الفصل الرابع والعشرون أنبياء في أورشليم ميخا، ناحوم، صفنيا، حبقوق

الفصل الرابع والعشرون

أنبياء في أورشليم
ميخا، ناحوم، صفنيا، حبقوق

نذكر في هذا الفصل أربعة أنبياء عاشوا في أورشليم أو في جوارها، في تلك الحقبة الملكية الممتدّة من انفصال المملكتين سنة 933، حتى نهاية مملكة يهوذا سنة 587.

أ- ميخا
عاش ميخا في أيام أشعيا. كان رجلاً من الشعب يعود أصله إلى مورشت وهي مدينة تبعد 40 كلم إلى الجنوب الغربي من أورشليم. أقام على الحدود، فعرف العدوّ الذي اجتاح البلاد وزرع الحرب والدمار. جاء ميخا إلى أورشليم بمناسبة الأعياد، كما يمكن أن يكون لجأ إليها خلال الاضطرابات، وفيها أعلن كلامه.

1- مهمة النبي
رأى ميخا الوضع المتردّي، فثار، وعبرّ عن ثورته بكلام صريح. "إمتلأتُ قوّة وحقاً واقتداراً، كشف ليعقوب معصيته، ولبيت اسرائيل خطيئته" (3: 8).
كان ميخا شبيهاً بعاموس. فندّد في لغة قاسية باستغلال الملاّكين الكبار للفلاّحين الصغار (2: 1- 5)، بالغش الذي يمارسه التجّار (6: 10 - 11). حرم الانسان من ملكية أرضه، ويُطرد من بيته، فلا يبقى له إلا أن يبيع نفسه (2: 8- 9).
هاجم ميخا العظماء والاغنياء (الذين يأكلون لحم شعبي، 3: 3)؛ هاجم القضاة والكهنة والأنبياء الرسميّين الذين أفسدتهم الفضة (3: 11). في هذه الظروف، لن تبدّل الاحتفالات الدينية أي شيء. حتى وان كثرت الأضاحي وارتفعت قيمتها (6: 6- 7). فما يطلبه إله ميخا هو "أن تصنع العدل وتحب الرحمة وتسهر على سلوكك أمام الله" (6: 8).
جعل ميخا، شأنه شأن سائر الأنبياء، رباطاً دقيقاً بين الشرّ الذي نقترف والعقاب الذي يصيبنا. فدمار السامرة هو نتيجة خطاياها (1: 5). والاجتياح الاشوري الذي لم يوفّر مورشت (1: 14) هو مصيبة كبيرة وهو عقاب أيضاً. كان ميخا أول من أعلن دمار أورشليم والهيكل (3: 12). ما كان يتجاسر أحد في أيامه (وبالأخص أشعيا) أن يتطلّع إلى هذه الامكانية التي تضع على المحك مواعيد الله، التي تجعل الناس يرتابون بالله نفسه. وهذا الاعلان سيشكّك الناس أيضاً حين يردّده أرميا بعد ميخا بقرن من الزمن (ار 26: 18).
الله يحاكم شعبه ويعاقبه. ولكن النبي يرى أن الله لا يريد هذا العقاب. فهناك خيبة أمل وحزن في تأؤه الرب: "ماذا صنعت لك، يا شعبي؟ بماذا أتعبتك؟ أجبني" (6: 3). ورغم هذا، ظلّ ميخا متعلّقاً بالرجاء (7: 7). هذه الوجهة سيتوسع فيها اولئك الذين تابعوا عمل النبي.

2- سفر ميخا
نواة سفر ميخا هي: ف 1- 3؛ 6: 1- 7: 7. بعد هذا، زيدت مواعيد بالسعادة. وفي 4: 1- 4، نقرأ إنباءً بصعود الشعوب المرتدة إلى أورشليم للقاء الرب (رج أش 2: 2- 5). وهناك وعد بإعادة البناء في 4: 6- 7. ويعبرّ ف 5 عن الرجاء بداود جديد (مسيح) بعد زوال السلالة الحاضرة. طبّق متى هذا النص على مولد يسوع، مت 2: 6). أما الخاتمة (7: 8- 20) فتنهي الكتاب بصلاة: "إرعَ شعبك بعصاك، شعبك غنم ميراثك... أرنا عجائبك يا رب".
وإذا توقّفنا عند الكتاب في صورته الحالية نجد الترتيب التالي:
- ميخا يندّد بالشّر (ف 1- 3).
- مواعيد (ف 4- 5).
- تنديد آخر بالشرّ (6: 1- 7: 7).
- مواعيد أخيرة (7: 8- 20).
نستطيع أن نقرأ ف 2- 3 (ضد الظّلم)؛ 4: 1- 10 (صعود الشعوب إلى أورشليم)؛ 5، 1- 5 (مولد المسيح في بيت لحم لا في أورشليم).

ب- ناحوم
لا نعرف عن ناحوم شيئاً سوى أنه كان من قرية ألقوش (1: 1). أما الفصول الثلاثة التي تؤلّف كتابه فهي نبوءة ضدّ نينوى، العاصمة الشهيرة للملكة الاشورية.
يبدو أن ناحوم عاش في القرن السابع، يوم وصلت أشورية إلى أكبر امتداد لها. في سنة 663، وصلت جيوش أشور بانيبال إلى صعيد مصر وسلبت مدينة طيبة (3: 8). ولكن النبي لا يتأثّر بامتداد هذه القوة الضاربة. فهو مقتنع أن الكلمة الاخيرة هي للرب، سيّد التاريخ، الذي يعرف أن يضع حداً للضيق. وهذا اليقين جعل النبي "يرى" مسبقاً دمار نينوى.
إختلف ناحوم عن أشعيا وميخا، فلم ينظر إلا إلى خطيئة الأشوريين ومدينتهم "مدينة الدماء" (3: 1) وملكهم "بليعال" المهلك (2: 1). لا يلمّح ناحوم إلى خطيئة شعبه الذي يكفيه ما قاساه في أيام الملك منسّى. فهو يريد قبل كل شيء أن يسند إيمان المؤمنين ورجاءهم، يريد أن يكون لهم "رسول سلام" (2: 1).
يتألف سفر ناحوم من ثلاثة أقسام:
* نشيد لله المنتقم (1: 2- 8). سينتقم الله من الخطايا ضدّ البشرية، وهو يعتبر أولئك الذين اقترفوها أعداء له (1: 2).
* كلام يوجّه الى يهوذا ونينوى: ليهوذا بشرى تحرير وسلام. لنينوى كلام الحرب والسحق (1: 9- 2: 3).
* تصوير لسقوط نينوى (2: 4- 3: 19). النبي يرجو، ينتظر، ينظر إلى هجوم المهاجمين. يرى الأبواب محطّمة، يرى السلب والنار والقتلى الكثيرين والدمار.
دمّرت نينوى سنة 612 على يد البابليين والمادايين، بعد مقاومة دامت ثلاثة أشهر. وقد اكتشفت آثار هذه المدينة القديمة في القرن التاسع عشر.

ج- صفنيا
لا نعرف عن صفنيا إلا أسماء أجداده (1: 1) الذين قد يعودون إلى الملك حزقيا. صوّره الرسّامون وهو حامل مشعلاً في يده بسبب 1: 12 (أفتش أورشليم بالمشاعل). لا شكّ في أنه مارس نشاطه في السنوات الأولى من عهد الملك يوشيا، أي 640- 630. نستطيع أن نرى فيه شخصاً سبق الاصلاح الذي قام به هذا الملك.
خيّم الصمت خلال حكم منسّى الطويل (687- 642)، فجاء صفنيا يقطع هذا الصمت ويندّد بالعبادات الكنعانية (بعل، 1: 4) والأشورية (جيش السماء، 1: 5)، بالأزياء الغريبة (1: 8)، وبأكاذيب التجّار (1: 11).
هاجم صفنيا المسؤولين بقساوة، كما فعل الأنبياء في القرن السابق. "أعيانها في وسطها أسود مزمجرة. قضاتها ذئاب جائعة في المساء... أنبياؤها فاجرون غادرون، كهنتها يحلّلون كل حرام ويخالفون الشريعة" (3: 3- 4).
ورأى "يوم الرب" الرحيب يقترب، يوم الغضب حيث لا تفيد الفضة ولا الذهب (1: 18). وهكذا يظهر كذب الذين يزعمون "أن اللّه لا يصنع خيراً ولا شّراً" (1: 12). سيتدخّل في ذلك اليوم ضدّ شعبه الخائن الذي لم يكن أميناً ولا مؤمناً، كما يتدخّل ضد الفلسطينيّين والموآبيين والعمونيّين الذين استفادوا من ضيق يهوذا ليتوسّعوا على حسابه. ويتدخّل ضد الكوشيّين، بل ضدّ أشورية نفسها التي ظنّت انها لا تُقهر. وإذا أراد صفنيا أن يصوّر ذاك اليوم، إستعمل كلمات قاسية: "تهال دماؤهم كالتراب ولحومهم كالبعر" (1: 17).
ولكن ليست هذه الكلمة الأخيرة. فالايمان يفتح الطريق دوماً أمام المستقبل. ولصفنيا رأيه في هذا المجال. ففي المستقبل لن يتابع اللّه مشروعه مع العظماء والأغنياء المتكبرين، بل مع "وضعاء الارض"، مع الذين يطلبون البرّ (2: 3). ويتبع صفنيا أشعيا (29: 9) فيتطلّع إلى بقية بني إسرائيل، إلى شعب وديع متواضع (3: 12- 13). انه يرجو ان يعفو الله عنهم حين يتدخّل (2: 3)، وأن يُولد من هذه البقية شعبٌ جديد.
قد لا يكون صفنيا عاش كثيراً ليشهد دمار الأمل الذي حرّكه في وقت من الأوقات اصلاح يوشيا. فبعد سنة 587 فهم المؤمنون تعليمه عن يوم الرب وعن بقية اسرائيل. فعبر المحنة تَنقّى الرجاء. فأمل جامع الكتاب بعد نهاية المنفى بارتداد الشعوب إلى الرب (3: 9- 10). وأنشد الرب الحاضر وسط أورشليم التي أعيد بناؤها (3: 14- 20).
وترتّب سفر صفنيا كما ترتّبت سائر أسفار الانبياء.
* تهديد ضدّ يهوذا واورشليم (1: 2- 2: 3). يوم الرب.
* تهديد ضدّ الأمم (2: 4- 3: 8). عودة إلى أورشليم التي كان يجب عليها ان تتعلّم حين رأت دينونة الرب ضدّ الأمم.
* مواعيد المستقبل (3: 9- 20).
نقرأ خصوصاً نصاً حول يوم الرب (1: 14- 18)، ونشيداً لابنة صهيون التي تُدعى للفرح لأن الرب يفرح فيها ويرقص من أجلها (3: 14- 20).

د- حبقوق
سيطر على نبوءة حبقوق "زلزال" هزّ الشرق، هو انتصار البابليّين على الأشوريين في نهاية القرن السابع. لا نعرف شيئاً عن حياة النبي. ربما كان من موظفي الهيكل، مثل ناحوم، لأنه يأخذ في كتابته باسلوب الصلاة الليتورجية (ف 1، 3).
حبقوق مؤمن تجرّأ فقال لله: "لا أفهم". وعبرّ عن حالته النفسية باسم شعب كامل. لقد شهد أموراً شكّكته في العمق.
أولاً: صرخ حبقوق إلى الرب لكي يتدخّل. ومع ذلك، فالضيق والظلم يسيطران اليوم أكثر من أي وقت كان (1: 2- 4). فجاء جواب الرب: إنتظر كن هادئاً، فالكلدائيون آتون (1: 5- 11).
ثانياً: عاقب الكلدائي يهوذا ولكنه اكثر شراً وخطيئة منه. شعب متكبرّ وعابد أوثان (1: 12- 17). تشكى حبقوق فطلب إليه الرب أن يحفر جوابه على لوحة يستطيع الجميع قراءتها. سيعلن الرب شيئاً يتحقّق في أوانه وهو أن المضايق سوف يسقط ويزول (2: 2- 6).
وتصل التويلات (قال: الويل) الخمسة ضد المستبدّ إلى هدفها (2: 6- 20). ويفرح النبي مسبقاً بتدخل الرب الجديد (3: 18- 19).
إنطبع تعليم النبي حبقوق انطباعاً عميقاً بتساؤلات مؤمن قلق في عصره: لماذا الشرّ في العالم؟ لماذا لا يتدخل الله؟ ويتشكّك المؤمن، ويودّ أن يتخلىّ عن كل شيء. ولكن حبقوق يعلن رغم كل شيء ان البر (والعدالة) سوف ينتصر في النهاية. هذا هو اليقين الذي يساعد المؤمن على الثبات في الأوقات الحالكة.
ويستند يقين حبقوق إلى الرب. ففي وسط الكتابة ستتردّد مراراً كلمات ويردّدها خاصة بولس الرسول، لأنها تعبرّ عن يقين أساسي: "البار يحيا بأمانته" (2: 4). ونستطيع ان نقول: "البار يحيا بالايمان". عنت هذه العبارة لحبقوق أن حياة الفرد والشعب ترتبط بالأمانة لله، بالايمان بالله. هذا ما قاله أشعيا (7: 9) في اطار تاريخي آخر: إن آمنتم بالله كان لكم الأمان والسلام.
نقرأ خاصة الحوار بين الله ونبيّه في ف 1. ونقرأ المزمور الاخير (ف 3). يبدأ بنداء إلى الربّ ليتدخل (آ 1- 2). ويتواصل بتصوير رهيب لمجيء إله الخروج (آ 3- 15). وينتهي بانتظار هذا التدخل (آ 16- 19).
تحقق انتظار حبقوق سنة 539: سقطت الامبراطورية الكلدائية بيد كورش، ملك فارس

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM