الفصل الخامس والعشرون إرميا النبي

الفصل الخامس والعشرون

إرميا النبي

عاصر إرميا صفنيا وحبقوق، وعاش السنوات الأخيرة في مملكة يهوذا. تحرّك قلبه أكثر من أي إنسان آخر لكل ما يمسّ شعبه: منذ إصلاح يوشيا حتى المأساة الأخيرة التي شاهدت دمار كل طمأنينة مادية وأخلاقية. إرميا هو النبي الذي نعرف حياته وردّات الفعل عنده. فقد دخلت في جسمه مأساةُ شعبه، فحاول أن يعطيها معنى من أجل المستقبل. لهذا كان تأثيره كبيراً جداً.

أ- بدايات إرميا في أيام يوشيا (626- 609)
في السنة الثالثة عشرة للملك يوشيا (1: 2) أي سنة 626، أدرك إرميا نداءُ الرب له بأن يكون نبياً. في ذلك الوقت، زال آخر ملك أشوري كبير (أشور بانيبال) وتسارع انحطاط المملكة. في سنة 626، إستقلت بابل عن أشورية بقيادة والد نبوكد نصر.
في عناتوت وهي قرية صغيرة تبعد 5 كلم إلى الشمال من أورشليم حيث كان الوالد يمارس الكهنوت، هناك طلب الله من إرميا أن يكون "نبياً للأمم" (1: 5). في الواقع قضى النبي حياته يتفهمّ معنى الأحداث الدولية التي تحيط بشعبه، ويوصل فهمه إلى أبناء وطنه. لن تكون مهمته مريحة، وسيحسّ أنه لا يقدر عليها (1: 6). عليه أن "يقلع ويهدم ويخرّب ويدمّر ويبني ويزرع" (1: 10). وسيُجبر مراراً على قول أشياء لا ترضيه ولا يريدها الشعب ورؤساؤه. ولكنه كان متيقناً أن الكلمة التي يعلنها ليست كلمته، بل كلمة الرب التي تساعده على تخطي الصعوبات والحواجز.
كانت أول أيام نشاطه تبشّر بالخير. في ذلك الوقت، إستفاد الملك يوشيا من انحطاط أشورية ليحتلّ أرض مملكة إسرائيل القديمة ويعيد تكوين مملكة داود. إمتدّ الإصلاح الإشتراعي في الشمال كما في الجنوب. ووُلد رجاء عظيم رغم معارضة داخلية قوية.
لم يستطع إرميا أن يبقى لا مبالياً. فتوجّه إلى الشيوخ المقيمين في مملكة الشمال ودعاهم للعودة إلى صهيون، للرجوع إلى الرب. فهذا شرط لمستقبل من السعادة (ف 2- 3؛ 30- 31). وتوجّه أيضاً إلى شعب يهوذا فوّبخهم بقوة على تجاوز شريعة العهد (11: 3). واللوحة التي يرسمها عن المجتمع تفهم الشعب بأنه تخلىّ عن الرب وتعبّد للآلهة الكاذبة (5: 7). وهناك الغنى الفاحش (5: 26- 31) وخطيئة الكهنة والأنبياء (6: 13).
فالذين يظنون أن الشر لا يطالهم يخطئون. فقد أحسّ إرميا منذ ذلك الوقت بالخطر الذي تسببّه بابلونية "العدّو الآتي من الشمال" (1: 13).
ب- إرميا في المعارضة على أيام يوياقيم (609- 598)
في شهر أذار سنة 609، قُتل يوشيا في مجدو، ساعة أراد أن يمنع الجيوش المصرية (مع الفرعون نكو) من مدّ يد العون لما تبقى من القوى الأشورية. فقام أهل الأرض حالاً واختاروا يوآحاز خلفاً للملك الراحل. ولكن جاء الفرعون بعد ثلاثة أشهر، فأخذه "أسيراً" إلى مصر، وفرض مكانه أخاه يوياقيم (2 مل 23: 28- 37). وهكذا ستعرف مملكة يهوذا حقبة عابرة من التبعية لمصر ستمتدّ حتى سنة 605.
منذ بداية عهد يوياقيم، قام إرميا بمبادرة ستكلّفه غالياً. أحسّ أن الإصلاح صار في خطر مع الملك الجديد، فوقف عند مدخل هيكل أورشليم وأعلن علانية، كما فعل ميخا قبله بمئة سنة: إن لم تبدّلوا سلوككم، فهذا الهيكل الذي يعتبره الجميع مقدساً، سيدمّر كله (ف 7 و26). وأفلت إرميا من الموت بصعوبة.
لا، لم يعد الوقت مؤاتياً للإصلاح. فانتقل إرميا إلى المعارضة. هو لا ينتظر الشيء الكثير من "بيت داود" الذي يخون دعوته (12: 11- 14). والحكماء والسياسيون سيضيعون في الأحداث التي تتهيَّأ (8: 8- 9). طلبوا حماية مصر، ساعة أطلّ التهديد من الشمال (8: 16).
كانت سنة 605 منعطفاً هاماً: إنتصر نبوكد نصر على مصر في كركميش على العراق. سيطرت بابل، فصار مصير الشعوب بين يدي سيّد جديد.
وجاءت الأحداث فأثبتت أقوال إرميا. دبّ الخوف في يهوذا والشعوب المجاورة. قدّم يوياقيم خضوعه فظنّ أنه في أمان. ولكن إرميا هاجمه فقطع عليه لامبالاته. وأعلن علانية أن الله يستطيع أن يحطّم أورشليم كما تحطّم جرة. تشكّك الناس. فجعل رئيس الشرطة إرميا في السجن طوال الليل (19: 1- 20: 6). ومُنع النبي من دخول الهيكل. فأخذ بخطة جديدة. أملى على أحد أصدقائه (واسمه باروك) الأقوال التي تلفّظ بها منذ البداية. فيقرأها في الهيكل ويسمعها الجميع. واشتكى الناس على باروك أمام الملك. أخذت اللفيفة (أوراق ملفوفة على قصبة) وأحرقت في النار بيد يوياقيم نفسه (ف 36).
منذ ذلك الوقت، عاش الصديقان (ارميا وباروك) متخفّيين. كانت تلك أتعس حقبة في حياة إرميا. إضطُهد، إتُّهم، إحتُقر وعاش وحده، فاجتاز أزمة عميقة. كم كان يودّ أن يتخلى عن دعوته التى تؤلمه! ولكنه لا يستطيع. فالنداء أقوى منه. نتعرّف إلى هذا الصراع الداخلي لدى النبي حين نقرأ الاخبار السيرويّة التي تسمّى أيضاً "إعترافات ارميا" (11: 18- 12؛ 6؛ 15: 10- 21؛ 20: 17- 18).

ج- ارميا ونهاية يهوذا (598- 587)
تجرّأ أشعيا فأعلن فشل أشورية أمام أورشليم سنة 701، فدلّ على أن الايمان يحل محل السياسة. أما إرميا فكان أكثر واقعية. أعلن أنه لا نفع من مقاومة ملك بابل. من جهة، قوته ساحقة. ومن جهة ثانية، هو "خادم الرب" (25: 9) الذي أوكله بتنفيذ إرادته ضد الأمم الخاطئة، ولا سيما يهوذا.
وأثبتت الأحداث أنه كان على حق في حكمه. ثار الملك يوياقيم بتشجيع من مصر، فأدّت الثورة إلى احتلال أورشليم سنة 598. وأخذ خلفه يوياكين إلى المنفى في السنة التالية، وحلّ محلّه عمه صدقيا. حينئذ كتب إرميا رسالة إلى "المهجرين" يدعوهم فيها لكي يقيموا في أرضهم الجديدة ويثقوا بالمستقبل (ف 29).
وانطبعت آخر سنوات مملكة يهوذا بصراع داخلي بين أهل التمرّد على ملك بابل وأهل الخضوع، أو بين موال لمصر وموال لبابل. وتأرجح صدقيا بين الفريقين.
أما بالنسبة إلى إرميا فالخيار واضح. فخلال إجتماع دولي تمّ في أورشليم من أجل تكوين حلف يعارض بابل، رأى الناس إرميا يسير في الشارع والحبال والنير على عنقه. وجعلها على "السفراء" الغرباء ليدلّهم على ما ينتظرهم (ف 27). فإذا أرادوا أن يتجنّبوا الكارثة، عليهم أن يخضعوا. وفي الوقت ذاته، واجه إرميا الأنبياء "الوطنيين" الذين "تنبأوا" بنجاح الحلف المعارض لبابل (ف 28). فكلمة الله التي تقول له دوماً إن الدينونة آتية، تجعله قوياً لا يتزعزع. هذا لا يعني أن إرميا يوافق على التسلّط البابلي. فهو يقول: ستسقط بابل وتضمحل "كحجر في وسط الفرات" (51: 63- 64).
سنة 589، كانت محاولة تمرّد جديدة فتدخل الكلدائيون. وخلال حصار دام سنة ونصف السنة، تخلّله توقف سببته عملية للجيش المصري، لم يتبدّل إرميا. ففضل السجن وخاطر بحياته في مقر بئر موحلة (ف 37- 39).
ولكن ساعة أخذ كل شيء يسقط حوله، قام إرميا بفعلة لا معنى لها في الظاهر: فخلال حصار أورشليم اشترى حقلاً من ابن عمه حنانئيل (32: 6- 12). فهذه الفعلة الرمزية دلّت على معنى الصراع الذي عاشه في حياته: لا صراع ضد شعبه، لا خضوع يبحث عن المنفعة لدى الكلدائيين، بل صراع لكي يعيش شعبه من جديد ويستعيد معنى دعوته.
بعد سنة 587، إنضم إرميا إلى صديقه جدليا. ولكن بعد موت هذا الصديق على يد "وطني"، أجبر إرميا على الذهاب إلى مصر مع قافلة من اللاجئين (ف 40- 42). وبما أن لا معلومات لدنيا، نفترض أنه مات هناك.

د- إرميا رجل الكلمة
نستعمل مراراً عبارة "كلمة الله". لا بدّ من العودة إلى إرميا لنفهم وزن هذه العبارة.
فمنذ دعوته سنة 626، سيطر على حياته كلّها سماعُ الكلمة ونقلُ هذه الكلمة. ونحن نقع في أخباره السيروية على هذه الجملة: "توجّهت إليّ كلمة الرب". يستحيل علينا أن نكتشف الخبرة الشخصية التي هي وراء هذه الجملة. ولكننا نعرف تأثير هذه الكلمة على النبي. مرّة تملأه فرحاً (15: 16) ومرّات تخيفه. يحسّ أنه لا يستطيع أن يحملها فيرجف أمامها كالسكران (23: 9). وتشبه النار والمطرقة التي تحطّم الصخر (23: 29)، فتهاجم النظم المتينة و"العقائد" المقدّسة التي تجعل الشعب يعيش في سراب. والنبي هو الذي يدفع ثمن كل هذا: "بسبب كلمة الرب أنا عرضة للاحتقار والتعيير النهار كله" (20: 8). أمسكت به هذه الكلمة فصار معارضاً غصباً عنه. وطُلب منه أن يقتلع ويهدم كل الطمأنينات الكاذبة في عصره.
وهكذا هاجم الهيكل الذي اعتبره الشعب كفالة آلية ضد الشر. فامتلاك الهيكل لا ينفع إن لم نكن أمناء للعهد، إن جعلنا هذا البيت "مغارة لصوص" (7: 1). يستطيع الله أن يدمّر هيكل إورشليم كما سبق له ودمّر معبد شيلو (7: 12).
في أيام الأزمة، يُكثر الناس من أعمال العبادة والنذورات والذبائح. ولكن هل تبعد النذورات واللحوم المقدسة الشّر عنا (11: 15)؟ البخور والمحرقات ليست الشيء من دون البر والعدالة، من دون الأمانة لكلام الله (6: 19-20).
هناك من ظنّ أنه حكيم وفي أمان لأنه يمتلك شريعة الرب. ولكن الكتبة شوّهوا الشريعة وجعلوها تعارض كلمة الرب (8: 8- 9). في المستقبل، سيأتي الرب نفسه ويكتب شريعته في قلب الناس (31: 33).
وكان الختان تمييزاً وكفالة. غير أن كلمة الله التي قالها النبي شدّدت على أن الختان الحقيقي هو ختان القلب (4: 4، لا يكون مغلقاً) والاذنين (6: 10). مثل هذا الختان يجعل الانسان يتقبّل مشيئة الله ويعمل بها.
وتكاثر في زمن إرميا الأنبياء الذين اعتبروا كلهم بأنهم يحملون كلام الله. أعلن معظمهم أنه لا حاجة إلى القلق: "كل شيء على ما يرام. لن يأتي شر عليكم" (23: 17). تلك كانت منية إرميا العميقة، كما نستشفّها من جدال مع النبي حنانيا (28: 6). ولكن إذا أراد الأنبياء أن يعرفوا على أن الله أرسلهم حقاً، يجب أن تتحقّق "تنبوءاتهم" (28: 9). ويجب خاصة أن يتجرّأوا ويندّدوا بالشر دون خوف من الاضطهاد على مثال الأنبياء الذين سبقوهم (32: 22). كيف نستطيع أن نقول للذين يحتقرون كلام الله: كل شيء على ما يرام؟ هؤلاء الأنبياء لا يستحقون إسم النبي. هم لا ينفعون الشعب (23: 32)، وعلاقة أحلامهم بكلمة الرب كعلاقة القش بالحنطة (23: 28).
وكان معاصرو إرميا يجدون أفضل ما يجدون من أمان لنفوسهم، حين يظنون أنهم شعب الله. وكان الكهنة والأنبياء يشجّعونهم في موقفهم هذا. ولكن كيف نفتخر بهذا اللقب ونحن لا نزال نعمل الشر؟ لا توافق بين الإثنين، فالله ليس صنماً لشعبه ولا أداة بين يديه. لهذا سيتصّرف معه كما لو كان خصماً له (9: 10). في هذا اليوم لن يقال أن دمار أورشليم وضياع المؤسسات التي تعطي الشعب طمأنينة كاذبة، يعنيان هزيمة الله.
غير أن إرميا لم يُرسل فقط لكي يدمّر ويقلع. فالكلمة التي توجّهت إليه هي أيضاً نداء ليبني ويغرس. فكل ما عمله من أجل تبدل في الشعب وارتداده، عمله لكي يجنّبه الكارثة. وسيأتي وقت يعرف إرميا أن هذا لم يعد ممكناً: سيُحرم الشعب من أرضه ومدينته وملكه وهيكله. حينئذ يكون أمام الموت.
ولكن كلمة الله في فم إرميا، تدل على طريق حياة جديدة. فالفقر سيجبر المؤمنين على تركيز حياتهم كلّها على ما هو جوهري: الجواب الفردي والجماعي للرب. والرب يدلّ من جهته على أمانته وغفرانه بـ "عهد جديد" (13: 13- 34). يولّد هذا العهد علاقات جديدة مع الله، لأن معرفة مشيئته ستتسجّل في قلوب المؤمنين. كان إرميا أولا من عاش بقوة هذه العلاقات الجديدة مع الرب. فحياته وعمله ينبئان بالعهد الجديد فى يسوع المسيح (لو 22: 20).

هـ- سفر إرميا
إن سفر إرميا بفصوله الاثنين والخمسين هو ثمر عمل طويل. فالنواة القديمة تعود بلا شك إلى إرميا نفسه. نحن أمام اللفيفة التي أملاها على باروك والتي تضمّنت أقواله على إسرائيل ويهوذا والأمم: ف 2- 6؛ 46- 49؛ 25: 15- 29. وبعد بضع سنوات زاد إرميا مقاطع أخرى ترد في صيغة المتكلم المفرد (يتكلّم فيها عن نفسه): خبر الدعوة، "إعترافات"، السيرة، هجوم على الملوك والأنبياء. وقد ترك لنا صديقه باروك الأخبار التي نقرأها في ف 36- 45.
في زمن المنفى، إستعاد المؤمنون بعض أقوال إرميا وتوسّعوا فيها باسلوب اشتراعي: النصوص الاشتراعية. ثم كانت مقاطع تحتفل بسقوط بابل سنة 539.
أما ترتيب الكتاب الحالي، فيبدو كما يلي:
* أقوال ضد يهوذا (ف 1- 25).
* أقوال تشير إلى السعادة وتقدم أخبار النبي (ف 26- 45).
* كل أقوال ضد الأمم (ف 46- 51).
ويأتي ف 52 فيدلّ على أن نبوءات إرميا قد تمت

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM