الفصل الثامن: موت جيل وحياة جيل، سفر العدد

(الرعيَّة، تشرين الثاني 2011)

سفر العدد

موت جيل وحياة جيل

الخوري بولس الفغالي

قال أوريجان: يبدأ الإنسان في قراءة الكتاب المقدَّس. يفرح بالتكوين مع ما فيه من أخبار بعضها يستحقُّ علامة استفهام مثل علاقة لوط مع ابنتيه أو إبراهيم وساره في مصر وجرار. ويواصل القراءة في سفر الخروج إلى أن يبلغ إلى التعليمات من أجل بناء الخيمة وأغراضها. ويتماهل عند قراءة سفر اللاويِّين (أو الأحبار) ويتوقَّف عند سفر العدد. ولماذا يتوقَّف عند هذا السفر؟ بسبب الأعداد. إحصاء أوَّل في البداية: "وكلَّم الربُّ موسى: أحصوا كلَّ جماعة بني إسرائيل..." (1: 2). وإحصاء ثانٍ بعد أن مات جميع الذين خرجوا من مصر: "وكلَّم الربُّ موسى وألعازار (عظيم الكهنة الذي خلفَ هارون): "خذا عدد كلِّ جماعة بني إسرائيل" (26: 1). في ف 7 نحصي التقادم التي حملها الرؤساء من أجل المسكن، وكلُّ واحد باسمه. ثمَّ نتذكَّر زمن خدمة اللاويِّين: "من ابن ثلاثين سنة وصاعدًا إلى ابن خمسين سنة" (4: 3). ولمّا صار عددُ اللاويِّين قليلاً، تطوَّر القانون: "من ابن خمس وعشرين سنة فصاعدًا... ومن ابن خمسين سنة يرجعون من تلك الخدمة ولا يخدمون بعد" (8: 22-25). في 19: 12 نعرف عدد الأيَّام الضروريَّة ليكون الواحد طاهرًا. وفي ف 28 و29 يقال لنا عدد الحيوانات التي يجب أن تُذبَح في كلِّ عيد... من أجل هذا دعا أصحابُ الترجمة اليونانيَّة هذا الكتاب: سفر العدد. وسارت الترجمات في هذا الخطّ من لاتينيَّة وسريانيَّة وقبطيَّة وأرمنيَّة وجميع الترجمات الحديثة.

أمّا اسمه في العبريَّة فهو حسب اللفظ الأوَّل في النصّ: ب م و ب ر. "في برِّيَّة سيناء كلَّم الربُّ موسى في خيمة الاجتماع" أو خيمة اللقاء. هناك كان تابوت العهد رمز حضور الربِّ وسط شعبه. وهناك كان موسى يختلي بالربِّ ويسمع صوته، لا بشفتين، بل في أعماق قلبه. وحُدِّد التاريخ: "في أوَّل الشهر الثاني في السنة الثانية لخروجهم من أرض مصر" (1: 1). فالخروج حدث هامّ، بل أساسيّ في حياة الشعب، ومنه يبدأ حسابُ السنين. وفي الشهر الثاني، ممّا يعطي الوقت الاحتفال بالفصح في الشهر الرابع. نيزان الذي يقابل في حساباتنا: آذار – نيسان.

  1. تصميم الكتاب

نجد في سفر العدد عناصر متعدِّدة ومتفرِّقة بحيث لا يمكن أن نجعلها في إطار منطقيّ. فكأنِّي بالكاتب أراد أن يجمع كلَّ التقاليد التي لم تجد مكانها في سائر أسفار موسى، بحيث لا يضيع شيء من كلام الله. ويكفي أن نلقي نظرة لنرى تشعُّب المواضيع: إحصاء أوَّل (ف 1)، ترتيب المخيَّم (ف 2) حيث القبائل تحيط بخيمة الاجتماع. وضع اللاويِّين (ف 3). وهنا يحدِّد عملهم: لا يُحصَون مع الجنود، لأنَّهم لا يحاربون. بل يحملون تابوت العهد (فيه جرَّة المنّ علامة عناية الله، لوحا الوصايا، ملخَّص كلام الله، عصا هارون رمز الكهنوت)، ويكونون في خدمة الكهنة. ويتمُّ إحصاؤهم وتُعطى الفكرة الروحيَّة في شأنهم. "هم فدية عن أبناء شعبهم". ثمَّ نعود إلى وظائفهم (ف 4) قبل إحصاء العاملين في الوقت الحالي: "بأمر الربِّ وبقيادة موسى، عيِّنوا لكلِّ واحد ما يحمل (من أغراض المسكن)، لكلِّ واحد مهمَّته كما أمر الربُّ موسى" (4: 49). أمّا عدد هؤلاء العاملين فكان8580 رجلاً.

نبدأ هنا ونقول عن الأعداد في الكتاب المقدَّس. هي رمزيَّة لا حقيقيَّة. فإن عرفنا أنَّ الذين خرجوا من مصر كانوا ثلاث قبائل: يهوذا (دخل من الجنوب)، أفرائيم (قبيلة يوسف ويشوع) دخلوا من الشرق. وأخيرًا قبيلة لاوي، قبيلة موسى وهارون ومريم أختهما، نحسب أنَّ العدد لن يتجاوز ثلاثة أو أربعة آلاف مع النساء والأطفال. أيكون هذا الرقم هو عدد الكهنة حين دُوِّن سفر العدد في شكله النهائيّ؟ ربَّما. ونقول الشيء عينه عن الخارجين من مصر بقيادة موسى. هم (600,000) ستمئة ألف مقاتل! فالسائرون مع الربِّ أقوياء، يساوون ثلاثين مرَّة جيش مصر (أكبر دولة في المنطقة، في ذلك الزمان) الذي عُدَّ قرابة عشرين ألفًا من "خيل ومركبات وفرسان وجيش" (خر 14: 9). ومن انتصر على جيش فرعون؟ قدرة الله التي تحارب العالم الوثنيّ وتدعوه إلى التوبة. وما يلفت النظر هو الرقم الدقيق الذي يرد ثلاث مرَّات (خر 38: 26؛ عد 1: 46؛ 2: 32): 603,550 وهكذا تُعدُّ كلُّ قبيلة رقمًا كبيرًا بحسب أهمِّيَّتها بين القبائل، لا حين كانوا في البرِّيَّة، بل على مدِّ التاريخ وصولاً إلى الملكيَّة مع شاول وداود وسليمان... مثلاً قبيلة رأوبين 59,300. قبيلة جاد 45,650. يهوذا: 74,600. هي الأكبر لأنَّها قبيلة داود. نعود فنقول إنَّنا أمام أرقام رمزيَّة تشير إلى دور كلِّ قبيلة في الشعب العبرانيّ.

*  *  *

أمّا تصميم الكتاب حسب الشرّاح فيأتي في ثلاثة أقسام:

الأوَّل (ف 1-9). نهاية الإقامة في سيناء. هذا القسم يتوَّج بكلام عن السحابة فوق خيمة الاجتماع. نتذكَّر أنَّ السحابة تشير إلى حضور الله. هي التي كانت تظلِّل الشعب منذ عبور البحر وتفتح له الطريق (خر 13: 21). ترتفع السحابة عن الخيمة فينطلقون. وإذا لبثت السحابة قائمة فوق المسكن، لا يتحرَّكون (9: 20ي). والمعنى الروحيّ عبر الصور: "يأمر الربُّ فينصبون الخيام. يأمر الربُّ فينطلقون" (آ23). وكلُّ هذا بواسطة موسى الذي يحمل كلام الربّ. لا شيء من عندهم. فالمشروع مشروع الله. فإن رفضوا السير فيه، نالهم العقاب. ذاك ما حصل بعد أن عاد "الجواسيس" من الأرض وقالوا: "لا نقدر أن نصعد ونهاجم هؤلاء الشعوب فهم أقوى منّا" (13: 31). عندئذٍ قال الربُّ لموسى: "حتّى متى يُهينني هذا الشعب، وحتّى متى لا يصدِّقونني بجميع الآيات التي عملتُ في وسطهم؟ إنِّي أضربهم بالوباء وأبيدهم، وأصيِّرك شعبًا أكثر وأعظم منهم" (14: 11-12).

ما هو غضب الله؟ هو حزن على أولاده لأنَّهم لا يسمعون له. وذاك ما حصل في الواقع. الربُّ ما أبادهم، بل هم ارتموا في الحرب فماتوا. ما استشاروا الربّ، بل هجموا، دون أن يكون معهم تابوت العهد ولا موسى. ماذا كانت النتيجة؟ نزل بنو عماليق والكنعانيُّون الساكنون في ذلك الجبل وضربوهم وكسروهم" (14: 45).

وننظر إلى موسى. ما هي ردَّة فعله؟ هل يوافق الربَّ انتقامًا من الذين استعدُّوا أن يرجموه "لولا ظهور مجد الربّ" (14: 10)؟ كلاّ. بل هو يتوسَّل ويُقنع الربّ بمواصلة المسيرة: "ماذا يقول المصريُّون؟" أو أنت ضعيف! أو أنت إله شرِّير كما حسب الشعب: "ليتنا متنا في مصر... لماذا أتى بنا الربُّ إلى هذه الأرض؟" (آ2-3).

*  *  *

القسم الثاني (ف 10-25) المسيرة في البرِّيَّة. تنطلق الجماعة مدَّة أربعين سنة، تتيه وتتيه حتّى تصل إلى هضاب شرقيّ نهر الأردنّ، على حدود أرض موآب. هناك نتعرَّف إلى بلعام وتصرُّفه مع الماشين في البرِّيَّة بناء على طلب الملك بالاق.

جاءت أحداث بلعام في تقليدين. في الأوَّل، بلعام هو راء أراميّ أو أموريّ، يعبد الربَّ ومنه ينال إلهامه. ما قبل دعوة بالاق إلاَّ بعد أن سمح له الله بشكل صريح.

"فأتى الله إلى بلعام وقال: من هم هؤلاء الرجال الذين عندك؟" فقال بلعام لله: بالاق بن صفور ملك موآب الرسل... فقال الله لبلعام: "لا تذهب معهم:. فقال بلعام صباحًا وقال لرؤساء بالاق: "انطلقوا إلى أرضكم، لأنَّ الربَّ أبى أن يسمح لي بالذهاب معكم" (22: 9-13).

وفي التقليد الثاني، كان بلعام من بني مديان (31: 8). ما انتظر سماع الله، بل انطلق تجاوبًا مع نداء بالاق، فأوقفه الملاك في الطريق: "كشف الربُّ عن عيني بلعام، فرأى ملاك الربِّ واقفًا في الطريق وسيفه مسلول في يده، فخرَّ ساجدًا على وجهه إلى الأرض" (22: 31). وهنا يأتي خبر بشكل نكتة: انتبهت الأتان إلى وجود الملاك وبلعام لم ينتبه إلاَّ حين شاهد الخطر أمامه. وبعد ذلك قال له الملاك: "اذهب مع الرجال، وإنَّما تتكلَّم بالكلام الذي أكلِّمك به فقط" (آ35).

هكذا يكون النبيّ. هو مُرسَل من لدن الله. إذًا يقول ما يقوله الله. لا أكثر ولا أقلّ. إذا كان بلعام من خارج عابد الربّ مثل إيليّا وإشعيا وهوشع وإرميا؟! في هذا المجال نتذكَّر ميخا بن يملة الذي طلبوا منه أن يقول كلامًا يرضي الملك. فكان جوابه "حيٌّ هو الربّ! ما يقوله لي الربّ به أتكلَّم" (1 مل 22: 14). أمّا الأنبياء الكذبة وكانوا كثيرين حول الملك، لأنَّهم أنبياء الملك لا أنبياء الله، فكانوا يقولون لميخا: "كلام جميع الأنبياء بفم واحد، فليكن كلامك مثل كلام واحد منهم" (آ13).

أين مثل هؤلاء الأنبياء في أيَّامنا؟ يقولون ما يرضي الأغنياء والعظماء. وكلامهم هو واحد. يكرِّرون نفوسهم، ويكرِّرون ما يقوله زملاؤهم. كلُّهم صوت واحد. لا شخصيَّة للنبيّ بينهم! أمّا بلعام فيعلِّمهم. ومع أنَّ بالاق الملك ذبح الذبائح وأكل، ودفع المال، إلاَّ أنَّ بلعام "الوثنيّ" لم يقل إلاَّ ما كلَّمه به الربّ. لهذا غضب بالاق.

طلب الملك من بلعام أن يلعن. فأجاب: "كيف ألعنُ من لم يلعنه الله؟ وكيف أشتم من لم يشتمه الربّ؟" (23: 8). غضب بالاق عليه. "أنتَ باركتهم". نعم، يقول الكتاب: أنت تعلن والله يبارك! فاللعنة هي غياب البركة. وإن غيَّب الربُّ بركته عاد الإنسان إلى العدم. فبركة الله تجعلنا في الوجود. وتحيطنا بكلِّ خير ومحبَّة، كما الوالدون مع أولادهم. فمن يلعن أو يشتم ويحسب نفسه أنَّه يتكلَّم باسم الربّ فهو كاذب. لأنَّ من لعن صورة الله لعن الله. ومن شتم صورة الله شتم الله.

من المشرق، أرسل بلعام البركة بدل اللعنة. ومن المغرب؟ قال بلعام: "ليس الله إنسانًا فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم. هل يقول ولا يعمل؟ هل يتكلَّم ولا يفي؟ أُمرتُ بأن أبارك، فأنا أبارك" (كما في النصِّ اليونانيّ) (23: 19-20). لم يرضَ بالاق. وبدأ يساوم: "إن كنتَ لا تريد أن تلعن، فأقلَّه لا تبارك". فأجاب بلعام: "أما سبق وقلتُ لك: لا أفعل إلاَّ ما يقوله لي الربّ" (23: 25-26).

وتوالت المباركة من فم بلعام. في الحقيقة، هذا النبيّ لا يتراجع مهما أغدقَتْ عليه الوعود. "أما كلَّمتُ مرسلك: ولو أعطاني بالاق ملء بيته فضَّة وذهبًا لا أقدر أن أتجاوز قول الربِّ لأعمل خيرًا أو شرًّا من نفسي. ما يقوله الربُّ إيَّاه أقول" (24: 12-13).

لبث كلام بلعام على مستوى ضيِّق وكأنَّه يدعو كلَّ شعب وكلَّ رعيَّة وكلَّ جماعة إلى أن يكونوا بحسب قلب الربّ. فالله يحبُّنا لا لأنَّنا أبرار، بل لكي يجعلنا أبرارًا. وإن هو أتى إلينا فلأنَّه سبق وأحبَّنا قبل أن نحبَّه: "نحن ما (سبقنا) وأحببنا الله، بل هو الذي أحبَّنا وأرسل ابنه كفَّارة لخطايانا" (1 يو 4: 10). قال بولس الرسول في هذا المجال: "لمّا كنّا ضعفاء، مات المسيح من أجل الخاطئين... وقلَّما يموت أحد من أجل إنسان بارّ... ولكنَّ الله برهن عن محبَّته لنا ونحن بعدُ خاطئون" (رو 5: 6-8).

راح كلام بلعام إلى البعيد البعيد فوصل إلى المسيح. فبارك، امتدح الذين ينبغي أن يكونوا أبرارًا (23: 10). فيتميَّزوا عن سائر الشعوب. وفي المرَّة الرابعة: "وحي الذي يسمع كلام الله ويملك علم العليّ الذي يرى ما يريه القدير حين يُخطَف وتنفتح عيناه، أراه ولكن ليس الآن، أبصره ولكن لا عن قرب. يُبرز كوكبٌ من يعقوب ويقوم صولجان من إسرائيل..." (24: 16-17).

وهكذا وصل بلعام إلى أبعد من شعب يريد أن يحطِّم الأعداء. وصل إلى "الكوكب" الذي سوف يراه المجوس فيأتون يسجدون للطفل الإلهيّ: "رأينا نجمه في المشرق: (مت 2: 2). وهكذا وصل بلعام من دون أن يدري إلى من هو نور العالم. من يتبعه لا يمشي في الظلام (يو 8: 12).

*  *  *

القسم الثالث (ف 26-36). يبدأ بإحصاء جديد، ويتضمَّن بشكل خاصّ الترتيبات التي اتَّخذها موسى من أجل اقتسام الأرض. والهدف هو أن يكون لكلِّ شخص في القبيلة موطئ قدم في أرض الربّ. وهذا لا يكون أشخاص يمتلكون الأراضي الواسعة ساعة الأكثريَّة عبيد يشتغلون عند الأغنياء فلا يصل إليهم ما يقيتهم ويقيت عيالهم.

ما نلاحظ هو أنَّ الجيل الأوَّل، ذاك الذي خرج من مصر، ماتوا كلُّهم، وها هو جيل جديد يتوجَّه إلى أرض الموعد. "هؤلاء هم الذين عدَّهم موسى وإلعازار... وفي هؤلاء لم يكن إنسان من الذين عدَّهم موسى وهارون... في برِّيَّة سيناء. لأنَّ الربَّ قال لهم: إنَّهم يموتون في البرِّيَّة. وهكذا لم يبقَ منهم إلاَّ "كالب بن يفنة ويشوع بن نون" (26: 63-65). فهذان الاثنان تبعا الشعب وقد كانا بين الجواسيس: "الأرض التي مررنا فيها نتحسَّسُها جيِّدة جدًّا جدًّا. إن رضيَ الربُّ علينا يُدخلنا إلى هذه الأرض ويعطينا إيَّاها، أرضًا تفيض لبنًا وعسلاً. إنَّما لا تتمرَّدوا على الربِّ ولا تخافوا من شعب الأرض سيكون لقمة لنا. زال عنهم ظلُّ إلههم (أي خسروا الحماية) ساعة الربّ معنا. فلا تخافوهم.

راح جيل وجاء جيل جديد. أولئك الذين وُلدوا في البرِّيَّة، لا في مصر. لهذا وجب أن يكون لهم رئيس جديد، كما أعطي لهم كاهن جديد هو إلعازار بن هارون.

عرف موسى أنَّ نهايته صارت قريبة، فقال للربّ: "الربُّ الإله الذي بيده نسمة جميع البشر، ليوكِّل رجلاً على رأس الجماعة، فيخرج (من المدينة إلى القتال) ويدخل أمامهم (ظافرًا)، لئلاَّ تكون جماعة الربِّ كالغنم التي لا راعيَ لها" (27: 15-17).

صرنا في العهد الجديد مع كلام يسوع الذي كان يشوع صورة بعيدة منه. "وكان يسوع في جميع المدن والقرى... ولمّا رأى الجموع امتلأ قلبُه بالشفقة عليهم، لأنَّهم كانوا بائسين، مشتَّتين، مثل غنم لا راعي لها" (مت 9: 36). أمّا الراعي الحقيقيّ، فيشوع رمز إليه: "أنا هو الراعي الصالح، والراعي الصالح يضحِّي بحياته من أجل الخراف" (يو 10: 11). وفي آ14: "أنا الراعي الصالح، أعرف خرافي وخرافي تعرفني".

والكاهن الجديد هو إلعازار. وكلَّم الربُّ موسى: "خذ هارون وإلعازار ابنه، واصعد بهما إلى جبل هور، واخلع عن هارون ثيابه وألبسها لإلعازار ابنه، فيُخطف هارون ويموت هناك" (20: 25-26). نلاحظ أنَّ لفظ "هور" يعني الجبل. هكذا لا يعرف أحدٌ أين مات هارون وأين دُفن. وذاك سيكون وضع موسى. دُفن في أرض موآب (تث 34: 5-6). وقالت التقاليد: دفنه الربُّ بيده علامة الإكرام له. ولكنَّ أحدًا لا يعرف مكان قبره إلى هذا اليوم.

  1. وعد الربِّ يتحقَّق

ذكرنا لائحتين من الإحصاء. في الفصل الأوَّل وفي الفصل السادس والعشرين. واللائحتان تستلهمان بشكل مباشر اللائحة الكهنوتيَّة التي نقرأها في تك 35: "وكان بنو يعقوب اثني عشر: بتو ليئة: رأوبين بكر يعقوب، وشمعون ولاوي ويهوذا ويسّاكر وزبولون. وابنا راحيل: يوسف وبنيامين. وابنا بلهة جارية راحيل: دان ونفتالي. وابنا زلفة جارية ليئة: جاد وأشير" (آ22-26). ومهما يكن من أمر هذه اللوائح، حيث الأعداد مضخَّمة، إذ ستمئة ألف رجل تقيّ بين مليونين نفس وثلاثة ملايين، فالهدف هو التشديد على أنَّ وعد الله قد تحقَّق. هنا قال الله ليعقوب: "أنا الله القدير. أثمرْ وأكثر. أمَّة وجماعة أمم تكون منك. وملوك سيخرجون من صلبك" (تك 26: 11). وقبل ذلك قال الربُّ لإبراهيم: "أنا الله القدير، سِرْ أمامي وكُنْ كاملاً، فأجعل عهدي بيني وبينك، وأكثِّرك كثيرًا جدًّا... وأثمرك كثيرًا جدًّا، وأجعلك أممًا، وملوك منك يخرجون" (تك 17: 1-6).

هذا الوعد تمَّ عند الخروج من مصر. "نحو ستمئة ألف من المشاة، عدا الأولاد" (12: 38). ولكنَّ جيل البرِّيَّة نال العقاب فما بقي منه أحد. أتُرى الله أراد أن ينهي شعبه ويختتم مسيرة البرِّيَّة في هذه الرمال، فيكون هارون رمزًا إلى مشروع باء بالفشل؟ فقبل الإحصاء الثاني، جاء تمرُّد الشعب بعد تمرُّد، يحمل الموت البطيء إلى هؤلاء الذين اعتادوا على التذمُّر والتمرُّد المرَّة بعد المرَّة. فمنذ ف 11، جاء مطلع بشكل موجزًا للتمرُّدات الآتية: "استسلم الشعب يومًا إلى التذمُّر. فسمع الربُّ فحميَ غضبُه، فاشتعلت فيهم نار الربِّ وأضرمت طرف المحلَّة" (11: 1). هو تنبيه أوَّل. كما هو بداية الطريق إلى الموت. فالتذمُّر على الربِّ الذي هو نار آكلة. يقودنا شيئًا فشيئًا إلى الموت، مثل من يبتعد عن الينبوع. ويعطش ويعطش وفي النهاية يموت عطشًا.

وتتوالى الأزمات، ولكنَّ الكاتب ما أراد أن يحكم على الشعب كلِّه. هم فئة صغيرة غير راضية "اللفيف"، يعطي الغرباء الذين انضمّوا إلى القبائل الرعاع. هؤلاء اشتهوا شهوة وجلسوا يبكون وكأنَّهم لا يريدون متابعة الطريق: "من يعطينا لحمًا نأكله؟ تذكَّرنا السمك الذي كنّا نأكله في مصر مجَّانًا (أو يصطادونه، أو بسعر بخس)، والقثاء والبطِّيخ والكرّاث والبصل" (11: 4). والسبب: يبست أنفسنا لا نرى سوى المنّ. نتذكَّر أنَّ المنَّ هو عطيَّة الله. رفضوها بعد أن غاب عنهم البصل. إلى أيِّ مستوى نزل الشعب! فالبصل والكرّاث عطيَّة النيل، إله مصر، وعطيَّة الفرعون. ماذا يستطيع الله أن يعطينا في هذه البرِّيَّة؟

وتذمَّر هارون ومريم على موسى. أوَحده كلَّمه الربّ؟ وأصاب مريم البرص فأُبعدَت من الجماعة أسبوعًا كاملاً بانتظار أن تُشفى. والتذمُّر الكبير والرفض اللذين تحدَّثنا عنهما، الدخول إلى الأرض. خافوا من الصعوبات. اتَّكلوا على نفوسهم ونسوا الاتِّكال على الله. هنا يحدِّثنا آباء الكنيسة عن المعنى الروحيّ لهذه النصوص: موقفنا أمام التجارب، تصرَّفنا عند الألم والمرض، السير في طريق القداسة لا التوقُّف في منتصف الطريق.

قال الربّ: حتّى متى تُتعبني هذه الجماعة الشرِّيرة الذين يتذمَّرون عليَّ ولا يتوقَّفون. طلبوا أن يموتوا في البرِّيَّة، فليكن لهم ما يطلبون: "في هذا القفر تسقط جثثُكم". مَن؟ من ابن عشرين وصاعدًا. أي أولئك الذين خرجوا من مصر. هم "الشعب العنيف الذي لا يريد أن يتجدَّد. "أمّا أطفالكم فيعرفون الأرض التي احتقرتموها".

وعد الربُّ وهو يحقِّق وعده. ولكن مع الذين يقبلون عطاياه. فالذين يرفضونها يلبثون في الخارج. أولم الأبُ المحبُّ من أجل ابنه العائد إليه: الفرح، الأنوار، العجل المسمَّن، الطعام، الشراب. من دخل إلى الوليمة نعم بعطايا أبيه. أمّا الابن الأكبر "فغضب ورفض أن يدخل" (لو 15: 28) رغم توسُّلات أبيه. وهنا في برِّيَّة سيناء، أطال الربُّ روحه وأطال، غفر وغفر. أمّا هم فجلسوا في البرِّيَّة وما أرادوا أن يسيروا في موكب الله، تسبقهم الغمامة في النهار والنار في الليل. رفضوا، فليكن لهم ما أرادوا. سيبقون في الصحراء والبقاء هنا يعني الموت. رفضوا ينبوع المياه الحيَّة فيموتون عطشًا. أكلوا المنَّ في البرِّيَّة وشبعوا منه. بعد تكثير الأرغفة، قال اليهود ليسوع: "آباؤنا أكلوا المنَّ في البرِّيَّة" (يو 6: 31). أجل، أكلوا وماتوا (آ49). ولكن من يأكل هذا الخبز النازل من السماء، لا يموت. أنا هو الخبز الحيّ الذي نزل من السماء. من يأكل من هذا الخبز يحيا إلى الأبد" (آ50-51). وما قيل في زمن سفر العدد، قيل أمام معجزة يسوع: "لا تتذمَّروا فيما بينكم" (آ43).

وامتدَّ التذمُّر وامتدَّ فيموت كلَّ مرَّة بعضٌ منهم. إلى أن كانت الذروة في ف 25 حين وصلوا إلى فغور. "ابتدأ الشعب يزنون" (آ1). في المعنى المادّيّ في البغاء المكرَّس قرب المعابد الكنعانيَّة. وفي المعنى الرمزيّ: دعت بنات موآب الشعب إلى ذبائح آلهتهنَّ" (آ2). ويتواصل الوصف: "فأكل الشعب وسجدوا لآلهتهنَّ. وتعلَّق إسرائيل بالبعل الذي في فغور. ارتضى أن يجعل نفسه تحت نير البعل. وجاء العقاب المريع: "خذ جميع رؤساء الشعب وعلِّقهم (أو: اشنقهم) أمام الربِّ (أي قرب خيمة الاجتماع) قبالة الشمس". وهكذا يراهم الجميع ويتراجعوا عن شرِّهم. ثمَّ كان عقاب أروع: كلُّ واحد يقتل من قبيلته، من قومه، جاره، أخاه، كلَّ من تعلَّق ببعل فغور... نحن لا نفهم ما حصل في الحقيقة. ولكنَّ المعنى أنَّ الذين لبثوا عند البعل ماتوا عند البعل. كلُّ الجيل القديم انتهى رمزيًّا. بانتظار أن يموتوا في البرِّيَّة حيث يتيهون أربعين سنة: ماتت مريم ثمَّ هارون... وفي النهاية مات موسى على هضاب موآب. رأى الأرض المقدَّسة من بعيد ولكنَّه لم يدخل إليها. كرَّم نفسه عند المياه، وما كرَّم الله. حسب أنَّه بقدرته، بعصاه، بيده، يستطيع أن يجري المعجزة وكأنَّ عمله قضيَّة سحريَّة. نسيَ أنَّ قدرته من عند الربّ، وأنَّ عصاه قضيب مثل كلِّ القضبان. ولكنَّها صارت قديرة حين صارت في يد الربّ. فالمنشار قطعة من حديد. وهو يفعل حين تمسكه اليد (إش 10: 15). وكذلك المنجل لا تحصد إذا جعلناها على الأرض. فإن أمسكها صاحبُها فعلَتْ. وموسى نسيَ أنَّ قدرته من الربِّ وأنَّ عصاه عصا الربّ. لهذا قال له الربّ ولأخيه هارون: "لأنَّك لم تؤمنا بي ولم تُظهرا قداستي (طمسا مدلول المعجزة فما رأى الشعب عظمة الله) أمام بني إسرائيل، لذلك أنتما لا تُدخلان هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتهم إيَّاها" (20: 12).

ولكن إن مات الكبار بسبب خطيئتهم – فما ذنب الصغار؟ إذا كان الآباء أكلوا الحصرم، فلماذا يضرس الأبناء؟ هذا لن يكون، كما قال الربُّ بفم حزقيال. لهذا كانت الانطلاقة الجديدة من أجل الحياة، مع إحصاء جديد. هؤلاء وحدهم الذين قبلوا عطيَّة الله، الذين استعدُّوا فاتَّخذوا لباس العرس (مت 22: 11)، الذين أشعلوا المصابيح مثل العذارى الحكيمات (مت 25: 1ي)، هؤلاء الذين فرحوا بأن ينضموا إلى كرم الربّ... هؤلاء وصلوا إلى أرض الموعد، بقيادة يشوع بن نون، فتنظَّمت لهم الأمور: كيف يحتفلون بالأعياد، كيف يقرِّبون التقادم، كيف يمارسون النذور... وكانت أوَّل معركة مع بني مديان. معركة رمزيَّة مع الرقم "ألف" فجنَّد الشعب اثني عشر ألفًا، يعني ألفًا من كلِّ قبيلة (31: 5) هذه المعركة فتحت أمامهم الطريق، فما تذمَّر أحد ولا رفض، وتذكَّروا المحطّات التي مرُّوا فيها، فكانت مناسبة لشكر الربِّ على عطاياه (ف 33). وكانت التعليمات الأخيرة.

وانتهى الكتاب: "هذه هي الوصايا والأحكام التي أوصى بها الربُّ إلى بني إسرائيل على يد موسى، في سهل موآب، على شاطئ الأردنّ، قبالة أريحا" (36: 13).

  1. من العهد القديم إلى العهد الجديد

لماذا نقرأ سفر العدد؟ لأنَّنا نستطيع أن نكتشف فيه مسيرة شعب من الشعوب مع الله، وبالتالي مسيرة جميع الشعوب والجماعات التي نعرف، بل الأفراد. نرفض الربّ فيغفر لنا ونعود فنغيظه ونتعلَّق بآلهة نلتقي بها هنا وهناك. قال الرسول: ما كُتب كُتب لأجلنا، "كُتب ليكون عبرة لنا نحن الذين انتهت إليهم أواخر الأزمنة" (1 كو 10: 11). أي تجسَّد المسيح وعاش بيننا ومات وقبر. ننظر إلى الشعب الأوَّل ونحكم عليه بسرعة. لهذا ينبِّهنا الرسول أيضًا: "من ظنَّ أنَّه واقف فليحذر السقوط" (آ12).

ونحن نقرأ سفر العدد لما فيه من مقابلات مع العهد الجديد. إذا كان المجمع الفاتيكانيّ قال لنا: العهد الجديد يجد جذوره في القديم، فهذا ينطبق هنا كلَّ الانطباق.

قال الربُّ في إنجيل يوحنّا: "وكما رفع موسى الحيَّة في البرِّيَّة، فكذلك يجب أن يُرفَع ابن الإنسان لينال كلُّ من يؤمن به الحياة الأبديَّة" (3: 14). رفعُ ابن الإنسان هو الصليب أوَّلاً، وهو من قال: "وأنا إذا ارتفعتُ جذبتُ إليَّ الناس أجمعين" (يو 12: 32). وعقَّب الإنجيليّ: "قال هذا مشيرًا إلى الميتة التي سيموتها" (آ33).

ولكن لماذا هذا التقابل بين موسى ويسوع، وكيف نفهمه؟ هنا نعود إلى سفر العدد: "فأرسل الربُّ على الشعب الحيّات المحرقة، فلدغت الشعب فمات قومٌ كثيرون من إسرائيل" (21: 6). هي الحيّات معروفة في البرِّيَّة. ولكنَّ الكتاب يعيد دومًا كلَّ شيء إلى الله. هو "عقابٌ" من لدن الله على شعب تذمَّر فقال: "كرهت أنفسنا الطعام السخيف" (آ5) أي المنّ. فأقرَّ الشعب بخطيئته وطلب أن يرفع الربُّ هذه الحيّات. عندئذٍ قال الربُّ لموسى: "اصنع لك حيَّة محرقة وضعها على راية (عالية)، فكلُّ من لُدغ ونظر إليها يحيا". فأطاع موسى وصنع "الحيَّة النحاسيَّة". ما يشفي المرض ليس هذا "الصنع البشريّ"، بل الإيمان. فالربُّ هو الذي يمنح شعبه وسيلة الشفاء هذه. ولكنَّ "الحيَّة النحاسيَّة" رمز بعيد إلى الصليب الذي يهب الحياة للعالم.

تحدَّثنا عن الإحصاء. أمّا معناه فإنَّ هؤلاء الناس هم خاصَّة الله، يخصُّونه، يحميهم، يدافع عنهم. ومن جهة ثانية يطلب منهم أن يكونوا له. ونفهم هنا خطيئة داود حين أراد أن يحصي الشعب وكأنَّ الناس ملك له يتصرَّف بهم كما يشاء (2 صم 24). كلُّ هذا يُعدُّنا لنقرأ سفر الرؤيا. أتُرى بعدُ موجودةً القبائل كما كانت في سفر العدد؟ قال الرائي: "سمعتُ أنَّ عدد المختومين مئة وأربعة وأربعين ألفًا من جميع عشائر بني إسرائيل: اثنا عشر ألفًا من عشيرة (أو: قبيلة) يهوذا، واثنا عشر ألفًا من عشيرة رأوبين..." (رؤ 7: 4ي). هؤلاء خُتموا "على جباههم" فصاروا لله. ومن يجسر أن يمسَّ من يخصُّون الله؟!

قالت الرسالة إلى العبرانيِّين: "وكان موسى أمينًا لبيت الله أجمع لكونه خادمًا يشهد على ما سيعلنه الله. أمّا المسيح، فهو أمين لبيت الله لكونه ابن الله" (3: 5-6). هذا ما يعود بنا أيضًا إلى سفر العدد: "وتكلَّمت مريم وهارون على موسى..." (12: 1). فدافع الربُّ عن موسى فقال: "إن كان منكم نبيّ للربّ، فبالرؤيا أكشف ذاتي له، في الحلم أكلِّمه. وأمّا عبدي موسى فليس هكذا، بل هو أمين في كلِّ بيتي. فمًا إلى فم وعيانًا أتكلَّم معه، لا بالألغاز، وشبه الربّ يعاين" (عد 12: 6-8).

ومع أنَّ موسى هو رفيع بهذا القدر، فهو صنعة الله، عبد الله، الخادم في البيت. أمّا يسوع فهو الابن. موسى هو الشاهد من بعيد لما سوف يفعله الربّ، هو الشاهد عن يسوع المسيح.

وتكلَّمنا عن نبوءة بلعام حول الكواكب والصولجان، وربطناها بمجيء المجوس ليسجدوا للطفل الإلهيّ. وعن المنِّ في البرِّيَّة، والماء وصولاً إلى الماء الحيّ. وننهي كلَّ هذا بما أورده بولس الرسول في معرض حديثه عن عبادة الأوثان: "فلا أريد أن تجهلوا أيُّها الإخوة، أنَّ آباءنا كانوا كلُّهم تحت السحابة، وكلُّهم عبروا البحر، وكلُّهم تعمَّدوا في السحابة وفي البحر، وكلُّهم أكلوا طعامًا روحيًّا واحدًا من صخرة روحيَّة ترافقهم، وهذه الصخرة هي المسيح. ومع ذلك، فما رضيَ الله عن أكثرهم. فسقطوا أمواتًا في الصحراء" (1 كو 10: 1-4).

هي مسيرة الشعب الأوَّل، بعد أن انطلقوا من مصر وتركوا وراءهم عبادة الأصنام، وتطلَّعوا باتِّجاه أرض الموعد من أجل عبادة الله الواحد. تعمَّدوا في موسى. غطسوا فيه كما يغطس المؤمن في الماء ليتعمَّد. أكلوا الطعام الروحيّ الذي وعدهم به بعد أن اكتفوا بالطعام المادّيّ. قال لليهود بعد تكثير الأرغفة: لا تعملوا للقوت الفاني، بل للطعام الباقي للحياة الأبديَّة" (يو 6: 27). وشربوا من ماء سوف تشرب منه السامريَّة عند بئر يعقوب (يو 4). فلا تعود تحتاج إلى الجرَّة ولا إلى الحبل. وقالت التقاليد اليهوديَّة إنَّ الصخر الذي خرج منه الماء (عد 20: 8) رافق العبرانيِّين حتّى وصلوا إلى أرض الموعد. إنَّ هو إلاَّ رمز إلى المسيح الذي يجعل "أنهار الماء الحيّ" تجري من قلب المؤمنين (يو 7: 38). والنتيجة أنَّه بالرغم من كلِّ هذه النعم، عادوا إلى عبادة الأصنام، إلى شهواتهم ورغباتهم، كما المؤمنون في كلِّ زمان ومكان، فقال الرسول: "ما رضي الله عن أكثرهم". ثمَّ أورد سفر العدد (14: 16): "فسقطوا أمواتًا في الصحراء".

تنبيه إلى الشعب الأوَّل، وتنبيه لنا نحن الشعب الثاني، تلاميذ يسوع المسيح: "حدث هذا كلُّه ليكون لنا مثلاً، فلا نشتهي الشرَّ مثلما اشتهوه هم ولا تعبدوا الأوثان (المال، الشهوات، "أبطال" هذه الأرض) مثلما عبد بعضهم. فالكتاب يقول: "جلس الشعب يأكل ويشرب ثمَّ قاموا يلهون" هنا عاد الرسول إلى ما فعله الشعب حالاً بعد خبرة سيناء حين عبدوا العجل الذي صنعه لهم هارون (هو عظيم الكهنة، وواجبه أن يقودهم إلى الله الواحد) في غياب موسى (خر 32: 6). ويعود الرسول إلى سفر العدد (25: 9) ولكنَّه لا يتكلَّم عن 24000 سقطوا، بل عن 23000: "ولا نستسلم إلى الزنى مثلما استسلم بعضهم فمات منهم ثلاثة وعشرون ألفًا في يوم واحد" (آ8). وتأتي خبرة الحيّات في وجهها السلبيّ (عد 21: 5-26)، ولا نجرِّب المسيح (أو: الربّ) مثلما جرَّبه بعضهم فأهلكتهم الحيّات" (آ9). وتأتي الخلاصة في عب 17: 6-15: "ولا تتذمَّروا أنتم مثلما تذمَّر بعضهم"، فأهلكهم ملاك الموت" (آ10)، أو رسول الموت الذي ذُكر في خر 12: 32. في إطار موت أبكار المصريِّين. هكذا يصل العهد القديم إلى كماله، ويستنير بنور العهد الجديد.

الخاتمة

قرأنا السفر الرابع من أسفار موسى الخمسة. عنوانه المعروف الذي انطلق من اليونانيَّة هو "العدد"، لأنَّ فيه عددًا من الإحصاءات. ولكنَّ هذا العنوان يبقى سطحيًّا. فالعنوان العبريّ يقول لنا إنَّ الشعب هو في "البرِّيَّة"، وسيبقى هناك كلُّ الذين خرجوا من مصر. تاهوا هناك أربعين سنة بعد أن تذمَّروا على الله ورفضوا السير معه خوفًا من الأخطار التي تخيَّلوها. صارت البرِّيَّة أرض الموت للذين ما لبثوا ينظرون إلى الوراء، إلى مصر والطعام الذي فيها ولو امتزج هذا الطعام بالعبوديَّة. ولكنَّها كانت أيضًا أرض ولادة جديدة للأطفال الذين انطلقوا منذ بداية حياتهم برفقة الربِّ الذي علَّمهم على جبل سيناء: "أنا هو الربُّ إلهك، لا يكن لك إله غيري. لا تصنعْ لك تمثالاً منحوتًا ولا صورة.. لا تسجد لها ولا تعبدها، لأنِّي أنا الربُّ إلهك إله غيور" (خر 20: 2-5). هؤلاء سوف يشكِّلون الشعب الذي يرضى الربُّ عنه فيوصله إلى مشارف موآب بانتظار أن يدخلهم يشوع إلى أرض الموعد بعد عبور الأردنّ.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM