الفصل الرابع : إنجيل مريم، تعليم نسكيّ؟

الفصل الرابع

إنجيل مريم، تعليم نسكيّ؟

إنَّ برديَّة برلين 8502، التي تعود، على ما يبدو، إلى منطقة أخميم، اشتراها متحف برلين في القاهرة سنة 1896، واحتفظ بها منذ ذلك الوقت. فيها إنجيل منحول غاب عنوانه مع الصفحات الستِّ الأولى في الكودكس. ولكنَّ الكولوفون (ص 19) ينسبه بشكل صريح إلى مريم، أي مريم المجدليَّة. بدأ بنشرها للمرَّة الأولى كارل شميدت وأتمَّ العمل «تيل» سنة 1955 [1] تقطاعان يونانيَّان آتيان، على ما يبدو، من ألبهنسة، كُشفا خلال القرن العشرين: الأوَّل، برديَّة رايلندس 463. نشرها سنة 1938 روبرتس[2] والثاني، برديَّة ألبهنسة 3525. تعرَّف إليها برسُنس ونشرها سنة 1983 [3].

مؤلِّفان في الفرنسيَّة جعلا هذا الإنجيل في متناولنا. الأوَّل، نشرَ النصَّ القبطيّ ونقله وشرحه[4]. والثاني، ترجم كلَّ كودكس برلين وقدَّم له وشرحَه[5].

بالنسبة إلى هذين الكاتبين، لا شكَّ في أصل هذا الكتيِّب الغنوصيّ وطابعه. رأت بسكييه في إنجيل مريم «موديل» فن أدبيّ خاصّ بالغنوصيِّين: وحيٌ يُنقل إلى المؤمنين بشكل حوار. قالت: «إنجيل مريم، رغم تشعُّباته وفجواته، يقدِّم، على ما يبدو، السمات الخاصَّة بهذا النوع الأدبيّ. فالحوارات خاصَّة بالمسيحيِّين الغنوصيِّين الذين استندوا إلى تقليد إيزوتيري، باطنيّ، مختلف عن الجدال النظريّ حول الطبيعة ومصير الإنسان، وهو جدال فتحه في الفكر المسيحيّ الشرقيّ برديصان ومدرسته». وتابعت كلامها: «في صدى هذا الجدال الذي بسَّط كاتب إن مر مواضيعه وألفاظه الأساسيَّة، ظنَّ أنَّه يقدِّم عملاً مفيدًا فيحمل جوابًا مؤسَّسًا على تقليد أقوال يسوع، ومدرَجًا في لحمة الإنجيل السرديَّة» (ص 25).

في اللغة الإنكليزيَّة قدَّمت لنا كارين كنغ[6] أعمالاً هامَّة. في منظور أنثويّ مع تبيان الدور الساميّ الذي لعبته مريم كأوَّل شاهد للقيامة في الجماعات المسيحيَّة في القرن الثاني: «إنَّ خبر مريم المجدليَّة في إن مر لا يمكن أن يُؤخَذ على أنَّه "واقع" تاريخيّ بسيط دون أيِّ نقد. إنَّه صياغة سيناريوهات عديدة حول مريم، التي صارت تقليديَّة في القرن الثاني: فدورها كتلميذ مميَّز ليسوع، تقبُّلُها رؤى خاصَّة وتعليم من الربّ القائم من الموت، فعزَّت سائر التلاميذ وعلَّمتهم، صراعها مع التلاميذ الذكور بالنسبة إلى صدق شهادتها. وسَّع إن مر هذه المواضيع وأبرزَ معرفة مريم الروحيَّة السامية، ووضْعَها الأفضل لدى يسوع وقيادتها الشرعيَّة بين التلاميذ»[7].

*  *  *

إن نقصَ المخطوطُ ستَّ صفحات في البداية وأربع صفحات في الوسط، إلاَّ أنَّ ما هو واضح هو أنَّ النصَّ يتوازن بين خطابين: خطاب يسوع أوَّلاً ثمَّ خطاب مريم، وكلٌّ من هذين الخطابين يطرح سلسلة من الأسئلة ويُبرز ردَّات فعل لدى السامعين.

إنَّ أقوال يسوع وتساؤلات الرسل جعلت الرسل، بعد ذهاب المعلِّم، في بلبلة كبيرة. سعت مريم لتبدِّد هذا التعلُّق فقدَّمت جملتين تدلاَّن على السلطة التي تمتلكها الآن على مجمل الرسل، وعلى المعرفة العميقة التي اقتنتها حول سرِّ الخلاص: «لا تبكوا ولا تكتئبوا ولا يكن قلبكم منقسمًا. لأنَّ نعمته تكون معكم كلِّكم وتحفظكم. لنمدح بالأحرى عظمته لأنَّه وحَّدنا، جعلنا إنساناً» (إن مر 9: 14-20). يبدو أنَّ هاتين الجملتين تقدِّمان لنا قلبَ إن مر ومدلوله العميق.

فخطبة يسوع الوداعيَّة بلبلت التلاميذ. فجاءت هاتان الجملتان من مريم ووضعتاهم في منظور يُسنده خبرُ الرؤية التي تلي، والتي تنكشف أهمِّيَّتُها في الجدال الذي سوف تحرِّكانه في داخل المجموعة الرسوليَّة. فجوهر التعليم الذي تريد أن تعطيه يتمفصل حول متطلِّبة وحيدة عبَّرت عنها مريم، متطلِّبة الوحدة الداخليَّة.

1-   القلب المنقسم

إنَّ تحليل العبارتين «قلب قلبان»، ثمَّ «التوحيد الذي يقود إلى قامة "الرجل"» يقوداننا مباشرة إلى ما يشكِّل منذ الآن مثال التقوى اليهوديَّة، كما يعبِّر عنها العهد القديم، وكما تستعيدها، فيما بعد، كتابات بيعهديَّة، وأدبٌ مسيحيّ قريب من العالم اليهوديّ في القرن الثاني، وفكرٌ نسكيّ في النهاية.

أ‌-    في العهد القديم واليهوداويَّة القديمة

فضح مز 12: 3 رجل الكذب فتحدَّث عن «لغة قلب مضاعف» (في قلبين). فقالت السبعينيَّة: «يتكلَّمون في قلب وفي قلب»[8]. وفي يشوع بن سيراخ (1: 28) القلب المنقسم[9]. ونقرأ عن القلب المنقسم في مدائح قمران (4: 14) بالنسبة إلى المرائين. وبساطة القلب التي هي فضيلة حاضرة في وصيَّات الآباء الاثني عشر، هي وحدة ذاك الذي «نفسُه ليست ممزوجة، وقلبه غير منقسم، وأفكاره غير ملتوية»، كما يقول سفر الحكمة (1: 1-5)، ذاك الذي أعماله ليست «مزدوجة»[10]. وازدواجيَّة النفس هذه تتسجَّل في سياق ثنائيّ واضح، سياق الخيار الذي نقوم به بين الطريقين، طريق الخير وطريق الشرّ، الخيار الذي، في قمران، فصل أبناء النور من أبناء بليعال. ذاك ما قالته وصيَّة أشير (1: 5) بشكل صريح: «هناك طريقان، طريق الخير وطريق الشرّ. والميلان في صدورنا ينتميان إلى الخير وإلى الشرّ حين يميِّزان هذين الطريقين». وفي حرب جداليَّة (4: 1) يصيب الناس ذوي الوجهين[11] في مقابلة مع الذين وجههم واحد[12]. أمّا وصيَّة بنيامين (6: 6-7) فأوضحت بدورها: «لا يمتلك الإنسان الصالح النظر المزدوج ولا السمع المزدوج، لأنَّه مهما فعل أو قال أو نظر، فهو يعرف أنَّ الله يرافق نفسه. فينقِّي فكره لئلاَّ يحكم عليه الله لا البشر. كلُّ عمل من بليعال هو مزدوج لا بسيط».

ب‌-  في العهد الجديد

في الأدب المسيحيّ القديم، استعملت رسالة يعقوب اللفظ «مزدوج»[13] للدلالة على إنسان متقلِّب (1: 8)، عن إنسان منقسم بين الخير والشرّ. تحدَّث إلى سامعيه فقال: «أيُّها الفجّار، أما تعلمون أنَّ حبَّ العالم عداوة لله؟ فمن أراد أن يكون صديق العالم يكون عدوَّ الله... فاخضعوا إذًا لله وقاوموا إبليس فيهرب منكم. طهِّروا أيديكم أيُّها الخطأة قدِّسوا قلوبكم يا ذا النفس المنقسمة» (4: 4-8). وبالنسبة إلى إن مر، الزنى هو خطيئة الإنسان: «قال بطرس: "ما هي خطيئة العالم؟» فأجاب المخلِّص: «ليس من خطيئة. ولكن أنتم تقترفون الخطيئة حين تتصرَّفون في وفاق مع طبيعة الزنى الذي يُدعى الخطيئة» (7: 12-17). فطبيعة الزنى في جوهره هي انقسام، لهذا تحدَّث يعقوب إلى «المنقسمين» ووصفهم بأنَّهم «فجّار».

ج- في كتابات الآباء الرسوليِّين

في راعي هرماس[14] الذي دُوِّن في النصف الأوَّل من القرن الثاني، وُجدت ألفاظٌ مثل فعل «انقسم» والموصوف «الانقسام» أو «الازدواجيَّة» أو «منقسم وذو نفسين»[15] استعمالاً متواترًا (58 مرَّة). والمدلول المسيطر هو مدلول الشكِّ والارتياب والتردُّد بين موقفين يجب أن نأخذ واحدًا منهما. هذا يعني: الانقسام. والفريضة[16] التاسعة كلُّها تعرض مساوئ الشكّ، وهذه الازدواجيَّة التي تُفسد النفس، وتدلُّ على الدواء الذي يستطيع أن يقضي عليه: نقاوة القلب في الإيمان والصلاة: «انزعْ من نفسك الشكَّ ولا تتردَّد إطلاقًا من أن تطلب شيئًا من الله دون أن تقول: "كيف أستطيع أن أطلب شيئًا من الربّ وأحصل عليه بعد أن اقترفتُ مثل هذه الخطايا الكبيرة تجاهه؟» لا تفكِّر هكذا، بل بالأحرى التفِتْ من عمق قلبك نحو الربّ وصلِّ إليه بثقة فتعرف رحمته العظيمة. فهو لا يمكن أن يتخلَّى عنك. بل يغمر صلاة نفسك» (39، فريضة 9: 1-2). ثمَّ يقول بعد ذلك: «طهِّرْ قلبك من كلِّ شكّ، ارتدِ الإيمان، لأنَّه قويّ. ثقْ بأنَّ الله يستجيب جميع صلواتك... فالشكُّ هو ابن إبليس... فاحتقر الشكّ... الشكُّ هو روح أرضيٌّ يأتي من إبليس. فلا قوَّة له البتَّة. فاخدُمْ إذًا الإيمان الذي له القدرة، وابتعدْ عن الشكّ الذي لا قوَّة عنده، فتحيا من أجل الله. وكلُّ الذين يفكِّرون هكذا يحيون من أجل الله» (39، 9: 7). في الرؤية[17] الرابعة، رذلَ هرماس الشكَّ فجعل الوحش المرعب الذي يقطع عليه الطريق، غير قادر على الإساءة. والتنبيه الذي تقدِّمه له المرأة التي هي صورة الكنيسة يقول: «... هذا الوحش هو صورة مسبقة للمحنة الكبيرة الآتية. إن استعددْتَ له ومن عمق قلبٍ تائب عُدتَ نحو الربّ، تقدرْ أن تُفلت منه. ولكن ينبغي أن يكون قلبك طاهرًا لا عيب فيه وأن تخدم الربَّ في ما يبقى لك من الأيَّام دون أن تستحقّ التوبيخ... آمنوا بالربّ، يا أيُّها الذين يشكُّون» (23: 5-6؛ رؤية 4/2: 5-6). نستطيع أن نجد هنا خطاب مريم في إن مر الذي يشجِّع التلاميذ المرتعبين بالمحن التي تنتظرهم: «لا يكنْ قلبكم منقسمًا، لأنَّ نعمته تكون معكم وتحفظكم. هو وحَّدنا وجعل منّا». وهرماس، النبيّ، دُعيَ أيضًا في المقال «العفيف»[18] الذي يمتنع عن كلِّ رغبة شرِّيرة، الذي هو مملوء ببساطة[19] تامَّة وببراءة كبيرة (2: 4؛ رؤية 1/2: 4). إنَّه ذاك الذي يعيش مع زوجته «كما مع أخته» (6: 3؛ رؤية 2/2: 3)، الذي يتعلَّم أنَّ العفَّة هي بنت الإيمان وأنَّ «كلَّ من يتعلَّق بها يكون سعيدًا في حياته، لأنَّه يمتنع عن كلِّ عمل شرٍّ، ولأنَّه واثق أنَّه إن امتنع عن كلِّ رغبة سيِّئة يرث الحياة الأبديَّة» (16: 4؛ رؤية 3/8: 4). فهو دون أن يكون «متعفِّفًا» في المعنى الدقيق للكلام، ينتمي إلى هذا التيّار النبويّ والنسكيّ الموروث من العالم اليهوديّ، وبشكل أخصّ من الأسيانيِّين، وهذا ما عرفته الكنيسةُ الأولى في القرنين الأوَّلين في سورية أوَّلاً ثمَّ في مصر وفي آسية الصغرى وحتّى رومة[20] التي بها يرتبط إنجيل مريم على ما يبدو. وكشف الباحثون تقاربات بين راعي هرماس ورسالة يعقوب[21]. ووُجد أيضًا مقطع من الديداكيه بشكل حرفيّ. ولكنَّ الأدب اليهوديّ هو الأقرب إلى هرماس، والكتابات اليهوديَّة المنحولة، وعزرا الرابع وبعض نصوص من قمران مثل نظام الجماعة. ثمَّ في ف 11 من التشابهات[22]، قدَّم هرماس دفاعًا عن العذارى[23] المكرَّسات اللواتي يسكنَّ مع نسّاك فيتسلَّمن منهم مساعدة روحيَّة. هذه الممارسة التي شجبها بقساوة قبريانس أسقف قرطاجة في القرن الثالث[24]، ثمَّ أفراهاط الحكيم الفارسيّ[25] ويوحنّا الذهبيّ الفم[26] في القرن الرابع، كانت لها جذور قديمة جدًّا فعرفها هرماس الذي كان ناسكًا وعفيفًا.

واستعملت رسالة كليمان الرومانيّ إلى الكورنثيِّين لفظ «منقسم» في جملة مقدَّمة كإيراد من الكتاب المقدَّس: «لتبتعد عنّا هذه الكتابة حيث يُقال: "الويل لمن نفسهم منقسمة، الذين يشكُّون في أنفسهم..."». (33: 3). وحسب سايتز (حاشية 15، ص 219)، رسالة يعقوب، راعي هرماس، رسالة كليمان وصاحب الرسالة الثانية إلى الكورنثيِّين المنسوبة إلى كليمان، كلُّهم يتبعون معًا مصدرًا منحولاً «بلاغًا نبويًّا»[27] قد يكون أوَّل من استعمل لفظ «منقسم». والإيراد الذي يقدِّمه هرماس (في رؤية 2/3: 4) من كتاب يعتبره ملهمًا، قد يعود إلى كتاب إلداد وميداد، الذي هو رؤيا ضاعت اليوم. والسياق الذي فيه ينسب كليمان هذا الإيراد إلى الكتاب المقدَّس، يشبه ما في رسالة يعقوب وراعي هرماس: الكلام يدور دومًا على القلب البسيط (اللامعقَّد) والذي لا انقسام فيه، الذي لا يشكُّ في لطف الله (23: 1-2) والذي لا يتعرَّض للعقاب الذي نالته امرأة لوط (10: 2) لأنَّه حفظ إيمانه غير متزعزع في قدرة الله. وحذَّرت الديداكيه (4: 4) ورسالة برنابا (19: 5) من الشكّ بكلام الله فاستعملت الفعل: لا تشكّ[28].

والرسالة الثانية إلى الكورنثيِّين التي نُسبت إلى كليمان الرومانيّ، ودوِّنت، على ما يبدو، في رومة، في بداية القرن الثاني، استعادت – مع بعض الاختلافات – إيراد رسالة كليمان الأولى إلى الكورنثيِّين (23: 3-4). التنبيه هو هو: «أمّا نحن، فنخدم الله بقلب طاهر فنكون أبرارًا. ولكن إن كنّا لا نخدمه لأنَّنا لا نؤمن بوعده، فالويل لنا عند ذاك. فقد قيل في الأنبياء: "الويل لمن نفسهم منقسمة وقلبهم متردِّد..."» (11: 1-2).

2-   الإنسان الموحَّد

لا يكفي مريم أن لا يكون قلبها منقسمًا. ربَّما لأنَّها تذكَّرت أنَّ بساطة القلب اعتبرها اليهود القدماء صفة ذكوريَّة عميقة، على أنَّ المرأة، باجتذابها وغيرتها وحيَلها، هي بامتياز سبب ازدواجيَّة القلب[29]. عندئذٍ ذكَّرت الرسل أنَّ يسوع «وحَّدهم»، «جعلهم إنسانًا».

وإذ قالت هذا، لجأت إلى مفهوم أكثر دقَّة قد يعود إلى الفلسفة الهلنستيَّة أو التنظير اليهوديّ، مفهوم الوحدة العميقة للمركَّب البشريّ كما كان حاضرًا، في الأصل، في فكر الله، الله، «الإله العقل» في پويماندريس[30]، «الذي هو ذكر وأنثى معًا». بالنسبة إلى فيلون، عقل الإنسان «قائد النفس» هو الذي خُلق «على صورة الله ومثاله» (تك 1: 26)، والاختلاف بين الجنسين (الذكر والأنثى) هو اختلاف صنفين من جنس واحد (خلق العالم 69 و76). ومدلول العقل، سيِّد النفس، الذي استقاه فيلون، بلا شكّ، من أفلاطون (الشرائع 12: 1963) هو في قلب تأويل النفس[31]، وهو كتابة معاصرة لإنجيل مريم، وغير منطبعة بقوَّة بالطابع الغنوصيّ.

أ‌-    تأويل النفس

نظَّر هذا المقال حول طبيعة النفس الأنثويَّة فعارضها مع العقل الذكر الذي فصل اتّحادها مع الجسد وغطَّسها في العالم المادّيّ: «قبْلنا الحكماءُ سمَّوا النفس باسم مؤنَّث. فهي أيضًا بطبيعتها حقًّا أنثى. كما أنَّ لها رحْمًا. ما دامت وحدها لدى الآب فهي بتول وذات وجهة ذكنسائيَّة[32]. ولكن حين سقطت في جسد وأتت إلى هذه الحياة، سقطت عندئذٍ في أيدي اللصوص العديدين... دنَّسوها... إذ اجتذبوها بعطيَّة سرابيَّة. وبمختصر الكلام، دُنِّست وخَسرت بتوليَّتها. وفجرت في جسدها واستسلمت إلى كلِّ واحد وهي تظنُّ أنَّ ذاك الذي تنضمُّ إليه هو زوجها» (127: 19-128: 4). إذًا، خسرَت النفس طهارتها الأولى: هي منذ الآن منقسمة، بعيدة عن المركَّب الآخر في ذكنسائيَّتها الأولى. ولا تسطيع أن تستعيد وحدتها إلاَّ بالتوبة والاهتداء[33]، بالصلاة إلى الآب لكي يمنحها ولادتها الجديدة. «ما دامت النفس تركض هنا وهناك، فتتّحد بمن تلتقي وتتدنَّس، فهي خاضعة للألم الذي تستحقُّ أن تتحمَّله. ولكن إن شعرت بالآلام التي هي فيها، وإن بكت ومالَتْ نحو الآب وندمت، عندئذٍ يرحمها الآب. فيميل برحمها من الحقائق الخارجيَّة ويعيدها من جديد إلى الباطن. وهكذا تسترجع النفس استعدادها الخاصّ» (131: 13-23). عندئذٍ يستطيع الآب أن يُرسل لها من السماء «زوجها الذي هو أيضًا أخوها البكر». حينذاك ينزل العريس نحو العروس في الخدر الزواجيّ. «هذا الزواج ليس مثل الزواج البشريّ (على مستوى اللحم والدمّ): فاللذان اتَّحدا الواحد بالآخر يُغمران بهذا الاتِّحاد ويَتركان عذاب الرغبة كما تُترك الأحمال... ولا ينفصل الواحد عن الآخر... ولكن حين يصلان إلى الوحدة، الواحد مع الآخر، يصيران حياة واحدة» (132: 27-35). في الحقيقة، كانا متَّحدين الواحد بالآخر، في البدء لدى الآب، قبل أن تُضلَّ المرأةُ الرجل الذي هو شقيقها فجمعهما من جديد هذا الزواج الواحد بالآخر واتَّحدت النفس مع حبيبها الحقيقيّ» (133: 4-8). وهذا النصُّ يحضُّ النفس مطوَّلاً «لأن تتوجَّه، بمشيئة الآب، نحو الداخل» (131: 28-29)، لأن تتطهَّر بالمعموديَّة والصلاة: «لهذا يجب أن تصلِّي إلى الله ليل نهار وتمدَّ يديها نحوه بدون مراءاة» (136: 16-18). وهذا الحضّ الموجَّه رمزيًّا إلى النفس، هو حضّ على الصلاة، على البحث عن الطهارة لاستعادة حالة الوحدة الأولى في المركَّب البشريّ. لا شكَّ أنَّ هذا النصّ يُخفي، شأنه شأن إن مر، سمات غنوصيَّة قليلة الوضوح، ولكنَّه يجعلنا نستشفّ، وسَط البدايات، المسيحيّ المتأثِّر بقوَّة باتِّجاهات التوبة النسكيَّة والتطهير والصلاة كما قرأناها في راعي هرماس مثلاً، وهي عادت إلى الحقبة عينها. لا شكَّ في أنَّ مريم فكَّرت بهذا العمل من التوحيد الباطنيّ حين ذكَّرت الرسل أنَّ يسوع «وحَّدهم»، «جعلهم إنسانًا»[34].

ب‌-  رسالة كليمان الرومانيّ الثانية

في مقطع آخر من رسالة كليمان الثانية (12: 2-4)، سُئل الربُّ فأجاب أنَّ الملكوت سوف يأتي: «حين يصير الاثنان واحدًا، والخارج مثل الباطن، ويكون الرجل مع المرأة وكأنَّه لا رجل ولا امرأة». ويشرح الكاتب كما يلي: «الاثنان هما واحد حين نقول لأنفسنا الحقيقة، وحين تسكن نفسٌ واحدة في جسدين بدون أيِّ مراءاة». ويشدِّد الشرح بشكل خاصّ على ضرورة امتلاك «نفس واحدة»[35] في تعارض مع نفس مزدوجة أو منقسمة (حاشية 13). هذا برهان بأنَّ الكاتب أراد أن يحتفظ بهذه الوجهة من الجهاد في الفضيلة[36]. إلى مجهود التوحيد هذا، لمَّح يسوع، بدون شكّ، في قولة 114 من إن تو حين أعلن بالنسبة إلى مريم بأنَّه سوف يوجِّهها «لكي يجعلها ذكرًا، لكي تصبح هي أيضًا روحًا حيًّا شبيهًا بالذكور، لأنَّ كلَّ امرأة تجعل من نفسها ذكرًا تدخل إلى ملكوت السماوات». أن «تصير روحًا حيًّا»، يعني هذا للنفس الأنثويَّة استعادة العقل (نوس) الذكر، وإصلاح وحدة البداية بمجهود نسكيّ هو الاهتداء والصلاة بواسطة تأويل النفس.

ج- النصوص التي تستعمل «وحَّد»

حين يطلب المرتِّل من الربِّ في مز 86: 11 أن «يوحِّد قلبه»، يستعمل المترجم اليونانيّ فعلاً خاصًّا[37] سوف يستعمله أكيلا، المترجم اليونانيّ في بداية القرن الثاني المسيحيّ لترجمة الفعل العبريّ יחד (وحَّد في العربيَّة). أمّا יחיד (وحيد في العربيَّة) فهو في قمران عضو في יחד، أي الوحدة والجماعة. وفي السريانيَّة ܝܚܝܕܝܐ يدلُّ على الناسك المسيحيّ في سورية، في القرون الأولى. والصفة «موناخوس» (حاشية 37) قابلت هذا اللفظ السريانيّ في بعض كتابات القرن الثاني للدلالة على قلب موحَّد كما طلب المرتِّل. وهكذا نجده في القرن الثاني في إن تو (قولة 16، 49-75) وفي حومخ (120: 24-25؛ 121: 19)[38]. في كلٍّ من هذين السياقين، يدلُّ «موناخوس» بوضوح على الحبيس، المختار، ذاك الذي وجد الملكوت. ويدلُّ أيضًا على «ذاك الذي علَّمه الآب»، أو ذاك الذي يعيش في الطمأنينة وفي غياب البلبلة. ويوضح إن تو 22 الشروط الضروريَّة للوحدة الباطنيَّة، التي تفتح باب الملكوت: «حين تجعلون من الاثنين واحدًا وحين تجعلون الباطن مثل الخارج والخارج مثل الباطن، وفوق مثل تحت، وحين تجعلون من الذكر والأنثى كائنًا واحدًا وحيدًا، بحيث لا يكون الذكر بعدُ ذكرًا والأنثى لا تعود بعدُ أنثى... عندئذٍ تدخلون إلى الملكوت». إذًا «موناخوس» هو حقًّا ذاك الذي حقَّق هذه الوحدة، الذي صار إنسانًا، كما ذكَّرت مريم الرسل بذلك.

د- بلاغ نسكيّ

إذًا يبدو بوضوح أنَّ الجملة المركزيَّة في إنجيل مريم هي تنبيه بأسلوب نسكيّ: رذْل انقسام النفس، الحثّ على التوحيد الباطنيّ، هما اهتمامان حاضران دومًا في كلِّ روحانيَّة يدلُّ القرن الثاني على نقطة انطلاقتها في الأدب المسيحيّ وتمضي متفتِّحة على مدِّ التاريخ في أوساط سوف ندعوها فيما بعد، رهبانيَّة. من أنطونيوس الكبير عبورًا بآباء البرِّيَّة، مؤسِّسي الرهبنات مثل باخوميوس وباسيل وبانوا، حتّى الروحانيِّين الكبار في الأزمنة الحديثة. من كلِّ هؤلاء نستطيع أن نورد الكثير من الأقوال التي تبيِّن ضرورة طهارة القلب، ووحدة الروح والنفس في طلب الله[39]. ونوردُ فقط هذا القول من راهب عائش في البرِّيَّة، فنكتشف عن هذا الوضع الصورة الكاملة: «كُتب: "البارّ يزهر مثل النخل"... النخل له قلب واحد وهو أبيض. ويتضمَّن كلَّ ما هناك من خير. ونجد الشيء عينه عند الأبرار: قلبهم بسيط ولا يرون إلاَّ الله وحده. وهو أبيض ويمتلك الإشراق الآتي من الإيمان. وكلُّ عمل الأبرار هو في قلبهم...»[40]. وعن أنطونيوس قال لنا أثناز: «اجتهدَ كلَّ يوم بأن يُريَ نفسه لله كما ينبغي أن يظهر أمام نفسه: طاهر القلب ومستعدّ أن يطيع مشيئته...»[41].

وقال پيتر براون[42]: «أظهر رهبان مصر، من جديد، بشكل جذريّ جدًّا، اهتمام المسيحيّين القدماء من أجل التوحيد أو بساطة القلب». وهذا الاهتمام لدى المسيحيِّين الأوَّلين، أظهرته بياتريس (حاشية 20، ص 13) وحلَّلته فلاحظت أنَّ النسك الجماعيّ[43] في شكل بتوليَّة مستمرَّة وعفَّة في الزواج، كان يمارَس بشكل عاديّ في الجماعات المسيحيَّة في القرنين الأوَّلين. وإذا عدنا إلى مليتون السرديسيّ، نفهم أن هذا كان يمارس لدى ممثِّلي التراتبيَّة الكنسيَّة وما انفصل عن موهبة النبوءة. فإنَّ «أبناء وبنات العهد» في سورية كانوا مثالَ هؤلاء النسّاك الذين نذروا العفَّة وبالتالي استطاعوا أن يفتخروا بأنَّهم بلغوا إلى المعموديَّة (أفراهاط، المقالة السادسة). والتطويبات الثلاث عشرة في أع بو التي تعود إلى منتصف القرن الثاني أو إلى قبل ذاك الوقت، حسب معلومات من ترتليان[44]، تركَّزت كلُّها على التجرُّد عن العالم والعفَّة والحياة الملائكيَّة. وأوَّل قول يطوِّب طهارة القلب (أع بو 3: 5-6). والقصيدة الموجَّهة إلى الأبرار التي ترافق رؤية دوروتي في برديَّة بودمر[45] تشير إشارة صريحة (مع الصلاة) إلى فضائل هي إكليل البارّ: العفَّة، الغربة[46] على هذه الأرض، الفقر واحتقار الغنى، والقوَّة والحكمة اللتان تقودانه إلى أن «يجلس بين الملائكة». فإن كان هذا النصُّ متأخِّرًا، إلاَّ أنَّه يعكس جيِّدًا اهتمام النسّاك في القرون الأولى.

3-   ردَّة الفعل عند الرسل

أ‌-    بطرس وأندراوس

ولكنَّ خطاب مريم لم يمرَّ دون أن يثير لدى محاوريها ردَّة فعل مشروعة: أيَّ صدقيَّة نعطي لتعليم تقبَّلته هذه المرأة في رؤية شخصيَّة؟ ثمَّ هي امرأة، لا رجل. طرح أندراوس سؤالاً أوَّل: «هل هذا التعليم يوافق ما تعلَّمناه من الربّ؟» وطرح بطرس فوق ذلك سؤالين آخرين: «هل يمكن أن يكون الربُّ أسرَّ إلى امرأة ونحن لم نعرف عن هذا شيئًا؟» قد يكون هنا تلميح إلى مسألة حقيقيَّة في الكنيسة الأولى: مسألة سلطة الأنبياء، من رجال ونساء، في وجه سلطة متنامية لدى خدَم منظَّمة وثابتة[47]. فبتأثير من الروح، استطاع الأنبياء، بواسطة رؤاهم، أن يعطوا عن تعليم يسوع تفسيرًا قادرًا على الإفلات من مراقبة رؤساء الجماعة، أساقفة أو كهنة، خلفاء الرسل الذين استُودعوا تعليم يسوع خلال حياته على الأرض[48].

ب‌-  لاوي

من شخص لاوي سوف يأتي الجواب الحقيقيّ. ولاوي هذا لا يرد اسمه في أيَّة لائحة الرسل إلاَّ تحت اسم متَّى. فوحده الإنجيل الأوَّل (مت 9: 9) يوجِّه إلى متَّى نداء احتفظ به مر 2: 14؛ لو 5: 27 إلى لاوي العشّار. مقابل هذا، يظهر لاوي مع الرسل في إن بط[49] وفي 1رؤ يع (كودكس نجع حمّادي 5: 3) حيث هو المستودع الوحيد والمميَّز لتقليد ناله يعقوب من الربّ، فسلَّمه يعقوب إلى تلميذه أدّاي، لكي يسلِّمه أدَّاي بدوره إلى لاوي. ونحن نعرف أنَّ يعقوب، أخا الربّ، عُرف بحياته المتقشِّفة[50]. وإذ كان رئيس جماعة أورشليم، لبث متعلِّقًا في العمق بالتقاليد اليهوديَّة وخصوصًا بعالم الأنبياء. إذًا بدا لاوي كافلَ هذا الاتِّجاه ووارثه، وهذا ما يشرح أنَّه استطاع أكثر من أيِّ شخص آخر، أن يُدرك بُعد البلاغ الذي حملته مريم.

ج- قبول لدى لاوي وتحذير

إذا كان لاوي لام بطرس على مقاومته واحتقاره لتلك «التي جعلها الربُّ أهلاً وأحبَّها أكثر منهم كلِّهم». وإن هو قبل أن «يرتدي الإنسان الكامل» وأن يمضي «فيكرز بالإنجيل»، إلاَّ أنَّه ما أراد «أن يفرض قاعدة أخرى أو شريعة أخرى إلاَّ ما فرض الربّ».

في مقال بياتريس ألوارد أعلاه، طرحت سؤالاً وُجد لدى الجماعات المسيحيَّة الأولى: «كيف نتبع يسوع بعد القيامة؟» وهكذا استعادت في الوقت عينه سؤال كرتشمار[51] وجوابه (حاشية 20، ص 56، حاشية 187): «السؤال الأساسيّ في الكنيسة الفلسطينيَّة ثمَّ السوريَّة كان: ماذا يعني اتِّباع يسوع في الزمن البعدفصحيّ؟ ومع هذا السؤال جاء الجواب: «العودة إلى نسك البدايات المسيحيَّة». فاتِّباع يسوع خلال حياته على الأرض، يعني مرافقته في خبرته المتجوِّلة ككارز نبويّ، في تجرُّد مطلق من كلِّ امتلاك على الأرض، في جهوزيَّته التامَّة للآب وللبشر. واتِّباعه بعد القيامة يعني مواصلة رسالته النبويَّة في الظروف عينها التي كانت ظروفه التي يمكن أن تنتهي بالاضطهاد والموت شهيدًا. مثل هذا المنظور أخاف الرسل، كما قال إن مر: «أمّا هم فاكتأبوا وبكوا بدموع وافرة قائلين: "كيف نمضي لدى الوثنيِّين لإعلان إنجيل ابن الإنسان؟ إذا كانوا لم يعفّوا عنه هو، فكيف يعفّون عنّا نحن؟» (9: 6-12). وكان جواب مريم المثال النسكيّ، ومثال مستبطن سبق يسوع ودعا إليه تلاميذه في بداية المقال، فأوصاهم بأن يحفظوا سلامه وأن يسهروا بألاَّ يُضلَّهم الأنبياء الكذبة لأنَّ: «ابن الإنسان هو في داخلكم، فاتبعوه. والذين يطلبونه يجدونه. فامضوا إذًا وأعلنوا إنجيل الملكوت. ولا تفرضوا أيَّ قاعدة خارجًا عمّا فرضتُه عليكم ولا تعطوا أيَّ شريعة بطريقة المشترع لئلاَّ تسيطر هي عليكم» (8: 15-9: 5). إذًا، نداء يسوع هو بأن يتبعوه، ولكن كما فهمه لاوي، دون أن يفرضوا شريعةً خارجَ ما فرض يسوعُ نفسه.

فيبدو أنَّ داخليَّة بلاغ يسوع وبلاغ مريم تقوم بعدم الاهتمام بالممارسات الخارجيَّة في تعفُّفيَّة بدأت قساوتُها المفرطة تحرِّك حروبًا في قلب الكنيسة، فنجد صدى لها في الرسائل الرعائيَّة وعند كليمان الرومانيّ واغناطيوس الأنطاكيّ وإيرينه، وخصوصًا عند كليمان الإسكندرانيّ. حوالي سنة 170، أرسل دنيس أسقف الكورنثيّين رسالة احتفظ لنا أوسيب القيصريّ بمضمونها (التاريخ الكنسيّ 4/23: 7). أرسلها إلى بينيتُس أسقف كنوسوس، وحثَّه فيها «ألاَّ يفرض على الإخوة، كأمر ضروريّ، حملَ العفَّة الثقيل، بل أن ينظر إلى ضعف العدد الكبير». لا شكَّ بأنَّ لاوي فكَّر بهَمِّ الكنيسة لأجل «ضعف العدد الكبير»، فاستعاد أقوال يسوع نفسه وطلب بأن لا يُفرَض على الجميع إلاّ ما قدَّمه الربُّ فقط لبعض الناس.

الخاتمة

إنَّ إن مر عزَّى الرسل وشجَّعهم بإرشاد حول شكل من النسك مستبطن، وحثَّ معهم جميع الذين يريدون أن يسيروا في إثر يسوع.

وحين يجعل النصُّ يسوعَ يقول في جواب على سؤال مريم إنَّها لا تستطيع بالنفس ولا بالروح أن ترى الرؤية التي تتيح لها أن تلج أسرار المعرفة، بل بالعقل[52] (10: 17-23)، التقى مع تعليم تأ نف حين شدَّد على ضرورة التوبة والانتقال من الحقائق الخارجيَّة باتِّجاه الباطن لكي يتيح للنفس أن تجد من جديد حبيبها الحقيقيّ، العقل، الذي كانت متَّحدة به، في البدء، لدى الآب. ورأت كارين كنغ في المقال الذي أوردناه (حاشية 6) أنَّ قراءة إن مر وفهمه يتحدَّد موقعهما على هذا المستوى من تسامي الحقائق الجسديَّة، والباطنيَّة الروحيَّة، وكذلك سلطة هذه الشخصيَّة في إن مر كما سلطة النساء في الجماعات الكنسيَّة. ففي المحيط النسكيّ احتفظت لنا أقوال الآباء (حاشية 40، ص 298-299) بعبرة تبيِّن وعي النساء لقدْرهم الروحيّ المساوي للرجال. وبين أقوال الحكمة المنسوبة إلى أمّا سَرّا[53] هناك قول لافت بشكل خاصّ: جاء راهبان أرادا أن يُذلاّها، فأجابت: «أنا بالطبيعة امرأة، لا بالفكر».

وهكذا بدا إن مر كشاهد ثمين لهذا المثال النسكيّ الذي تشارك فيه جماعات المسيحيِّين في القرنين الأوَّلين، من رجال ونساء، الذين يطلبون أن يتبعوا يسوع في حياته كنبيّ متجوِّل، بدون أسرة، مجرَّد من جميع الخيرات ومن كلِّ رفاهيَّات هذا العالم. لا شكَّ بأنَّ هذا الاقتداء عرف اندفاعات متطرِّفة في تجلِّياته الخارجيَّة، ولكن كان ينعشه روحٌ إنجيليّ صادق. وتحفُّظات الكنيسة أمام ممارسة نسكٍ يمتدُّ إلى جميع المسيحيِّين، الذي اقترحه يسوع وما فرضه أبدًا، برزت في مقطعين من إن مر (9: 1-5؛ 18: 19-21).

فقراءة هذا المقال القصير (إن مر) يُدخلنا في خطِّ الكتابات النسكيَّة التي تنطلق من اليهوداويَّة النبويَّة، وتعبر في الأسيانيَّة، فتصل إلى كتابات آباء البرِّيَّة الذين غذّوا كلَّ الروحانيَّة الرهبانيَّة حتَّى أيَّامنا[54].

 


[1] Karl SCHMIDT et W. TILL, Die gnostischen Schriften des koptischen Papyrus Berolinensis 8502, Berlin, 1955; 2ème edition H.M.SCHENKE, Berlin, 1972.

[2] Papyrus Rylands.  راجع C. H. ROBERTS. Catalogue of the Greek and Latin Papyri in the John Rylands Library Manchester III, Manchester, 1938, p. 18-23.

[3] Papyrus d’Oxyrhynque راجع P. J. PARSONS, The Oxyrhynchus Papyri, vol I, London, 1983, p. 12-14

[4] Anne PASQUIER, L’Évangile selon Marie, Bibliothèque copte de Nag Hammadi, Québec, 1983.

[5] Michel TARDIEU, Codex de Berlin, Écrits gnostiques, Paris, 1984

[6] K. L. KING, «The Gospel of Mary» in The Complete Gospels. Annotated Scholars Version, Revised and Expanded Edition by R. J. Miller, San Francisco, 1994, p. 361-366.

[7] K. L. KING, «The Gospel of Mary Magdalene» in Searching the Scriptures, vol Two: A feminist Commentary, ed. By E. Schüssler- Fiorenza, New-York, 1994, p. 620

[8] en kardia kai en kardia elalhsan وكذلك في سريانيَّة البسيطة: ܒܠܒܐ ܘܒܠܒܐ ܡܡܠܠܝܢ

[9] kardia dissh وفي السريانيَّة ܠܒܐ ܡܣܝܐ: قلب مفتَّت، متقطِّع.

[10] Annie JAUBERT, La notion d’alliance dans le Judaïsme aux abords de l’ère chrétienne, Paris, 1963, p. 274-277.

[11] dis-proswpoi: اثنان وجهان. في السريانيَّة ܦܪܨܘܦܐ: وجه

[12] mono-proswpoi واحد وجه.

[13] diyucoò: صاحب النفسين.

[14] Sources Chrétiennes, 53, Paris, 19682

[15] diyucein ثمَّ diyucia وأخيرًا diyucoò. راجع Oscar J. F. SEITZ, «Antecedents and Signification of the term diyucoς» in Journal of Biblical Literature, 66 (1947) 211-219

[16] précepte

[17] vision

[18] egkrathò ثمَّ العفَّة egkrateia

[19] aplothò

[20] حول النسك في الجماعات المسيحيَّة العائشة في القرنين الأوَّلين، راجع P. F. BEATRICE, «Continenza e matirmonio nel cristianesimo primitivo (secc I-II)» in R. CANTALAMESSA, Etica sessuale e matrimonio nel cristianesimo delle origini, Milan, 1976, p. 3-68.

[21] حاشية 14، الفصل السابع، ص 46-54 (دراسة مصادر هرماس)

[22] Similitude. بعد الفرائض والرؤى ها هي التشابهات في راعي هرماس.

[23] Virgines subintroductae

[24] Cyprien, Lettre II, éd. Bayard, I, Paris, 1962, p. 8-12

[25] المقالة 6: 4-7: أبناء العهد أو المتنسِّكون، ص 95 (أفراهاط، المقالات، قدَّم لها ونقلها إلى العربيَّة الخوري بولس الفغاليّ، دار المشرق، 2007، طبعة ثانية، ص 95-117).

[26] Jean Chrysostome, Les cohabitations suspectes. Comment observer la virginité, éd. J. DUMORTER, Paris, 1955

[27] O projhtikoò logoò. راجع رسالة كليمان الثانية 11: 2

[28] ou diyhchseiò أو مع نافية أخرى mh diyuchshò.

[29] وصيَّات الآباء الاثني عشر، رأوبين 5. أمّا فيلون الإسكندرانيّ فبرَّر العزوبة عند الأسيانيِّين. راجع Apologie des Juifs, 14-17

[30] Poimandrès في Hermès Trismegiste I, 9. راجع Asclépius 21: «تقول إنَّ الله يمتلك الذكر والأنثى، يا تريسماجيست؟». وقال أوغسطين وهو يورد Varron: «جوبتر هو ذكر لأنَّه ينشر البذار. وهو أنثى لأنَّه يتقبَّل البذار». مدينة الله 7: 9. «الإله العقل» أو nouò Dieu.

[31] Exégèse de l’âme, J. M. SEVRIN, Québec, 19

[32] ذكر + امرأة (نساء) androgyne

[33] metanoia: تحوُّل وتغيُّر على مستوى العقل nouò.

[34] هذا «الإنسان» الذي يدور الكلام عليه هنا anqrwpoò لا يمكن أن يتماهى مع «الإنسان» الذي يُدعى هرماس لكي يكونه (رؤية 1/4: 3) بواسطة الفعل andrixou (نتذكَّر anhr أي: الرجل) الذي نجده أيضًا في 4 عز 10: 32-33، وفي استشهاد بوليكرب (9: 1). الموضوع في هاتين الحالتين هو الشجاعة التي ينبغي على المسيح أن يقتنيها عبر المحبَّة. وكذلك في رؤية دوروتي Vision de Dorothéos (برديَّة بودمر 29: 226-227). إنَّ دوروتي يستطيع أن يبدِّل اسمه إلى اسم أندره (anhr-androò) بسبب ثبات نفسه في المحنة. مقابل هذا، يتطلَّع الرسول في أع إند إلى الإنسان الباطنيّ كما يفهمه إن مر، حين يتوجَّه هكذا إلى مكسيميليا: «إذًا، أرجوك أنت، الإنسان العاقل، لكي يحتفط عقلك بكلِّ استبصاره». وتستطيع مكسيميليا أن تتقبَّل صفة الإنسان العاقل، لأنَّها عرفت، بعقلها، أن تقدِّم نفسها التي سبق لها وانجذبت نحو الأسفل (أع إند 39-41). وفي مقال M.-J. PIERRE  عنوانه «La vierge prédicante de la 33e Ode de Salomon» ، في كتاب De la Conversion, Paris, 1997, p. 255-279، بيَّنت هذه السيِّدة الصفات الذكوريَّة التي أنعم بها على العذراء في موشَّحة Ode 19 وموشَّحة 33 بشكل خاصّ: «مثل ذكرٍ ولدَتْ» (موشَّحة 19: 10). هذا يعني الكمال الذي بلغت إليه باهتدائها. والعبور من النقص إلى الملء، والتحرُّر من الفساد بحيث عادت هكذا إلى حالة الوحدة الأولى كما في تأ نف.

[35] mia yuch

[36] يبدو أنَّ الجملة المنسوبة إلى الربّ انتمت إلى كتابة منحولة، ضاعت اليوم، ولكنَّ كليمان الإسكندرانيّ احتفظ منها ببعض مقاطع ينسبها إلى إنجيل المصريِّين (الموشّيات 3/13: 92: 2-93: 1): «حين تدوسون بأقدامكم ثوب الخجل، وحين الاثنان يصبحان واحدًا، والذكر مع الأنثى لا يكون ذكرًا ولا أنثى». وأوضح كليمان أنَّه وجد هذا الإيراد عند Jules Cassien الذي هو متعفِّف من القرن الثاني ترك مؤلَّفًا حول العفَّة، ولكنَّه ضاع اليوم. عنوانه peri egkrateiaò h peri eunociaò: حول العفَّة بما يتعلَّق بالخصيان (مت 19: 12). وهذا ما يوجِّه التفسير الذي يعطيه لهذا الإيراد. إنَّ Jules Cassien، شأنه شأن جميع المتعفِّفين، منع كلَّ علاقة جنسيَّة بين الرجل وامرأته.

[37] monacow. والصفة monacoò من هنا في الفرنسيَّة moin

[38] F. MORARD, «Monachos, moine. Histoire du terme grec jusqu’au IVe siècle », Freiburger Zeitschrift für Philosophie und Theologie, 20 (1973 332-425; « Encore quelques réflexions sur Monachos », Vigiliae christianae, 34 (1980) 395-401

[39] Antoine GUILLAUMONT, «Monachisme et éthique judéo-chrétienne» in Aux origines du monachisme chrétien, Spiritualité orientale, 30, Abbaye de Bellefontaine, 1979, p. 47-67

 

[40] Apophtegmes des Pères, Série des dits anonymes, N. 362, Trad. frs de J.C. GUY, Textes de Spiritualité Orientale n.1, Abbaye de Bellefontaine, sans date.

 

[41] ATHANASE, Vie d’Antoine, 7, 12, tr. G. J. M. BARTELINK, SC 400, Paris, 1994,p. 155.

 

[42] Peter BROWN, Le renoncement à la chair, célibat et continence dans le christianisme primitif, traduit de l’anglais par Pierre-Emmanuel Dauzat et Christian Jacob, Paris, 1995, p. 280.

 

[43] sexuel

 

[44] من أجل تاريخ أع بو راجع A. HILLHORST, «Tertullian on the Acts of Paul» et J.N. BREMMER, «Magic, martyrdom and women’s liberation in the Acts of Paul and Thecla» in The Apocryphal Acts of Paul, éd. J. N. Bremmer, Kampen, 1996, p. 150-163 et p. 36-59.

 

[45] Papyri Bodmer XXX-XXXVII, «Codex des Visions», Poèmes divers, éd. A. HURST et J. RUDHARDT, Münich, 1999, p. 78-104.

 

[46] xeniteia: إحساس بالغربة: «ليس لنا هنا مدينة باقية...» (عب 13: 14).

 

[47] حول دور النساء النبيّات في الجماعات المسيحيَّة الأولى، وخصوصًا دور مريم في إن مر راجع Karen L. KING  في    P«Prophetic Power and Women’s Authority. The Case of the Gospel of Mary (Magdalene)» in Women Preachers and Prophets through Two Millenia of Christianity, ed. by B. M. Kienzle and P.J. Walker, Berkley, Los Angelos, London, 1998, p. 21-41.

 

[48] Ascension d’Isaïe, éd. E. NORELLI, (E.A.C., I, Paris, 1997, p. 503-504).

 

[49] EAC, Paris, 1997, p. 254

 

[50] ذاك ما قال أوسيب القيصريّ في التاريخ الكنسيّ 2/23: 4-18.

 

[51] G. KRETSCHMAR

 

[52] l’intellect :nouò

 

[53] Amma Sarra

 

[54] هو نقل مع بعض الحرِّيَّة لمقال Françoise MORARD وعنوانه L«L’évangile de Marie, un message ascétique», Apocrypha, 12 (2001) 155-171.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM