الفصل الرابع:من أرسل؟ ها أنا لك فأرسلني، اشعيا

(الرعيَّة، حزيران 2011)

من أرسل؟ ها أنا لك فأرسلني

الخوري بولس الفغاليّ

كان إشعيا النبيّ يصلِّي في الهيكل فرأى رؤية: السيِّد الربُّ مثل ملك عظيم، مثل ملك الملوك. هم يجلسون على عرشٍ عال، أمّا هو فعلى "عرش عالٍ رفيع". وهكذا يكون الملوك عند قدميه. يرتدي معطفًا مثل العظام الذين رآهم النبيّ. أمّا معطفُ الربّ "فيملأ الهيكل". أطرافه ممتدَّة تعلن أنَّ الهيكل تحت حمايته. من يجسر أن "يدنِّس" هذا المكان المقدَّس.

الربٌ جالس وحوله الجنود واقفون، يحمونه. وممَّن يخاف؟ من نظر البشر الخاطئين وأيُّ نوع من الجنود حوله؟ جنود من نار. السرافيم. فالسراف هو المحرق. إذا كان الله نارًا محرقة على ما اختبر موسى مع "العلَّيقة الملتهبة"، فالكائنات المحرقة يقومون حوله. إذا كان السراف "ملاكًا" فله جناحان فقط، دلالة على سرعة تنفيذه لأوامر الله في كلِّ مهمَّة يرسله. أمّا هنا فله "ستَّة أجنحة". كلُّ هذا له معناه. له جناحان كما كلُّ ملاك: هو ينفِّذ أوامر الله وأوَّل أمر: "طار إليَّ أحد السرافيم وبيده جمرة". ثمَّ جناحان آخران يغطِّي بهما وجهه. ولماذا؟ لأنَّه لا يجسر أن ينظر إلى الله، القدُّوس ثلاث مرَّات. فإذا كان هذا الملاك "المحرق" يخاف من النظر إلى الله، فما يكون موقف الإنسان في حضرة الله؟ مرَّات قيل: لا يستطيع الإنسان أن ينظر إلى الله ويبقى على قيد الحياة. وهكذا خاف إشعيا وهتف: "ويل لي! أنا خاطئ. وشعبي خاطئ ورأيت الربَّ، فأنا "هالك" لا محالة. ولا أستطيع بعد أن أتكلَّم"، ويبقى جناحان أخيران بهما يغطِّي السراف رجليه حتّى خصره، كما يفعل الكاهن حين يقدِّم الذبيحة.

هكذا يكون النبيّ. يعرف موقعه بالنسبة إلى الله. وهو كاهن مكلَّف قبل كلِّ شيء بحمل الكلمة، وهو ينفِّذ أوامر الله بسرعة. لا يتأخَّر في إيصال "البلاغ الذي يحمِّله الله إيَّاه. ولكنَّه أحسَّ وكأنَّه "مات". فلا بدَّ من إقامته وخلقه من جديد. وأحسَّ أيضًا أنَّه صار أبكم أو هو لا يجسر أن يتكلَّم، شأنه شأن موسى حين أراد أن يتهرَّب. ولكنَّ "الجمرة" التي مسَّت فمه، أفهمته أنَّ "إثمه أزيل وخطيئته كُفِّرت". ها هو مستعدّ. وحين قال الربّ: "مَن أُرسل؟ من يكون رسولاً لنا؟" أجاب إشعيا حالاً: "ها أنا لك، فأرسلْني" (إش 6: 8). عندئذٍ قال له الربّ: "اذهبْ" (آ9). وبهذه الكلمة كوَّنه نبيًّا، حمَّله كلمة، أطلقه. ومن انطلق مع الربّ لا يمكنه التراجع، لا يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء.

ومضى إشعيا وأمامه ثلاث مهمَّات. الأولى، حمل الكلمة إلى أورشليم وإلى شعب يهوذا: أنت "مقيم وسط شعب دنس الشفاه". وسوف يعلن النبيّ "ويل" أكثر من مرَّة. ما هذه العبارات والصلوات حيث الشعب يكرِّمني بشفتيه وقلبه بعيد منِّي. والظلم حاضر في كلِّ مكان: "يدعون الشرَّ خيرًا والخير شرًّا" (5: 20). المهمَّة الثانية، دعوة الملك إلى الإيمان لكي يكون الخلاص له ولشعبه: "إن لم تؤمنوا لن تأمنوا" (7: 8). إذا أردتم أن يكون لكم الأمان والسلام، فآمنوا بالربِّ وحده، ضعوا ثقتكم فيه ولا تبحثوا عن آلهة من لحم ودم، سواء ملك أشور "بعظمته" الطاغية، أو غيره من الملوك الأغنياء ولاسيَّما المقيمين في السامرة وصور وصيدا. أعطاهم النبيّ آية، بل كان هو وأولاده آية لهم: "أسرعْ إلى السلب، بادرْ إلى النهب". هكذا كان اسم ابن إشعيا البكر. فقبل أن يستطيع هذا الولد أن يقول "يا أبي، يا أمِّي"، "تُحمَل ثروة دمشق وغنائم السامرة إلى أمام ملك أشور" (8: 4). والمهمَّة الثالثة والأصعب، هل يركع الربُّ أمام الملوك الآتين من الشمال؟ هذا غير ممكن. فأورشليم تستطيع أن تنشد: "أنا مدينة منيعة! حصَّنها الربُّ لخلاصنا بأسوار ومتاريس. اختموا الأبواب..." (26: 1-2). لا حاجة بعد إلى الأبواب، كما سيقول سفر الرؤيا، لأنَّ المدينة لا تسع كلَّ الآتين إليها، وهم كلُّهم "الأمَّة الوفيَّة للربِّ، الأمَّة التي تحفظ الأمانة" (آ2). هذا هو شعب الله، الآتي "من جميع الأمم". نحو الربِّ "يسير شعوب كثيرون ويقولون: لنصعد إلى الربِّ إلهنا" (2: 2-3).

  1. الويل، الويل

أقامت أورشليم داخل أسوارها. والشعب لا يفكِّر في شيء. أمّا الظلم فيحلُّ في كلِّ مكان. وكيف نخفي الظلم؟ بالعبادات والتقادم والذبائح، وهكذا نرضي الله، فنرشيه، فيرضى عنّا. لا نقدِّم له فقط "طيرَي يمام أو حمام"، ولا فقط "حملاً صغيرًا"، بل "عجلاً"، بل "ثورًا بقرون وأظلاف". أهذا ما يرضي الله؟ الناس بسطاء. ينعمون بعض الوقت بما يُعطى لهم من "لحم" الذبيحة. ماذا أقول؟ بعض "الجلاميش" إن لم يكن العظام. أمّا النبيّ، الصوت الذي أرسله الله، فهو يرى غير ما يرى الباقون. يرى الكذب في شعائر العبادة والبذخ أمام الفقراء الجائعين. فانطلق صوتُ النبيّ قاصفًا كالرعد:

"ما فائدتي من كثرة ذبائحكم؟ شبعتُ من محرقات الكباش وشحم المسمَّنات... حين تجيئون إلى أمامي لتعبدوني، من طلب ذلك منكم؟ لا تدوسوا بيتي بعد اليوم" (1: 11-12). ويواصل إشعيا كلامه وكأنَّه يتوجَّه إلينا اليوم: "شعائر رأس الشهر والسبت والدعوة إلى الصلاة لا أطيقها، ولا أطيق مواسمكم واحتفالاتكم... إذا بسطتم أيديكم للصلاة أحجب عينيَّ عنكم، وإن أكثرتم من الدعاء لا أستمع لكم" (آ13-15).

نتخيَّل كلام النبيّ وما فيه من قساوة. هو يحكم على الهيكل وما تقام فيه من عبادات. كيف؟ الله لا يريد أن ينظر إلينا! الله لا يريد أن يسمع صلاتنا! الربُّ لا يريدنا أن نأتي إلى الهيكل لعبادته! ألا يريد أن يأكل مثل "الآلهة الوثنيَّة"؟ فنحن جئناه بالذبائح من أجل العيد، فيأكل هو ويأكل معه الحاضرون. كلاّ، هو لا يريد.

من يجسر أن يقول هذا الكلام سوى النبيّ الذي يرسله الله؟ قال إشعيا للربّ: "ها أنا لك فأرسلني". قال له الربّ: اذهب وقلْ لهذا الشعب. وها هو قد ذهب وتكلَّم. كلام لا يستطيع الناس أن يرضوا عنه. وخصوصًا حين يقول السبب: "لأنَّ أيديكم مملوءة بالدماء" (1: 15). هو الجور والظلم في كلِّ مكان. وترد الويلات السبع. "ويل للذين يضمُّون بيتًا إلى بيت ويصلون حقلاً بحقل". كان البيت متَّصلاً بآخر، نطرد منه صاحبه فيصبح لنا. أما سمعتم بخبر الأخ الذي أعطى أرملة أخيه بعض المال ثمَّ أخذ منها البيت وطرد منه ساكنيه؟ أما سمعتم بذاك الذي قتل أخاه، لأنَّه أوقف سيّارته في موضع ليس له؟ وأصحاب الأرض الواسعة، حيث هدَّد الواحد بأن يقتل جاره إن اقترب من أرضٍ يظنُّها له؟ وواصل النبيّ كلامه: "حتّى لا يبقى مكان لأحد (سواكم)، فتسكنون وحدكم في الأرض" (5: 8). وذاك الذي استولى على بيت أخيه، فمات الأخ فجأة من الحزن. والذي استولى على البيت، مات بعد سنة. فرعد صوت إشعيا: "بيوت كثيرة تصير خرابًا، بيوت كبيرة وفخمة تبقى بغير ساكن" (آ9).

وهاك ويلاً آخر: "الذين يجذبون الإثم بحبال الباطل"، بحبال الكذب. "وبمثل أمراس العجلة يجذبون الخطيئة" (آ18). هم لا يخافون الله. بل يتحدُّونه: هل يرى؟ هل يفعل؟ قالوا: ليُسرع في عمله حتّى نرى، ولتظهر مقاصده حتّى نعلم" (آ19). ويتحدَّث النبيّ عن أصحاب "الرشوة". الذين يجعلون الشرِّير "بريئًا" ويحرمون "البريء حقَّه" (آ23). وكلُّ هذا من أجل المال. ولماذا المال؟ من أجل السكر والعربدة. "ويلٌ للمبكرين صباحًا في طلب المسكر، والساهرين الليل كلَّه والخمر تلهبهم، ولائمهم الكنّارة والعود والدفّ والمزمار، والخمر شرابهم، لا يلتفتون إلى عمل الربِّ ولا يتأمَّلون ما صنعَتْ يده" (آ12أ).

وماذا يرى النبيّ في المجتمع أيضًا؟ "شعبي ظالموه أولاد، وحاكموه نساء" (3: 12). فالولد لا حكمة عنده، والمرأة تخاف عادة. فإذا كان الحكّام على هذا المستوى، ماذا نستطيع أن ننتظر بعد ذلك، حين يكون المسؤولون قصّارًا ينتظرون كلمة السرِّ لكي يتصرَّفوا. ويتواصل كلام إشعيا وهو يحمل فم الله: "آه يا شعبي! قادتك هم يضلِّلونك ويمحون معالم طرقك" (آ12ب). ونسأل كيف تسير! إلى الوادي.

وما العمل لكي يرضى الله؟ "اغتسلوا، تطهَّروا، أزيلوا شرَّ أعمالكم من أمام عينيَّ. كنُّوا عن الإساءة، تعلَّموا الإحسان واطلبوا العدل. أغيثوا المظلوم، أنصفوا اليتيم وحاموا عن الأرملة" (آ16-17).

أرسل إشعيا وتكلَّم. ولكن ألا ييأس؟ من يسمع له؟ لا أحد ولاسيَّما العظماء والأغنياء فمالهم  بأحسن حال. وهم لا يقدرون أن يصغوا إلى هذا الكلام، كما لا يريدون. وإن حصل وأصغوا، فهم يضحكون ويقولون: ليتكلَّم قدر ما يشاء ونحن نفعل ما نشاء.

لو كان كلام النبيّ بحسب العالم لسمعه الناس. ولكنَّه كلام الله، وهو سيف ذو حدَّين. ومع ذلك يجب أن يتكلَّم النبيّ، والربُّ عالم بنتيجة ما سيكون. فحين دعاه أخبره: يسمعون ولا يفهمون، أو هم لا يريدون أن يفهموا. ينظرون ولا يرون، أو هم لا يريدون أن يروا. يغمضون عيونهم لئلاَّ يروا شرورهم. ويروا الناس الذين ظلموهم وجرَّدوهم ممّا يملكون (6: 9). ويتواصل الكلام: قلبٌ قاسٍ كالصخر! آذان ثقيلة! عيون ملتصقة، مغمَّضة (آ10أ). لا تنتظر أيُّها النبيّ من هذا الشعب "أن يبصر بعينيه، أن يسمع بأذنيه، أن يفهم بقلبه" (آ10ب). لا تنتظر منه توبة، لا تنتظر منه أن يشفى (آ10ج). هو مريض ويفرح بمرضه. هو يسير في طريقه ولا يلتفت إلى طريق الربّ. اختبر إشعيا هذا الوضع وتألَّم في أعماقه، لا لأنَّهم لم يسمعوا له، بل لأنَّهم استخفُّوا بكلام الربِّ وطالت قساوة قلوبهم. لهذا طرح السؤال: "إلى متى يا ربّ؟" (آ11أ). تعبتُ يا ربّ. لا أستطيع بعد أن أحتمل! أكرِّر وأكرِّر وكأنَّني في وادٍ. والجواب من الربّ: حين تأتي الكارثة "فتصير المدن بلا ساكن، والبيوت بلا بشر" (آ11ب). وتوسَّل النبيّ: ألا يمكن أن يتوبوا بدون هذا العذاب الذي يصيب الصغار قبل الآخرين؟ ولكنَّ الصغار يتبعون الكبار ويحسبون أنَّهم يخلِّصونهم! ما عادوا ينتظرون الخلاص من الربِّ، الذي يبدو "غائبًا". غاروا في الذلِّ والفقر، فما التفت الله إليهم. كم يحتاج النبيّ إلى قدرة الله لكي يرفع شعبه ويعلِّمه أن يتأمَّل في صنائع الربّ. "مهنة" قاسية مهنة النبيّ. مهمَّة "مستحيلة" تُطلَب منه! هل يواصل الكلام؟ ويأتيه الجواب: ما هو مستحيل عند الناس، ممكن عند الله. عند الله كلُّ شيء ممكن" (مر 10: 27). ماذا ينقص؟ الإيمان بالله لا بالبشر، لأنَّ البشر يشبهون عشب الحقل الذي يكون اليوم وييبس غدًا.

  1. لا تخف، يكفي أن تؤمن

كان يسوع ماشيًا فلمست ثوبَه امرأةٌ بها نزيف دم فشفيَت في الحال (مر 5: 34). أجل، شفى يسوع هذه المريضة، فهل يستطيع أن يقيم من مات؟ ودبَّ اليأس في أصدقاء يائيرس. "لا تُتعب المعلِّم، فابنتك ماتت" (آ35). لا مجال لعمل أيِّ شيء. فليمضِ كلُّ واحد في طريقه. ولكنَّ الربَّ لا يرضى بذلك. كيف لا يفعل وهو الذي أخَّرته تلك النازفة! فتطلَّع إلى رئيس المجمع وقال له: "لا تخف، يكفي أن تؤمن" (آ36). فماذا لا يفعل الإيمان؟ ينقل الجبال. "إن قلتم لهذه التوتة، انقلعي وانغرسي في البحر...". إن قلتم لهذا الجبل: انتقل وانغرس في البحر...". هذا مستحيل! لا على المؤمن. فكلُّ شيء ممكن على المؤمن. وإن كان الإيمان ضعيفًا نهتف مع والد الصبيّ: "أنا مؤمن يا ربّ، ولكن أعِنْ قلَّة إيماني" (مر 9: 24).

الإيمان، ذاك ما طلب إشعيا من الملك. اسمه آحاز الذي يقيم في العاصمة أورشليم، ويسود مملكة يهوذا، في جنوب فلسطين. هو خائف وانتقل الخوف إلى شعبه. صوَّره إشعيا فقال: "فاضطرب قلبه وقلب شعبه اضطراب شجر الغاب في وجه الريح" (7: 2). من يخاف لا يؤمن. ومن يؤمن لا يخاف. فبدأ إشعيا يزيل الخوف لكي يحلَّ محلَّه الإيمان والثقة بالله. وما هو سبب الخوف؟

ما نلاحظ أوَّلاً هو أنَّ النبيّ لا يعيش على هامش الأحداث. هو من السماء ولا تهمُّه أمور الأرض. خطأ كبير عند بعض الرهبان والأساقفة والكهنة: هم منذ الآن في السماء! كم يشبهون النعامة التي تضع رأسها في الرمل بحيث لا ترى الخطر. كان أنطونيوس الكبير في أعماق صحرائه. أحسَّ بالخطر الأريوسيّ يهدِّد كنيسة الإسكندريَّة. ترك عزلته وراح يحارب الضلال، الذي انطلق عمليًّا من كنيسته، من أريوس الذي تحدَّث عن يسوع الإنسان ونسي أنَّه ابن الله أيضًا. كيف يكون "المسؤول" في أمان، والذئاب تهدِّد الرعيَّة! الويل لمثل هذه "الرعيَّة" التي يبدو راعيها مثل "أجير" ينتظر "أجرته" مالاً يجمعه! الويل لرعيَّة يغفل عنها الراعي فيشبه هؤلاء الذين تحدَّث عنهم إشعيا: "أبطال في شرب الخمر، وجبابرة في مزج المسكر" (5: 22). مثل هؤلاء الرعاة بعيدون جدًّا عن بولس الرسول: "عانيتُ الكدَّ والتعب والسهر الدائم... وهذا كلُّه إلى جانب ما أعانيه كلَّ يوم من اهتمام بجميع الكنائس فمن يضعف وأنا لا أضعفُ معه. ومن يقع في الخطيئة وأنا لا أحترق من الحزن عليه" (2 كو 11: 27-29). كلُّها أمور لا تعنينا! الويل لنا. كان في هذه الرعيَّة فرسان، طلائع... زال كلُّ شيء، لا من يسأل ولا من يفتقد. الذئاب حاضرون في الرعيَّة ينهشون الخراف. الجواب: لا نستطيع أن نفعل شيئًا، لأنَّنا لا نريد، لأنَّنا كسالى، لأنَّ حياتنا مؤمَّنة. فقيل فيهم: "أجسامهم سليمة سمينة، لا يتعبون كسائر الناس... عيونهم جحظت من الشحم ونالوا ما تشتهيه قلوبهم (مز 73: 4-7). هنيئًا لهم! بل الويل لهم!

لم يكن إشعيا من هذه الفئة. رأى الفوضى في أورشليم: "هي تتهاوى ويهوذا هو في الحضيض" (3: 8). والسبب: "الصبيان حكّام، والسفهاء أسياد" (آ4). هذا في الداخل. وفي الخارج، الخطر يداهم المملكة. فهناك حلف يهاجمها، مؤلَّف خصوصًا من رصين، ملك آرام بعاصمته دمشق، وفقح بن رمليا، ملك الشمال، بعاصمته السامرة (7: 1). كلُّهم صعدوا ليحاربوا مملكة داود. ولهذا خاف أحزيا. لا على المملكة، بل على نسله. إن هو مات بدون عقب، فمن يخلفه في المُلك. في الواقع، همُّه نفسه وأولاده. لا صبيّ بعدُ له! مسكين من يحسب المملكة "ملكًا له" ولعياله ولأولاده. يستفيد منها ما دام على قيد الحياة، ثمَّ يأتي الذين في عهدته، من أبناء الأخ وأبناء وبنات الأخت. هي عنزة حلوب، فكيف نخسرها.

ما خاف آحاز على المملكة، ولا هو خاف على الرعيَّة، بل على نفسه. لهذا لم يكلِّمه إشعيا مباشرة، وهو الأنانيّ الأنانيّ، الباحث عن الراحة والمال، بل أوصل كلامه إلى أبعد: "اسمعوا يا بيت داود" (7: 13). أنتم تخافون! لا مجال للخوف. أرسل الربُّ إشعيا فقال للملك، ومن خلاله إلى الشعب: "تنبَّه. اطمئنّ. لا تخف. لا يضعف قلبك" (7: 4). اسهر، كن الحارس (ش م ر. كما نقول: مار عبدا المشمَّر، أي الحارس). ابقَ هادئًا، مطمئنًّا. لا تنفعل وتضيع كيف تتصرَّف! ثمَّ إنَّ الخوف يضعف القلب، فيجعل الإنسان يتصرَّف على مستوى العاطفة، لا على مستوى العقل. وإن هو حسب الحسابات، ينسى الإيمان. وهذا ما حصل لآحاز. قال له إشعيا: لا تخف. أمّا هو فخاف. قال له اطمئنّ، فطلب الاطمئنان، لا عند الله، بل عند ملك أشور الذي أطلَّ من الشمال. أراد أن يهرب من الربِّ فوقع في الجبّ. أراد أن ينجو من خطر، فوقع في خطر أكبر.

هذا لم يره الملك ولا العظماء الذين يحيطون به. فاستعدُّوا كلُّهم للحصار، ومضى الملك يتفقَّد "البُركة العليا" (7: 3) ليرى هل يكون الماء كافيًا إن طال الحصار. هذا في الداخل. ومضى يبحث عن مساعدة في الخارج ناسيًا كلام المزمور: "معونتي باسم الربّ، صانع السماوات والأرض" (مز 121: 2). مضى آحاز إلى ملك أشور يطلب عونه على الأعداء. فطلب منه أوَّل ما طلب أن يترك الله وشعائر عبادته: "ولمّا ذهب الملك آحاز ليستقبل تفلت فلاسر، ملك أشور بدمشق، رأى المذبح هناك وأُعجبَ به. فأرسل إلى أوريّا الكاهن شكل المذبح مرسومًا بجميع تفاصيله. فبنى أوريَّا الكاهن مذبحًا مثله، وأكمله قبل رجوع الملك آحاز من دمشق" (2 مل 16: 10-11). مذبح الربِّ جُعل جانبًا، وحلَّ محلَّه المذبح الجديد "المذبح الكبير" حيث "تَحرُق الذبيحةَ وتقدِّم الدقيق والخمر عنِّي وعن الشعب..." (آ15). مسكين الملك آحاز! خاف من ملك أشور ومن إلهه الذي يبدو أقوى من الربِّ الإله. فتبعه عظيم الكهنة، والكهنة والشعب. الله لا يُرى، أمّا تفلت فلاسر فنراه والسيف بيده. لهذا نخضع له. كلُّنا؟ حاشا وكلاّ. فهناك إشعيا والأبناء (8: 18) الذين أُعطوا له، أي تلاميذه فالنبيّ يرى الأمور كما يراها الله. لا تكون مضخَّمة كما في عيون "المتعبِّدين" للكبار: يا آحاز. أنت تخاف من هذين الملكين! ومن هما؟ "ذنبان مشتعلان، مدخِّنان" (7: 4). هي فتيلة نشعل بها الشموع ووصلت إلى الآخر، وبعد قليل سوف تنطفئ. هي تدخِّن وأنت تحسبها نارًا ولهيبًا وتخاف من أن تحرقك. الله وحده نار محرقة. أمّا البشر فهم فانون. قريبًا ينتهي رصين ملك دمشق، قريبًا ينتهي فقح ملك السامرة. يكفي أن تنتظر فترى. لا النظرة البشريَّة، بل نظرة الإيمان.

تلك هي رسالة النبيّ: أن يدعو الشعب إلى الإيمان. وعلى رأسهم الملك. بالإيمان وحده نغلب، كما قال يوحنّا في رسالته الأولى (5: 5). ولا شيء بدون الإيمان. ولا بدَّ أن نتذكَّر كلام المزمور: "إن لم يبنِ الربُّ البيت فعبثًا يتعب البنّاؤون، وإن لم يحرس الربُّ المدينة فعبثًا يتعب الحارس" (127: 1). حسب آحاز أنَّه يدافع عن أورشليم! ابتسم إشعيا. حسب أنَّه يستند إلى "حارس" مثل نبوخذنصَّر! عرف إشعيا سريعًا مكامن الخطر. إلى أين أنت ماضٍ؟ آمن فقط. ضع ثقتك في الله.

ولكنَّ الملك لم يسمع للنبيّ. مسكين إشعيا! أرسله الربُّ وها لا أحد يسمع له. لا الملك ولا العظماء ولا الشعب. فيبدو مثل موسى الذي يحسُّ بثقل المسؤوليَّة، فيقول يومًا للربّ: "لا أطيق أن أحمل هذا الشعب كلَّه، لأنَّه ثقيل عليَّ. فإذا كان هذا ما تفعله بي، فاقتلني إن كان لي حظوة عندك حتّى لا أرى بليَّتي" (عد 11: 14-15) وبليَّة شعبي. الشرُّ آتٍ وإشعيا يراه، ولكن ما من أحد يسمع له. قريبًا سوف يرى الشدَّة والسواد والإهانة "(8: 23). قريبًا سوف يرى الشعب "سالكًا في الظلام، جالسًا في أرض الموت، في ظلِّ الموت" (9: 10). ومع ذلك، لا يتوقَّف النبيّ عن الكلام ورفع الصوت عاليًا. أُرسل فمضى. طُهِّرت شفتاه، فلا يقدر أن يقول سوى كلمة الله، وينبِّه شعبه ويحذِّر الملك. مهما كانت استعدادات الجميع، وهكذا يعرفون أنَّ بينهم نبيّ، كما قال حزقيال (2: 5). وهذا ما سوف يعرفونه ويلمسونه لمس اليد حين يرون الخلاص الذي يكون لأورشليم سنة 701 ق.م.

  1. أورشليم المبنيَّة بناء

وصل المؤمن إلى أورشليم في أحد أعياد الحجّ. ما أراد أن يدخل حالاً، ولا وصل إلى الهيكل لكي يقدِّم ذبيحته ويقرِّب التقدمات. بعد أن أخذ بموقع المدينة المقدَّسة على تلك التلَّة المرتفعة وهو الآتي من أريحا الواقعة تحت سطح البحر، طاف، دار حول مدينته المحبوبة. أسوارها متينة. وأبراجها: برج المئة، برج خنئيل... (نح 3: 1ي). ثمَّ الحصون العديدة، وبعدها القلاع. قال المرتِّل: "طوفوا بصهيون (أو: أورشليم، المدينة المصونة) ودوروا حولها، وعدُّوا الأبراج التي فيها. تطلَّعوا بقلوبكم إلى حصونها، وتمتَّعوا جيِّدًا في قلاعها" (مز 48: 13-14).

بدأ المزمور هذا فقال: "الربُّ عظيم وله التهليل، في مدينة إلهنا، جبله المقدَّس، الجميلة المرتفعة، وبهجة كلِّ الأرض... هي مدينة الملك العظيم. في قلاعها أظهر الله أنَّه الحصن الحصين" (آ2-4). ويريد النبيّ لهذه المدينة أن تسقط بيد العدوّ مهما كانت قوَّته! مستحيل! الله هو حصنها. وهو يعينها ساعة الحاجة.

ويقف المؤمن قدَّام مدينته: "في أبوابك يا أورشليم" (مز 122: 2). هذه المدينة المبنيَّة بناء متينًا، بالحجارة الصلبة، كأنَّها قطعة واحدة فلا يخرقها العدوّ. تلك هي نظرة الآتي من البعيد، لا نظرة الأتقياء الذين اعتادوا الحجَّ ثلاث مرَّات في السنة. بالنسبة إليهم، "أورشليم مبنيَّة كمدينة توحِّد وتجمع بيننا" (آ3). لم نعد أمام حجارة مأخوذة من صخور لبنان، مثلاً، بل أمام حجارة حيَّة، على ما قال بطرس في رسالته الأولى: "وأنتم أيضًا حجارة حيَّة في بناء مسكن روحيّ" (2: 5). أجل، بقدر ما يتوحَّد المؤمنون، بقدر ذلك تكون "المدينة" قويَّة. وبقدر ما يتشتَّتوا أحزابًا وفئات، تصبح "المدينة" عرضة للدمار، وهذا ما حلَّ بمدن يهوذا حين اجتاحها الأعداء. قال إشعيا: "أُهينَتْ أرض زبولون وأرض نفتالي" (8: 23). لم يبقَ بيت مضاء فيها، لأنَّ "الشدَّة والظلمة" (آ22) سيطرت في كلِّ مكان. يمتلئ البلد بالشوك والعلَّيق. "فيكون الشعب مثل وقود النار لا يشفق واحدٌ على أخيه. ينهش على اليمين ويبقى جائعًا، ويلتهم على الشمال ولا يشبع. يأكلون كلُّ واحد ذراعه. منسَّى يقوم على أفرائيم، وأفرام يقوم على منسَّى. وكلاهما يقومان على يهوذا" (9: 18-20).

تلك عاقبة الانقسام حيث يسير كلُّ واحد في طريقه. عند ذلك تصبح البلاد أرضًا سائبة يدخلها كلُّ واحد. يخترقها الغريب ولا من يقف في وجهه، إلاَّ إذا ساعده القريب. فهنيئًا له. أمّا إشعيا فرفض مثل هذا الموقف، فصرخ بفم المزمور: "المتوكِّلون على الربِّ كجبل صهيون، لا يتزعزع إلى الأبد. كما تحيط الجبال بأورشليم، كذلك يحيط الربُّ بشعبه" (125: 1-2). لهذا صرخ النبيّ: لن تسقط أورشليم. قالوا له: أنت مجنون. جميع أعمالك من حولنا استسلمت. فهتف النبيّ: أورشليم منيعة لأنَّ الربَّ يقيم فيها، ولأنَّها "تجمع وتوحِّد" أولادها في حزمة واحدة.

جاء التهديد من قبل أسرحدون، الملك الأشوريّ: يا حزقيّا، "لا تدَعْ إلهك الذي تتَّكل عليه يخدعك بقوله لك: لن تسقط أورشليم في يد ملك أشور" (37: 10). فتخيَّلْ هذه العجرفة: الله هو إلهك أنت. من يتكلَّم باسمه؟ النبيّ إشعيا. هو يعلِّم نبيَّه والنبيّ يخدع الشعب ومعه الملك. أو أنَّ الله "كاذب" لا سمح الله، أو أنَّه "معتدٌّ بنفسه" فيعِد ولا يقدر أن يفي.

وماذا فعل ملوك أشور؟ دمَّروا جميع البلدان: جوزان، حاران، راصف، حماة، أرفاد... (آ12-13). ويمكن أن تطول اللائحة. ماذا صنعَتْ آلهة تلك المدن، هل نجَّت الذين اتَّكلوا عليها؟ كان حزقيّا أفضل من أبيه آحاز. بدأ فصلَّى: "أمِلْ أذنيك واسمع، وافتح عينيك وانظر، واستمع إلى أقوال سنحاريب التي أرسلها ليهينك بها أنت الإله الحيّ" (آ17). الآلهة خشب وحجارة. وأنت الربُّ وحدك "خلَّصنا من يديه لتعلم ممالك الأرض" (آ20).

آمن حزقيّا ولكنَّ إيمانه لم يكن كافيًا. فطلب مساندة إشعيا. فأرسل النبيّ يقول لهذا الملك المتشاوف: "من عيَّرتَ وعلى من جدَّفتَ؟ على من رفعتَ صوتك وإلى من تطلَّعتَ شامخًا بعينيك؟" (آ23). كان سنحاريب قد قال: "بكلِّ مراكبي صعدتُ رؤوس جبال لبنان، وقطعتُ أطول أرزه، ووصلتُ إلى أقصى أعاليه وإلى مجاهل غابه" (آ24).

وهل يخاف الله من هذا الكلام، وهو من قال عنه مز 29: "صوت الربِّ عظيم القوَّة، صوتُ الربِّ بهاءٌ كلُّه. صوت الربِّ يكسِّر الأرز، يكسِّر الربُّ أرز لبنان. يجعل (جبل) لبنان يقفز كالعجل، وحرمون كولد الثور الوحشيّ" (آ4-6). والمؤمنون يقدرون أن يهتفوا والإيمان يعمر في قلوبهم: "هؤلاء بالعجلات وهؤلاء بالخيل، أمّا نحن فنذكر اسم الربِّ إلهنا" (مز 20: 8). وماذا كانت النتيجة التي أنشدها المؤمنون؟ "هم خرُّوا وسقطوا ونحن قمنا وانتصبنا" (آ9). فالربُّ هو إله الخلاص، ويكفي أن ندعوه لكي يستجيبنا (آ10).

وانتقل الإيمان من النبيّ إلى الملك إلى الشعب. فاستطاع إشعيا أن يقول لهم: "بإيمانكم تخلِّصون نفوسكم". وهكذا كان. مؤامرة على الملك من ولديه اللذين قتلاه إذ كان "يصلِّي في هيكل نسروخ" (37: 38). وجيشه حلَّ فيه الوباء، فمات الكثيرون، والباقون انسحبوا. وهكذا نجت أورشليم التي قاومت، وكان إشعيا في قلب المقاومة. هو ما هرب إلى مكان آمن ونجا بحياته، تاركًا الذين سمعوا كلامه يموتون ويمضون إلى المنفى. كان النبيّ قد قال، بفم الربّ: "لن يدخل (ملك أشور) هذه المدينة، ولا يرمي عليها سهمًا، ولا ينصبْ عليها مترسة. لكن في الطريق التي جاء منها يرجع، وإلى هذه المدينة لا يدخل" (37: 33-34)، وهكذا كان. حمى الربُّ مدينته، وخلَّصها، لا بسبب أعمالها الصالحة بل "من أجلي ومن أجل داود عبدي"، كما قال الربّ. وفي خطِّ داود، هو ابن داود، يسوع المسيح. وما قاله إشعيا، حامل الكلمة، وصل إلى من هو الكلمة، كلمة الله، كما نقرأ في بداية يوحنّا: "في البدء كان الكلمة، وكان الكلمة لدى الله، وكان الكلمة الله" (1: 1). وهذا الكلمة صار بشرًا وسكن بيننا (آ14). وحمل أوجاعنا وأخذ آلامنا. وهو يرسل تلاميذه كما الله أرسل إشعيا. وهم يعرفون كما عرف نبيّ القرن الثامن أنَّ الناس يرفضون السماع، على ما قال بولس لتلميذه تيموتاوس: "بعض الناس يرتدُّون عن الإيمان... ويتبعون أرواحًا مضلِّلة" (1تم 4: 1). وقال في الرسالة الثانية: "سيجيء وقتٌ لا يحتمل فيه الناس التعليم الصحيح، بل يتبعون أهواءهم ويتَّخذون معلِّمين يكلِّمونهم بما يطرب آذانهم، منصرفين عن سماع الحقِّ إلى سماع الخرافات" (4: 3-4). وما أكثرها في أيَّامنا، بعد أن ترك الناس الإيمان وتعلَّقوا بالترهات.

الخاتمة

حين يُدعى النبيُّ ويقبل بالدعوة "ها أنا"، لا يعود ملك نفسه، بل ملك من أرسله. قال له الربّ: اذهب، فذهب. ولبث يقوم بالرسالة بالرغم من الصعوبات والمعاندات والاضطهادات. ويروي التقليد أنَّ إشعيا وُضع في شجرة، فقطعها المنشار كما قطع إشعيا "قطعتين". نداء الربِّ ليس نزهة. هو مسؤوليَّة. والإرسال يكون محفوفًا بالمخاطر. فلا يتراجع تراجع عيسو ثمَّ طلب التوبة، فلم يجد فاكتفى بالبكاء. والذي لا يعرف مسؤوليَّته حين يختاره الربُّ رسولاً، نبيًّا، أسقفًا، كاهنًا، مؤمنًا أو مؤمنة، لا يبقى أمامه سوى البكاء وصريف الأسنان. أمّا الأنبياء فيبقون أمامنا، ويضيئون كالنيِّرات في كبد السماء.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM