل بجميع وصاياه التي أنا أوصيك بها اليوم، يجعلك الربُّ إلهك مستعليًا (أو: فوق، متفوِّقًا) على جميع قبائل الأرض. وتأتي عليك جميع هذه البركات وتصل إليك" (كأنَّها شخص يأتي إلى لقائك). مباركًا تكون في المدينة. ومباركًا تكون في الحقل. مباركة تكون ثمرة بطنك وثمرة أرضك وثمرة بهائمك. نتاج بقرك وإناث غنمك. مباركتك تكون سلَّتك (حيث تقطف الخضر والفواكه) ومعجنك" (28: 1-5).

ولكن بما أنَّ النتيجة كانت عكس ذلك، فهذا يعني أنَّ الشعب رفض أوامر الله وعصى وصاياه. قال: "ولكن إن لم تسمع لصوت الربِّ إلهك لتحرص (لتسهر) أن تعمل بجميع وصاياه وفرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم، تأتي عليك جميع هذه اللعنات وتدركك" (آ15). تصل إليك، تهاجمك بحيث لا تستطيع أن تفلت منها. "يجعلك الربُّ منهزمًا أمام أعدائك... وتكون جثَّتك طعامًا لجميع طيور السماء ووحوش الأرض وليس من يزعجها" (آ25-26). "يسلَّم بنوك وبناتك لشعب آخر... ثمر أرضك وكلُّ تعبك يأكله شعب لا تعرفه" (آ22-23).

تلك صورة عمّا وصلتْ إليه البلاد حين أتى البابليُّون سنة 587-586. فمن يدافع عن المؤمنين؟ لا أحد. من يعيد الكرامة إلى الشعب؟ لا أحد. إذًا ماذا يبقي لنا؟ الكلمة التي هي العامل الحاسم في التاريخ، كلمة الله الفاعلة. انطلقت من حوريب جبل الكلمة، من حيث سمع الشعب صوت الربّ. "وجهًا لوجه تكلَّم الربُّ معنا في الجبل من وسط النار" (5: 4) التي ترمز إلى حضور الربِّ وسط شعبه. وفي آ22: "هذه الكلمات، كلَّم بها الربُّ كلَّ جماعتكم في الجبل، من وسط النار والسحاب والضباب (هكذا يغطَّى الله، لأنَّنا لا نستطيع أن نراه بوضوح على الأرض) وصوت عظيم ولم يزدْ شيئًا (هي قاعدة وُضعَتْ بشكل نهائيّ ولا يضاف شيء عليها). وكتبها على لوحين من حجر وأعطاني إيَّاها".

نواة أساسيَّة توسَّعت وترافقت مع حياة الشعب وقت الراحة ووقت الضيق. ولكن لا بدَّ من التوقُّف، لهذا جاء التنبيه يقول أكثر من مرَّة: "والآن يا إسرائيل، اسمع الفرائض والأحكام التي أنا أعلِّمكم لتعملوها، لكي تحيوا وتدخلوا الأرض التي يعطيكم الربُّ إله آبائكم" (4: 1). ويضيف حالاً: "لا تزيدوا على الكلام الذي أنا أوصيكم به ولا تنقِّصوا منه" (آ2). مثل هذا الكلام يعني التوقُّف عند حدٍّ من الحدود. وتتكرَّر العبارة في 12: 32: "كلُّ الكلام الذي أوصيكم به، احرصوا لتعملوه، لا تزيدوا عليه ولا تنقِّصوا منه". هذا هو الضروريّ. وهذا هو الكافي. هذا هو كتاب التثنية الذي دخل بين الأسفار الملهمة فشكَّل قانونًا وقاعدة للشعب العبرانيّ في مختلف مراحل تاريخه، كما يشكِّل لنا نحن أيضًا قاعدة، لأنَّ ما كُتب في الماضي كُتب لتعليمنا، كما قال الرسول (رو 15: 4). وهكذا حين نقرأ الكتب "يكون لنا رجاء".

*  *  *

"نحن الذين وصلنا إلى أواخر الدهور، جاء الكتاب لكي يُنذرنا وينبِّهنا" (1 كو 10: 11). وسفر التثنية بشكل خاصّ يكرِّر على مسامعنا: اليوم، هذا اليوم الذي نعيش فيه. قرابة سبعين مرَّة، من بداية الكتاب حتّى نهايته. "أنتم الملتصقون بالربِّ إلهكم، أنتم جميعكم أحياء اليوم" (4: 4). وفي آ8: "وأيُّ شعب عظيم له فرائض وأحكام عادلة مثل كلِّ هذه الشريعة التي أنا واضع أمامكم اليوم". هذا الكلام يتوجَّه إلى الذين تسلَّموا النصَّ الكتابيّ في زمن المسيح، كما في أيَّامنا. انتبهوا. لا تنسوا الأعمال التي رأيتم. ولكنِّي لم أكن معاصرًا لموسى. لا بأس. فالآن في الليتورجيّا تصبح معاصرًا له. وما حصل للشعب حصل لكلِّ واحد: نتعلَّم خوف الله ونعلِّمه لأولادنا (آ10). وفي آ20: "وأنتم أخذكم الربّ، وأخرجكم من كور الحديد، من مصر، لكي تكونوا له شعب ميراث كما في هذا اليوم".

إذا فسدتُم وفعلتم الشرَّ في عينيَّ (آ25)، أُشهد عليكم اليوم السماء والأرض أنَّكم تبيدون سريعًا". وعطيَّة الربِّ تصل إلينا "كما في هذا اليوم" (آ38) على مثال ما وصلت لآبائنا. وماذا عليك، عليَّ، أن نعمل؟ "فاعلمِ اليوم وردِّدْ في قلبك أنَّ الربَّ هو الإله في السماء من فوق، وعلى الأرض من أسفل. لا إله سواه" (آ39). وفي آ40: "واحفظ فرائضه ووصاياه التي أنا أوصيك بها اليوم...".

كلُّ هذا يقودنا إلى كلام المزمور: "اليوم إن أنتم سمعتم صوته، فلا تقسُّوا قلوبكم" (95: 7). وتكرَّر التنبيه في الرسالة إلى العبرانيِّين (3: 15). فإن لم تسمعوا كان العقاب كبيرًا. فهذا "اليوم الحاضر" كان في كلِّ مراحل تدوين سفر التثنية حتّى النسخة الأخيرة، بعد العودة من الجلاء. عندئذٍ فهموا عظمة الكلمة وما يمكن أن تفعل. ولهذا ردَّدها يسوع ثلاث مرَّات حين جرَّبه إبليس. مرَّة أولى قال له حين دعاه لكي يحوِّل الحجر إلى خبز: "كُتب، لا يحيا الإنسان بالخبز وحده، بل بكلِّ كلمة تخرج من فم الله" (لو 4: 4). ولمّا أراه إبليس "جميع ممالك المسكونة في لحظة" وطلب منه أن يسجد له، لا لله، أجاب يسوع :"للربِّ إلهك تسجد وإيَّاه وحده تعبد" (آ8). مرَّة أولى عاد الربُّ إلى تث 8: 3. ومرَّة ثانية إلى تث 6: 13. وفي المرَّة الثالثة، ردَّد الربُّ تث 6: 16: "لا تجرِّب الربَّ إلهك". أراد إبليس ليسوع أن يرمي نفسه من على جناح الهيكل (آ9). وهكذا ينال المجد البشريّ دون أن يمرَّ في الصليب. بكلمة الله قُهر إبليس ثلاث مرَّات ويمكن أن يُقهَر ثلاثين مرَّة. استند المنفيُّون في بابل إلى "كلمة الله" الفاعلة وعادوا إلى أرضهم وجمعوا كتبهم التي عمل فيها عزرا بشكل خاصّ. فالمسيرة مع الله لا يمكن أن تتوقَّف. وشعب الله يتابع المسيرة إلى وقت يجمع الله في شخص ابنه كلَّ ما في السماء وما على الأرض" (أف 1: 10).

الخاتمة

هذا هو سفر التثنية الذي قد يملُّ منه القارئ المسيحيّ وهو العارف أنَّ "غاية الشريعة هي المسيح" (رو 10: 4). ولكنَّ نصوصه وردت 55 مرَّة بشكل حرفيّ في العهد الجديد فحلَّت في الدرجة الثالثة بعد المزامير (107 مرَّات) ونبوءة إشعيا (104 مرَّات). وقرأه الأسيانيُّون فوُجد من بعدهم في مغاور قمران 25 لفيفة، فحلَّ في الدرجة الثانية بعد المزامير (31 لفيفة). ما سبب هذا الإقبال على كتاب لبثت الجماعة المؤمنة تقرأه وتتأمَّل فيه وتفسِّره سحابة سبع قرون من الزمن؟ لأنَّه يقدِّم التاريخ بشكل عظة والشرائع أيضًا. تكلَّم إلى القلب، فو يدعو الجماعة كلَّها حتَّى تتكاتف وتنطلق من جديد في نهاية السنة الأربعين، أي بعد أن زال جيل مصر وانطلق الجيل الذي سيدخل برفقة يشوع إلى أرض الموعد. وهو يدعو كلَّ واحد. فهذه الأقوال تقدِّم إلى المؤمن كلَّ يوم يقرأ هذه النصوص، لأنَّ كلَّ مرَّة ندخل في سفر التثنية يكون بالنسبة إلينا "اليوم" الذي نعيش فيه. فنحن معنيُّون بما قال الربُّ وما يقوله كلَّ يوم. فماذا ننتظر لنسمع صوته؟ والويل لنا إن قسَّينا قلوبنا؟ فكلمة الله قريبة منّا. وهذه الكلمة هي نور وحياة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM