الفصل الثالث والعشرون أشعيا النبي القسم الثالث

الفصل الثالث والعشرون

أشعيا النبي
القسم الثالث

وننهي حديثنا عن أشعيا النبي في فصل ثالث ينقسم ثلاثة أقسام. الأول، أشعيا الثالث الذي يمتد من ف 56 الى ف 066 الثاني، رؤيا أشعيا الكبيرة والصغيرة. الثالث، نقرأ النشيد الرابع من أناشيد عبد الله (52: 13- 53: 12): "ها عبدي ينتصر، يتعالى ويرتفع ويتسامى جداً".

أ- أشعيا الثالث
تشمل هذه الفصول الأحد عشر مجموعهة خاصة في أشعيا دوّنها كاتب (أو كتّاب) نجهل اسمه فنكتفي بأن نسميه أشعيا الثالث. دوّنت الفصول بعد المنفى وخلال الحقبة الفارسية. فالهيكل قد أعيد بناؤه (56: 5 – 7؛ 60: 7- 13؛ 62: 9؛ 66: 6). ولكن الدمار ما زال هنا، وأسوار أورشليم لم تُبنَ بعد (58: 12؛ 60: 10؛ 61: 4).
إذن، يبدو أن هذه المجموعة دوّنت بين سنة 515، يوم أعيد بناء الهيكل، وسنة 445، يوم أكمل نحميا بناء أسوار أورشليم. لقد خاب أمل الجماعة اليهودية: فالهيكل الجديد بدا حقيراً، ومواعيد السعادة لم تتحقّق (61: 7)، وعاد الجور واستغلال المساكين إلى ما كان عليه في السابق (58: 1- 12؛ 59: ؛- 15). المسؤولون يعيشون في البذخ ولا يهتمّون بالشعب (56: 9- 12)، والناس الطيّبون يعرفون القلق والعنف (57: 1).

1- وضع مقلق
وقف نبيّ في هذا الوضع المقلق، فتكلّم بأسلوب وتعليم خاص به (57: 14- 21؛ 60- 62؛ 65: 61- 25؛ 66: 6- 14). أعلن خبراً سعيداً، بشرى وإنجيلاً: سينقلب الوضع. إقترب الوقت الذي فيه تستعيد أورشليم بهاءها السابق، وتصير من جديد مركز تجمّع من أجل الأمم (60: 1- 11؛ 62: 1- 7). ها إن شعباً جديداً يُولد. وهو لا يعرف الألم والموت القاسي (65: 17- 18، 25).
يريد النبي أن يشرك المؤمنين في حماسه وابتهاجه (60: 15؛ 61: 10؛ 62: 5؛ 65: 18- 19؛ 66: 10- 14). هو يدعو المسحوقين والمذلولين (57: 15)، الذين يعيشون في الحداد (57: 18؛ 60: 20؛ 61: 2- 3؛ 66: 10). هو يدعو الوضعاء الذين تحطّمت قلوبهم (61: 1). يدعوهم إلى تحرير (61: 1- 3) يقوم بأن نعيد الأمل إلى شعب كامل.
2- النصوص
وحول هذه النواة المركزية في أشعيا الثالث، إنضمت نصوص أخرى جاءت من أماكن متعددة:

أولاً: البعد عن الله
هناك مقاطع تعبرّ عن البعد عن الله كما تحسّ به الجماعة. وهذه المسافة بين الله والبشر هي نتيجة الخطيئة ولا سيما الجور (عدم العدالة) الاجتماعي الذي يفصل البشر بعضهم عن بعض فيبعدهم عن الله (58: 1- 14؛ 59: 1- 20). ويرتبط بهذه المقاطع ليتورجية توبة (63: 7- 64: 11) قد تعود إلى الأيام الأولى من العودة من المنفى، وقبل إعادة بناء الهيكل (63: 18- 19؛ 64: 9- 10). أقرّت الجماعة بخطاياها، ولكنها ترجّت بثقة تدخّل الله من أجلها كما في الخروج (63: 11- 14). ويكون الله أباً لشعبه (63: 16؛ 64: 7) إن هو "مزّق السماوات" وجاء إلى لقاء الذين يطلبونه (63: 19). إستعمل مرقس هذا النص الجميل ليفهمنا معنى عماد يسوع وموته على الصليب (مر 1: 10؛ 15: 38).

ثانياً: المسؤولون
هناك سلسلة أخرى من النصوص تندّد بالمسؤولين في الجماعة. هم عميان، لأنهم يتركون الديانات الوثنية تتغلّب على معرفة الله ومحبّته (آ 5: 9- 57: 13؛ 65: 1- 16؛ 66: 1- 5). ولكن وسط هذا الضياع العام، وُجدت مجموعة من الأبرار (57: 1- 2) الذين يطلبون الرب (65: 8- 10، 13- 16) فحافظت على كلمة الرب الحية (66: 2- 5). سمّاهم الله عباده. منهم سيخرج "الحسيديم"، أي جماعة أصدقاء الله والأمناء لعهده.

ثالثاً: هيكل للجميع
تهتم بعض النصوص بفتح الهيكل أمام الذين مُنعوا من الدخول إليه، وخصوصاً الغرباء (66: 18- 21؛ 56: 1- 8. نص يورده يسوع حين يطرد الباعة من الهيكل، مر 11: 17). وتشير غيرها إلى الانتقام الذي يحل بالأمم الوثنية التي ضايقت شعب الله (63: 1- 6؛ 66: 15- 16، 22- 24).

ب- رؤيا أشعيا الكبيرة والصغيرة
1- الرؤيا الكبيرة (ف 24- 27)
سمّيت هذه الفصول الأربعة "الرؤيا الكبيرة". هناك جلاء وكشف لمسيرة التاريخ حتى كمالها. دوّنت في زمن اليأس والاضطهاد، فحاولت أن تنعش الأمل لدى الشعب وتوجّهه نحو مستقبل مخطّط الله.
دوّنت هذه الفصول ساعة دمّر ارتحششتا الأول بابل سنة 485، فرأى المؤمنون في دمار هذه المدينة (24: 10؛ 25: 6؛ 26: 5؛ 27: 10) علامة تهيّىء دينونة الله. فالله يأتي ليخلّص مساكين شعبه (25: 1- 5؛ 26: 1- 6)، ويحطم قوى الشر التي يرمز إليها وحوش الخواء مثل لاويتان والتنين (28: 1)، ويجمع على صوت البوق أفراد شعبه المشتتين (27: 13)، ويدعو كل الشعوب إلى الوليمة العظمى التي فيها يزيل الموت والدموع (25: 6- 9).
كل هذه الصور ستُستعمل لتصوّر نهاية الأزمنة. سنجدها في العهد الجديد. سنجد صورة البوق في 1 تس 4: 16؛ 1 كور 15: 52. وزوال الموت والدموع في رؤ 21: 4. وصورة الوحوش التي ترمز إلى الشرّ في رؤ 13: 1- 18. وإن رؤ 18: 1- 24 ستسمّي بابل مملكة رومة المضطهدة.

2- الرؤيا الصغيرة (ف 34- 35)
سمّي هذان الفصلان "الرؤيا الصغيرة". دوّنا، على ما يبدو، في الوقت الذي فيه دوّنت الرؤيا الكبيرة. فدمار بلاد آدوم على يد النباطيين (أو: الأنباط) هو علامة دينونة الله على الأرض (34: 1- 15). فأهل أدوم الذين هم أخوة يهوذا، قد استفادوا من سقوط أورشليم سنة 587 ليجتاحوا اليهودية. طعنوا أخوتهم في الظهر، فلم يغفر لهم أخوتهم ما فعلوا: صارت آدوم نموذج أعداء الله وشعبه (63: 1- 6؛ يوء 4: 19؛ عو 1ي؛ ملا 1: 3- 5).
وبعد دمار الأعداء، يأتي تحرير شعب الله الذي يصوَّر بشكل خروج عبر البرّية (35: 1- 2)، ويتميّز بشفاء المرضى (35: 5- 6. سيورد يسوع هذا النص ليدلّ على عمله المحرّر، مت 11: 4- 5؛ مر 7: 37) وبفرح لا نهاية له: "يتبعهم السرور والفرح، ويهرب الحزن والنحيب" (35: 10).

ج- عبد الله المتألم (52: 13- 53: 12).
1- تصميم النص
نجد فيه أربعة أقسام:
أولا: الرب يتكلّم عن عابده (52: 13- 15). بعد أن تشوّه العابد بحيث لم يعد له وجه إنسان، يعلن الله مستقبلاً عجيباً. لهذا اندهش الغرباء (الأمم، الملوك): إن مصير هذا الشخص يتجاوز أفق الشعب المحليّ الضيّق.
ثانياً: مجموعة تتكلّم (53: 1- 6). من هي؟ الملوك الذين تحدّثنا عنهم أم اليهود؟ هؤلاء الناس يصوّرون العابد مسحوقاً، ولكنهم يتعرّفون إلى معنى آلامه لأنهم يستفيدون منها: هو لم يتألم بسبب خطاياه، بل بسبب خطاياهم. تألم لكي يخلّصهم.
ثالثاً: النبي يتكلّم (53: 7- 15). لن نجد هنا المتكلم الجمع "نحن" كما في المقطع السابق. حُكم على العابد البريء، قُتل، دُفن. ولكن الرب أحبّه في ألمه هذا. قُدّمت حياته ذبيحة، فصار له مستقبل أمامه بعد الموت، وستمتدّ ذريته بعده.
رابعاً: الرب يتكلّم مرّة ثانية (53: 11- 12). ثبّت مجد العابد الذي يبزر الكثيرين (يجعلهم أبراراً، يصالحهم مع الله) وينتصر بعد أن تجرّد من كل شيء حتى من حياته، من أجل جماعة البشر.

2- أسئلة ثلاثة
الخط العام واضح. ولكن تطرح ثلاثة أسئلة. الأول، من هو هذا العابد؟ الثاني، من هم المتكلمون في القسم الثاني؟ الثالث، من هي هذه الذبيحة؟

أولاً: من هو عبد الله، من هو العابد
عمّن أراد الكاتب أن يتكلّم؟ هناك جوابان رئيسيان:
* الجواب الأول: العابد هو شخص من المستقبل، بار فوق العادة يبذل حياته من أجل جميع البشر لكي يخلّصهم. عاش أشعيا إيمانه في العمق، فكان كلامه مهيئاً لما سيعرفه يسوع الذاهب إلى الألم والموت من أجد فداء البشر.
* الجواب الثاني: العابد هو مجموعة من الناس، نواة الشعب المؤمن.

ثانياً: المتكلّمون في القسم الثاني.
هل هم الوثنيون أم اليهود؟ من أجلهم تألم عبد الله. فهل أراد أن يخلّص شعب إسرائيل أم العالم كله؟ بما أننا تحدّثنا عن الملوك وعن الوثنيين في القسم الأول، نستطيع القول إن أشعيا يوجّه أنظارنا إلى خلاص الوثنيين (45: 22).

ثالثاً: ما هي هذه الذبيحة
ما هو هذا الألم الذي يقدَّم عن الآخرين؟ هنا نعود إلى آ 10 في ترجمة أولى: "رضي الرب أن يسحقه بالألم، فليكن مرضياً أمامك، يا رب". وهكذا، لن يكون الرب هو الذي يفرض عليه الأوجاع بشكل اعتباطي. ولكن البريء الذي سحقه أعداؤه قد عاش هذه الأوجاع بحيث فهم الآخرون وتابوا. وإذ رأى الرب شجاعة الآخرين ومحبّتهم، تقبّل هذه الحياة المبذولة كتقدمة يرضى عنها. حينئذ يقول له النبي: "إجعل من شخصه ذبيحة تكفير، ليرَ نسلاً ولتمتدّ أيامه". إن الله يجازي البار خيراً فلا يسمح أن تنتهي حياته بالموت: هناك مخرج له وللآخرين. هذا ما يسمّيه العهد الجديد: القيامة.

3- تضامن مع الآخرين
ينطبع هذا النص بالتضامن. فالذي يتألم ظلماً، لا يكون فقط ضحية، بلٍ مثالاً للآخرين وطريقاً من أجل تحريرهم. والإيمان يُعطي هذا التأكيد بُعداً واسعاً جداً. وهو البعد الذي حمله المسيح حين بذل حياته على الصليب لخلاص العالم. وقد رأى العهد الجديد أن هذا النصّ يتحقّق كاملاً في المسيح الذي مات من أجل خطايانا" (أع 8: 26- 40؛ 1 بط 2: 20- 25؛ رج مر 10: 45؛ 1 كور 15: 3).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM