الفصل الثاني
كتاب خفايا يوحنّا
أو أبوكريفون يوحنّا
سنة 1896، كُشف كودكس برلين واتَّخذ رقم 8502. ولكنَّه تأخَّر كثيرًا قبل أن يُنشَر. نُشر سنة 1955 وتضمَّن أربعة نصوص. الثلاثة الأولى هي غنوصيَّة: إنجيل مريم المجدليَّة، أبوكريفون يوحنّا، حكمة يسوع المسيح. والرابع هو عمل بطرس.
أمّا أبوكريفون يوحنّا فانتظر اكتشافات نجع حمّادي سنة 1945 لكي يهتمَّ به العلماء والباحثون. فوصلوا إلى نسختين مختلفتين جدًّا. واحدة قصيرة وُجدت في برلين، في النصّ الثاني. كما وُجِدَتْ في نجع حمّادي الكودكس الثالث، النصّ الأوَّل؛ والنسخة الثانية طويلة. وُجدت مرَّتين في نجع حمّادي، الكودكس الثاني النصّ الأوَّل، والكودكس الرابع، النصّ الأوَّل.
نُشرَتِ النسخة القصيرة للمرَّة الأولى ونُقلت إلى اللغة الألمانيَّة سنة 1955 . سنة 1962، نُشرت المخطوطات الأربع التي ذكرنا في شكل متواز. وسنة 1984، نُقلت إلى الفرنسيَّة بيد تارديو مع شرح إجماليّ للنسختين القصيرة والطويلة. سنة 1995 جاء دور اللغة الإنكليزيَّة التي نُشرت بشكل متوازٍ المخطوطات الأربع مع ترجمة إلى هذه اللغة.
يتضمَّن مخطوطا النسخة القصيرة ترجمتين قبطيَّتين مستقلَّتين مع عدَّة اختلافات تفصيليَّة، وهذا مع أنَّ النصَّ اليونانيّ المترجَم هو هو، على ما يبدو، مع اختلافات طفيفة. أمّا الشاهدان للنسخة الطويلة أو الموسَّعة (الكودكسان الثاني والرابع) فيكتبان نصًّا قبطيًّا واحدًا، ونحن لا نستطيع أن نقرأه بشكل متواصل إلاَّ في الكودكس الثاني بسبب الحالة الرديئة التي حُفظت فيها مخطوطة الكودكس الرابع.
ما هي العلاقات الكرونولوجيَّة بين النسختين؟ اختلفت الآراء. اعتبر بعضهم أنَّ النصَّ الطويل هو الأقدم، فأوجزه الناشر الثاني. أمَّا الفئة الأخرى فاعتَبرت أنَّ النسخة القصيرة توافق الشكل الأقدم الذي وصل إلينا. ويبدو أنَّ هذه الفرضيَّة الثانية فَرضَتْ نفسها.
1- مضمون النسخة القصيرة
إنَّ عنوان كتاب خفايا يوحنّا يجعل من الرسول يوحنّا ذاك الناعمَ بالوحي ومدوِّنه وموزِّعه
حصل في أحد هذه الأيّام أنَّ يوحنّا، شقيق يعقوب – هما ابنا زبدى – صعد (إلى أورشليم). وإذ صعد إلى الهيكل، اقترب منه فرِّيسيٌّ اسمه إريمانياس وقال له: «أين هو معلِّمك، ذاك الذي كنتَ تتبعه؟» فقال له (يوحنّا): «عاد إلى الموضع الذي جاء منه». فقال له (الفرِّيسيّ): «هذا الناصريّ جعلكم تَضلُّون في الضلال وملأ آذانكم [بالكذب]. أغلقَ [قلوبكم] ومال بكم عن تقاليد آبائكم».
ولكن يمكن أن تكون هذه النسبة المرتبطة بشكل رئيسيّ، بالإطار السرديّ للمقال، قضيَّة ثانويَّة، وأن لا يكون شكلُ البداية أشار إلى من نَعِمَ بهذا الوحي. هنا نسأل عن التعليم السابق الذي قدَّمه المخلِّص (20: 4-18).
حين سمعتُ هذه الأقوال، ابتعدتُ عن الهيكل (وتوجَّهت) نحو الجبل، باتِّجاه موضع قفر. واكتأبتُ كثيرًا وقلتُ: «إذًا كيف كلِّف المخلِّص؟ ولماذا أُرسل إلى العالم بيد أبيه الذي أرسله؟ من هو أبوه؟ ومن أيِّ طبيعة هو هذا الإيُّون الذي نمضي إليه؟ قال لنا إنَّ هذا الإيُّون (الذي نحن فيه) تقبَّل صورة هذا الإيُّون الذي لا يفسد (الذي إليه نمضي) ولكنَّه ما علَّمنا عن هذا الأخير قائلاً لنا من أيِّ طبيعة هو».
عرف كاتب الأبوكريفون إنجيل يوحنّا، ولمَّح إليه مرَّات عديدة، وبشكل هجوميّ مرارًا، لأنَّه لم يرَ فيه سوى رسم أوَّليٍّ لِوَحي لاكامل ولاتامّ، الذي سوف يكشف معناه الحقيقيّ كتابُ الخفايا. ونورد بعض النصوص:
إيُّونه غير فاسد، هادئ، يرتاح في الصمت. موجود قبل كلِّ شيء وهو رأس جميع الإيُّونات، لأنَّ صلاحه يوزِّع كلَّ الإيُّونات، هذا إذا وُجدَتْ، (صفة) أخرى لديه، ولكنَّ أحدًا منّا لا يعلم ما يخصُّ هذا الذي لا يُقاس سوى ذاك الذي سكن فيه. فهو من كلَّمنا عنه (26: 9-14).
الروح هو الإيُّون، ويتجلَّى بواسطة خمسة إيُّونات. ورأس جميع الإيُّونات هو إنسان البداية الدائريَّة. وبما أنَّ الصلاح يمنح الإيُّونات، فهذا يعني أنَّه موجود قبل الواقع. وهذه الصفة سوف تُعطى للابن (الوحيد) الذي سوف يصبح المتكلِّم باسم اللامنظور.
وهكذا فهمنا أنَّ الروح هو من يُعلن فكر الروح. والروح يتجلَّى في إنويا.
هو (الروح) الذي يفكِّر ذاته في نوره الخاصّ الذي يحيط به. فهو ينبوع الماء الحيّ والنور المملوء نقاء. وينبوع الروح يسيل آتيًا من الماء الحيّ (ماء) النور (26: 15-20).
بحقٍّ دُعيَ هذا المقال «البيبليا الغنوصيَّة». فكما البيبليا اليهوديَّة، هو يلاحق مشروعًا طموحًا فيخطُّ بانوراما شاملة للتاريخ، من البدايات «إلى الآن». ثمَّ يَطلب أن يبيِّن أنَّ هذا التاريخ يُنتِج من جديد في العالم المحسوس نموذجًا مصوَّرًا في المعقول.
الموضوعة التي جعلها الكاتب، هي أنَّ العالم المحسوس صُوِّر انطلاقًا من العالم المعقول. لهذا يسير العرض منطقيًّا في ثلاث درفات. الأولى تصوِّر العالم المعقول كالنموذج والمثال. الثالثة تبيِّن كيف أنَّ العالم المحسوس هو مجرَّد نسخة، بعض المرّات كاريكاتوريَّة، وهو يروي تاريخ الإنسان المسجون في العالم الحسِّيّ. والدرفة الوسطى تعلِّمنا كيف ولماذا حصل العبور من النموذج إلى النسخة، وتدلُّ على المسؤول عمّا حصل.
وتنظَّمَ العالمُ المعقول حول مفاهيم ثلاثة: الفكر، الكلام، الخلق. في أساس كلِّ شيء نجد الواحودة أو المونادة، أي الروح الذي لا يُرى ولا يُعرف، لأنَّه يقع خارج الواقع بل هو علَّة الواقع (22: 16-25: 9). ونورد البداية وعنوانها: الواحودة هي آب وابن وروح:
ولمّا سألتُه لكي أبلغ إلى الفكر، قال لي: «بما أنَّ الواحودة هي مونارخيا ، فما من سلطة تُمارَس عليها، وهي إله وأبو كلِّ الأشياء، القدُّوس، اللامنظور، القائم فوق كلِّ الأشياء، القائم في لافساديَّته، القائم في النور النقيّ الذي لا يدركه نور عيونيّ. الواحودة هي الروح (22: 16-23: 3).
هذا الروح يفكِّر ذاته كنورٍ فيعبِّر عن فكره في بربيلو، القدرة السامية التي منها تصدر جميع الإيُّونات. وإذ تتوجَّه هذه القدرة نحو الواحد، تكشف ذكوريَّة الآب في خمسة إيُّونات. وإذ تتوجَّه نحو الكثرة، تكشف أنوثيَّته في خمسة إيُّونات أخرى، وهكذا تشكِّل هي ذاتها إنسان البداية الأندروجينيّ أو الذكنسائيّ، أمّ وأب (26: 15-29: 18). عندئذٍ تولِّد هذه القدرةُ الابنَ، الذي هو أدنى لأنَّه مولود، ومع ذلك يبلغ إلى الكمال بعد أن ينال عطيَّتي الصلاح والعقل، وهما عطيَّتان تُتيحان له أن يمارس وظيفته كمخلِّص لدى اليهود ولدى المسيحيِّين (29: 19-31: 9).
«ينظر بربيلو بقوَّة باتِّجاه النور النقيّ. ويحيط به فيَلد شرارةَ نور تشبه نور المغبوطين ولكنَّها لا تساويها في العظمة.
«هو المونوجين الذي يكشفه الآب، الإله الأوتوجين الابن الأوَّل المولود من جميع الذين يخصُّون الآب، النور النقيّ (29: 19-30: 9).
وهكذا يتكوَّن الثالوث، الأب، الأم والابن، المصوَّر في فكر الروح وفي الصمت.
عندئذٍ، الروح العظيم اللامنظور يبتهج بسبب النور الذي سبق له وتجلَّى بواسطة القدرة الأولى، قبمعرفته، بربيلو. ويمسح هذا الابن بصلاحه مسيحانيَّته لكي يضحي كاملاً وتنتفي عنده كلُّ حاجة بعد أن صار صالحًا/مسيحًا، لأنَّه مسحه بالصلاح/بالمسيحانيَّة التي صبَّها عليه الروح اللامنظور. فينال الابن مسحة الروح البتوليّ ويقف في حضرته ممجِّدًا الروح اللامنظور وذاك الذي به تجلَّى.
وضع الروح حدًّا للصمت، فكلَّف الابن «بأن يخلق بكلامه كلَّ شيء». من أجل هذا الهدف، وُضعت منظومة إيُّونات مصاغة بعناية ومكوَّنة بأربعة أنوار واثني عشر إيُّونًا. مهمَّةُ كلِّ هذا توجيه البشريَّة في صعودها نحو المعقول (32: 19-34: 18).
منذ الآن، وبعد أن تكوَّن العالم المعقول بشكل تامٍّ ونهائيّ، اتَّخذ شكلَ الإنسان الكامل، الحقيقيّ، صورةَ إنسان البداية، ماسك المعرفة الكاملة، القادر أن يعبِّر بالكلام عن هذا الثالوث الذي لم يكن حتّى الآن سوى فكر (34: 19-35: 20). هذا الإنسان الكامل الذي هو صورة مسبقة عن البشريَّة، والذي اسمه أداماس، يتصوَّر عندئذٍ نموذجَ البشريَّة وينظِّمها في ثلاثة أجيال، حيث ينضمُّ كلُّ جيل إلى نور واحد وثلاثة إيُّونات. وهكذا ينتهي وصف النموذج والمثال (35: 20-36: 11).
عندئذٍ قال (الإنسانُ الكامل): «أمجِّدك وأباركك، أيُّها الروح اللامنظور، لأنَّ بك أتى كلُّ شيء إلى الوجود ومن أجلك كلُّ شيء هو موجود. أباركك مشاركًا مع الأوتوجين ومع الإيُّون، أنت يا من أنت ثالوث، آب وأم وابن، قدرة كاملة» (36: 13-20).
* * *
وشرح الكاتب لماذا وكيف استطاع هذا النموذج المعقول الكامل أن يلد عالمًا محسوسًا ناقصًا (لاكاملاً). سُمِّي الإيُّون المسؤول سوفيا (الحكمة)، آخر اثني عشر إيُّونات الابن. فالحكمة إذا أَسقطتْ نفسها خارج النموذج المعقول وَلدت ابنًا ناقصًا (لاكاملاً)، الأركون يلداباؤوت، خالق العالم المحسوس. أمّا سوفيا (الحكمة) فهي فقط تجلِّي بربيلو الأم – الأب القدرة الكاملة الموجَّهة نحو الواحد بذكوريَّتها، والموجَّهة نحو الكثرة بأنوثيَّتها. وبعد أن يكشف بربيلو كشفًا كاملاً ذكوريَّته في الإنسان الكامل الحقيقيّ، يواصل مسيرته نحو الكثرة التي تفترضها أنوثيَّته. إذًا هو يعمل بدون التوافق مع الإيُّونات الذكور، بل يتوافق مع النموذج المعقول لأنوثيَّته الخاصَّة. وهذه الوظيفة الأموميَّة التي تدفعه لأن يلد، تحرِّك عنده انقطاعين اثنين: كان أمًّا – أبًا، صار أُمًّا. وإذ جزء من ذاته المدعو سوفيا يُسقط ذاته خارج المعقول، يلبث في ذاته الجزءُ الآخر المسمَّى إبينويا النور (36: 16-37: 18).
والأركون يلداباؤوت الذي هو ثمرة اندفاع سوفيا، لا يعرف من العالم المعقول سوى الصورة التي عكستها والدتُه. وإذ يُسلب منها جزءًا من قدرتها، يضع يده على هذه الصورة الجزئيَّة من المعقول ويُبقيها نموذجًا مطلقًا. فيخلق لنفسه حاشية أركونيَّة هي مجرَّد اقتداء بإيُّونات الابن (37: 18-44). ثمَّ، إذ هو يجهل ذكوريّات الإيُّونات السماويَّة، يقدِّم نفسه إلى أراكينه على أنَّه الإله الوحيد (42: 10-43: 5). وهكذا يثير بتجديفه «ندامة» والدته التي تقرِّر أن تستعيد هذا الجزء من قدرتها، الذي استعمله استعمالاً سيِّئًا (44: 9-47: 13).
هنا نقرأ عن ندامة سوفيا. في مقطع أوَّل (44: 9-19) حول تجديف الأركون. وفي مقطع ثانٍ (44: 19-45: 19) حول سوفيا «المحمولة».
• إذًا، رأى الأركونُ الخليقةَ التي تحته كما رأى جمهورَ الملائكة الذين تحته والذين خرجوا منه. فقال لهم: «أنا إله غيور! لا يوجد (إله) آخر خارجًا عنِّي!». وهكذا بيَّن للملائكة الذين هم تحته أنَّ هناك إلهًا آخر موجودًا. لأنَّه إن لم يكن إلهٌ آخر موجودًا، فممَّن يغار؟
• عندئذٍ بدأت الأمُّ تكون محمولة، لأنَّها أدركت نقصانها، لأنَّ قرينها لم يتكلَّم معها بصوت واحد عندما لامَها ملؤُها.
فقلت أنا (يوحنّا): «يا ربّ! ماذا يعني «أن تكون محمولة»؟ أمَّا هو فضحك وقال: «أتظنُّ أنَّ هذا يكون في المعنى الذي قاله موسى، (أنَّها كانت محمولة) فوق المياه! كلاَّ! ولكن إذ رأت الشرَّ والتمرُّد اللذين سوف يحصلان بيد ابنها، ندمَت. وإذ أخذت تروح وتجيء في ظلمات الجهل، يبدأ الحياء يسيطر عليها. ولكنَّها لم تغامر (وتمضي) إلى الخارج، بل أخذت تروح وتجيء. ورواحها ومجيئها هذا ما يعنيه «أن تكون محمولة».
وتُصوَّر استعادةُ القدرة في الدرفة الثالثة. وأداة هذه الاستعادة هي الإنسان. فهو المكلَّف بأن يعيد بناء الملء الذي يرمز إليه الإنسان الكامل الحقيقيّ الذي دمَّره خروجُ سوفيا. وجاء السيناريو متشعِّبًا، معقَّدًا. في مرحلة أولى، الإنسانُ الكامل المسمَّى أداماس، يَظهر على الأراكين ليحرِّكهم بحيث يحقِّقون صورة مجوَّفة فيها يسيِّلون النفس والجسد (47: 14-48: 10). فيقومون بالعمل ويعطون لقالبهم اسم آدم (48: 10-51: 1). في مرحلة ثانية، تُرسَل الأنوار (أرموزيل...) فتُقنع الأركون بأن ينفخ في آدم هذا قدرته الخاصَّة، أي النفس، فيفعل (51: 1-52: 11). وإذ يحسُّ الأركون أنَّ هذه القدرة أفلتت منه، يجتذب آدم إلى أعماق المادَّة لكي يسجن نفسه في جسم مادّيّ (52: 12-17؛ 54: 5-55: 18) أي في فردوس أركونيّ موضوع تحت سلطة الأركون الحيَّة (55: 19=58: 7). ولكن قبل أن يستطيع تنفيذ مشروعه، تختبئ في آدم إبينويا (حاشية 32) النور، الروح القدس، التتمَّة السماويَّة لسوفيا (52: 18-54: 4). وانطلاقًا من هذه اللحظة، يصبح آدم إنسانًا مادِّيًّا تُقيم فيه سوفيا وروح إبينويا. عندئذٍ يتماهى القتال الميثيّ بين الإيُّونات والأراكين مع قتال آدم الداخليّ. فيُضحي التاريخُ تاريخَ النفس الممزَّقة بين الروح القدس (إبينويا) وروح مقلَّد خلقه الأركون فيحاول بأن يبقيه سجين المادَّة.
ونقرأ هنا مقطعين. الأوَّل يتحدَّث عن إرسال إبينويا (أي: التفكُّر والتخيُّل) في 52: 18-54: 4. وفي المقطع الثاني (54: 5-55: 18) نرى كيف أنّ الأراكين يسجنون آدم في جسم مادّيّ.
• والآب المطوَّب، المحسن الرحيم، دلَّ على رأفته تجاه هذه القدرة، قدرة الأمِّ التي أخذت من الأركون لكي تمارس سلطتها على الجسد. فأرسل روحَه المحسن والرحيم، إبينويا النور، كمساعد للأوَّل النازل، ذاك الذي دعَوه آدم. فهي التي سمّاها آدم «حياة».
فهي التي عملَتْ في الخليقة كلِّها وتعبَتْ معها، وأقامتها (لتجعل منها) هيكلها الخاصَّ الكامل، وفتحت لها عينيها في شأن نزول نقصانها معلِّمةً إيَّاه شهرتها.
إذًا وجدت إبينويا النورُ نفسَها مخفيَّة فيه بحيث إنَّ الأراكين لم يدركوا (حضورها)، وأختها سوفيا الشبيهة بنا تصحِّح نقصاناتها بفضل إبينويا النور.
نتذكَّر أنَّ الآب المطوَّب هو إنسان البداية. والروح المحسن هو العقل (33: 7-34: 7) الذي وُجد مع سوفيا في السماء التاسعة (46: 15-47: 5) ونزل حتّى الشواش، وعندئذٍ تقبَّل اسم إبينويا النور. وإذ ماهى المقال إبينويا هذه مع «العون»، جعل منها حوّاء جديدة بيبليَّة.
• وصار الإنسان نيِّرًا بسبب ظلال النور الذي هو فيه. وصار أسمى من مخلوقاته. وأشارت كلُّ السلطات الأركونيَّة إشارة الموافقة حين رأت أنَّ الإنسان يتفوَّق عليها.
• وعقدت (السلطات) مجلسًا مع كلِّ الجسم الملائكيّ، جسم الأراكنة وما تبقَّى من سلطنات. عندئذٍ امتزجت النسمة والتراب مع الماء والنار. فجمعوها بواسطة الرياح الأربع بالنسمة المحرقة وضمُّوها معًا. وإذ حرَّكوا فوضى كبيرة – أدخلوا (الإنسان) في ظلال الموت. (إذًا) صنعوا قولبة أخرى، مرَّة ثانية، ولكن انطلاقًا من التراب والماء والنار والنسمة، أي انطلاقًا من المادَّة والظلمات والرغبة والروح المقلَّد.
• ها هو الرباط! ها هو قبر قولبة الجسد حيث السارقون ارتدوا الإنسان كرباط مادّيّ، كرباط النسيان. وهكذا صار الإنسان مائتًا. وها هو نزول البداية، وانفصال البداية. ولكن إنويا النور القبموجود هو فيه ويوقظ فكره!
تكلَّمنا عن ظلال النور، أي عن النور المسجون في الظلمة. وجسم الأراكين الملائكيّ هو مكوَّن من سلطات – الملائكة – القوّات الذين شاركوا في قولبة الجسم البسيخيّ (أو: النفسانيّ) (48: 10-51: 1). وينضمّ إليهم «ما تبقَّى من سلطنات» أي ملوك الشواش الخمسة (41: 12-15). وإذ يطلُّ الظلام على النسمة، نلاحظ أنَّ السيناريو يدمج ثيمة الجسد اليونانيَّة المركَّبة من أربعة عناصر مع الثيمة اليهوديَّة لتجميع هذه العناصر انطلاقًا من نقاط الكون الأربع (تلمود بابل، مقال سنهدرين 18أ). ومع الموضوع البيبليّ للرياح الأربع في رؤية العظام اليابسة (حز 37: 1-14). وتبقى الفوضى وهو الاسم المعطى لبابل في السبعينيَّة، وقد صار هنا رمزًا إلى الإنسان الممزَّق في الداخل بين ثلاث مركبات: الروحيَّة، النفسانيَّة، المادِّيَّة.
والكلام عن الروح المقلَّد. فالقولبة الأولى كانت قولبة الجسد النفسانيّ (48: 14-49: 6). وهذه القولبة الجديدة هي قولبة الجسد المادّيّ حيث «السالبون» أي الأراكين ارتدوا الإنسان النفسانيّ. وسيُفسَّر التاريخ البعد طوفانيّ بشكل وضع يد من قبل البشريَّة بواسطة هذه العناصر الجسديَّة الأربعة. أمّا «إنويا النور القبموجود»، أي الإنسان الروحيّ، فيعاونه ثلاثة أقانيم الفكر الإلهيّ (بربيلو) التي هي إبينويا النور، سوفيا وبرونويا (أو: العناية).
بما أنَّ الإنسان الكامل الحقيقيّ تصوَّر نموذجَ البشريَّة في ثلاثة أجيال (35: 20-36: 15). فينبغي أن ينتظم التاريخ البشريّ بحسب هذا المثال. واتُّخذت المبادرة من قبل الأركون الذي خلق امرأة نفسانيَّة، بسيخيَّة ومادّيَّة على مثال إبينويا، وهكذا ظنَّ أنَّه يستطيع أن يجتذبها (أي الروح) في خليقته. من الواضح أنَّ المحاولة معدَّة للفشل، وتكون نتيجتها نقْل جزء من قدرة الأركون، أي النفس، إلى المرأة النفسانيَّة (59: 6-19). بعد ذلك، تجدُ النفس وهي قدرة الأمّ التي استلبها الأركون، تجد ذاتها منقسمة بين آدم والمرأة النفسانيَّة ساعة تمسك إبينويا الروح. ونتيجة ذلك تُولَد البشريَّة من زواجَيْ آدم. هو يتَّحد أوَّلاً بالمرأة النفسانيَّة والمادِّيَّة، فيلد سلسلة من النفسانيِّين الممزَّقين بين الروح والمادَّة (63: 2-9) والموضوعين تحت رقابة الأركونين، يهوه – قايين وإلوهيم هابيل (62: 3-63: 1؛ 63: 1-12). وإذ يتَّحد آدم ثانية بإبينويا، المرأة الروحيَّة، يلد شيتًا وسلالة الروحيِّين (63: 12-16). ودعوة كلِّ هذه النفوس تقوم في إعادة تكوين العالم المعقول، ولكن بطرق خاصَّة يصوِّرها الكاتب بوضوح في مقال صغير حول العواقب الأخيرة (64: 14-71: 2). وإذ يبلغ بعضُ أنسال شيت بلوغًا مباشرًا إلى المعرفة (72: 12-73: 18)، يختار آخرون أن يُسجَنوا في عالم الأراكين ليُعينوا نفوس البسيخيِّين الموجودة هناك ومسجونة (73: 17-75: 13). ذاك هو الوضع الحاليّ.
2- قواعد تأليف المقال
إذا أردنا البلوغ إلى المعنى الخفيّ لِوَحي يتوجَّه إلى مُنشَّأين (يدخلون في مسيرة التنشئة)، من الضروريّ معرفة القواعد المتَّبعة لقوننة النصّ. لقد أُخذت هذه القواعد من الفسارة اليهوديَّة التي كانت تمارَس في حقبة الهيكل الثاني وحتّى العقود الأولى من القرن الثاني المسيحيّ. وهذه القواعد هي التالية. يجب أن يفسَّر النصُّ بالنصِّ ذاته دون اللجوء إلى أيَّة معرفة خارجيَّة. ويجب أن يُستنتَج هذا التفسير من النصِّ كلِّه في نهاية برهنة قياسيَّة مؤسَّسة قبل كلِّ شيء على مقابلة تستنفد عناصر الألفاظ الموزَّعة في المقال. وينبغي أيضًا القبول بالموضوعة التي بحسبها لا يكون شيءٌ نافلاً أو متناقضًا في هذا الوحي. وإذ يُراعى بروتوكول هذه المسيرة الاختباريَّة المتطلِّبة، ترتسم بنيةُ النصِّ بشكل تدريجيّ ويظهر تماسكُه.
إنَّ تغيُّرات نقل النسخة القصيرة لكتاب خفايا يوحنّا، وترجمته من اليونانيَّة إلى القبطيَّة ونشراته المتتالية والتعاليق التي أُدخلَت بمناسبة هذه النشرات، كلَّ هذا كان بإمكانه أن يشوِّه العمارة بحيث يبلبل وظيفتها. وبعد الاختبار، لم يكن شيء من هذا. ومع أنَّه يستحيل في هذا المقال أن نفصل البراهين التي أتاحت لنا بأن ندخل في المعنى الخفيِّ للنصّ، فالمفاصل الرئيسيَّة عُرضت في الحواشي وقد ذكرنا بعضها. ويكفينا مثلٌ لنشرح تشعُّب مسيرتنا: بعد أن تمسَّك الكاتب بالمبدأ الأفلاطونيّ الذي بحسبه يتجلَّى الواحد بشكل ثالوث، بَنى بشكل منطقيّ كلَّ مقاله بالنظر إلى هذا التوزيع المثلَّث، ورتَّب من أجل هذا ثلاثة ألفاظ تقنيَّة مأخوذة من الفلسفة. فالعالم المعقول هو «صورة» (eikwn) الواحود، وموضعُ الوساطة هو «شكل ونمط» tupoς، والعالم المحسوس هو «مظهر» idea. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، تجلَّى الواحود في العقل على أنَّه «روح» في «الوساطة» وعلى أنَّه «قدرة»، وفي العالم المحسوس على أنَّه «نفس».
وبحسب هذا المبدأ من التوزيع المثلَّث، يبدو كتاب خفايا يوحنّا بشكل شميلة معارف بشريَّة مصاغة قبله في قلب ثلاث مجموعات: الفلاسفة واليهود والمسيحيُّون. أخذ من الفئة الأولى (الفلاسفة) الوصف المدرسيّ للواحود وللثالوث، بعد أن استلهمه من برمانيد أفلاطون وتيمة أفلاطون، وأعاد تفسيرهما. وأخذ من اليهود القواعد الفساريَّة والأخبار البيبليَّة المأخوذة من سفر التكوين، وفسَّرها عامَّة بالنظر إلى قواعد الفسارة اليهوديَّة القديمة لكي ينزع عنها التشوُّهات والتفاسير الخاطئة التي أدخلها العالم اليهوديّ الرابِّينيّ (في نظر الكاتب) الذي جسَّده موسى. وما هو واضح بشكل خاصّ في الطروح حول الابن، العودة إلى النصوص المسيحيَّة ذات التفسير الصعب، لسببين اثنين: أوَّلاً، إذ يتوجَّه الكاتب إلى قرَّاء مسيحيِّين، فهو يكتفي بأن يلمِّح. وخلال نقل المقال، أضيفت تعاليقُ كرستولوجيَّة، فأدخلت بعض اللاتماسك في البراهين.
3- متى وأين دُوِّنت النسخة القصيرة
اختلف هذا النصُّ عن معظم المقالات الغنوصيَّة في نجع حمّادي، التي لا نجد لها أثرًا خارج المجموعة الغنوصيَّة، فعرَفَهُ إيرينه أسقف ليون، وأوجزه في مؤلَّفه الردّ على الهراطقة (1/29: 1-4) المدوَّن حوالى سنة 180. وهذا الموجز الذي لا يشير إلى الأصل اليوحنّاويّ المفترض لهذا النصّ، ولا يوجز سوى القسم الأوَّل، لا يقابل بدقَّة أيَّةَ نسخة وصلَتْ إلينا، ولكنَّه يتيح لنا مع ذلك أن نؤكِّد أنَّ نسخة من كتاب خفايا يوحنّا وُجدت قبل سنة 180. ثمَّ أكَّد إيرينه أنَّ هذا الكتاب الذي نسبه إلى جماعة بربيلو وأفيس Ophites (ارتباط بالحية ojiς)، سابق لولنطين، وبالتالي قبل سنة 150-160. وأنَّه كان في أصل كلِّ الهرطقات الغنوصيَّة (1/30: 15؛ 31: 3). ومهما يكن من أمر هذا القول الثاني، نستطيع أن نعتبر أنَّ كتاب خفايا يوحنّا، في شكله الأصيل والذي اقتربت منه النسخة القصيرة، قد دُوِّن في النصف الأوَّل من القرن الثاني بحيث يُعتَبر عمارة رئيسيَّة في الحركة الغنوصيَّة. ومُثبِتُ هذه الأهمِّيَّة العددُ الكبير للنسخات التي وصلت إلينا، والانتشار الواسع على مرِّ الأجيال التالية. وهناك أيضًا واقع يقول إنَّه ألهم بدرجات متفاوتة بعض المقالات التي كُشفت في نجع حمّادي واعتُبرت «شيتيَّة» (نسبة إلى شيت). ويبقى في النهاية أنَّ قدم المقالة يبدو قبل كلِّ شيء مميَّزًا بتقنيَّةِ كتابةٍ موروثة من الفسارة اليهوديَّة الرسميَّة، من حقبة الهيكل الثاني، وهي تقنيَّة سوف تحاربها سلطاتُ يبنه Yabné (أو: يمنية، القريبة من يانا) اليهوديَّة، بعد دمار الهيكل سنة 70، وتتخلَّى عنها منذ العقود الأولى من القرن الثاني المسيحيّ من أجل تفسير لا يتأسَّس على الكتاب المقدَّس، بل على سلطة تقليد شفهيّ أعادوه إلى موسى نفسه. وهجوم الكاتب على هذا التفسير الموسويّ من جهة، وعودته من جهة أخرى إلى المطلع اليوحنّاويّ (الذي دُوِّن حوالي سنة 100)، يتيحان لنا أن نحدِّد تاريخ تدوين كتاب خفايا يوحنّا في الربع الأوَّل من القرن الثاني المسيحيّ، وهذا يعني أنَّه أقدم نصٍّ غنوصيّ معروف. أمّا كاتبُه فهو مسيحيّ وينتمي إلى حركة تنادي بانقطاع جذريّ عن العالم اليهوديّ الرابِّينيّ، وتبقى متعلِّقة جدًّا بإرث حضاريّ وفساريّ في العالم اليهوديّ في حقبة الهيكل الثاني.
4- النسخة الطويلة
أعيدت كتابة النسخة القصيرة لكتاب خفايا يوحنّا في نسخة طويلة، فأراد الكاتب أن يصحِّح السيناريو الأوَّل للمقال ليجعله موافقًا مع وثيقة تشكِّل حجَّة بالنسبة إليه: خبر سيرويّ فيه تروي «برونويا» نزولاتها الثلاثة إلى العالم. وردَ هذا النصُّ في نهاية المقال. تكلَّمت برونويا في صيغة المتكلِّم المفرد، فنُسب إليها أيضًا مجملُ الوحي المدوَّن أيضًا في صيغة المتكلِّم المفرد (أنا) صارت برونويا محاورة يوحنّا، والشخص المركزيّ في الميثة، ساعة لم تكن في النسخة القصيرة سوى واحد من إيُّونات الثالوث الأوَّل. وهذا التبدُّل في المنظور كان السبب في إعادة كتابات تفاصيل أحلَّت برونويا محلّ أشخاص آخرين وحرَّكت عددًا من اللاتماسكات التي لم يكن بدٌّ منها.
في هذا الخبر السيرويّ، قامت برونويا بنزولات ثلاثة إلى العالم: مرَّة أولى على أنَّها برونويا، وفي المرَّتين التاليتين على أنَّها «حافظة برونويا»، وهي عبارة تدلُّ، على التوالي، على إصدارين من برونويا ماهاهما الكاتب مع إبينويا النور من جهة، ومع المخلِّص من جهة أخرى. وإعادة التنظيم هذه أعادت في العمق كتابة ثلاثة مقاطع من النموذج وساعدت على إخفاء المنطق الأوَّل. ثمَّ اهتمَّ الكاتب بأن يجعل نصَّه في متناول القارئ، فبسَّط طريقة الكتابة. مثلاً، إنَّ مفتاح التوزيع المثلُّث في «صورة – شكل – مظهر» صار عنده غير فاعل. وهمُّ الوضوح هذا عينه، قاده إلى إعادة تنظيم كلِّ التعليم حول العالم الأركونيّ بشكل تربويّ، وإلى تدمير التناسق الأوَّل تدميرًا جزئيًّا. وأخيرًا حمَّل الكاتبُ (أو من جاء بعده) العرْض حول الأراكين لائحة لا عدَّ لها من الملائكة والشياطين أخذها من كتاب زرداشت.
وهكذا تشهد النسختان القصيرة والطويلة على محطَّتين في الفكر الغنوصيّ. بدا المقال الأوَّل كأنَّه يَدويّ التنشئة، هدفُه قيادة القارئ نحو المعرفة الكاملة للعالم المعقول بواسطة برهنة دقيقة تنتهي بتنشئة طويلة. والخلاص، في نظر الكاتب، يأتي من معرفة مقتناة بعد مسيرة اختباريَّة تمرُّ في التحليل المنطقيّ لحرفيَّة المقال. أمّا النسخة الطويلة فتخلَّت عن العمل المتطلِّب لفكِّ الرموز، وراحت في طريق التفسير ففتحت هكذا الباب إلى تفاسير متعدِّدة ومتضاربة. وهذه الطريق الثانية هي التي سوف يأخذ بها الكتّاب اللاحقون.