الفصل السابع: كونوا قدِّيسين لأنِّي أنا قدُّوس

(المجلَّة الكهنوتيَّة، 2/2012)

كونوا قدِّيسين لأنِّي أنا قدُّوس

الخوري بولس الفغاليّ

تشكِّل هذه العبارة الذروة في سفر اللاويِّين: "كونوا قدِّيسين". انفصِلوا عن سائر الناس بأقوالكم وتصرُّفاتكم وحياتكم ولا تعيشوا بعد كما يعيش أبناء هذا الدهر، والسبب "لأنِّي أنا قدُّوس" (19: 2). لا تجمعوا الله مع البشر فتعطوه صورة إنسان كما في تماثيلكم. لا تعطوا لله عواطف بشريَّة، وإن أعطيتموه فاعرفوا ما تعني كلماتكم. فحين تقولون عنه إنَّه "غضب"، فغضبه ألم في قلبه لأنَّ شعبه لم يعرف ولأنَّ المؤمنين لا يفهمون عظم محبَّته. تقولون عنه: نزل ليرى، وصعد بعد أن رافق موسى. كلُّ هذه صور. فالله لا ينزل ولا يصعد كما يفعل الإنسان. فهو يلازم شعبه وكلَّ واحد منّا، ولا يمكن أن يهمل الخطأة مهما تمادوا في الخطيئة. فهو مستعدٌّ لأن ينطلق معهم كلَّ سنة وكأنَّ لا شيء كان من قبل. هو "يوم التكفير" أو "يوم كيبور" كما يمارسه اليهود في أيَّامنا. ففي هذا اليوم، تؤخذ خطايا الشعب إلى البرِّيَّة فلا يبقى منها أثر في الشعب. وبعد ذلك اليوم تستطيع الجماعة أن تعيش في رفقة الربّ. ولكنَّ الخطيئة تعود، والخيانات لا تتوقَّف، لهذا يتكرَّر "يوم كيبور" كلَّ سنة، ويعيَّد بين شهر أيلول وشهر تشرين الأوَّل. هذا العيد أشارت إليه الرسالة إلى العبرانيِّين فقالت: "ويقف الكاهن اليهوديُّ كلَّ يوم فيقوم بالخدمة ويقدِّم الذبائح نفسها مرَّات كثيرة، وهي لا تقدر أن تمحو الخطايا. وأمّا المسيح فقدَّم إلى الأبد ذبيحة واحدة كفَّارة للخطايا، ثمَّ جلس عن يمين الله" (عب 10: 11-12). لا حاجة بعد إلى ذبائح بعد ذبيحة المسيح، ولا كهنوت بعد كهنوت المسيح. ونقولها بشكل عابر: بعد دمار أورشليم وحريق الهيكل سنة 70ب.م. بيد الرومان، لم يَعُد من كهنة لدى الجماعات اليهوديَّة، ولا ذبائح. بل هناك معلِّمون وحكماء ورؤساء ينظِّمون أمور المجمع في مواضع إقامتهم.

*  *  *

وها نحن نتعرَّف إلى سفر اللاويِّين الذي هو الثالث بين أسفار موسى. اسمه في اللغة العبريَّة يرد في الكلمة الأولى "و ي ق ر ا"، ودعا. هذه العبارة تتكرَّر هنا سبعًا وثلاثين مرَّة مع اختلافات بسيطة. والهدف التشديد أنَّ ما في هذا السفر هو كلام الله لا كلام البشر. أمّا موسى، كليم الله، فهو من ينقل كلام الله بدون زيادة ولا نقصان.

منذ البداية نقرأ: "ودعا الربُّ موسى وكلَّمه... قائلاً: "كلِّمْ بني إسرائيل وقلْ لهم" (1: 1). وتأتي الشريعة حول المحرقة. وفي 4: 1: "وكلَّم الربُّ موسى قائلاً: كلِّمْ بني إسرائيل قائلاً: إذا أخطأتْ نفس في شيء..." لهذا السبب رفض العالم اليهوديّ الدراسات الحديثة التي تجعل تأليف سفر اللاويِّين يعود إلى ما بعد الجلاء. يقولون: هذا السفر قديم قدَم زمن موسى، وهو جزء لا يتجزَّأ من التوراة الموسويَّة. بل هو أقدم ما في التوراة ويحمل الشرائع التي تنظِّم تقديم الذبائح. وهكذا اعتبر التقليد اليهوديُّ أنَّ هذا الكتاب هو من عمل موسى، شأنه شأن سائر أسفار البنتاتوكس أو المجلَّدات الخمسة. وتبعه التقليد المسيحيُّ إلى العصور الحديثة حيث أتت الدراسات من أوروبّا فعرفت كيف تكوَّن سفر اللاويِّين على مدِّ العصور إلى أن أخذ شكله النهائيّ بعد العودة من المنفى، حين صارت السلطة في يد عظيم الكهنة الذي يمثِّل شعبه لدى الحكم الفارسيّ، وبعد ذلك لدى الشعوب التي ستحتلُّ أرض فلسطين.

من أجل هذا ارتبط سفر اللاويِّين "بالحبر الأعظم" أو رئيس الكهنة، فدُعيَ سفر الأحبار، كما قالت ترجمة الشدياق والترجمة اليسوعيَّة. وقال اليهود: "الكتاب اليدويّ للكهنة". وفي هذا الخطِّ دعته السريانيَّة البسيطة: "سفر الكهنة". ولمّا نُقل الكتاب إلى اليونانيَّة في الترجمة السبعينيَّة دُعيَ سفر اللاويِّين، لأنَّ لاوي أحد أبناء يعقوب، هو أبو الكهنة واللاويِّين على السواء. وهكذا سيطر الاسم في لغات العالم: سفر اللاويِّين.

سفر اللاويِّين هو أقلُّ سفر يُقرأ بين الأسفار المقدَّسة لدى المسيحيِّين. وبما أنَّ لا أخبار فيه، مثل سفر الخروج وسفر العدد، فهو غير محبوب. أمّا عند اليهود فمكانته مميَّزة. إنَّه الكتاب الأساسيّ لتكوين الشابِّ الذي يدرس التوراة وإن شابه سفرَ التثنية، حيث الأقسام التشريعيَّة أكبر من الأقسام الإخباريَّة، إلاَّ أنَّ هذا الأخير يجتذب القرَّاء بسبب حرارة لهجته واهتمامه بالتكلُّم إلى القلوب، بحيث شبَّهه البعض بإنجيل يوحنّا في العهد الجديد. أمّا سفر اللاويِّين فهو للوهلة الأولى ناشف، جاف، جفاف شرعة طقسيَّة وقانونيَّة، تهتمُّ بتنظيم موادَّ بدا العهد الجديد وكأنَّه جعلها جانبًا أو هو ألغاها كلِّيًّا، مثل الأمور حول الذبائح أو الأطعمة الطاهرة وغيرها من الأطعمة. فما بقي منها سوى ما تحدَّث عنه يعقوب، أخو الربّ، في مجمع أورشليم الذي انعقد حوالي سنة 50، وتحدَّث عن الختان. ماذا يحفظ المسيحيّ من شرائع سفر اللاويِّين؟ أربعة أمور: "أن تمتنعوا عمّا ذُبح للأوثان، وعن الدم، وعن المخنوق، وعن الزنى" (أع 15: 29). المنع الأوَّل يتعلَّق باللحوم الآتية من ذبائح الأوثان، والتي حذَّر منها بولس الرسول (1 كو 8-10؛ رج رؤ 2: 20). والمنع الثاني يتعلَّق باللحم الآتي من حيوانات مذبوحة بطريقة غير شرعيَّة في نظر ناموس موسى. والمنع الثالث يتعلَّق باللحم الذي لم يَسِل منه الدم كلِّيًّا (7: 10-16). والمنع الرابع يتعلَّق بالزواج الذي يخالف الشريعة (18: 6-18). هذا في الواقع يعيدنا تقريبًا إلى زمن نوح (تك 9: 3-7).

*  *  *

ومع ذلك، قيل إنَّ البيبليا لا تكون البيبليا إن غاب منها سفر اللاويِّين. ففيه نقرأ وصيَّة محبَّة القريب: "تحبُّ قريبك كنفسك" (19: 18). ومن يفرض ذلك؟ "أنا الربّ". لسنا هنا أمام مباركة: أحبُّ من يحبُّني فقط. الربُّ بالذات يفرض على القريب أن يحبَّ قريبه. ويُسأل: والبعيد؟ والجواب: أنا لا أستطيع أن أطاله. ولهذا كلُّ من اعتُبر أنَّه "يحبُّ البشريَّة" هو كاذب. ما هذا الكلام الفضفاض الذي لا يعني شيئًا.

هذه الوصيَّة استعادها الربُّ يسوع وجمعها مع وصيَّة آتية من سفر التثنية "الربُّ إلهنا ربٌّ واحد. فتحبُّ الربَّ إلهك من كلِّ قلبك ومن كلِّ نفسك ومن كلِّ قوَّتك" (تث 6: 4). ففي معرض أقواله، سُئل عن أعظم الوصايا، لأنَّ المشترع في زمن المسيح جعل الوصايا 613 وصيَّة، منها 365 مع "لا"، والباقي ما نستطيع أن نعمل. في الإيجابيّ، الإيمان بوجود الله. بوحدة الله (اسمع يا إسرائيل، تث 5). محبَّة الله. مخافة الله. رفع الصلوات إلى الله. التعلُّق به وطلب رفقة الملائكة... وهكذا نصل إلى 248 وصيَّة. من يستطيع أن يحفظ كلَّ هذا؟ لا أحد. والوصايا التي تنهي المؤمن: لا تؤمن بإله غير يهوه. لا تصنع، لا تصنع تمثالاً لك ولا لغيرك... لا تتعبَّد لمولخ الذي اعتادوا أن يذبحوا له الأطفال... ويمنع السهر وكلَّ معاهدة مع الشعوب الوثنيَّة... والتجديف وشهادة الزور... 365 وصيَّة.

ضاع الناس. سألوا يسوع: "يا معلِّم، أيَّة وصيَّة هي العظمى في الشريعة؟" فقال له يسوع: تحبُّ الربَّ وتحبُّ قريبك (مت 22: 36-37)... جمع يسوع الوصيَّتين في وصيَّة واحدة، كما جعل محبَّة القريب العلامة الحسِّيَّة لمحبَّة الله. ذاك ما قاله يوحنّا في رسالته الأولى: "إذا قال أحد: "أنا أحبُّ الله" وهو يكره أخاه كان كاذبًا، لأنَّ الذي لا يحبُّ أخاه وهو يراه، لا يقدر أن يحبَّ الله وهو لا يراه. فوصيَّة المسيح لنا هي: من أحبَّ الله أحبَّ أخاه أيضًا" (1 يو 4: 20-21).

وما اكتفى سفر اللاويِّين بأن يقدِّم الوصيَّة بشكل عامّ، بل قدَّم تطبيقات عديدة "لا تسرقوا، لا تكذبوا، لا يغدر الواحد بصاحبه" (19: 11). "لا تستغلّ قريبك ولا تسلبه. لا تبقى أجرة أجير عندك إلى الغد. لا تشتمُّ الأصمّ، لا تجعل معثرة قدَّام الأعمى، لا ترتكبوا جورًا في القضاء... لا تبغض أخاك في قلبك... لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك (آ15-18). ومع "لا" التي تمنع هناك وصيَّة وما أجملها: "وعندما تحصدون حصيد أرضكم، لا تحصد حقلك حتّى الزوايا، ولا تجمع لقاط حصيدك. وكرمك لا تقطف آخر خصلة فيه. بل اتركه للفقير وللغريب. أنا الربُّ إلهكم" (آ9-10). تلك وصيَّة محبَّة القريب التي تجد كمالها في العهد الجديد، حيث القريب هو كلُّ شخص أقترب منه ويقترب منِّي، فلا أضع لمحبَّتي حدود.

*  *  *

تحدَّث سفر اللاويِّين عن الذبائح، وامتدَّ حديثه على سبعة فصول (ف 1-7). فالذبيحة في الديانة اليهوديَّة وفي سائر الديانات، هي محاولة الدخول في علاقة وثيقة مع الله. هناك الذبيحة التي هي "منحة" مقدَّمة إلى الإله. وهناك الذبيحة التي تجعلنا "مشاركين" مع الله، متَّحدين به. وأخيرًا، هناك الذبيحة التي تتوخَّى "التكفير" عن الخطايا وطلب الغفران.

في أساس الذبائح، كانت فكرة آتية من العالم الوثنيّ تعتبر أنَّ الإله يأكل وبالتالي يحتاج إلى طعام. لهذا كانوا يقدِّمون "الدقيق" (الطحين) مع أمور أخرى: "وإذا قرَّب أحدٌ قربان تقدمة، يكون قربانه من دقيق ويسكب عليها زيتًا ويجعل عليها لبانًا (أو بخورًا. هو محفوظ للإله) ويأتي بها إلى بني هرون الكهنة" (2: 1-2). ويمكن أن تكون التقدمة ما خبز في التنُّور أو على الصاج (آ4-5)...

الذبيحة المحرقة "يأكلها" الإله كلَّها وحده. لأنَّ النار ترمز إلى الإله. ولا يعود منها شيء إلى مقدِّمها. وذبيحة السلامة هي التي يستعيدها مقدِّمها شبه كاملة ويأكلها مع الأهل والأقارب والفقير واللاويّ، فتوحِّد المؤمن مع الربّ حين يضع يده على رأس قربانه (3: 1)، كما يوحِّده مع الذين حوله، حين يكون بينهم "خبز وملح" يعودون إلى بيوتهم بعد أن تجدَّدوا ويأخذوا قوَّة من الله من أجل انطلاقة في الحياة. ويبقى الدم الذي يُرشُّ على المذبح هو العنصر الأساسيّ مع المبدأ المعروف: الدم هو الحياة. وقالت الرسالة إلى العبرانيِّين: "وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة" (9: 22).

أمّا مع المسيح فاتَّخذت الذبيحة منحى آخر. فأوردت عب 10: 4-7: "لأنَّ دم الثيران والتيوس لا يقدر أن يزيل الخطايا. لذلك قال المسيح عند دخوله العالم: "ما أردتَ ذبيحةً ولا قربانًا، لكنَّك هيَّأت لي جسدًا. لا بالمحرقات سُررتَ ولا بالذبائح كفَّارةً للخطايا. فقلت: "ها أنا آتٍ، يا الله، لأعمل بمشيئتك، كما هو مكتوب عنِّي في طيِّ الكتاب". فالمسيح في العشاء السرِّيّ حين قال: هذا جسدي، عنى: أنا بكلِّيَّتي لكم. وحين قال: هذا دمي، عنى: أنا الحيّ لكم. والمعنى التامّ: أنا بكلِّيَّتي الحيّ، القائم من الموت أتَّحد بكم وتتَّحدون بي.

*  *  *

"وكلَّم الربُّ موسى في جبل سيناء قائلاً: "كلِّمْ بني إسرائيل وقل لهم: متى أتيتم إلى الأرض التي أنا أعطيكم، تسبُتُ الأرض سبتًا للربِّ (أي: تحفظ راحة سبتيَّة للربّ). ستَّ سنين تزرع حقلك، وستَّ سنين تقضب (تزيل القضبان التي لا فائدة منها) كرمك وتجمع غلَّتهما. وأمّا السنة السابعة، ففيها يكون للأرض سبتٌ، سنة عطلة (وراحة) للربّ" (25: 1-3). ربَّما كانت تنظيمات زراعيَّة قديمة فيها ترتاح الأرض من أجل الغلاَّت اللاحقة. أمّا في العالم العبرانيّ، فكلُّ ما هو زراعيٌّ تحوَّل إلى مستوى روحيّ. لم يعد عيد الفصح فقط عيد قطاف الشعير، بل اتَّخذ معنى الخلاص من العبوديَّة، والانتقال برفقة الربِّ من الحياة القديمة إلى الحياة الجديدة، على ما تحدَّث الرسول، فقال: "حملُ فصحنا ذُبح وهو المسيح. فلنعيِّدْ إذًا، لا بالخميرة القديمة ولا بخميرة الشرِّ والفساد، بل بفطير النقاوة والحقّ" (1 كو 5: 7-8). وعيد الخمسين أو عيد حصاد القمح الذي صار في المسيحيَّة العنصرة، تحوَّل إلى عطيَّة الشريعة على جبل سيناء. وعيد القطاف أو المظالّ اتَّخذ معنى روحيًّا: فيه يتذكَّر المؤمنون يوم كانت مظلَّة الربِّ وخيمته وسط مظالِّ بني إسرائيل وخيامهم في البرِّيَّة. وهكذا نقول عن السنة السابعة أو السنة السبتيَّة. لا فلاحة ولا حصاد ولا قطاف. فتُترَك الغلَّة للمساكين كما في حز 23: 10-11: "ازرع أرضك واجمع غلَّتها ستَّ سنين. وفي السابعة، اتركْها بورًا، فيأكل منها بائسو شعبك. وما فضل عنهم يأكله وحش البرِّيَّة. وكذلك تفعل بكرمك وزيتونك". ثمَّ إنَّ هذه العطلة والراحة الإراديَّة تتيح للإنسان أن يعبِّر عن خضوعه لله وثقته به، كما تذكِّره أنَّه ليس "ماكنة" تصلح للإنتاج ولا شيء آخر.

يرتاح الإنسان يومًا في الأسبوع. يتوقَّف عن العمل في اليوم السابع. وكذا نقول عن السنة السابعة، حيث ترتاح الأرض ويرتاح الإنسان معها. فهي رفيقته في زمن النعمة وفي زمن الخطيئة. بعد أوَّل خطيئة ذكرها سفر التكوين. صارت الأرض ملعونة بسبب الإنسان (تك 3: 17). فما عاد فيها "كلُّ شجرة حسنة المنظر، طيِّبة المأكل" (تك 2: 9) "بل الشوك والعوسج وعشب الحقل (الذي هو في الأصل للحيوان) (تك 3: 18). وحين يعود الإنسان إلى الله تعود الخليقة التي "تنتظر بفارغ الصبر ظهور أبناء الله" (رو 8: 19).

*  *  *

من هنا معنى السنة السابعة. وأبعد من السنة السابعة، هناك سنة اليوبيل. فنقرأ في لا 25: 8ي: "وتَعُدُّ لك سبعة سبوت (أو: أسابيع) من السنين، أي سبع مرَّات سبع سنين. وهذه الحقبة، حقبة سبعة أسابيع من السبوت تمثِّل إذًا تسعًا وأربعين سنة. في الشهر السابع (تكون انتهت السنة التاسعة والأربعون) تجعلون البوق (ينفخ) ويعبر في جميع أرضكم. السنةَ الخمسين تقدِّسون (أي: تعلنونها مقدَّسة) وتنادون بالعُتق (والتحرُّر) في الأرض لجميع السكّان".

أمّا القرن الذي فيه ينفخون وينادون بالغفران العظيم، فهو قرن الكبش (ي و ب ل). ماذا يحصل في هذه السنة؟ تبديل تامٌّ في حياة الأفراد والجماعات. أوَّل نتيجة من أجل البائسين: في سنة اليوبيل، يرجع كلُّ واحد منكم إلى ملكه" (آ13). وفي هذه السنة، لا يغبن الإنسان قريبه في بيع وشراء. في سنة اليوبيل، تُرَدُّ الأرض إلى أصحابها. "إذا افتقر أخوك (واستدان منك مالاً) فباع بعضًا من ملكه (آ25)... في سنة اليوبيل يرجع إلى ملكه (آ28). فالمبدأ المعروف: الأرض التي قُسمت في القبائل بين الأفراد، لا يمكن إلاَّ أن ترجع إلى قبيلتها وإلى صاحبها. فما من أحد يملك الأرض بحسب المبدأ الدينيّ: "الأرض لا تُباع البتَّة، لأنَّ الأرض هي لي (أنا الربّ) وأنتم غرباء ونزلاء عندي" (آ23). كما في فندق. هكذا لا تجتمع الأراضي بيد إنسان واحد، فيلعلع عندئذٍ صوت النبيّ: "ويل للذين يضمُّون بيتًا إلى بيت، ويصلون حقلاً بحقل، حتّى لا يبقى مكان لأحد، فيسكنون في الأرض وحدهم" (إش 5: 8). يستدين الفلاّح بعض المال. لا يستطيع الدفع فتؤخَذ أرضه منه. وحين يصير الفلاّح بدون أرض، من أين يأتي بالمال ليأكل هو وعياله؟ يبيع نفسه. ولكنَّ هذا البيع لا يدوم إلى الأبد. ففي سنة اليوبيل، يعود كلُّ إنسان حرًّا إلى عشيرته، وإلى بيته إن أعطيَ له بيت.

"إذا افتقر أخوك (واستدان منك مالاً لم يقدر أن يدفعه) وباع نفسه لك، فلا تستعبده بحيث يعمل عندك عمل عبد، بل يكون عندك كأجير ونزيل. إلى سنة اليوبيل يخدم عندك. ثمَّ (في سنة اليوبيل) يخرج من عندك هو وبنوه معه، ويعود إلى عشيرته، وإلى ملك آبائه يرجع" (آ39-41). لا يمكن لأخيك أن يكون عبدًا لك. بل هو عبد الربّ. قال سفر اللاويِّين بفم الله: "لأنَّهم عبيدي الذين أخرجتهم من أرض مصر (أنا استعدتهم بيد قديرة وذراع ممدودة)، لا يُباعون بيع العبيد" (آ42). ولا تنسوا أنتم أيضًا كنتم عبيدًا في أرض مصر فحرَّرتكم. وأنتم تحرِّرون إخوتكم بحيث لا يلبثون عندكم عبيدًا إلى الأبد. فهذه الحرِّيَّة التي نالها بنو إسرائل حين خرجوا من أرض مصر (آ55)، لا يمكن أن يخسرها الإنسان خسارة نهائيَّة، بل يستعيدها في سنة اليوبيل.

*  *  *

يا ليت الشعب الأوَّل مارس اليوبيل على مستوى الأشخاص وعلى مستوى الأراضي، لما كانت انتهت البلاد في طريق المنفى سنة 722-721 (السامرة) وسنة 587-586 (أورشليم). بل إنَّ المشترع يطلب من الناس أن يعيشوا الأخوَّة لا في سنة من السنوات فقط، بل كلَّ سنة من سنوات حياتهم. فنقرأ في لا 25: 35ي توصيات يدعو إليها الربُّ الإله، لا شعبًا من الشعوب، بل جميع الشعوب: "إذا افتقر أخوك وقصرَتْ يده عندك (ما استطاع أن يدفع الديون، ما استطاع أن يعيش وأسرته عيشًا لائقًا)، فاعضده غريبًا (أو: مهاجرًا) أو مستوطنًا، بحيث يعيش معك. لا تأخذ منه ربى ولا مرابحة (أو قسمًا من الغلَّة كبيرًا)، بل اخشَ إلهك، فيعيش أخوك معك (ولا يموت). لا تعطه فضَّتك بالربى، ولا تربح منه حين تعطيه من طعامك. فأنا الربُّ إلهكم الذي أخرجكم من أرض مصر".

هذا ما قيل لبني إسرائيل. وهو يُقال لنا اليوم نحن المؤمنين، المتعبِّدين للمال بحيث لا نتورَّع من قتل أخينا أو جارنا، لأنَّه تعدَّى على بعض ملكنا أو رفض أن يدفع لنا ديننا. قساوة القلوب صارت مسيطرة، ونحن نطالب بمالنا ولا ننتظر مثل ذاك العبد الذي تحدَّث عنه المثل الإنجيليّ: "ولمّا خرج الرجل، لقيَ عبدًا من أصحابه له عليه مئة دينار. فأمسكه بعنقه حتّى كاد يخنقه وهو يقول له: "أوفِني ما لي عليك". فركع صاحبه يرجوه ويقول: "أمهلني فأفيك". فما أراد، بل أخذه وألقاه في السجن حتَّى يفيَه الدين" (مت 18: 28-30).

دعا النبيُّ إرميا معاصريه يومًا أن يعملوا بمتطلِّبات اليوبيل، وهو يرجو أن يُبعد الله عنهم الخطر المحدق بهم: "وكلَّم الربُّ إرميا بعد أن قطع الملك صدقيا عهدًا مع شعب أورشليم على المناداة بتحرير العبيد، فيُطلق كلُّ واحد عبده العبرانيّ وأمته العبرانيَّة، ولا يستعبد أحدٌ يهوديًّا من بني قومه. فوافق جميع الرؤساء وعامَّة الشعب على هذا العهد وأطلقوا عبيدهم أحرارًا. لكنَّهم عادوا بعد ذلك وأرجعوا العبيد والإماء الذين أطلقوهم أحرارًا إلى العبوديَّة" (إر 34: 8-11). أجل، أخذوا قصدًا وما عتَّموا أن تراجعوا عنه.

إلى هذا اليوبيل أشار إشعيا. يعيشه لا الشعب ككلّ، بل ذاك الذي مسحه الربُّ وأرسله (إش 61: 1ي): الأسرى يستيعدون الحرِّيَّة، السجناء يخرجون من ظلمة الحبس ويرون النور. هذا على المستوى المادّيّ. وعلى المستوى البشريّ، الاهتمام بمنكسري القلوب وتضميد جراحهم. الاقتراب من النائحين وحمل العزاء إليهم. وعلى المستوى الروحيّ: إعلان الإنجيل، كما في الأصل، إعلان البشارة والخبر الطيِّب. فاليوبيل هو في النهاية سنة يعلن فيها الله رضاه عن شعبه. إذًا، ابتعد زمن الغضب والانتقام، وعاد السلام الذي هو ملء البركة داخل البلاد وعلى حدودها.

هذا النصُّ الإشعيائيّ لبث ناقصًا وهو يكمَّل في العهد الجديد، وبالتحديد في إنجيل لوقا (4: 14ي). فالذي مسحه الربُّ هو يسوع المسيح ابن الله الوحيد، ولا إنسان غيره يستطيع أن يقوم بهذه المهمَّة التي يشير إليها النبيّ. فالمعنى الأوَّل، المادّيّ، يبقى ناقصًا. فهناك معنى أرفع. فما هي العبوديَّة البشريَّة تجاه عبوديَّة الخطيئة! والبشارة بالصحَّة أو بنهاية المصيبة أو بالانتصار تبقى شيئًا بسيطًا تجاه بشرى الملكوت الذي اقترب، بل جاء في شخص يسوع المسيح وصار في داخلنا. فماذا نستطيع أن ننتظر بعد ذلك!

وفي هذا الخطِّ المسيحيّ، بدأت الكنيسة فأعلنت "اليوبيل" على أنَّه سنة نعمة خاصَّة، ومناسبة غفران وعودة إلى الربّ. وآخر يوبيل أطلقته الكنيسة كان سنة ألفين.

*  *  *

وقبل الكلام عن القداسة التي شكَّلت عنوان هذا المقال، يطرح سفر اللاويِّين عددًا من الأمور، هي اليوم مثار جدل. أوَّلها حول العلاقات الجنسيَّة غير المشروعة (ف 18). "وكلَّم الربُّ موسى قائلاً: "كلِّمْ بني إسرائيل وقل لهم: أنا الربُّ إلهكم" (آ1-2). نلاحظ منذ البداية أنَّ الاتِّحاد الزواجيّ ليس أمرًا متروكًا للرجل والمرأة، للشابّ والشابَّة، بحيث يفعلان ما يريدان. يقولون: هي قضيَّة بشريَّة، ولا تعلُّق لله بها. أمّا هنا، فالربُّ منذ البداية يعلن حضوره. هو يبارك إذا كانت الأمور بحسب الوصايا، ويعاقب إن نسيَ الإنسان أحكام الله وفرائضه. ويتواصل الكلام الإلهيّ: "مثل عمل مصر التي سكنتم فيها لا تفعلوا. ومثل أرض كنعان التي أنا آتٍ بكم إليها لا تعملوا، وحسب فرائضهم لا تسلكوا" (آ3). ثلاثة أفعال: "عمل" مرَّتين. ثمَّ: سلك. فسلوك الذين ارتبطوا بالله وصاروا من شعبه في الختان، لا يكون شبيهًا بسلوك سائر الأمم. فمصر عرفت الزواج بين الأخ وأخته. أمّا كنعان فأرض الفلتان الجنسانيّ (تك 9: 20) واللواط كما في سدوم (تك 19: 1-9). ويبدو أنَّ التجامع بين الإنسان والحيوان عُرف في أوغاريت بعد أن تجامع "بعل" مع عجلة من البقر. في أيِّ حال، كلُّ هذا يمارسه عالمنا المعاصر، لا في السرّ، بل في العلن. ويدعو إليه بكلِّ الوسائل بحثًا عن لذائذ تملأ فراغ القلب عند العديدين. وهكذا نستطيع نحن أبناء الألف الثالث أن نقرأ لا 18 فنجد فيه مرآة لمجتمعنا.

ونبدأ مع مصر: "لا يقترب إنسان من أحد أقربائه ليكشف عريه" (آ6). أي من أجل الجماع. وتنتهي الآية مع الإعلان: "أنا الربّ" أنبِّهكم إلى ذلك. تجامع مع الأب، مع الأمّ، مع الأخت، مع الحفيدة... ثمَّ مع كنعان. "لا تضاجع ذكرًا مضاجعة امرأة. فهذا رجس" (آ22). ثمَّ: "لا تجعل مع بهيمة مضجعك فتتنجَّس بها. ولا تقف امرأة أمام بهيمة من أجل الجماع. هي فاحشة" (آ23). ونتطلَّع إلى المجتمع الحديث الذي يتحدَّث عن زواج الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة. ونقرأ في 20: 13 العقاب الذي يكون لمثل هؤلاء: "وإذا اضطجع رجل مع ذكر اضطجاع امرأة، فقد فعلا كلاهما رجسًا. إنَّهما يُقتلان ويقع دمهما عليهما". أي هما مسؤولان. وتتواصل التحذيرات مع العقاب المناسب: "إذا اضطجع رجل مع كنَّته، فإنَّهما يُقتلان كلاهما. قد فعلا فاحشة. دمهما يسقط عليهما" (آ12).

في مثل هذا المناخ صوَّر بولس الرسول المجتمع الرومانيّ في زمانه: "أسلمهم الله إلى الشهوات الدنيئة، فاستبدلت نساؤهم بالوصال الطبيعيّ الوصال غير الطبيعيّ. وكذلك ترك الرجال الوصال الطبيعيّ للنساء والتهب بعضهم شهوة لبعض. وفعل الرجال الفحشاء بالرجال ونالوا في أنفسهم الجزاء العادل لضلالهم" (رو 1: 26-27). وأعلن الرسول في 1 كو 6: 9-10، ما ينتظر هؤلاء الخطأة وغيرهم: "أما تعرفون أنَّ الظالمين لا يرثون ملكوت الله؟ لا تخدعوا أنفسكم، فلا الزناة (أو الفجّار) ولا عبّاد الأوثان ولا الفاسقون ولا المخنَّثون (أو: المؤنَّثون، الذين يكونون مثل امرأة) ولا اللوطيُّون (الذكر مع الذكر نسبة إلى سدوم، مدينة لوط)... يرثون ملكوت الله".

ويذكر لا 24: 15-16 من يجدِّف على اسم الربّ: يُقتَل قتلاً. ترجمه الجماعة كلُّها رجمًا. وفي 13: 45-46 كلام عن النجاسة المتأتِّية من الأمراض، وتستبعد الإنسان من المجتمع. أمّا ف 12 فيتحدَّث عن نجاسة المرأة بعد أن تلد... أمور عديدة لها معناها في مجتمع لا يقيم كثير احترام للمرأة. يبتعد عنها الرجل، زوجها أو غيره، مراعاة لوضعها.

*  *  *

وننهي كلامنا عن القداسة التي هي برنامج حياة. هناك أوَّلاً قداسة خارجيَّة هي أوَّلاً انفصال عن الناس وعن الأشياء، وهذه لا تصل إلى القلب، بل تقود المؤمن إلى النظرة الفرِّيسيَّة: لا ألمس من ليس من ديني، لا أسلِّم عليه، لا آكل معه. أبتعد عنه. وأتذكَّر مرَّة كنت في كندا، رأيت يهوديًّا يلامس الحائط وهو يسير يوم السبت. السبب: يجب أن يكون بعيدًا لئلاَّ يتنجَّس وهو ماضٍ إلى الصلاة. هنا نتذكَّر محاكمة يسوع. رفض اليهود أن يقفوا مع بيلاطس لئلاَّ يتنجَّسوا، أمّا من يحكموا ظلمًا على يسوع، فهذه ليست نجاسة، بل "قداسة" بحسب المبدأ: "انزعوا الشرَّ من بينكم".

في ف 11، كلام عن الطاهر والنجس من الطعام، حاول الشرّاح أن يفهموا هذا التمييز فتنوَّعت الآراء. "وكلَّم الربُّ موسى وهرون قائلاً لهما: "كلِّما بني إسرائيل قائلَين: "هذه هي الحيوانات التي تأكلونها من جميع البهائم التي على الأرض: كلُّ ما شقَّ ظلفًا وقسمه ظلفين، ويجزّ من البهائم. إيَّاه تأكلون" (آ1-3). من أين جاءت هذه القوانين؟ من العالم القديم، السحيق، فيكون بعض الحيوان ارتبط بقوى مهدِّدة، شبيهة بالجنِّ والعفاريت وغيرها. قيل هناك سبب يرتبط بالإستيتيك أو علم الجمال. ولكنَّ الأرنب جميل جدًّا. وقيل بسبب النظافة. ولكن هل أنظف من الجمل حين يأكل. وقيل أيضًا لأنَّ هذه الحيوانات غير الطاهرة ارتبطت بالعبادات الأصناميَّة. إذا كان الأمر هكذا، فلماذا يأكلون الكبش الذي يُذبَح للآلهة وتيس المعز؟

في أيِّ حال، لا منطق يسند مبدأ الفصل بين الطاهر والنجس. وسفر التكوين واضح: رأى الله جميع ما خلقه فإذا هو حسن وحسن جدًّا. فلهذا لا أستطيع أن آكل من لحم الجمل أو لحم الأرنب أو لحم الخنزير... نقرأ في آ8: "من لحمها لا تأكلوا، وجثَّتها لا تلمسوا. إنَّها نجسة لكم". وجاءت التوصيات المانعة. وما لفت النظر: لا تطبخ اللحم في الحليب، ولا تأكل منه... ومن المؤسف أنَّ هذا "التعليم" يبقى معمولاً به عند اليهود وغير اليهود، وصولاً إلى الحبشة وبعض الأقباط. ونتذكَّر عالم الهند حيث كلُّ مقاطعة تختلف عن أختها: هذه لا تأكل ما تأكله أختها حتّى على مستوى البنات: الأولى لا تأكل شيئًا من تحت الأرض، مثل البطاطا والفجل والبصل... هكذا يكون الإنسان "طاهرًا"، "مقدَّسًا". أما ظلم الآخرين! إمَّا احتقار المرأة واعتبارها سلعة تُشرى وتُباع! إمّا اعتبار الطفل ملك والده يفعل به ما يشاء ويحطِّمه وهو بعدُ طفل!

وجاء الكلام الإنجيليّ: "جعل يسوع الأطعمة كلَّها طاهرة" (مر 7: 19). كان هناك شريعة في العهد القديم، فحوَّلها يسوع لأنَّه ربُّ الشريعة، ونبَّهنا: "ما يدخل الإنسان من الخارج لا ينجِّسه، لأنَّه لا يدخل إلى قلبه (حيث الإرادة والخطيئة) بل إلى جوفه ثمَّ يخرج من الجسد" (آ18)، ويمضي إلى الخلاء. وإذا أردتم أن تعرفوا ما الذي ينجِّس الإنسان فاقرأوا الإنجيل: "الفسق والسرقة والقتل والزنى والطمع والخبث والغشّ والفجور والحسد والنميمة والكبرياء والجهل. هذه المفاسد كلُّها تخرج من داخل الإنسان فتنجِّسه" (آ21-22). هنا تفهم كم هذه الوصيَّة ناقصة وملغاة. ومع ذلك يكرِّر سفر اللاويِّين: "إنِّي أنا الربُّ إلهكم، فتقدِّسون وتكونون قدِّيسين لأنِّي أنا قدُّوس، ولا تنجِّسوا أنفسكم بما يدبُّ على الأرض. إنِّي أنا الربُّ الذي أصعدكم من أرض مصر ليكون لكم إلهًا، فتكونون قدِّيسين لأنِّي أنا قدُّوس" (آ44-45).

*  *  *

لا. هذه ليست القداسة في المفهوم الحديث للكلام. هي عبوديَّة تبقينا في زمن الجاهليَّة، بل في زمن ما قبل التاريخ. هي محاولة تميِّز عن الآخرين على مستوى الطعام كما على مستوى الحياة الخلقيَّة بما فيها من انفلات وفسق ومجون، تجعل الإنسان أقلَّ من الحيوان. ولكنَّ الحمد لله أنَّ المبدأ القائل "كونوا قدِّيسين لأنِّي أنا قدُّوس" ورد في ف 19. وهذه بدايته: "وكلَّم الربُّ موسى قائلاً: كلِّمْ كلَّ جماعة بني إسرائيل وقل لهم..." (آ1-2). هنا نتذكَّر الوصايا العشر وما رافقها من أمور حول جبل سيناء، وصولاً إلى وصيَّة محبَّة القريب كما نحبُّ نفوسنا. وهنا تكون "الدينونة". من يطيع الربّ، ماذا ينال؟ ومن يعصي الربَّ ماذا ينال (ف 26).

"إذا سلكتم في فرائضي وحفظتم وصاياي وعملتهم بها، أعطي مطركم في حينه فتعطي الأرض غلَّتها وأشجار الحقل تعطي أثمارها... (آ3-4).... وأجمل ما في المكافأة: "وأجعل مسكني في وسطكم... وأسير بينكم وأكون لكم إلهًا وأنتم تكونون لي شعبًا" (آ11). عندئذٍ يكون الشعب مقدَّسًا. والعلامة على ذلك، هو أنَّ خيمة الربِّ كانت في وسط الخيام. أمّا إذا خان الشعب العهد، فيطلب الربُّ من موسى أن يجعل الخيمة التي فيها يكلِّمه، خارج الخيام. فكأنَّ الربَّ لا يريد أن يسكن في وسطهم ولا أن يسير معهم.

ومقابل هذا تأتي "عقوبة العصيان". نقرأ آ14ي: "ولكن إن لم تسمعوا لي ولم تعملوا كلَّ هذه الوصايا، وإن رفضتم فرائضي... فما عملتم كلَّ وصاياي..."، أسلِّط عليكم الأمراض المختلفة... ويأتي الأعداء فيأكلون غلالكم... ولكن مع كلِّ هذا التهديد، لا يترك الربُّ شعبه ولا يتخلَّى عن مؤمنيه "لأنَّه الربُّ إلههم" (آ44)، يذكر العهد الذي قطعه مع الآباء الذين أخرجهم من مصر (آ45). إنَّه الإله الأمين الذي لا يتراجع عن عطاياه، حتّى وإن خانه شعبه. فإن نسي الأمانة تنكَّر لذاته.

*  *  *

وهكذا تنتهي مسيرتنا مع هذا الكتاب الغنيّ جدًّا، سفر اللاويِّين، مع أنَّه صعب. والسبب لأنَّه يتضمَّن طبقات عديدة يرجع بعضها إلى ما قبل التاريخ ويصل بعضها الآخر إلى العهد الجديد. مثل هذا الكتاب يدخلنا في الأنتروبولوجيا والتعرُّف إلى الملائكة، وينحدر انحدارًا فيضحي مثل البهيمة بل يتجاوزها في القتل والدم والزنى فلا تعرف خطيئته حدود. فالإنسان إمّا يتجاوز نفسه فينسى البغض والحقد والانتقام ويضع حدًّا للعنف الذي فيه، وإمّا يقتل ويقتل ولا ينتهي من القتل. الأسد يقتل فريسته، يأكلها وينام. أمّا الإنسان فلا ينام، بل يزداد شراسة، والإنسان في الأسرة يتجاوز نفسه فيمتنع عن الفسق والفجور والبحث عن اللذَّة الجنسانيَّة إلى أبعد حدود ويأخذ من النساء قدر ما يشاء ولا يتورَّع عن التجامع مع أقرب أقربائه، فيفهم ما علَّم الربُّ في الابتداء: الرجل والمرأة كلاهما على صورة الله، لا الرجل وحده الذي يحقُّ له كلُّ شيء. ثمَّ: يترك الرجل أباه وأمَّه (هو يترك أيضًا، يستقلّ، يؤسِّس عيلة جديدة) ويتَّحد بامرأته فيكون الاثنان (لا أكثر من اثنين) جسدًا واحدًا". أمّا الطلاق فيكرهه الله، كما نقرأ عند النبيّ ملاخي. وينهي يسوع كلام سفر التكوين ويكمِّله: "ما جمعه الله لا يفرِّقه إنسان".

هذا هو سفر اللاويِّين وفيه كلمات كلَّم بها الربُّ موسى في خيمة الاجتماع أو على جبل سيناء. وحملها موسى إلى شعبه. البعض توقَّفوا عندها، بل تراجعوا بالنسبة إليها في هذا الشرق. أمّا يسوع المسيح فطلب منّا أن نتجاوزها دون أن نهملها تمامًا: قيل لكم وأمّا أنا فأقول لكم.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM