الفصل الأول:إنطلق من أرضك

(الرعيَّة، شباط 2011)

انطلق من أرضك

الخوري بولس الفغالي

ذاك كان أمر الله إلى من كان اسمه أبرام، أي الأب الرفيع، فصار إبراهيم "أبو جماعة كبيرة". وأين كان إبراهيم؟ في أور، تلك المدينة الزاهرة في جنوب العراق الحاليّ حيث كانوا يعبدون الإله القمر. ولكنَّ هذا الرجل بألف خير مع والده تارح وأخويه ناحور وحاران (تك 11: 27). تزوَّج حديثًا من امرأة اسمها ساراي (آ28)، أي أميرتي، وكأنَّها ملكه وتخصُّه. ولكنَّ الربَّ سوف يبدِّل اسمها أيضًا فتصبح فقط "سارة" أي الأميرة، كما هو الأمر والآمر في عشيرته. لماذا الانطلاق؟ من أجل رسالة أهمَّ من الحياة اليوميَّة مع الرعاة والقطعان والخدم ونصب الخيام ورفعها. وإلى أين؟ لم يَقُل له الربُّ سوى إلى الموضع الذي سوف أريك إيّاه، سوف أدلُّك عليه (تك 12: 1). فالله يبدأ فيقتلع الإنسان لكي تكون المسيرة سهلة، ولا يسمح له أن ينظر إلى شيء، شمالاً أو يمينًا، ولا يكلِّم أحدًا في الطريق، كما طلب الربُّ من تلاميذه (لو 10: 4).

القارئ يعرف منذ البداية الهدف الأخير لمسيرة إبراهيم: "فخرج (أبرام) من أور الكلدانيِّين ليذهب إلى أرض كنعان" (تك 11: 31). أمّا إبراهيم فلا يعرف، فشابه أيُّوب الذي لم يعرف هو أيضًا أنَّ الشيطان يجرِّبه، لا الله. فالله لا يجرِّب أحدًا "ولا يمتحن أحدًا بالشرّ" (يع 1: 14). ولكن قبل كنعان، هناك محطَّة فاصلة: حاران، في شمال العراق الحاليّ، التي صارت حرَّان في التاريخ اللاحق. هي مدينة زاهرة أيضًا وخصوصًا بأصنامها. وما يلفت النظر هو أنَّ والد إبراهيم يصنع الأصنام ويبيعها. وحين يمضي إلى خارج البيت يسلِّم ابنه البيع. ولكنَّ الابن سوف يحطِّم هذه الأصنام. ذاك ما يقول المدراش الذي هو درس وتأمُّل في حياة الآباء.

انطلق، ترك أبرام أور. وها هو في حاران. أرض خصبة، المياه، المراعي. تكفي المسيرة إلى هنا. شابه أبرام الشعب العبرانيّ حين ترك مصر وعبر "البحر الأحمر" ووصل إلى واحة في الصحراء، اسمها إيليم. فيها "اثنتا عشرة عين وسبعون نخلة. فنصبوا خيامهم عند المساء" (خر 15: 27). لماذا المضيّ إلى الأمم، والحياة رغدة، سهلة، وكأنَّ "ملكوت الله أكلاً وشربًا". بل هو "برٌّ وسلام وفرح في الروح القدس" (رو 14: 17). لهذا على أبرام، مثل العبرانيِّين، أن يواصل الطريق، إلى أرض كنعان، ويتوقَّف بعض الوقت فيما يُدعى اليوم فلسطين، قبل أن يذهب إلى مصر بسبب الجوع في الأرض. وفي النهاية، أقام قرب حبرون التي لا تبعد كثيرًا عن أورشليم، القدس.

وجب على إبراهيم أن يترك الأرض والعشيرة والبيت الوالديّ (تك 12: 1). هو مناخ خلقيّ والتخلِّي عن الأصنام. وهكذا ينسى إبراهيم عادات أرضه ثمَّ تصرُّفات مواطنيه وأخيرًا طريقة عيش البيت الوالديّ. وهكذا انطلق مع رسالة مثلَّثة: تحويل هياكل الأوثان إلى هياكل لله، تحويل العادات وأوَّلها ذبح الأطفال. عيش الإيمان الذي جعله يؤمن بالقيامة قبل القيامة، على ما قالت الرسالة إلى العبرانيِّين: "اعتقد أنَّ الله قادر أن يقيم الأموات، لذلك عاد إليه ابنه" (11: 19). ويواصل النصّ: "وهذا رمز". إلى ما؟ إلى من؟ إلى الآب السماويّ الذي قدَّم ابنه "لئلاَّ يهلك كلُّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديَّة" (يو 3: 26). وهكذا عاد إليه الابن بعد الصليب، قائمًا من الموت ممجَّدًا.

1-  أرض الأصنام، أرض الربّ

"لمّا وصلوا إلى أرض كنعان..." (تك 12: 5). ماذا كان همُّ إبراهيم قبل كلِّ شيء؟ الماء والكلأ لقطيعه؟ هذا ما لا يقوله الكتاب. وفي أيِّ حال، حين كان الخلاف بين رعاته ورعاة ابن أخيه لوط، ترك ابن أخيه يختار الجهة التي يريد، فاختار لوط "وادي الأردنّ" التي دُعيَتْ "جنَّة الله"، أمّا عمُّه فلبث في الأرض الأقلّ خصبًا. فالمشروع هو أبعد من إقامة اختارها لوط قرب سدوم (تك 13: 10). المشروع هو أن يكون اسم الله حاضرًا "شمالاً وجنوبًا، شرقًا وغربًا" (آ14) بحيث لا يُحصى نسل إبراهيم" (آ16).

أوَّل مدينة وصل إبراهيم إليها هي شكيم، الواقعة على ملتقى الطرق، وهي تشرف على سهل واسع تغذِّيه عين بلاطة وعين دفنة وأخيرًا بئر يعقوب حيث أتت السامريَّة وهناك التقت بيسوع في مدينة اسمها سوخار (يو 4: 5ي).

في شكيم أقام المصريُّون باكرًا، منذ بداية القرن التاسع عشر، وقد يكونون أتوا بأصنامهم. لا. لا يمكن أن تبقى الأصنام مسيطرة. فقيل عن إبراهيم: تراءى الربّ له وقال: "لنسلك أهب هذه الأرض" (تك 12: 7). عندئذٍ "بنى أبرام هناك مذبحًا للربِّ الذي تراءى له". وهكذا صار المكان "موضعًا مقدَّسًا"، ودُعيَ "بلُّوطة مورة" (آ6). قال الكتاب: الكنعانيُّون هم بعدُ هنا بعباداتهم وأصنامهم، ولكن صار للربِّ الإله موطئ قدم في المنطقة. أمّا "مورة" فلفظ يرتبط بفعل "رأى". هناك رأى أبرام الله، والله رآه.

ومع الزمن صارت شكيم موضع عبادة للشعب، وقُطع عهد مع الله بواسطة يشوع. قال الكتاب: "وجمع يشوع أسباط بني إسرايل في شكيم، واستدعى شيوخهم ورؤساءهم وقضاتهم وقادتهم، فحضروا أمام الربّ" (يش 24: 1). وماذا قال لهم؟ "خافوا الربَّ واعبدوه بكمال وإخلاص، وانزعوا الالهة التي عبدها آباؤكم... وإن كان يسوؤكم أن تعبدوه، فاختاروا لكم اليوم من تعبدون، إمّا الآلهة... أمّا أنا وأهل بيتي فنعبد الربّ" (آ14-15). ولمّا حذَّرهم يشوع، قالوا: "الربُّ وحده نعبد" (آ21).

أين الأساس؟ إبراهيم. هو بدأ والشعب يكمِّل، بل نحن أبناء العهد الجديد نتذكَّر دومًا إيمان أبي الآباء. كان شكيم المعبد الأوَّل الذي تحوَّل، وبيت إيل المعبد الثاني. قال الكتاب: "ثمَّ انتقل من هناك إلى الجبل، شرقيّ بيت إيل، ونصب خيمته... وبنى هناك مذبحًا لاسم الربّ ودعا باسم الربّ" (تك 12: 8) أو: دعا الربَّ باسمه، كما يدعو الصديق صديقه، أو الابن والده. فكأنَّه كان تقليد منذ أيَّام شيت بن آدم وضاع (تك 4: 26) فاستعاده إبراهيم. كان يدعون هذا الإله أو ذاك في العبادات الكنعانيَّة. أمّا الآن فلا اسم سوى اسم الربّ. والقرية التي كان اسمها لوز، نسبة إلى اللوز (تك 28: 19)، في اتِّصال بعادات مرتبطة بالأشجار والأنهار، صار اسمها بيت إيل، أي بيت الله.

هي البداية. وتتواصل مع يعقوب حين كان في طريقه إلى حاران. نام في بيت إيل "وحلم فرأى سلَّمًا منصوبة على الأرض، رأسها إلى السماء، وملائكة الله تصعد وتنزل عليها. وكان الله واقفًا على السلَّم يقول: أنا الربُّ إله إبراهيم أبيك..." (تك 28: 12-13). ويتابع النصّ: "أفاق يعقوب من نومه وقال: الربُّ في هذا الموضع ولا علم لي. فخاف وقال: ما أرهب هذا الموضع، ما هذا إلاَّ بيت الله وباب السماء" (آ16-17). كان الموضع "بيت إلوهيم" أي بيت الآلهة العديدة. ولكن مع الشعب العبرانيّ، صارت صيغة الجمع تدلُّ لا على الكثرة، بل على الجلالة. كما نقول للملك أو لشخص كبير: ندعوكم، ولا نقول له: ندعوك. لا نقول له: أنت، بل: أنتم. هكذا صار معنى "إلوهيم" يعني الإله الواحد، بشهادة ما نقرأ في بداية سفر التكوين: في البدء خلق الله (إلوهيم، لا الآلهة) السماوات والأرض" (1: 1). ثمَّ: "وقال له"... "وقال الله". هي علاقة بين الله والإنسان، بين الله والشعب.

ويُطرَح السؤال: لماذا الحرب على الأصنام؟ لثلاثة أسباب. مع الصنم نحن في أمان نؤدِّي له بعض العبادة فيكون ضميرنا مرتاحًا. نعمل واجباتنا من الخارج من سجود وصلوات نكرِّرها "مثرثرين مثل الوثنيِّين" (مت 6: 7)، على مثال ذلك الكاهن الذي انتهى من صلاة فرضه الساعة الثانية بعد الظهر، ثمَّ تأوَّه وقال: ارتحنا. أو ذاك الراهب الذي كان في الطائرة وهو يصلِّي فرضه. تحرَّكت الطائرة حركة غير اعتياديَّة، فأغلق كتاب الصلاة وبدأ يصلِّي. والسؤال: ماذا كان يفعل من قبل؟ مرَّات عديدة تبدو "صلاتنا الجماعيَّة" ولاسيَّما في الأعياد، كما أمام الصنم، لأنَّ ما يهمُّنا هو أن يرانا الناس، ونكون جمعًا كبيرًا يفرض نفسه على الآخرين. وفي أيِّ حال، المال هو اليوم صنم، يعطينا الأمان. لهذا يُدعى في الكتاب: مامون. وحياة اللذَّة بأنواعها هي صنم، والأنانيَّة صنم، كذلك الرجل الذي قال لي يومًا: ماذا تريد بعدُ منِّي امرأتي؟ أعطيها المال لتشتري ما يحتاج إليه البيت. وبعد ذلك، أنا حرّ. أما أُرضي الله هكذا؟

والسبب الثاني، الصنم له عين ولا ترى، له أذنٌ ولا تسمع، له يد ولا تفعل. لهذا يقول فيه النبيِّ: عابدوه هم مثله. لا أحد يُقلق راحتهم. لا نبيّ يتكلَّم باسمه. وإن وُجد "نبيّ" فهو يتكلَّم باسم الملك، باسم العظمة، باسم السلطة. قال أنبياء الملك أخاب لميخا بن يملة: "بصوت واحد تنبَّأ الأنبياء للملك بالنصر، فليكن كلامك مثل كلامهم" (1 مل 22: 13). الصنم أجعله في جيبي. هو تحت أمري. أطلب منه ما أشاء وإن لم أحصل عليه، أكسره... وأستعين بمن يقول لي "المستقبل" باسمه. ويكون الكلام في معنيين أو أكثر، وهكذا أعيش في الضباب وفي الوهم وأبقى مجمَّدًا مكاني.

والصنم أخيرًا يرتبط بالشيطان كما قال الرسول: من ذبح للأصنام ذبح للشياطين. "إنَّ ذبائح الوثنيِّين هي ذبائح للشياطين لا لله. وأنا لا أريد أن تكونوا شركاء الشياطين، لا تقدرون أن تشربوا كأس الربِّ وكأس الشياطين، ولا أن تشتركوا في مائدة الربِّ ومائدة الشياطين" (1 كو 10: 20-21). هنا نفهم ما فعله مار مارون على تلَّته، وما حصل في لبنان حيث الهياكل الوثنيَّة صارت أديرة أو كنائس. تلك كانت رسالة إبراهيم، نتذكَّرها في هذه السنة المكرَّسة للرسالة والإرسال. فهو لا يزال مثالاً لنا في الحرب على أصنامنا من أيِّ جهة أتت.

2-  دعوا الأطفال يأتون إليَّ

يروي متَّى الحدث التالي: "وجاءه بعض الناس بأطفالهم ليضع يديه عليهم ويصلِّي، فانتهرهم التلاميذ. فقال يسوع: "دعوا الأطفال يأتون إليَّ ولا تمنعوهم، لأنَّ لأمثال هؤلاء ملكوت السماوات. ووضع يديه عليهم "لكي يباركهم" (19: 13-15). أما هكذا يأتي الناس اليوم إلى الكهنة بأطفالهم لكي يباركوهم، وهم إن يفعلون هذا يواصلون عمل يسوع. وكما تقول الصلاة: "يقدِّمون لله الأولاد الصغار".

كم نحن بعيدون في هذا المشهد عن العالم القديم، بل عن عالمنا الحديث ولاسيَّما الشرقيّ منه، حيث الولد هو ملك الوالد، يعمل به ما يشاء، يرسله إلى العمل ولا يرسله إلى المدرسة، والويل له إذا كانت "الغلَّة" قليلة! هذا مع أنَّ البابا بولس السادس شدَّد في رسالته "عطيَّة الحياة" مسؤوليَّة الأب والأمّ، مسؤوليَّة الوالدين، الذين يلدون من الأولاد من يستطيعون أن يعطوهم التربية اللائقة بهم كبشر أوَّلاً، ثمَّ كأولاد الله، لأنَّ أولادنا ليسوا لنا. هم وديعة وضعها الله بين أيدينا، فعلينا أن ننمِّيهم بالقامة والحكمة والنعمة أمام الله والناس (لو 2: 52).

هنا نعود إلى رسالة إبراهيم. ماذا كانوا يعملون في العالم القديم؟ البكر يُقدَّم ذبيحة للإله. هذا ما دُعيَ ذبيحة الأطفال. أمّا في عالم الصحراء، فلا حاجة إلى البنات الكثيرات. لهذا كانت عادة وأد البنات، الطفلات، اللواتي يدفنَّ وهنَّ على قيد الحياة. أمّا اليوم فيُقتَلن بطريقة أخرى. كذلك الرجل الذي كان يرسل بناته للعمل، يأخذ لهنَّ أجارهنَّ فيعلِّم الصبيان أو يزوِّجهنَّ، فتبقى الفتاة أقلّ من كائن بشريّ. والصبيان، فهناك بلدان يُرسَل الولد إلى العاصمة ويُرمى هناك بحيث لا يعود يسمع الوالد به ولا الوالدة، ليتدبَّر أمره بأمره. وفي بلدان، يُرسَلون أمام الجيش لكي يدلُّوهم على الألغام: فحين "يطلع" اللغم في أحد الأطفال، يتجنَّب الجيش المرور في هذا المكان. هناك بلدان متحضِّرة يرسلون المعز، أمّا عندنا فالأطفال أقلُّ من المعز. ذاك هو الضلال بالذات حين نوهم الناس البسطاء أنَّ تلك هي سعادة أولادهم! ويا لها من سعادة!

سعادة الصبيَّة التي خرجت للقاء والدها بالدفِّ والرقص بعد انتصاره! كرَّسها والدها، واسمه يفتاح ليقدِّمها محرقة لله (قض 11: 31). وسعادة إسحاق الذي وُلد فعنى اسمه الضحك، وأوَّل من ضحك كان والده. ثمَّ والدته التي ما صدَّقت في أوَّل الأمر، بعد أن كبرَتْ في السنّ: "أحقًّا أَلدُ وأنا الآن في شيخوختي!" (تك 18: 13). ولمّا وُلد إسحاق سوف تقول: "الله جعلني أضحك، وكلُّ من سمع يضحك لي" (تك 21: 6).

ولكنَّ هذا الصبيّ يجب أن يموت لأنَّه البكر. وأخذه والده وسأل إسحاق والده: "هنا النار والحطب فأين الحمل للمحرقة؟" (تك 22: 7). وكان جواب إبراهيم متهرِّبًا: "الله يرى له الحمل". أمّا الترجمة الأراميَّة التي تُدعى ترجوم، فأضافت: "وإلاَّ أنت الحمل، يا ابني". ما هي عاطفة الأمّ؟ لا تُذكر، ولا يسألها أحد رأيها، وتقول التقاليد اليهوديَّة إنَّ سارة ماتت بعد فترة قصيرة بسبب ابنها إسحاق.

ها هنا يأتي التعليم مع إبراهيم. أمّا هو فأراد أن يعمل كما كانوا يعملون في العالم القديم، الكنعانيّ وغيره. وكان الصراخ يحيط بالمذبح لئلاَّ يُسمَع صراخ الطفل. أيُّ أبٍ يفعل هذا ويبقى أبًا؟ والله الذي هو أبٌ وأمٌّ معًا، أيُعقَل أن يطلب من إبراهيم ويقول له: "خذْ إسحاق، ابنك، وحيدك، الذي تحبُّه، واذهب إلى أرض موريَّة، وهناك أصعدْه محرقة" (تك 22: 3)؟ أهكذا يرضى الله أن يؤلِّم أولاده ويعذِّبهم؟ هذا مستحيل. إذًا، كيف نقرأ الخبر؟ رأى إبراهيم ما يفعله الناس حوله، فما أراد أقلَّ سخاء من عابدي الأصنام والآلهة العديدة. ومع أنَّ إسحاق صار ابنه الوحيد بعد أن طرد إسماعيل وأمَّه هاجر، ما أراد أن يبخل على الله. اعتبر أنَّ الله يطلب منه هذا الابن. ولكن عندئذٍ يشبه الربُّ الإله آلهةَ الوثنيِّين! بماذا يتميَّز عنهم؟

وها هو التعليم الذي يقدِّمه خبر إبراهيم. إذا كان الله قال في الوصايا: لا تقتل، فكيف يقتل الأب ابنه، مهما كان السبب؟ إذا كانت شريعة تسري على القريب والبعيد. على الصديق والعدوّ، ألا تسري بالأحرى على الابن والابنة؟ هل ابننا (أو: ابنتنا) دجاجة لكي نذبحه؟ وما هو الهدف؟ وما هي الفائدة؟ هنا نفهم في العمق أنَّ الذبيحة للآلهة هي ذبيحة للشياطين. فالذي هو ربُّ الحياة، كيف يطلب الموت لطفل أعزل؟ وإذا كانت الكنيسة اليوم تحرِّم الإجهاض، أي قتل الأطفال في حشا أمَّهاتهم، كيف يطلب إله إبراهيم من "تقيِّه" أن يذبح له ابنه؟ قال له حين تراءى: "اسلُكْ أمامي وكن كاملاً" (تك 17: 1). أهكذا يكون سلوكه كاملاً؟ أهكذا يدلُّ إيمانُه على برِّه (تك 15: 6) أم على شرِّه؟!

هذا ما ندعوه خبرًا تقيًّا. هكذا فهم أبناء إبراهيم أنَّهم لا يذبحون أبناءهم بعد اليوم. وعلَّمهم الربّ: "لا تمدَّ يدك إلى الصبيّ ولا تفعل به شيئًا" (تك 22: 12). ويقول الكتاب: "رفع إبراهيم عينيه ونظر فرأى وراءه كبشًا عالقًا بقرنيه بين الشجيرات، فأقبل على الكبش وأخذه وقدَّمه محرقة بدل ابنه" (آ13). إذا كان لا بدَّ من ذبيحة وسفك دم، فها هي ذبيحة بانتظار أن يقول لنا المزمور: "الذبيحة لله روح منسحق، والقلب المتخشِّع المتواضع لا ترذله يا الله" (مز 51: 19). لماذا كانت الذبيحة في الأيّام القديمة؟ كانوا يعتبرون أنَّ الإله يأكل ويشرب، فيضعون له الخمر والزيت والقمح. ويكرِّمونه حين يذبحون له ذبيحة، كما يفعلون اليوم حين ينحرون الخراف حين يأتي زائر رفيع الشأن. ولكن بعد ذلك، صارت تقدمات المؤمنين للقيام بحياة الكهنة واللاويِّين، الذين سيكونون "بدل" الشعب كلِّه.

كان سفر الخروج قد قال: "كرِّسْ لي كلَّ بكر فاتح رحم من الناس والبهائم" (13: 1). هكذا كان يُذبَح الأطفال الأبكار، وكذلك صغار البقرة والنعجة... ولكن تحوَّلت الشريعة: "كرِّسوا للربِّ كلَّ ذكر، فاتح رحم، وكلَّ أوَّل ذكر تلده بهائمكم... وافتدوا كلَّ بكر من بنيكم" (آ12-13). بدأت هذه العادة مع إبراهيم، وتواصلت مع أبنائه. وانطلقت نظرة أخرى فهمَتْ كيف يكرَّس الولد لله: لن يُذبح أبدًا، بل يقدَّم لخدمة الربِّ في المعبد، في الهيكل. قال الربُّ لموسى: "كلُّ بكر في بني إسرائيل من الناس والبهائم هو لي... والآن أخذتُ اللاويِّين بدل كلِّ بكر من بني إسرائيل" (عد 8: 17-18). وما فعلته حنّة أمُّ صموئيل، كان بعضًا من هذه الصورة. قالت: "أيُّها الربُّ القدير، إذا نظرتَ إلى شقاء أمتك وذكرتَني وما نسيتَني، بل رزقتني مولودًا ذكرًا، فأنا أكرِّسه لك..." (1 صم 1: 11). وكيف كرَّسته؟ هي لم تفعل مثل الكنعانيِّين الذين أقام إبراهيم في وسطهم. بل أتت بالصبيّ "فظلَّ يخدم الربّ عند عالي الكاهن" (1 صم 2 :11). وكانت "تنسج له جبَّة صغيرة وتأتيه بها كلَّ سنة حين تصعد مع زوجها ليقدِّم الذبيحة السنويَّة" (آ19). قدَّمته للربَّ وما تراجعت، وكانت كلَّ سنة تجدِّد تكريس ابنها.

انتهت ذبيحةُ الأطفال مع إبراهيم، فما قدَّم إسحاق بكره ولا يعقوب ولا سائر الآباء. تلك كانت رسالة إبراهيم، وهي لا تزال حاضرة إلى اليوم. وكم نحتاج أن نسمعها ونعمل بها، فنفهم أنَّ تقدمة أولادنا للربِّ لا تكون من قبلنا فقط، بل نتشارك معهم على مثال إسحاق الذي افتخر بأن يكون تقدمة للربّ، بحيث يكون صورة بعيدة عن يسوع، الذي قال عند دخوله العالم: "ما أردتَ ذبيحة ولا قربانًا، لكنَّك هيَّأتَ لي جسدًا. لا بالمحرقات سررت ولا بالذبائح كفَّارة للخطايا. فقلت: ها أنا أجيء يا الله لأعمل بمشيئتك" (عب 10: 5-7).

3-  آمن إبراهيم بالله

رسالة إبراهيم الأساسيَّة رسالة الإيمان. دعاه الله، وعده بأرض. ولكن أيّ أرض هي تلك التي يعطيه إيَّاها! هو غريب ونزل (تك 23: 4). لا موضع قبر لامرأته. وإذ أراد أن يشتري، قدَّموا له أن يدفن معهم. وفي النهاية اشترى موضع قبر. هذا كلُّ ما له في "أرض كنعان". وهي أرض قاحلة، جرداء. أتُرى مصر هي التي سيقيم فيها. ولكن خاب أمله هناك، ورجع في حالة لا يُحسَد عليها بعد أن طُرد من البلاد "مع امرأته وكلّ ما يملك" (تك 12: 20).

ووعده الله بنسل. ولكن أين هو النسل والنسل الكبير؟ "انظر إلى السماء وعُدَّ النجوم إن قدرتَ أن تعدَّها. هكذا يكون نسلك" (تك 15: 5). هذا غير معقول. ومع ذلك، قال الكتاب: "آمن إبراهيم بالربِّ، فبرَّره الربُّ لإيمانه" (آ6). أو: هو آمن فاعتبره الربُّ بارًّا، مرضيًّا لديه وعائشًا بحسب مشيئته. بالإيمان يرى الإنسان نفسه في الحقّ. والإيمان يدعوه إلى الأمانة وبالتالي إلى الطاعة بحيث لا يسأل: لماذا؟ إلى أين تدعوني؟ ماذا تطلب منِّي؟ وإلى أيِّ حدّ؟ كلُّ هذه أسئلة نافلة. فمن وضع ثقته بالربِّ يحسُّ بالثبات لأنَّه عارف على من استند. وهذا الإيمان عينه تذكَّره القدِّيس بولس حين كلَّم اليهود المتعلِّقين بالشريعة وبما فيها من ممارسات، بحيث حسبوها تحلُّ محلَّ الإيمان. يكفي أن يُختَن الإنسان لكي يخلص! وهذا ما تقوله بعض "التيّارات المسيحيَّة". يكفي أن تؤمن فتخلص. يكفي أن ننال العماد فيتأمَّن الخلاص. أو فئات مسيحيَّة أخرى: يجب أن أقوم بهذه الممارسة أو تلك، وكلُّها جاءتنا من الغرب، لكي نخلص!

في هذا قال الرسول: "إبراهيم هو أبو جميع اللامختونين الذين يبرِّرهم الله لإيمانهم، وأبو جميع المختونين، الذين لا يكتفون بالختان، بل يقتدون بأبينا إبراهيم بإيمانه" (رو 4: 11-12). ويقول بولس في الرسالة إلى غلاطية: "أيُّها الغلاطيُّون الأغبياء! من الذي سحر عقولكم، أنتم الذين ارتسم المسيح أمام عيونهم مصلوبًا؟ أسألكم سؤالاً واحدًا: هل نلتُم روح الله لأنَّكم تعملون بأحكام الشريعة، أم لأنَّكم تؤمنون بالبشارة؟ هل وصلت بكم الغباوة إلى هذا الحدّ؟ أتنتهون بالجسد بعدما بدأتم بالروح؟ أكانت تجاربكم عبثًا؟ وكيف تكون عبثًا؟ هل الذي يهبكم الروح القدس ويعمل المعجزات بينكم يفعل هذا لأنَّكم تعملون بأحكام الشريعة، أم لأنَّكم تؤمنون بالبشارة؟" (3: 1-5).

هو الرسول يقول للغلاطيِّين: تجاربكم أو خبراتكم مع الروح كانت "عبثًا"، بلا فائدة. أي تعودون إلى نقطة الصفر وكأنَّكم ما اعتمدتم! ويستعيد الرسول كلامه: ليست فقط بلا فائدة، بل هي لخسارتنا. فالختانة، هذا الجرح في الجسد يكفي! وما قيمة الختانة إذا كان المؤمن لا يعيش بحسب الوصايا. لهذا قال بولس أيضًا: "إن عملت بالشريعة كان لختانك فائدة. ولكن إذا خالفتَ الشريعة صرتَ في عداد غير المختونين" (رو 2: 25). ونقول للمعمَّدين: ماذا ينفع العماد إذا كنّا لا نعيش بحسب مواعيد العماد؟ وماذا ينفع الإيمان بدون الأعمال؟ قال القدِّيس يعقوب: "ماذا ينفع الإنسانَ، يا إخوتي، أن يدَّعي الإيمان بغير أعمال؟ أيقدر هذا الإيمان أن يخلِّصه؟" (2: 14). ويواصل كلامه: "ترون، إذًا، أنَّ الإنسان يتبرَّر بالأعمال، لا بإيمانه وحده" (آ24). وسبق فقال: "فأنت ترى أنَّ إيمانه (أي إيمان إبراهيم) رافق أعماله، فصار إيمانه كاملاً بالأعمال" (آ22).

ما هي الهرطقة؟ هي أن نأخذ وجهة ونترك الوجهة الثانية. شدَّد اليهود على أعمال الشريعة! ويشدِّد اليوم العديدون على الممارسات التقويَّة. هل هذه تكفي؟ كلاَّ. هي جسد بلا روح. فإن كان الإيمان لا ينعش كلَّ ما نقوم به من أعمال، تكون هذه الأعمال خسارة وبدون فائدة. ومن جهة ثانية، إن نادينا فقط بالأعمال، نكون في الهرطقة. فنسمع كلام يعقوب: "أرني كيف يكون إيمانك من غير أعمال، وأنا أريك كيف يكون إيماني بأعمالي" (آ18). ما هي هذه الشجرة التي لا تعطي ثمرة! يجب أن تُقطع وتُلقى في النار. ونعود إلى يعقوب: "لا تكتفوا بسماع كلام الله دون العمل به" (1: 22).

ونتطلَّع إلى إيمان إبراهيم، كيف بدَّل الأمور الخارجيَّة فأعطاها المعنى الروحيّ. فالرعاة ينتقلون من مكان إلى آخر طلبًا للماء وللكلأ. وحين يكون الجفاف في مكان، ينطلقون إلى مكان آخر. وهكذا في نظرة من الخارج نرى إبراهيم يفعل فلا يتميَّز عن الرعاة في كلِّ هذه البادية السوريَّة. ولكن أبعد من نداء الماء والعشب، هناك نداء الله: اترُكْ أرضك وعشيرتك... أنا أباركك. أجرك عندي عظيم. وكان الجواب في العمل، لا في الكلام: "فانطلق إبراهيم كما قال له الربّ، وذهب معه لوط" (تك 12: 4). هو الإيمان يضيء على مسيرتنا وأعمالنا. ذاك ما يعلِّمنا إبراهيم.

والختان! كلُّ شعوب الشرق وبلاد أفريقيا تمارس الختان. إنَّه استعداد للزواج. كما كان بالنسبة إلى إسماعيل الذي كان "في الثالثة عشرة" (تك 17: 25). ماذا يضيف هذا العمل إلى حياة الإنسان مع الله؟ لا شيء. ولكن سيكون ختان آخر يُذكر في الفعل عينه: "كلُّ ذكر منكم ابن ثمانية أيَّام تختنوه مدى أجيالكم" (آ12). هذا الختان هو "علامة العهد" (آ13). يعني مثل هذا العمل هو الصورة الخارجيَّة لانتماء داخليّ: قال الكتاب: "وختنَ إبراهيم إسحاق ابنه وهو ابن ثمانية أيَّام، كما أوصاه الله" (تك 21: 4). وهذا الانتماء سوف يكلِّف المؤمنين الاضطهاد في زمن السلوقيِّين (1 مك 1: 60-61). بحيث يخاف البعض ويخفون ختانهم.

وإيمان إبراهيم منعه من أن يزوِّج ابنه "من بنات الكنعانيِّين" (تك 24: 3). وإذ أرسل "كبير خدمه" (آ2) مستندًا إلى إيمان سيِّده. ومثل إبراهيم سيفعل طوبيَّا واسم زوجته على اسم زوجة إبراهيم، سارة. قال طوبيّا: "قومي نصلِّي إلى الله حتَّى يتحنَّن علينا" (طو 8: 4). وأنهيا الصلاة: "فارحمنا يا ربّ حتّى نشيح معًا". فكانا امتدادًا لإبراهيم وسارة: "انظروا إلى إبراهيم أبيكم وإلى سارة التي ولدتكم" (إش 51: 2).

الخاتمة

دعا الله إبراهيم. أرسله. سلَّمه مهمَّة زرع الإيمان في كلِّ مكان يمرُّ فيه. من أور إلى حاران، إلى كنعان، بل إلى مصر حيث ظهرت قدرة الله. دار في ما يُدعى اليوم فلسطين، في شكيم وبيت إيل، ومرَّ في شاليم التي ستكون أورشليم، ومضى يقدِّم ابنه إلى جبل موريّا حيث يُبنى الهيكل الذي فيه يتراءى الله. كما نزل إلى بئر سبع لدى الأرض التي سوف يقيم فيها الفلسطيُّون، أولئك الآتون من الجزر اليونانيَّة. واشترى مغارة المكفيلة من الحثِّيِّين، وكان له أن يرتبط بالقبائل العربيَّة من خلال إسماعيل أوَّلاً ثمَّ قطُّورة. رسالة رائعة تتلخَّص في النهاية في الإيمان، لولا الإيمان، لما انطلق إبراهيم "إلى بلد وعده الله به ميراثًا" (عب 11: 8). لولا الإيمان لم يقدِّم ابنه إسحاق. لولا الإيمان ما فتح الطريق لعبادة الإله الواحد وتقدمة الذات له قبل الذبائح والمحرقات، لأنَّه بدون الإيمان "يستحيل إرضاء الله، لأنَّ الذي يتقرَّب إلى الله يجب أن يؤمن بأنَّه موجود وأنَّه يكافئ الذين يطلبونه" (آ6). فلا يبقى لنا سوى أن نقتدي بإيمان من سمع صوت الله وأدَّى الرسالة، وما أحلاها رسالة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM