الفصل السادس:قال لي الربّ: اذهب، تنبّأ، عاموس.

­­(الرعيَّة، آذار 2011)

قال لي الربّ: اذهب، تنبَّأ

الخوري بولس الفغالي

كان عاموس في بيت إيل يتكلَّم باسم الربّ. جاءه أمصيا، كاهن المعبد، وكاهن يربعام الملك (790-750ق.م.)، هدَّده "لأنَّه يجرُّ الشؤم على بني إسرائيل، والبلاد لا تقدر أن تحتمل كلامه" (عا 7: 60). بما يتَّهمه؟ إنَّه "يرى رؤى"، أنَّه "يتنبَّأ" بالمعنى الضعيف للكلمة، أي يتحدَّث عن المستقبل وما ستصير إليه المملكة. وبما أنَّه يفعل ذلك، فهو يربح المال ويستطيع أن يعتاش. قال له أمصيا: "اذهب، اهرب إلى أرض يهوذا، وهناك تنبَّأ وكلْ خبزك" (آ12).

لماذا يقول له الكاهن هذا الكلام؟ لأنَّ عاموس ليس من بيت إيل، المعبد الرسميّ في مملكة إسرائيل، بل هو من مملكة يهوذا! هنا نتذكَّر أنَّ الشمال والجنوب، القبائل العشر والقبيلتان، لم تتَّحد إلاَّ في أيّام داود وسليمان. ولكن بعد سليمان الذي كان حكمه قاسيًا، بالضرائب وأعمال السخرة، عاد الشمال فانقسم عن الجنوب، فبنى ملك الشمال معبدًا في بيت إيل، بحيث لا يذهب شعبُه بعد إلى أورشليم ويعود يحبُّ مملكة يهوذا وملكها.

اختارت مملكة الشمال بيت إيل، لأنَّها مدينة مقدَّسة منذ زمن بعيد جدًّا. كان اسمها "لوز"، قبل أن ينتهي إليها العبرانيُّون. نلاحظ هنا أهمِّيَّة اللوز في الشرق منذ العصور القديمة. ويشير إلى ذلك أسماء القرى في لبنان وسورية: اللويزة، أتراها كانت "شجرة مقدَّسة"؟ ربَّما.

هذه المدينة تقدَّست، لأنَّ أبرام (أو: إبراهيم) "نصب خيمته" بقربها (تك 12: 8). وخصوصًا لأنَّ يعقوب قضى ليلته فيها في انطلاقه إلى مدينة حاران (في شمال العراق الحاليَّة). هناك حلم حلمًا "رأى سلَّما منصوبة على الأرض، رأسها إلى السماء، وملائكة الله تصعد وتنزل عليها. وكان الله واقفًا على السلَّم" (تك 28: 12-13). وإذ أفاق يعقوب من نومه، وفهم وجود "الربِّ في هذا الموضع" (آ16)، قال: "ما هذا إلاَّ بيت إيل (أو: بيت إلهيم، بيت اللهمَّ، بيت الله)، وكانت المدينة من قبل تدعو لوز" (آ19).

موضع مقدَّس. صار مكان حجٍّ في زمن القضاة (قض 20: 18ي). وزاره صموئيل، سامع كلام الله ومؤسِّس الملكيَّة في القبائل العبرانيَّة. كما أقام فيه بنو الأنبياء. ولكن من المؤسف أنَّ الملك جعل فيه صنم "عجل"، كما فعل العبرانيُّون في البرِّيَّة مع هارون، وهذا مع أنَّ الربَّ قال في الوصايا: "لا تصنع لك تمثالاً منحوتًا ولا صورة شيء ما..." (خر 20: 4). وضحك النبيُّ هوشع من هذه العبادة فقال: "زنخ عجلك...". فتحوَّل الاسم مع تبديل الحروف. كان بيت "إ ي ل"، فصار بيت "أون". كان بيت الله، فصار بيت الإثم. فهل يرضى الله بذلك؟ وهل يرضى النبيّ؟ حاشا وكلاّ. لهذا هدَّد عاموس بالعقاب الإلهيّ. وأوَّل من يصيبه العقاب يربعام، ذلك الملك العظيم، الذي عرفت البلاد الازدهار الكبير في أيّامه. ولكن في نظر الكاتب الملهم "عمل الشرَّ في عيني الربّ، وما عاد عن خطايا" آبائه (2 مل 14: 24).

تكلَّم عاموس عن الملك وعن الكهنة وعن الشرِّ الذي يعمُّ البلاد، فهدَّده أمصيا رئيس الكهنة. "اذهب، اهرب". هو لا يستطيع أن يبقى هنا. عليه أن يهرب وينجو بنفسه من الموت. عليه أن يعود إلى بلاده، إلى أرض يهوذا.

*   *   *

ومن هو عاموس؟ معنى اسمه: الرجل حمَلَ. أصله من تقوع (عا 1: 1) وهي قرية من يهوذا، تبعد 18 كلم إلى الجنوب من أورشليم، و9 كلم إلى الجنوب الشرقيّ من بيت لحم. هذا يعني أنَّ موطنه بعيد عن بيت إيل. ومع ذلك دعاه الربُّ من الجنوب وأرسله إلى الشمال. جعله نبيًّا باسمه، فقال عن نفسه (3: 7-8):

السيِّد الربُّ لا يفعل شيئًا

إلاَّ إذا كشف سرَّه لعبيده الأنبياء.

زأر الأسد، فمن لا يخاف؟

تكلَّم الربُّ فمن لا يتنبَّأ؟

من هو النبيّ؟ هو شخص قريب من الله. والله يفتح له سرَّه فيخرجه إلى العلن. عاموس هو نبيّ، والله بيَّن له أنَّه غير راضٍ عن "عبادة الصنم" في بيت إيل. النبيُّ يرى بعيني الربّ، أمّا الناس العاديُّون فلا يرون. اعتادوا على هذا الأمر. كانوا يأتون إلى بيت إيل، بيت الله، ولبثوا يقومون بهذا الحجّ بحيث يرضون الملك مبتعدين عن أورشليم، الموضع الذي جعله الربُّ لسكناه. ووُضع "العجل". لا بأس. المهمّ أن يرضى الملك. نفعل ما يفعله الجميع ولا نعاند. على مثال ما قيل: "إن رأيت الناس يعبدون العجل، اجمع الحشيش وأطعمه". وهناك مثل آخر: "ضع رأس بين الرؤوس وقُلْ: يا قطَّاع الرؤوس". لماذا الفلسفة؟ ذاك كان الوضع في بداية المسيحيَّة. الكلُّ يأتون إلى الصنم الذي يمثِّل الإمبراطور. يسجدون له، يحرقون كالبخور كما يفعلون للإله!! أمّا المسيحيّ فلا يفعل. لهذا قيل فيه: "لا يحقُّ للمسيحيّ أن يعيش". واعتبروا أنَّ رفضه يدلُّ على عدم ولائه للسلطة! لا يمكن للسلطة أن تحلَّ محلّ الله. قال بطرس للرؤساء: أنسمع من الله أم نسمع من الناس؟ وقال الربُّ: "أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله". واصل الرسول: "الجزية لمن له الجزية، والجباية لمن له الجباية" (رو 13: 7). وهنا يتوقَّف واجب المؤمن تجاه السلطة. أمّا الضمير والعقيدة والإيمان، فلا تربطنا بالله.

ما قبِلَ عاموس بهذا الوضع، لأنَّه نظر بعين الله. الشعب نظر في عين مصالحه. وهذا ما نقوله أيضًا عن إبراهيم وابن أخيه لوط. فرح لوط بأن يقيم في وادي الأردنّ التي حسبها "جنَّة الله" ولكن أين تقع هذه "الجنَّة"؟ في مدينة سدوم، بأهلها الأشرار الخطأة. لا بأس. المهمّ أن يكون الإنسان مرتاحًا، يأكل ويشرب ويلبس وينام. مثل تلك الفتاة المسيحيَّة التي تركت إيمانها وتزوَّجت. فسألتُها: "ماذا فعلت؟" قالت: "نحن لا دين لنا، وأنا أعيش في الترف مع زوجي!" وماذا حصل بعد وقت قليل؟ رُميَت كما تُرمى النواة من المشمش. أمّا إبراهيم، ففضَّل أن يبقى بعيدًا عن سدوم وسوف يفهم أنَّ مستقبل ابن أخيه ليس هنا. من أعلمه بذلك؟ الله. أجل، الربُّ أدخل إبراهيم في سرِّه. يقول الكتاب بفم الله: "هل أُخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله؟" (تك 18: 17). فالله هو صديق النبيّ، فكيف يخفي الصديق شيئًا عن صديقه! ولعب إبراهيم دور المتشفِّع من أجل المدينة، لعلَّها تنجو من الدمار إذ وُجد فيها بعض الأبرار. وفي النهاية نجا فقط لوط وابنتاه، ولبث صهراه في المدينة وسط النار والكبريت، وامرأته نظرت إلى الوراء وكأنَّها تتحسَّر على الماضي فلبثت مثل "صخرة ملح" في الصحراء.

*   *   *

وكيف يكون النبيّ؟ هل القضيَّة وراثة كما كان وضع الكهنة في الهيكل؟ أبي كاهن، إذًا أنا كاهن. لا تعب ولا شقاء. ونستطيع أن نجعل الكهنة في الشعب الأوَّل مثل "وظائف" هذا العالم و"مراكزه". أبي طبيب، أنا طبيب. أبي زعيم. أنا زعيم... أمّا النبيّ فهو بعيد كلَّ البعد عن هذا المنطق. حسِبَ أمصيا أنَّ عاموس هو "نبيّ"، أي "يتنبَّأ"، أي "يخبر بالغيب". هكذا كان أبوه. وهكذا كان جدُّه. وهكذا يكون ابنه. أوضح عاموس: "ما أنا نبيّ ولا ابن نبيّ" (7: 14). لست نبيًّا كما تفكِّر أنت، وكما عرفتم في قصر أخاب وزوجته إليصابات، 400 نبيّ، يعملون لحساب الملك. صوتهم واحد وهم يستلهمون الملك وأمواله. قالوا لأحد الذين دعاهم الملك: "تكلَّم جميع الأنبياء بفم واحد، فليكن كلامك مثل كلامهم" (1 مل 22: 13). هؤلاء قطيع من الغنم، يسير الواحد ويضع رأسه في آليَّة الذي يسبقه. ولا يرى شيئًا آخر. فهم يشبهون عميانًا يقودهم بصير واحد، وربَّما يرميهم في البحر أو في النار. أما هذا الذي حصل لأنبياء البعل حين أرادوا أن يبارزوا إيليّا على جبل الكرمل. هو وحده وهم بالمئات. النبيّ يجيب الملك ومرسله: "ما يقوله لي الربُّ أقوله" (آ14).

لا، عاموس، ليس من هؤلاء الأنبياء. وأضاف: "لستُ ابن نبيّ". ولم يكن والدي نبيًّا لكي أرثه. بل لم أكن أبدًا معَدًّا لهذا العمل. فما مرَّ في مدرسة الأنبياء، ولا تربَّى على يد نبيّ آخر كما كان الوضع بالنسبة إلى إليشع، تلميذ إيليّا. قال: أنا راعي غنم (أو: بقر) وقاطف جمَّيز". نتذكَّر أنَّ عمل الرعاة هو الأسهل في المجتمع العبريّ. ضعيف الصحَّة والذي لا يستطيع أن يعمل في الحقل يُرسَل مع الخراف. هنا نتذكَّر "هابيل"، راعي الغنم، تجاه أخيه قايين القويّ، الغنيّ، صاحب المقتنى. ونتذكَّر داود. لم يكن بين المقاتلين مثل إخوته الكبار. ومع ذلك اختاره الله. ونصل إلى ميلاد الربّ. من جاء إليه؟ الرعاة، "اختار الله جهّال العالم ليخزي الحكماء، واختار ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء".

مضى الربُّ إلى البرِّيَّة، برِّيَّة تقوع، في الجنوب. واختار واحدًا من الرعاة. ربَّما هم رعاة قطعان الملك. أي لا يملك الخراف، هو أجير. أهكذا يختار الله؟ لماذا لم يمضِ إلى بيت لحم، مدينة داود؟ وخصوصًا، لماذا لم يَدعُ أحدًا من "المتعلِّمين" في أورشليم؟ مضى إلى البرِّيَّة! ومن هناك اختار شخصًا يعمل "عملين" لكي يؤمِّن حياته وحياة عياله. بالإضافة إلى عمل الرعاية، هو يقطف الجمَّيز. أي "ينكز" الغصن فيسرع الثمر وهكذا يتأمَّن الطعام للماشية وسائر الحيوانات.

إلى هناك مضى الله. إلى "وراء الغنم" ليكلِّم نبيَّه. كما راح يسوع إلى شاطئ البحر حيث الشبّان يغسلون الشباك. اتركوا الشباك وأنا أدعوكم إلى مهنة جديدة: تصطادون البشر للخلاص. ذاك ما قال الربُّ لتلاميذه الأوَّلين. كما راح إلى مائدة الجباية. يدعى متّى العشّار. وقال الله لعاموس: كنت تقود الخراف إلى المراعي والراحة، فامضِ إلى قيادة عابدي "العجل" في بيت إيل، المعبد الدينيّ القريب من السامرة.

*   *   *

"اذهب تنبَّأ". ذاك ما قال الله لعاموس: اذهب. إلى أين؟ عندي وظيفتي، شغلي، لا همّ لي، ولا تعب. لماذا هذا الاقتلاع؟ لا يقول لنا الكتاب شيئًا. قال النبيّ عن نفسه: قال لي الربّ: اذهب. ما أشار إلى أنَّه عاند أو جادل. ويبدو أنَّه ذهب. فشابه التلاميذ قبل التلاميذ. سمعان، اتبعني، أندراوس اتبعني... تركا كلَّ شيء وتبعاه. ويعقوب ويوحنّا تركا الشباك، لا الشباك فقط، بل أباهما أيضًا والعمّال. قال السروجيّ عن هؤلاء الرسل: لم يتركوا الشيء الكثير. هل المهمّ أن يترك الشيء الكثير أو القليل؟ المهمّ أن نترك كلَّ شيء. يروي الكتاب عن إليشع الذي كان يرافق البقر. طرح عليه إيليّا رداءه (1 مل 19: 19)، وكأنَّه يقول: أنت للربّ كما أنا للربّ. ترك إليشع البقر ومضى وراء إيليّا وقال: "دعني أقبِّل أبي وأمِّي وأسير وراءك". فقال له إيليّا: "اذهب راجعًا". وكأنَّه يقول له: لا بأس. افعل ما تشاء. لهذا عاد إليشع إلى البيت، وبعد أن تخلَّى عن كلِّ شيء "مضى وراء إيليّا" (آ21).

مثل إليشع فعل أحد التلاميذ مع يسوع. قال له: "أتبعك يا ربّ، ولكن اسمح لي أوَّلاً أن أودِّع أهل بيتي" (لو 9: 61). أمّا يسوع فما فعل مثل إيليّا. فهو متطلِّب جدًّا. لهذا أتى جوابه قاسيًا: "من وضع يده على المحراث ونظر إلى الوراء لا يصلح لملكوت الله" (آ62). في هذا المجال نفهم كلام الربّ: "من أراد أن يتبعني، ليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني". أما هكذا فعل عاموس.

اذهب. فذهب. تنبَّأ. فراح يتنبَّأ. لا في قريته، ولا في منطقته، ولا حتّى في مملكة يهوذا. بل في مملكة إسرائيل التي كانت مرارًا على خصام مع أختها. من يؤمِّن حياة هذا الرجل الغريب؟ من يسنده؟ من يدافع عنه؟ لا أحد. والعلامة: لم نعد نسمع صوت هذا النبيّ؟ طُرد من البلاد. فيه نستطيع أن نطبِّق كلام الرسول: "أرى أنَّ الله جعلنا نحن الرسل آخر الناس، كأنَّه حُكم علينا بالموت، لأنَّنا صرنا منظرًا للعالم، للملائكة والناس. نحن جهّال من أجل المسيح، وأمّا أنتم فحكماء في المسيح! نحن ضعفاء، وأمّا أنتم أقوياء! أنتم مكرَّمون، وأمّا نحن فبلا كرامة! إلى هذه الساعة نجوع ونعطش ونُعرى ونُلكم، وليس لنا إقامة. ونتعب عاملين بأيدينا. نُشتَم فنبارِك. نُضطهَد فنحتمل... (1كو 4: 9-12).

صرنا منظرًا. هكذا جاء الناس إلى الجلجلة لينظروا المصلوب. ليهزأوا منه. ليدعوه لكي ينزل عن الصليب. وهنا يردِّد المزمور هزءهم: "ها ها! رأتهم عيوننا!". ماذا انتفع من كلامه وتصريحاته؟ حسب أنَّ الله يحميه، فإذا الله تخلَّى عنه! هذا ما يفعل الأشرار. مضى عاموس، ولبث أمصيا جالسًا على العرش الكهنوتيّ ينعم بصداقة الملك يربعام الثاني. ولكنَّ يسوع يقول لمثل هؤلاء: "طوبى لكم إذا عيَّروكم واضطهدوكم وقالوا عليكم كلَّ كلمة شرِّيرة من أجلي، كاذبين. افرحوا وتهلَّلوا، لأنَّ أجركم عظيم في السماوات. فهكذا اضطهدوا الأنبياء الذين كانوا من قبلكم" (مت 5: 11-12).

عاموس. الأنبياء. الرسل. كلُّهم هؤلاء سعداء. طوبى لهم. هنيئًا لهم. هنيئًا لهم، يقول لهم. يقول فيهم سفر الحكمة: "أمّا الأبرار فيحيون إلى الأبد. يجازيهم الربُّ خيرًا، وبهم يهتمُّ العليّ. ينالون من الربِّ مجدًا ملوكيًّا، وتاجًا جميلاً من يده" (5: 15-16). أمّا الأشرار، "فيندمون ويقولون في أنفسهم وهم يئنُّون من الحسرة: هؤلاء هم الذين احتقرناهم حينًا، وحسبناهم مثلاً للعار. وما كان أحمقنا حين حسبنا حياتهم جنونًا وآخرتهم بلا كرامة" (آ3-4).

*   *   *

"اذهب، تنبَّأ". وماذا يقول؟ أوَّلاً، بدأ بشعبه. ينبِّههم إلى خطاياهم ويدعوهم إلى التوبة. ولكنَّهم رفضوا. وجاء كلام النبيِّ مع ردَّة تتكرَّر: "ما تُبتم إليَّ". انطلق من صعوبات الحياة وحسبها تنبيهًا من قبل الله. جاء الجوع. ثمَّ غاب المطر، فراح الناس من قرية إلى قرية "ليشربوا ماء فما ارتووا" (4: 8). الإنسان العاديّ يتطلَّع إلى المطر أو الجفاف فيعتبرها من أعمال الطبيعة التي تمرُّ فيها الفصول، ولاسيَّما فصلين مميَّزين في فلسطين: الشتاء بمطره، والصيف بجفافه. أمّا النبيّ، فيرتفع فوق الطبيعة ليرى يد الربِّ الذي تنبِّه شعبه وتعاقبه. أما هكذا أعلن إيليّا لأخاب ومملكة السامرة: "حيٌّ هو الربّ الذي أقفُ أمامه. لا يكون ندى ولا مطر في هذه السنين إلاَّ عند قولي" (1 مل 17: 1). إذا كان الربُّ هو من يعطي المطر، فيدلُّ الوضع أنَّ الربَّ "يمنع" البركة عن الشعب. ذاك ما قاله سفر التثنية، رابطًا قلَّة المطر بخيانات الشعب: "ويجعل الربُّ مطر أرضك غبارًا، وترابًا ينزل عليك من السماء حتّى تهلك" (28: 24). تلك تكون مكافأة الأمانة لله.

ولكن رأى عاموس كيف أنَّ الشعب رفض أن يتوب. فوبَّخه. وقرأ أمامه ما يحصل في الطبيعة من وباء ودمار. وما يصيب الزراعة بسبب "اللفح واليرقان" (عا 4: 9). وذكَّره بما حلَّ بسدوم وعمورة اللتين احترقتا. فهذا ما يصيب السامرة، لا بفعل بركان، بل بفعل الجيش الغريب الذي ينهب المدينة قبل أن يحرقها. كلُّ هذا فعلته لكم، "وما تُبتم إليَّ، يقول الربُّ الإله". فالله أبعد ما يكون عن الأصنام، التي لها عيون ولا ترى، ولها آذان ولا تسمع، لها الأيدي ولا تفعل، بل هي لا تستطيع أن تتحرَّك. أمّا الله، لو تعرفون من هو؟ ويأتي فعل إيمان بقدرته:

فالذي يصوِّر الجبال

ويخلق الريح (العاصفة)

ويبيِّن للبشر فكره

والذي يجعل الظلمة فجرًا

ويطأ مشارف الأرض

اسمه الربُّ الإله الغيور (آ13).

*   *   *

وممَّ يجب أن تتوب الشعوب، والحكّام في الدرجة الأولى؟ من غياب العدالة الاجتماعيَّة، وما يرتبط بها من كبرياء لدى عظماء البلاد والوجهاء. هنا يفترق نظر النبيّ عن نظر العامّة من الناس. هؤلاء يرون القصور الفخمة، والهياكل الرائعة، والقلاع الحصينة، يشاهدون الأعياد، ويشارك البعض فيها فيفرحون بسخاء الملك. أمّا النبيّ فيرى غير ما يرون. رأى "الشغب العظيم". فالعيد يطول ويطول، والشراب والهرج والمرج. ساعة الفقراء بجانب القصور لا يجدون ما يسدُّون به رمقهم، ومن أين يأتي المال والبذخ؟ فالنبيّ يرى المظالم (5: 9).

وهل أبشع من الظلم يذوقه الفقراء؟ سأل النبيّ حبقوق الله: "هل ترضى أن تبصر الجور وترى الظلم ولا تتحرَّك؟" (آ3). وسبق فقال: "حتّى متى أدعو وأنت لا تسمع؟ حتّى متى أصرخ إليك من الظلم ولا تخلِّص؟" (آ2). فيجيب الربُّ: أرسلت كهنتي. فيجيب الشعب: "تعاهد كهنتك ورؤساء كهنتك مع العظماء وهم يستفيدون منهم. على مائدة إيزابيل، زوجة الملك أخاب تستضيف على مائدتها المئات" (1 مل 18: 19). هم أكلوا، شبعوا، قبضوا بعض المال، هل نريدهم أن يتحدَّثوا عن المظالم؟ يا ليت إيليّا عمل مثلهم، لكان عاش في الغنى والرخاء. ولكنَّه راح يعيش في البرِّيَّة، أو عند أرملة مسكينة في صرفت صيدا (الصرفند، في جنوب لبنان). ويا ليت يوحنّا المعمدان أرضى هيرودس، لكان عاش في اللباس الناعم، وأقام في بيوت الملوك (مت 11: 8).

أرسل الربُّ عاموس، فرفض أن يمالق العظماء، بل حمل كلمة الله ودافع عن المساكين. واسمعوا كيف كلَّم نساء "الأغنياء" وما خاف أن يزعجهم: "اسمعن هذه الكلمة، يا بقرات باشان، يا من ترعين على جبل السامرة. تظلمن الفقراء وتسحقن البؤساء" (4: 1). وهدَّدهنَّ النبيّ بالعقاب الآتي. وفي الواقع، جاء المحتلّ، وكلُّنا يعرف كيف كان المحتلّ يفعل بالنساء والأطفال. كان الأساقفة عديدين في السلفادور، في أميركا الوسطى. ولكنَّ واحدًا فقط كان نبيًّا. اسمه أوسكار روميرو. اعتاد أن يكون على مائدة الأغنياء. ولكنَّ يومًا من الأيّام دعاه الربّ، فرأى الفقراء يُظلَمون تؤخذ منهم أرضهم، يقادون إلى السجون، تسحق نساؤهم وأطفالهم. تصرَّف مثل عاموس. ما أراد أن يبقى في "اللباس الناعم"، فكان عقابه كبيرًا. مات على المذبح بطلقة رصاص، من أحد الزعماء والأغنياء. يجب أن يسكت الأنبياء. وهكذا أطلَّ صوت متّى النبويّ، حاكمًا على الكتبة والفرِّيسيِّين، الذين يمثِّلون الرؤساء الدينيِّين في كلِّ زمان ومكان: "ويل لكم أيُّها الكتبة والفرِّيسيُّون: لأنَّكم تبنون قبور الأنبياء وتزيِّنون مدافن الصدِّيقين. وتقولون: لو كنّا في أيّام آبائنا، لما شاركناهم في دم الأنبياء. فأنتم تشهدون أنفسكم أنَّكم أبناء قتلة الأنبياء... أيُّها الحيّات أولاد الأفاعي، كيف تهربون من دينونة جهنَّم؟" (23: 29-33).

هذا ما يذكِّرنا بما صُنع ليوحنّا الذهبيّ الفم. عادت عظامه في 27 كانون الثاني سنة 438 في احتفال مهيب، ودُفنَتْ في كنيسة الرسل في القسطنطينيَّة. وكان الإمبراطور تيودوز، ابن الإمبراطورة أودكسية، على رأس المستقبلين، فبان أنَّه ابن "قتلة الأنبياء". فيوحنّا مضى إلى المنفى لأنَّه بدأ فباع كلَّ الغنى في القصر البطريركيّ. فبنى مستشفى وأعان الفقراء. وخصوصًا دافع عن المظلومين، فبان قريبًا من إيليّا النبيّ حين شجب ما عمله أخاب حين رجم نابوت وأخذ منه حقله. ما هي خطيئة الذهبيّ الفم؟ لأنَّه وعظ ضدَّ تصرُّفات القصر الإمبراطوريّ. فحنقت عليه الإمبراطورة وساندها أساقفة جبلة وحلب (في سورية) وعكّا في فلسطين. وكان أكبر عدوّ ليوحنّا، بطريرك الإسكندريَّة. أرسل الذهبيّ مرَّة أولى إلى المنفى، فما سكت ولاسيَّما حين جعلت الإمبراطورة تمثالها أمام الكاتدرائيَّة. فكانت عظة البطريرك: "مرَّة ثانية غضبت هيرودية (التي طلبت رأس المعمدان). مرَّة ثانية سخطت سخطًا. مرَّة ثانية رقصت. مرَّة ثانية طلبت رأس يوحنّا على طبق". سمع الإمبراطور من زوجته وطلب إيقاف الذهبيّ الفم عن ممارسة كهنوته. فما انصاع لأمر الإمبراطور. وإذ كان يعمِّد الموعوظين، دخل الجنود إلى الكنائس ومزجوا ماء المعموديَّة بالدم.

وما حصل في الماضي، حصل في أيَّامنا مع المطران غريغوار حدَّاد، الذي اعتُبر "هرطوقيًّا" لأنَّه قريب من الفقراء، ولأنَّه رفض أن يلبس... ورفض أن تكون له السيّارة الفخمة. ورفض أن يتصرَّف بمال المطرانيَّة إرضاء لسيِّده. وما دافع عنه أحد.

ونتذكَّر البطرك يوسف التيّان الذي وقف في وجه الأمير بشير الذي أراد أن يزيد على الميرة قرشًا واحدًا. فساند الأميرَ من وجب عليه أن يساند البطريرك. ففضَّل البطريرك أن يعتزل وهو المحبُّ النسك والصلاة، وفي النهاية دُفن في قنّوبين مع أسلافه.

ويوم التهجير واستبداد الناس بالمهجَّرين وغلاء الأسعار تجاه "الأمن" الذين يبيعون، لم نسمع صوت الكنيسة. وفي التهجير الأخير، تظاهر أحد "الأمراء" أنَّه لم يعلم بتهجير الناس من الجنوب. أجل، مات الأنبياء وكثر الكهنة. وكم نحتاج إلى عاموس جديد، يتكلَّم باسم الله، لا باسم مصلحة شخصه أو طائفته أو قرينته!

*   *   *

ولماذا غياب الأنبياء؟ لأنَّ النبيّ يجب أن يتجرَّد عن كلِّ شيء. أن يستعدَّ لأن يخسر كلَّ ما عنده. بل يخسر حياته. نتخيَّل عاموس ذاك النبيّ في معبد الملك، قرب العاصمة الكبيرة، السامرة، يعود إلى قطيعه وإلى جمَّيزاته! قيل: فوق القائد العسكريّ هناك الأمير، وفوق الأمير الوزير، وفوق الوزير الملك. ولكن ماذا بعد الملك؟ فقالوا له: لا شيء. أنريد ممّن اعتاد أن يكون في صدور المجالس والمجامع وينال التحيَّة في الساحات أن يصبح "لا شيء"؟ كلاّ. أمّا البطريرك تيّان فصار لا شيء في نظر الناس، وجاء حالاً من يحلَّ محلَّه. وما ارتفع صوت يسانده.

هناك الخوف المثلَّث. الخوف على المال الذي نخسره. قال الربّ: لا تعبدوا ربَّين، الله والمال. ولكن يجب أن نقول: نعبد المال أوَّلاً، وإذا بقي بعض الضمير نحاول أن نعبد الله. وهكذا صرنا مثل عابدي البعل في زمن إيليّا: تارة مع الله، وطورًا مع المال. أتريدون أن نكون أنبياء ونخسر الجاه والعظمة والمال؟! يجب أن تكون الكنيسة حاضرة بعظمائها ليكون للاحتفال رهجته. أمّا الكلمة النبويَّة، فانسوها، لأنَّها ليست في محلِّها.

وهناك الخوف على المركز وعلى ما تعوَّدنا العيش فيه. أتذكَّر أحد الموظَّفين الكبار الذي راح إلى التقاعد. أخذت صحَّته تستاء وجسمه ينحلّ. قلت له: ماذا أصابك؟ أجاب: كنتُ سعادة المدير. التلفون وراء التلفون. الناس يريدون رضاي. أمّا الآن فيكادون يدعونني باسمي. صرت تقريبًا "لا شيء"، بانتظار أن أختفي ولا يعود أحد يسأل عنِّي. ما هذه البدعة أن يستقيل من اعتاد على "الكرامات"!؟ يجب أن يموت ويميت هذه المؤسَّسة أيًّا كانت.

وأخيرًا هناك الخوف على الحياة. مسكين المطران روميرو في نظر العالم. كان بإمكانه أن يبقى صديقًا للعظماء، ولا "يطوِّل" لسانه. ماذا نفعه الفقراء الذين أراد أن يدافع عنهم؟ ولكنَّه رفض هذا المنطق وعاش كلام الربّ: "الفقراء يبشَّرون وطوبى لمن لا يشكُّ فيَّ". والذهبيّ الفم حُمل على الراحات. ولكن "مصيبته" أنَّه أراد أن يأخذ على محمل الجدِّ كلام الربّ: "امضِ وبعْ كلَّ ما تملكه ووزِّعه على المساكين، ثمَّ تعال واتبعني". ولكنَّنا نستطيع أن نتبع غير الربّ. أيُّ عظيم في أرضنا، على جميع المستويات، لم يترك مركزه إلاَّ وثروته كبيرة جدًّا! وإذا لم يكن متزوِّجًا يكون الخلاف بين أولاد إخوته وأخواته. وما أجمل هذا الأسقف يقول لكهنته: "جئت إلى المطرانيَّة ولا شيء معي، وأترك المطرانيَّة ولا آخذ معي شيئًا". فقيل له: "وكيف تعيش؟" أجاب: "أعود إلى ديري". وما أتعس ذاك الذي يخاف من القيِّم العامّ أو يطرده لأنَّه يقيِّد له تحرُّكاته!

في زمن عاموس، كان اختيار بين عبادة الله وعبادة "العجل الذهبيّ". فقال النبيّ مندِّدًا (4: 4):

تعالوا إلى بيت إيل وارتكبوا المعاصي

وفي الجلجال أكثروا من ارتكابها.

عند الصباح قرِّبوا ذبائحكم

وفي اليوم الثالث، عشورَكم

أحرقوا من الخمير ذبيحة حمد

ونادوا بتقدمات وأذيعوها،

هذا ما تحبُّونه يا بني إسرائيل.

أعمال ليتورجيَّة تقام في بيت إيل، أمام العجل الذهبيّ، أمام الإله مامون، أي ذاك الذي يعطينا الأمان. فالله لا يُرى ولا يُلمَس. أمّا الصنم فنراه، نلمسه، نقبِّله، وهو يفيدنا. هو إلهنا. والإنسان يُحكم عليه بقدر الثروة الذي يملك. ويختار أبناء الكنيسة المكان الأفضل، لا من أجل الرسالة، بل من أجل أمور لاحاجة إلى ذكرها. والناس يتهيَّبوننا لأنَّهم يحتاجون إلينا في مظاهرنا الخارجيَّة. ويا ليتنا نعرف ما في قلوبهم من عواطف. وما هو جواب الله لاحتفالاتنا الفخمة بما فيها من صنميَّة. لنسمع أيضًا عاموس النبيّ في 5: 21ي:

21     أبغضت أعيادكم ورفضتها

ولا أرتاح لاحتفالاتكم.

22     إذا أصعدتم لي محرقاتكم،

لا أرضى بها وتقدماتكم،

ولا أنظر إلى ذبائح السلامة

من عجولكم المسمَّنة.

23     أبعدوا عنِّي هزيج أغانيكم

فأنا لا أسمع نغم عيدانكم

24     بل ليجرِ العدلُ كالماء

والصدقُ كنهر لا ينقطع.

ما قيمة مثل هذه الاحتفالات إذا لم ترافقها العدالة الاجتماعيَّة. هنا يكون النبيّ، فيرفض أن نخبِّئ ظلمنا للناس وراء احتفالات وقدّاسات وغيرها من الأمور. مثل هذه الأمور يكرها الله الذي يهمُّه خير أبنائه وبناته قبل أيِّ شيء آخر. ماذا يهمُّ أمصيا، رئيس الكهنة؟ رضى الملك. وكذلك أنبياء البعل. المهمّ أن لا نقول الحقيقة "للكبير" لئلاَّ نخسر رضاه.

*   *   *

اذهب، تنبَّأ. بهذين اللفظين نختصر انطلاقة عاموس من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال. يكفي أنَّ الله قال له: اذهب. فذهب. يكفي أنَّ الله قال له: تنبَّأ، فمضى يتنبَّأ، بعد أن وضع الله كلامه في فم نبيِّه. كلام قاسٍ. لا خوف. فالكلام هو كلام الربّ. لا خوف على مالٍ، لأنَّه إلى السامرة وبيت إيل وليس معه شيء، ويعود إلى قطيعه ولا شيء معه. قام برسالته واختفى. كيف انتهت حياة عاموس؟ لا أحد يعرف. هل هرب كما قيل له؟ يبدو أنَّه واصل الكلام. هل قُتل؟ كلُّ شيء ممكن. ونصيبه لا يكون أفضل من سائر الأنبياء. ويسوع نفسه قال: "لا يمكن أن يهلك نبيٌّ خارجًا عن أورشليم" (لو 13: 33). من يقول الحقيقة، يدفع الثمن. من يدافع عن الفقراء يكون حظُّه حظَّ الفقراء. ولكن لا بأس. فالفقراء يستقبلوننا في المظالِّ الأبديَّة، كما قال الربّ. هكذا استقبلوا المطران روميرو والبطريرك التيّان وأنطون عريضة المطران والبطريرك. ما قيمة كاهن لا يكون نبيًّا؟ لا شيء. وكذا نقول عن الأسقف. وعظمة يوحنّا بولس الثاني أنَّه كان نبيَّ العالم في القرن العشرين. لهذا، بعد موته، نرى الناس في بيته، في بولونيا، ليل نهار، يتطلَّعون إلى كلمة تفهمهم أنَّ كلمة الله لا تموت وإن مات حاملها. مات عاموس، ولكن بقي لنا سفر عاموس: "وستأتي أيّام (يقول الربّ) أرسل فيها الجوع على الأرض، لا الجوع إلى الخبز، ولا العطش إلى الماء، بل إلى استماع كلمة الربّ" (8: 11).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM