الفصل الخامس:وقال لي الربّ: إذهب أيضاً

الفصل الخامس

وقال لي الربّ: اذهب أيضًا

مرَّة أولى قال الربُّ للنبيّ هوشع، ومرَّة ثانية يقول له: «اذهب» (3: 1). لماذا يفعل؟ لكي يحبَّ. لكي يتزوَّج امرأة. وأيَّة امرأة؟ تلك العائشة بجانب المعابد الوثنيَّة. هكذا يصوِّر النبيّ عمل الله مع شعبه. فكما أنَّ بني يهوذا وبني إسرائيل يمضون تارة إلى الله وطورًا إلى بعل، إله صيدون، فهم يُشبهون المرأة الزانية التي تمضي من رجل إلى رجل. فالمرأة تمثِّل الشعب. وكلُّ امرأة هي حوّاء لأنَّها «أمُّ الأحياء». وإذا كان هوشع يمضي إلى امرأة زانية، فهو يصوِّر تصرُّف الله تجاه المؤمنين الخائنين لعهده. إلى هؤلاء قال النبيّ إيليّا: «إن كان الربُّ هو الإله فاتبعوه. وإن كان البعل هو الإله فاتبعوه» (1 مل 18: 22). الإله صفة لمن هو القدير. لمن يستطيع أن يهب شعبه المطر ساعة يحتاجه، لمن يقدران يبارك الغلال والمواشي. والبعل هو السيِّد. فويل لشعب يكون سيِّده الباطل وقبضة الريح! والويل لمن يبحث لدى السحر والشعوذة عمّا يرضي قلقه، وينسى أن يطلب الربّ. وهنيئًا لمن يرفع قلبه ويصرخ: «اسمع يا ربّ صوت دعائي وتحنَّن واستجب لي» (مز 27: 7). هنيئًا لمن يلتمس وجه الربِّ ولا يطلب إلاَّ رضاه. ذاك ما فعله هوشع. وذاك ما طلب من المؤمنين أن يفعلوا. ونتذكَّر هنا كلام إرميا وكأنَّ فم الربِّ يتكلَّم في فمه: «تدعونني، وتجيئون إليَّ. تصلُّون فأستمع لكم. تطلبونني فتجدونني. وإذا طلبتموني بكلِّ قلوبكم، أكون حاضرًا فيما بينكم، وأعيدكم وأجمعكم» (29: 12-14).

1. لستم شعبي

ماذا طـلب الربُّ من هوشع؟ أن يكون بحياته مَثلاً عن الله، لا أن يكتفي بفعلة  gesteسريعة بهـا يعلِّم الشـعب. مثـلاً، مشـى إشعيا حافيًا عريانًا في المدينـة (20: 2) ليبيِّن لأهل مصر ما يصيرون إليه حين يُؤخَذون إلى السبي. أو أخذ إرميا جرَّة من عند الفخّاريّ وكسرها أمام الذين يحيطون به ليدلَّ على عمل الربِّ حين «يكسر» شعبه، أو يسمح بأن تُدمَّر المدينة بسبب شرِّ سكّانها (19: 1ي). أو حمَلَ حزقيال بقجة «كالذاهب إلى السبي» (12: 4)، ليُفهم شعب أورشليم ما سوف يحصل له.

كذا فعل الأنبياء فحملوا كلام الله بفمهم وبيدهم، علَّ المؤمنين يفهمون. أمّا هوشع، فدلَّ بكلِّ حياته على تعليم الله. بدأ فأخذ امرأةً زانية. مضى إلى جوار معبد البعل وهناك تزوَّجها. اسمها جومر. هي «الكاملة» إذا عدنا إلى اللغة السريانيَّة. لا كاملة بالفضيلة، بل بالرذيلة والخطيئة. تركت زوجها وتبعت «عشَّاقها». أو هي «الجمرة المحرقة» إذا عدنا إلى اللغة العربيَّة. أحرقت قلبَ محبِّيها وخصوصًا سوف تُحرق قلب زوجها. قال لي الربّ: اذهب وأحبب». من؟ هذه المرأة الفاسقة، هذه الزانية؟! وأعطى الربُّ السبب حالاً: «أحبَّها كما يحبُّ الربُّ بني إسرائيل» (هو 3: 1). نتذكِّر هنا أنَّ القبائل العبرانيَّة انقسمت فئتين بانتظار أن تنتظم في مملكتين: في الجنوب، مملكة يهوذا بعاصمتها أورشليم، على المستوى السياسيّ والدينيّ. وفي الشمال، وبمحاذاة فينيقية مملكة إسرائيل، كانت عاصمتها السياسيَّة السامرة، وعاصمتها الدينيَّة بيت إيل، بيت الإله كما سمّاها يعقوب في مسيرته إلى حاران (تك 28: 19)، بانتظار أن تصبح بيت الإثم والشرّ وعبادة البعل مع ما يُرافق هذه العبادة من فلتان.

أين مضى الله يأخذ شعبه؟ إبراهيم كان في بلاد الرافدين حيث تُعبَد الكواكب ولاسيَّما القمر الذي هو «سين» فأعطى للجبل المقدَّس اسمه: سيناء. والذي هو «يرح» الذي أعطى اسمه لوالد إبراهيم: تارح (تك 11: 27). لهذا قال يشوع حين العهد في شكيم: «انزعوا الآلهة التي عبدها آباؤكم في عبر الفرات وفي مصر واعبدوا الربّ. وإن كان يسوؤكم أن تعبدوه فاختاروا لكم اليوم من تعبدون، إمّا الآلهة التي عبدها آباؤكم عبر الفرات أو آلهة الأموريِّين الذين أنتم مقيمون بأرضهم. أمَّا أنا وأهل بيتي فنعبد الربّ» (يش 24: 14-15).

ذكر يشوع بلاد الرافدين، من أور إلى حاران والآلهة التي حملتها راحيل من بيت أبيها (تك 31: 19). وذكر مصر التي لبث الخارجون منها يحنُّون إليها وإلى عبوديَّتها ويفضِّلون الموت فيها (خر 14: 11-12). وأخيرًا ذكر الأموريِّين، تلك القبائل التي أقامت في فلسطين والأردنّ الحاليّ. وينتهي كلام يشوع الذي اسمه يشبه اسم هوشع (الربُّ يخلِّص): «أمّا أنا وأهل بيتي فنعبد الربّ».

ذاك هو الشعب الذي اختاره الربُّ: شعبُ زِنى وعبادة أوثان، «يستشيرون الإله الخشبة، ويستخبرون الإله الوتد» (هو 4: 12). ما معنى هذه الممارسات؟ هي العرافة التي تنطلق من تحرُّك أوراق الشجر وأغصانها، أو من قِطع من الخشب وأصنام بيتيَّة تُرمى فيفسِّرها ذاك الذي يبحث عن الغيب أو عن المستقبل.


* * *

وتزوَّج هوشع تلك «الزانية» فدلَّ على الله الذي تزوَّج شعبه الزاني، الذي تركه بحثًا عن التُرَّهات. أضاع إيمانه بالإله الواحد وبقدرته، فمضى يستند إلى ما يقوله أولئك القائمون بجانب المعابد ويبحثون في يد الإنسان عن مستقبله. أو هو يشارك الجماعة الوثنيَّة بشعائر عبادتها لما في هذه المشاركة من منفعة مادِّيَّة أو راحة نفسيَّة تشبه إلى حدٍّ بعيد ذاك الذي يطلب المخدِّر لكي يخفِّف من ألم جسده. وحين يزول مفعول المخدِّر يعود الوجع فيحتاج أيضًا إلى المخدِّر. أمّا ممارسات «السحر والشعوذة» فهي تنسي الإنسان قلقه بعض الوقت، فيحسب نفسه أنَّه ارتاح. وإذ يعود القلق يمضي إلى «البصّارة» وهكذا يشبه الهرَّ الذي يلحس المبرد ويحسب أنَّ الدم الذي في فمه هو من المبرد. وكما هناك مدمنون على الكحول وعلى غيره من الموادّ، هناك من يمضي كلَّ أسبوع إلى من يهدِّئ من روعه بعض الوقت، ويحسب أنَّه وجد الحلَّ لمشاكله الحياتيَّة. ويا ليت الكهنة يبتعدون عن مثل هذه الممارسات التي تزيد في الانسان مرضاً على مرَض.

ومع ذلك تزوَّج الله، أي اتَّحد بهؤلاء «المؤمنين» الذين لا يمتلكون من الإيمان سوى قشوره، هذا إذا بقي عندهم ذرَّة إيمان. يعرفون أنَّهم يمضون إلى «الحجر والخشب» ويعِدون بأن لا يرجعوا إلى هذه الممارسات، ولكنَّهم لا يعتّمون أن يعودوا. هل يتركهم الله وشأنهم بسبب آثامهم؟ كلاّ ثمَّ كلاّ. فهو الأب (والأمّ) المحبُّ الذي يبحث عن كلِّ واحد منهم.

تركوا أصنامهم ثمَّ عادوا إليها. فقال الربُّ لهوشع: «اذهب أيضًا وأحبب». فذهب هوشع إلى جومر التي تمثِّل المؤمنين. غفر لها ما فعلت وأراد أن ينطلق معها من جديد. وكأنَّ شيئًا لم يحصل. الله أحبَّ ولا يزال يحبُّ. وعلى النبيّ أن يُظهر هذا الحبَّ من خلال علاقته بزانية تركت البيت من جديد ومضت إلى «عشّاقها» واعتبرت أنَّ هؤلاء «الآلهة» يُعطونها القمحَ والخمر والزيت، يعطونها «الفضَّة والذهب». لا، هؤلاء «الآلهة» الكاذبة لا يعطون شيئًا، بل يأخذون منّا كلَّ شيء، نحن نعطيهم الفضَّة والمال. هم يستغلُّون الضعفاء بيننا الذين يريدون أن يستندوا إلى عمود، فإذا هم يستندون على قصبة مرضوضة تثقب يدهم ولا تقدِّم لهم السند الذي يطلبون.

وتواصلت حياة هوشع: بما أنَّ امرأته «زانية»، فأولاده «أولاد زنى»

(1: 2). وأوَّل ولد دُعيَ «يزرع إيل»، أي الله يزرع. ماذا يزرع؟ الدمار، والهزيمة والفشل. ذاك ما سوف يحصل سنة 722-721، يوم يأتي الأشوريُّون ويحاصرون السامرة ثمَّ يدمِّرونها، ويأخذون أهلها إلى السبي. فالخطيئة تحمل العقاب في ذاتها، والإثم ينجرُّ بحبال الإثم.

والولد الثاني هو ابنةٌ دُعيَت: «لا رحمة» (آ6). قال الربّ: «لا أعود أرحم بيت إسرائيل». وهكذا ينساهم الجميع ولا يعود يتذكَّرهم. وهناك ترجمة بديلة: «أنساهم ولا أعود أغفر لهم». أو: «لا أستطيع أن أحتملهم بعد بحيث أغفر لهم». هو تهديد من الربّ، لا لكي يبدِّد شعبه، بل ليدعوهم إلى التوبة بحيث يرجعون إليه. ونبَّههم أنَّ الوسائل البشريَّة لا تنفع: لا القوس، لا السيف، لا الخيل، لا الفرسان (آ7). هنا نتذكَّر مز 20 حيث يُقابل المرنِّم بين الذين يجعلون ثقتهم بالربِّ وبين الذين يثقون بأدوات الحرب التي يستعملها العالم: «لهم مركباتهم والخيول، ولنا اسم الربِّ إلهنا» (آ8). وماذا كانت النتيجة؟ «هم يرتمون ويسقطون، وأمّا نحن فنبقى واقفين»، متأهِّبين بعد أن كان انتصارنا كاملاً.

والولد الثالث اسمه «لا شعبي» (هو 1: 9). دلالة على أنَّ الله تنكَّر لشعبه، فما عاد يعرفهم، ولا يريد أن يتعرَّف إليهم. صاروا غرباء بالنسبة إليه. كانوا شعبه، فما عادوا شعبه. كان إلههم، فما عاد إلههم. فليمضوا وليبحثوا عن إله هنا وهناك: في موآب، في عمون، في أرام، في فينيقية. أَنكروا الله فأنكرهم الله، وتنكَّر لهم. فلهم عيون ولا تبصر، ولهم آذان ولا تسمع، ولهم قلب ولا يفهم. فما أتعسهم!

* * *

ولكن هل الكلمة الأخيرة هي للانتقام، أم للغفران؟ ذاك ما ظنَّه يونان: أرسله الربُّ إلى نينوى، المدينة الوثنيَّة، الفاجرة، سفّاكة الدماء، ليقول: بعد أربعين يومًا تُدمَّر نينوى. فرح النبيُّ في قلبه: هي مدينة وثنيَّة، فلتُدمَّر مع أوثانها. هي سفكت الدماء، فليُسفَك دمُها! هي قتلت فليُقتل أبناؤها. سبَت المدنَ فليُسْبَ أبناؤها وليتشتَّتوا في طول الأرض وعرضها! ولكنَّ الربَّ عفا عن هذه المدينة، حين رأى توبتها. أمّا يونان فما رضيَ العفو، بل غضبَ «وطلب الموتَ لنفسه» (يون 4: 8). ولكن ماذا كان جواب الله في هوشع؟ «أنا الله لا إنسان» (11: 9). أتريدون من الله أن يتصرَّف كالإنسان؟ حاشا! ويتواصل الكلام: «أنا قدُّوس بينكم». فالقدُّوس هو المنفصل عن البشر، هو المميَّز. الإنسان يغضب أمّا الله فلا يغضب. الإنسان يحقد أمّا الله فيحبّ. الإنسان يغدر أمّا الله فلا. الإنسان يمكر ويكذب، أمّا الله فلا (12: 1). وماذا كانت النتيجة؟ «يزرعون الريح» (آ2) فماذا يحصدون؟ «يريدون الكذب والمكر» ويتصرَّفون بالعنف. ولكن هذه ليست طريقة الربّ. هو لا يعامل الناس بالقوَّة فيقول بالأحرى: «جَذبتُهم إليَّ بحبال الرحمة وروابط المحبَّة» (11: 4). هو أبٌ يحبّ. هو أمٌّ ترحم. رحْمُه كرحم أمٍّ، لهذا تتحرَّك أحشاؤه حين أولاده يُظلَمون، يُعذَّبون، يقادون إلى السبي، يُؤخذ منهم أولادهم، يُسخِّرونهم كالعبيد.

2- أنتم شعبي وأنا أرحمكم

كم تبدَّل الوضع! عرف الشعبُ أخيرًا من خلال أمِّهم التي قالت: «أتبع عشَّاقي الذين يعطونني خبزي ومائي وصوفي وكتّاني وزيتي وشرابي» (2: 7)، عرفوا أنَّهم خطئوا خطأ فظيعًا. «فالعشّاق» هم الآلهة الكاذبة. بعل، ملقارت، كوش، ملكوم، هذا عدا آلهة الأشوريِّين الذين هم أشور بانتظار مردوك إله البابليِّين. وماذا أعطاهم هؤلاء «العشّاق»؟ لا شيء. في وقت من الأوقات اعتبر العبرانيُّون أنَّ الله هو إله البرِّيَّة. أعطاهم الماء والمنَّ والسلوى. هذا كلُّ ما يقدر أن يفعل. أمّا دوره في أرض كنعان فغير موجود. هم ينتظرون المطر من «بعل». ومعه خصب الأراضي. كانوا يظنُّون أنَّ بعل «يبارك ثمر بطونكم وثمر أرضكم وثمر بهائمكم ونتاج بقركم وغنمكم. يبارك سلالكم ومعاجنكم» (تث 28: 4-5). أتُراهم فهموا؟ ونحن هل فهمنا أنَّنا لا ننتظر الحظَّ يأتينا من هنا وهناك؟ إنَّنا لا نستسلم إلى القدر وما كُتب لنا. والذي يقرأ ما «كُتب لنا» هو الساحر والعرّاف والمتطلِّع في الكواكب أو في بعض الأصداف والحجارة! إنَّنا لا نضع حياتنا في يد أشخاص يعتبرون أنَّهم يحملون الخلاص وهم لا يستطيعون أن يخلِّصوا أنفسهم. يحسبون أنَّهم يُبعِدون الخطر عنّا، وهم يقعون فيه! يحسبون أنَّهم يكتشفون من سرق لنا بيتنا، وبيوتهم تُسرَق! يحسبون أنَّهم يقهرون لنا عدوَّنا ساعة هم لا يستطيعون شيئًا تجاه الذي يعاديهم. متى يفهم شعب هوشع أنَّ الله هو الذي يُعطي، وأنَّه وحده يحمل البركة! ومتى يفهم شعبنا أنَّ حياتنا هي في يد الله لا في يد الناس! فنهتف مع الهاتفين: «معونتي باسم الربِّ خالق السماوات والأرض» (مز 121: 2).

حُرم الشعب بعض الوقت من المطر، خسر قمحه وخمره. انتُزع منه صوفه وكتّانه. اعتاد أن يفرح في الأعياد الكبرى: في عيد الفصح، يشكر الله على غلَّة الشعير. في عيد العنصرة، يحصد قمحه. وفي عيد المظالِّ أو القطاف، يجمع زيتونه وتينه وعنبه، ويعيِّد مع المعيِّدين. ولكن ضاعت هذه العادة بعد أن سيطر الجفاف في الأرض. واجتمعوا كثرًا على جبل الكرمل. حول كهنة البعل: «صرخوا بصوت عظيم، هشَّموا أجسادهم بالسيوف والرماح، سالت دماؤهم» (1 مل 18: 28). ولكن «لا صوت ولا مجيب ولا من يصغي» (آ29). ومتى كان للصنم أذنٌ تسمع وعين ترى وفم يتكلَّم!

غاب المطر فيبس الزرع وفرغ الضرع. غاب المطر فصارت الأرض وعرًا تسكنها الوحوش. فكيف نريد للنبيّ أن يذهب إلى الشعب ويعظه ويدعوه إلى التوبة! عندئذٍ سوف ينال التوبيخ هو من قبل السلطة.أما هذا الذي حدث لإيليّا حين انقطع المطر تقريبًا ثلاث سنوات؟ قال له الملك أخاب: «أنت مصدر ويلات إسرائيل» (آ17). وكان جواب إيليّا قاطعًا: «بل أنت (أيُّها الملك) وبيت أبيك، لأنَّكم تركتم وصايا الربِّ وعبدتم البعل» (آ18). وما قيل لإيليّا قيل لأليشع الذي سبق له فنبَّه الملك ودعاه لكي ينتظر المساعدة من الله. ولكنَّ الملك قال: «كيف أنتظرُ عونًا من الربِّ وهو الذي أنزل بنا هذا الشرّ؟» (2 مل 6: 33).

وكان بالإمكان أن يُتَّهم هوشع أيضًا إن هو دعا الشعب بأن يتركوا أصنامهم ويجعلوا كامل ثقتهم بالربّ. أترى يخاف هذا النبيّ؟ أتراه يصمت ولا يتدخَّل فيترك الشعب يسير كلُّ واحد في طريقه؟ كلاّ. فذهب هوشع وتكلَّم كما قال له الربُّ. بل كان فم الربّ: «هي (عروسي، شعبي، المؤمنون) لا تعرف أنِّي أنا أعطيتُها القمحَ والخمر والزيت، وأكثرتُ لها الفضَّة والذهب فصنعَتْ منهما تمثالاً لبعل. فلذلك أستعيد منها قمحي في وقته وخمري في موعده، وأنزعُ عنها صوفي وكتَّاني اللذين تكسو بهما عورتها» (هو 2: 10-11). أجل، تصبح عريانة كما كان آدم وحوّاء في الفردوس حين أطاعا الحيَّة وما أطاعا أمر الله. وكما عرف آدم وضعه فحلَّت فيه المخافة، كذلك شعب الله، الذي يستطيع أن يعرف الفردوس الذي عرفه «أبوانا الأوَّلان» إن هو عاد إلى الرب.

* * *

ويبدأ كلام الربِّ في صيغة المتكلِّم: «سأفتنها». أو: سأجتذبها، كما العريس يجتذب عروسه، «وأجيء بها إلى البرِّيَّة»، إلى هناك أقودها، كما فعلتُ مع الذاهبين برفقة موسى. حرَّرتُهم من مصر وأصنامها، من النيل المؤلَّه وخيراته. حرَّرتهم من سلطة فرعون الذي هو سيِّد البيت، سيِّد القصر، ومصر كلُّها بيته والشعب عبيده. في برِّيَّة سيناء سمع العبرانيُّون صوت الله عند جبل سيناء: «أنا هو الربُّ إلهك، لا يكن لك إله غيري» (خر 20: 2-3). لا حاجة إلى صوَر ولا إلى المنحوتات فتُحدروني إلى مستوى المخلوقات التي صنعتُها. ففي مصر، صار وجهُ إلهٍ وجه قرد، وآخر وجه نسر، وآخر وجه حيوان ثالث، هذا عدا البقر وما لها من احترام خصوصًا بعد أن صار «الثور» رمزًا إلى الخصب والقوَّة بين الحيوانات الداجنة.

فتن الربُّ «عروسه». خطفها، وبدت تلك «الحمامة الطائشة» (هو 7: 11) التي تروح إلى هنا وإلى هناك، وقد اصطادها الربُّ في شباكه. «خاطبها في قلبها» الخطاب الحميم كما الزوج مع زوجته. كأنَّه وضع فمه على قلبها، لأنَّ القلب هو موضع الفهم قبل أن يكون موضع الحبّ.

* * *

وتذكَّرت تلك «العروس» عريسها حين كانت صبيَّ، وكيف أحاطها بمحبَّته وعنايته، هناك «خضعت له». ما كانت تعرف بعد اسم «بعل» ولا كانت تعلَّقت به. في سيناء كان عهدٌ بين الله وشعبه، وها هو يتجدَّد اليوم، والمثال هو هوشع وزوجته. فكما رفع النبيّ «جومر» كذلك فعل الربُّ مع الذين سلَّموا نفوسهم له. عندئذٍ تتبدَّل الأمور كلِّيًّا.

في الماضي حيث بخَّرت «العروس» للبعل وتزيَّنت له "بأساورها وحليّها" (هو 2: 15)، أكلها «وحش البرِّيَّة» وأكل غلاّتها، وحوَّل أرضها إلى صحراء. هكذا كان الوضع بعد الخطيئة. صارت «الأرض ملعونة... فتنبتُ الشوك والعوسج» (تك 3: 17-18). والحيَّة ووحوش البرِّ صارت تهدِّد الإنسان في حياته. أمّا الآن، فالربُّ يقطع عهده لشعبه «مع وحش البرِّ وطيور السماء وزحّافات الأرض» (هو 2: 20). هذا ما يذكِّرنا بما يكون حين يملك، لا أخاب الشرِّير، بل ذاك «الفرع الذي يخرج من جذر يسَّى، ويحلُّ عليه روح الربّ» (إش 11: 1-2). عندئذٍ يتحوَّل الكون كلُّه: القويّ يكون مع الضعيف، والكبير مع الصغير، والظالم مع البريء. لا مجال بعدُ لأن يسيء أحدٌ إلى أحد، لا مجال للخراب والقتل والدمار بحيث تفسد الأرضُ التي حين خلقها الله رآها حسنة جدًّا. قال إشعيا عن ذاك الزمن الذي يتمنَّى النبيّ أن يعود: «يسكن الذئب مع الحمل، ويبيت النمر بجانب الجدي البريء، ويرعى العجل والشبل معًا، وصبيٌّ صغير يقودهما. وتصاحبُ البقرة الدبَّ، ويبيت أولادُهما معًا. ويأكل الأسدُ التبنَ كالثور، ويلعب الرضيع على وكر الأفعى، ويضع يده في مكمن الثعبان» (آ6-8).

نحن هنا في عالم الخيال! نلاحظ اقتراب الأضداد، الذئب مع الحمل، النمر مع الجدي، الشبل مع العجل. وماذا تأكل الحيوانات المفترسة؟ العشب. وتكون الحيوانات الداجنة والمفترسة بقيادة من يرعاها. أين يسكن الذئب؟ مع الحمل. أين بيت النمر؟ مع الجدي. متى يتمُّ هذا؟ «حين تمتلئ الأرض من معرفة الربّ» (آ9). كلُّ هذا يتمُّ في عهد جديد يقطعه الله مع شعبه، كما نقرأ عند إرميا: «أمّا العهد الجديد الذي أعاهد به بيت إسرائيل بعد تلك الأيّام، فهو هذا: أجعل شريعتي في ضمائرهم، وأكتبُها على قلوبهم، وأكون لهم إلهًا وهم يكونون لي شعبًا... جميعهم، من صغيرهم إلى كبيرهم، يعرفونني، لأنِّي أغفر ذنوبهم ولن أذكر خطاياهم من بعد» (31: 33-34).

* * *

ما كان الشعبُ شعبَ الله، بعد أن تنكَّر الربُّ لهم. والأن صاروا شعب الله. لا بقدرتهم. فهم أضعف من أن يعودوا. وبعد أن رفض لهم أن يدعوه «إلهنا»، ها هو يقول: «أكون لهم إلهًا». الخطايا الماضية؟ غفرها. الذنوب؟ نساها. الخيانات؟ لا يعود يذكرها. هي مَسيرة جديدة وكأنَّهم خُلقوا من جديد. هنا نعود إلى خبر الخليقة حيث مرَّت الخلائق كلُّها قدَّام آدم، قدَّام الإنسان، كما يمرُّ الجنود أمام قائدهم، فأعطى كلَّ واحد اسمَه ومهمَّته: طير السماء، وحش البرِّيَّة، كلُّهم يطيعونه ويحضرون أمامه (تك 2: 19-20). وما حصل مع آدم حصل مع نوح: «جميع أصناف الوحوش والبهائم وكلُّ ما يدبُّ على الأرض، وجميع الطيور المجنَّحة بأنواعها. هذه كلّها دخلت السفينة مع نوح» (تك 7: 14-15).

حوَّل الله حياة نبيِّه هوشع. اعترف بابنيه وبابنته، وتبدَّلت الأسماء من السلبيّ إلى الإيجابيّ. مع الأوَّل، يزرعيل، سوف يزرع الربُّ شعبه ويثبِّته بحيث لا تقتلعه الريح. أمّا «لا رحمة» فصارت رحمة، لأنَّ الربَّ أبان رحمته ومحبَّته.وأخيرًا «اللاشعب» سمع صوت الربِّ يقول: «أنت شعبي». فيردُّ عليه الشعب: «أنت إلهي» (هو 2: 25).

كان القتل والحرب. فحلَّ السلام. هذا لا يعني أنَّ شعبًا كان ضعيفًا انتقم من شعب استقوى عليه وظلمه. «القوس، السيف، أدوات الحرب»، كلُّ هذا كسره الله. ينبغي أن لا يُستعمَل بعد اليوم. فحيث يكون السلاح، لا يكون الأمان. منذ بداية الكون، استعمل قايين السلاح فقتل أخاه. واليوم، الأشوريُّون هم هنا، هذا عدا الشعوب المجاورة. مرَّة تهاجم السامرة أرام، ومرَّة أرام تهاجم السامرة. وتتحارب القبيلتان إلى أن تفنيا معًا. وهكذا يكون مصير الكون، الموت لا الحياة، الهدم لا البناء، الانحطاط لا النموّ. وما كان في زمن هوشع هو في كلِّ زمان، وفي زماننا أيضًا حيث تتسابق الدول الصغيرة إلى التسلُّح، وكأنَّ الجار عدوّ جاره. بل ماذا نقول؟ الجماعة عدوَّة جارتها القريبة وتستعدُّ لأن تستعمل السلاح، لا القوس والسيف فقط، بل ما عندنا اليوم من أسلحة فتّاكة، تقتل العشرات والمئات والألوف. وفي النهاية، تُدفَن الجثث في الأرض الواحدة، بحيث لا تكون جثَّة أرفع من جثَّة، لا جثَّة المنتصرين ولا جثَّة المغلوبين. فلو عرفْنا الله وسمعنا وصاياه وتبيَّنَّا فرائضه، لما كنّا تعساء في هذا الشرق الذي يسيطر عليه الرعب في كلِّ مكان. قال الربُّ عن عروسه: «تنام في أمان» (هو 2: 20). هذا مستحيل، والذئب ينتظر الحمل، والشبل يتحيَّن الفرصة ليثب على العجل، والحيَّة تلدع الطفل ولا تهتمُّ ببراءته. أهو يؤذيها؟ بل هي تؤذيه لأنَّ الشرَّ في داخلها. وماذا يكون من الإنسان الذي يعتمر الشرُّ في قلبه!

طلب الربُّ من هوشع أن يذهب أيضًا ويتزوَّج تلك المرأة التي تركته، وعادت إلى معبد البعل لتمارس هناك البغاء السرّيّ. أطاع النبيُّ، فكان صورةً عن الله الذي قال لشعبه، قال لعروسه: «أتزوُّجك إلى الأبد». لا زمان محدَّدًا. لا رجوع إلى الوراء. وضع الربُّ كلَّ ثقله في الميزان، مع أنَّه عارف بأنَّ الشعب معتاد على الخيانة، على الشرّ. قال لهم هوشع: «ما في الأرض أمان ولا رحمة ولا معرفة الله، بل اللعنة والغدر والقتل والسرقة والفسق. هذه كلُّها تجاوزت كلَّ حدّ، والدماء تلحق بالدماء» (هو 4: 1-2). ذاك ما يجب أن يقوله النبيّ للحكّام ولا يخاف. هل هدَّدوه، هل قتلوه؟ لا نعرف شيئًا عن نهاية ذاك النبيّ الذي أعلن فقط حبَّ الله لشعبه من خلال حبِّه لامرأته. ولكن لا شكَّ في أنَّ حياته كانت في خطر. هاجم الكهنة وكانوا قوَّة تحيط بالملك، هاجم العظماء، وما عفَّ عن «بيت الملك».

ويتابع الربُّ كلامه إلى عروسه: «أتزوَّجك لي». فأنا أمين لكِ. لماذا لا تكونين أمينة لي؟ وتأتي أربعة ألفاظ تدلُّ على عمق العلاقة بين الله وشعبه، وإن تكن «طاعة الشعب مثل سحابة الصبح وكالندى الذي يزول باكرًا» (6: 4). أوَّل لفظ هو: الصدق. وماذا يعارضه؟ الكذب والمكر والحيلة، وكأنَّنا أكثر فهمًا من الله. والصدق يكون في تعاملنا مع الربِّ والبحث عن مشيئته. وإن لم نكن صادقين مع الربّ، يصحُّ فينا قول المزمور: «فسدوا ورجسوا بأعمالهم. وما من أحد يعمل الخير. حناجرهم قبور مفتوحة، وعلى ألسنتهم يسيل المكر. سمُّ الأفاعي على شفاههم وملء أفواههم لعنة ومرارة».

واللفظ الثاني هو الحقُّ والعدل. الربُّ هو الحقُّ، ويسوع قال لنا: "أنا هو الطريق والحقُّ والحياة". والربُّ هو العادل، فيجازي كلَّ واحد بحسب أعماله من دون محاباة للوجوه. ولكن هل هكذا يتصرَّف الشعب في زمن هوشع وفي زماننا؟ قال لهم النبيّ: «هم يغدرون بعضهم ببعض. فمنهم السارق في الداخل، واللصّ الذي يسلب في الخارج، ولا يفكِّرون في قلوبهم بكلِّ ما يفعلون من سوء» (7: 1-2). ثمَّ اللطف والرحمة. فضيلتان مهمَّتان لاسيَّما وأنَّ الربَّ قال بلسان نبيِّه: «أريد رحمة لا ذبيحة». والربُّ يسوع قال لنا في التطويبات: «طوبى للرحماء فإنَّهم يُرحَمون».

* * *

سيطرت معرفة الربّ، فتبدَّل عالم الحيوان وعاد الإنسان إلى الفردوس. فلا قتل بعدُ ولا افتراس ولا سفك دماء. والأرض التي كانت عاصية على الإنسان فرفضت أن تعطيه ثمرها، تحوَّلت كما يقول المزمور: «الأرض أعطت غلَّتها وهكذا باركنا الله إلهنا» (مز 67: 7). ويستعمل هوشع لفظ «أجاب». طلبَ الشعب، فأجاب الربّ. توسَّل المؤمنون فاستجاب الربُّ لهم. السماوات طلبت، فاستجابها الربُّ وملأها بالغيوم. والأرض طلبت فجاءها المطر الغزير، كما قال المزمور: «ارتعشت الأرض وقطرت السماء... خيرًا عميمًا أمطرتَ يا الله» (68: 9-10). الجفاف علامة «غضب» الربّ، كما كانوا يقولون. أمّا المطر فعلامة البركة، سواء ذاك الذي يأتي في الخريف فيرطِّب الأرض، أو ذاك الذي يأتي في الربيع فيُكثر الغلَّة.

الأرض طلبت من السماوات فاستجابت لها، فكان «القمح والخمر والزيت» (هو 2: 24). عندئذٍ يتَّخذ «يزرعيل» المعنى الإيجابيّ: الإنسان يزرع والله يعطي الغلَّة، كما حصل لإسحاق في سنة القحط (تك 26: 12). وبالأحرى، الله يزرع بيد الإنسان، بل هو يزرع الإنسان، يزرع شعبه في الأرض بحيث لا يقتلعه العدوّ بعدُ ويرسله إلى السبي. فالشعب هو شعب الربّ، فمن يجسر أن يمدَّ يده عليه! والرحمة ترافقه بعد أن ابتعدت عنه الرحمة، أو بالأحرى ابتعد هو عن الرحمة وظنَّ أنَّه يجد لدى الأوثان والترَّهات والأكاذيب، ما يشفي غليله. فإذا هو يشرب ويشرب، ولكنَّ العطش لا يتركه. ويأكل ويأكل ولكنَّه لا يشبع. يمضي إلى الشرق والغرب ويبقى القلق مسيطرًا عليه. ويضيف هوشع: «تزنون ولا تَكثرون، لأنَّك تركتم الربَّ ورحتم وراء آلهة أخرى» (4: 10).

الخاتمة

هوشع نبيّ ولكن لا كسائر الأنبياء. هم هدَّدوا باسم الربّ، أمّا هو فما عرف أن يهدِّد، لأنَّ الله في نظره هو الراعي الذي يمضي وراء الخروف الضالّ لكي يجده. ويقول فيه هوشع: «رعاكم الربُّ كخروف في مرج رحب» (4: 16). الله في نظره هو الأب. وهو الأمّ أيضًا لأنَّه الرحمة بالذات. من يعلِّم الطفل المشي؟ أمُّه. من يحمل الطفل على ذراعيه فيمسُّ وجهُه وجهَ طفله؟ الأمّ. من ينحني على الولد، من يهتمُّ به فيطعمه، وإذا كان طفلاً يرضعه؟ الأمّ. هذا ما يقول هوشع عن الله. «أنا الذي علَّمتكم المشي. أنا الذي حملكم على ذراعه». أنا الذي اهتممت بكم، أصلحت حالكم. «كنت لهم كأب يرفع طفله على ذراعه ويحنو عليه ويطعمه» (11: 4). وفي الشدَّة يقول لهم: «قلبي يضطرب في صدري، وكلُّ مراحمي تتَّقد» (آ8). لا أستطيع أن أتخلَّى عنكم، لا أستطيع أن أهجركم، لا أستطيع أن أعاقبكم. وفي النهاية، يدعوهم بقوَّة مثل الأسد «فيسيرون وراءه» (آ10). يُسرعون وهم الأبناء (والبنات) كما العصافير يسرعون. وكما عادت الحمامة إلى السفينة بعد أن أطلقها نوح، هكذا يعود شعب الله «إلى بيوتهم». وينتهي الكلام: «أنا الربّ». أجل، الربُّ تكلَّم وهو يفعل. فيكون لأبنائه «كالندى، فيزهرون كالسوسن ويمدُّون جذورهم كلبنان» (14: 6).

اذهب أيضًا وأحبب. ومضى هوشع باسم الربّ ودلَّ على حبِّ الربّ. تلك هي الرسالة التي نحتاج إليها. وها هو النبيّ يذكِّرنا بها. فهل نعرف أن نستسلم لحبِّ الربّ؟ هل نقبل أن يجمعنا كما الدجاجة تجمع فراخها تحت جناحيها؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM