الفصل الثاني والعشرون أشعيا النبي القسم الثاني

الفصل الثاني والعشرون

أشعيا النبي
القسم الثاني

تحدّثنا في فصل سابق عن أشعيا الأول، أو القسم الأول من سفر أشعيا الذي يتضمّن ف 1- 39. وها نحن نتحدّث في هذا الفصل عن أشعيا الثاني، نبي العودة (ف 40- 55).
كان حزقيال نبي بداية العودة والتكيّف مع الوضع الذي خلقه "التهجير". أما أشعيا الثاني فهو نبي نهاية المنفى مع التكيّف وفكرة العودة.
ولكن من هو هذا النبي؟ إنّه شخص مجهول لا نعرف عنه شيئاً. كل ما نعرفه هو أن أش 40- 55 تكوّن مجموعة متماسكة تعود إلى نهاية المنفى. حين نقرأ هذه النصوص، نفهم ان كاتبها قام بنشاط "نبوي" بين سنة 550 وسنة 540. تلفّظ بأقواله على مرّ السنين في ظروف مختلفة وجمعت فيما بعد فكوّنت ما نسمّيه اليوم "أشعيا الثاني".

أ- مناخ الكتاب
حين نقرأ ف 40- 55، لا نرى نبياً يتحرّك (مثل أشعيا، إرميا، حزقيال)، وأناساً يسألونه ويهاجمونه. لا نجد أحداث حياة نبي من الأنبياء أو ما يتعلّق باسرته. نحن نجد في أشعيا الثاني شخص كورش (44: 28: 45: 1) المحتلّ الفارسي. كما نجد شخصاً آخر هو "عبدالله" (عابد يهوه وخادمه). قد يدلّ على شخص فرد، كما يدلّ على جماعة. لا يتحدّث النبي في صيغة المتكلّم المفرد (أنا) إلا في 48: 16 و50: 4- 8. ونجد حوله مجموعات: هناك الشعب اليهودي الذي يبدو تارة شخصاً مذكراً (إسمه "إسرائيل"، "يعقوب"، 43: 1...)، وطوراً شخصاً مؤنثاً (إسمه "صهيون"، "أورشليم" (52: 1...) هو عروس الرب (ف 54). والعدو هو بابل التي هي شخص مؤنث (ف 47). وهناك "الامم"، "الجزر"، "أقاصي الأرض".
يتحدّث النص عن أماكن محدّدة أو غامضة: بابل، أورشليم. البرية التي بينهما. الآفاق البعيدة في سائر بلدان الأرض.
وهو لا يصوّر الأحداث بصورة دقيقة. هناك شقاء إسرائيل الذي سُحق وذلَّ، والذي لا يزال كما كان (51: 17- 20). فإن عدنا إلى الماضي وجدنا تلميحات إلى ابراهيم (41: 8) وداود (55: 3). ويتذكّر "النبي" الخروج وعبور البحر الأحمر (43: 16- 21). ويتطلّع إلى المستقبل، إلى العودة من المنفى. هو لا يتكلّم عن الشمس المحرقة مع الجوع والعطش، ولا عن مشاكل إعادة بناء مدينة مهجورة. بل عن مسيرة مظفّرة في صحراء مملوءة بالزهور وعيون الماء (41: 18- 19)، وعن مدينة عجيبة تغطّيها الحجارة الكريمة (54: 12).
في هذا الإطار الغريب نسمع شخصاً يتكلّم. إنّه الرب الذي يرى كل شيء، يفعل كل شيء، يحوّل كل شيء. أما النبي فيلعب دور الرسول. يقول: هذا ما يقوله الرب. ويحاول أن ينقل بدقة كلام الرب. هو النبي. هولا يقوم بعمل، بل يحمل كلمة. ما يهمّ لا شخصه، بل تعليمه.
ما الذي يستوقفنا في هذا الكتاب المحيرّ؟

ب- ماذا نقول في كورش
يبدو أشعيا الثاني جواباً على سؤال جوهري يطرحه الشعب: ها إن كورش صار سيّد الشرق الأوسط، فما هو موقفنا من هذا الحدث؟ هل هناك علامة من الله؟ منذ سبعين سنة، حلّ البابليّون محل الأشوريّين، فحيّا الناس هذا الحدث بحماس كبير. ولكن لم يتغيرّ شيء، وكان المحتلّ الثاني أكثر خطراً على البلاد من المحتلّ الأول. فماذا نفعل مع المحتلّ الثالث؟ هل نترك الأحداث تتجاوزنا دون أن نبالي بها؟ أم نستقبل كورش ونأخذ جانبه؟
أما أشعيا الثاني فقد أخذ جانب كورش، واعتبره مرسل الرب من أجل تحرير شعبه. "هذا ما قال الرب لمسيحه (المرة الوحيدة يُعطى هذا اللقب لشخص وثني)، لكورش الذي أمسكه بيده اليمنى: "من أجل عبدي يعقوب، من أجل اسرائيل مختاري، دعوتك باسمك وكنيتك دون أن تعرفني" (45: 1، 4).
تأكّد النبي مسبقاً من أن انتصار كورش سيؤمّن تحرير المنفيّين وإعادة الأرض. كيف يعرف ذلك؟ أبوَحي مباشر من الله؟ ربما. وقد يكون عرف الشيء الكثير عن سياسة كورش، عن احترامه للمغلوبين، عن همه بأن يملك بالتسامح لا بالرعب. فإيمانه وتحليله للواقع ساعداه على الثقة بالمحتلّ الجديد الذي سمّاه مراراً مرسل الرب (44: 1- 5؛ 41: 25- 42: 9؛ 44: 24- 45: 4). لهذا، فهو يجنّد شعبه من أجل الحدث الآتي، ويدعوه ليستعدّ للعودة، كما سبق له وفعل في بداية كتابه. "عزّوا (شجّعوا)، عزّوا شعبي، يقول إلهكم. كلّموا أورشليم في قلبها وأعلنوا نهاية أيام تأديبها وعقابها" (40: 1- 2؛ رج 48: 20؛ 51: 3؛ 52: 11).
وقد يكون كورش قام بدعاية تدلّ على أنه المحسن للشعوب المقهورة. وبفضل هذه الدعاية، إستطاع أن يدخل إلى بابل دون حرب. وقد يكون أشعيا الثاني قد شارك في إظهار شعبيّة كورش، لأن الدعاية للملك الفارسي تلتقي وإيمانه.

ب- موقع الحدث في التاريخ
وحدّد النبي هذا النداء إلى الالتزام والثقة في إطار أوسع، وهذا ما يجعل كتابه مهمّاً بالنسبة إلينا. حين نقرأ أقواله نرى أنه لا يتكلّم فقط عن الحاضر والمستقبل المباشر. فهناك في خلفية اللوحة تاريخ اسرائيل والعالم. نحن هنا مرّة أخرى، أمام قراءة جديدة للماضي على مثال ما فعل حزقيال والتقليد الكهنوتي والتقليد الاشتراعي. غير أن أشعيا الثاني لا يقدّم هذا التاريخ بصورة منهجية وبترتيب زمني، بل يعطينا تلميحات تساعدنا على اكتشاف بعضاً من أفكاره الكبرى كما برزت في مسيرة التاريخ.

أ- المرحلة الأولى: الخلق
المرحلة الأولى في هذا التاريخ هي خلق الكون والبشرية. فالرب هو "خالق السماوات، وجابل الأرض وصانعها الذي ثبّتها وأوجدها لا للفراغ، بل للعمران" (45: 18). قال الرب: "أنا صنعت الأرض كلها، وخلقت البشر عليها" (45: 12). ولكن الخلق لم يتمّ فقط في البداية، بل هو يمتدّ في الزمن. والأحداث غير المتوقّعة التي تبدّل وضع العالم، هي أيضاً من خلق الله: "أسمعك اليوم بما سيحدث... أسمعك أشياء جديدة وقد خُلقت الآن" (48: 6- 7). ففي حياتنا اليوم، نلتقي بالله الذي هو الخالق منذ البدء.

2- المرحلة الثانية: حدث الخروج
خلق الله البشرية كلها. والشعوب الوثنية مهما كانت قديرة، ليست إلا "نقطة ماء في دلو، وغباراً في ميزان" (40: 51). ولكن الله اختار شعبه من بين هذه الشعوب. وكان حدث حاسم بالنسبة إلى هذا الشعب هو الخروج. فهناك صار اسرائيل حقاً شعب الله. فهذا الاله "فتح في البحر طريقاً وفي المياه العاتية مسلكاً... جّمد مركبات العدو وخيوله... سقطوا جميعاً ولا قيام" (43: 16- 17). هذا الاله "جفّف مياه البحر، جعل أعماقه طريقاً ليعبر فيه المفتدون" (51: 10).
غير أن الخروج ليس واقعاً من الماضي وحسب. وقد نستطيع أن ننساه (43: 18). فالمهمّ هو أن الرب يهيّىء خروجاً جديداً أجمل من القديم. قال الرب: "في الصحراء أشقّ طريقاً، وفي القفر أجري الأنهار" (43: 19)، ويسير الشعب في الهدوء والفرح، لا كما في الماضي كالهاربين القلقين على مصيرهم (52: 12).
سمّي بنو اسرائيل "المفديّين" (51: 10). كيف يُفتدى الانسان؟ تتدخّل عائلته فتُعيد إليه الحرية إذا كان عبداً. وتتولىّ أمر امرأته اذا مات من دون عقب. وتستعيد له أرضه إذا خسرها. وتنتقم لدمه إذا قُتل. وحين نقول إن الله "افتدى" شعبه، فنحن نعني أن شعبه كان في مأزق فأخرجه الله (هو قريب منه، هو من عائلته) ليحيا حياة عادية. هذا ما حصل في أيام الخروج والعبودية في مصر. وهذا ما سيحدث مرّة ثانية في زمن المنفى. لهذا تحدّث أشعيا الثاني مراراً عن "الفداء". قال الرب: "أنا نصيرك وفاديك" (41: 14). وأنشد النبي: "إندفعي بالترنيم أيتها الجبال: الرب افتدى شعبه" (44: 22).
ستستعمل هذه اللفظة حين نتحدّث عن يسوع المسيح الذي قاسم البشر حياتهم ليخلّصهم من الخطيئة والموت ويردّ لهم الحرية الحقيقية.

3- المرحلة الثالثة: الحياة في فلسطين وزمن الخطيئة.
بعد الخروج، هي الحياة في فلسطين على ايام القضاة والملوك. هو زمن الخطيئة. هذا ما شدّد عليه أشعيا الثاني كما فعل الأنبياء السابقون والتاريخ الاشتراعي. "هو الرب الذي خطئنا إليه، رفضنا طرقه وسماع شريعته" (42: 24). والنتيجة هي الكارثة تصوّر بكلمات تذكّرنا بسفر المراثي: "بنوكِ (يا أورشليم) خاروا وانبطحوا في رأس كل شارع... قالوا لك: انحني حتى نعبر، فخفضت كالأرض ظهرك وكالطريق يدوسها العابرون" (51: 20، 23). في هذه الظروف ظنّ الشعب أن الرب تركهم... "قالت صهيون: تركني الرب، تركني ونسيني السيد" (49: 14).

4- المرحلة الرابعة: نهاية زمن الضيق
ولكن في قلب المنفى هتف النبي: إنتهى زمن الضيق. نحن أمام "خلق جديد"، خروج جديد"، "فداء" آتٍ. "إصعدي على جبل عالٍ، يا صهيون المبشرة الفرحة. قولي لمدن يهوذا: ها هو إلهكم. هو يأتي بقوة وذراعه تؤمّن له السلطان" (40: 9- 10).
ستُسحق بابل وتُدفر (ف 47). يتركها المنفيون في الفرح ويأخذون طريق العودة (52: 11- 12).

5- المرحلة الخامسة: عودة أورشليم
أورشليم المدينة المقدّسة هي اليوم متروكة خربة. ولكنها ستستعيد حياتها ومجدها. كانت عروس الرب وظنّت نفسها مرذولة إلى الأبد. وها إن عريسها يعود إليها. إنه لم ينسَ شيئاً من حبه. "أنثى هجرت في صباها! هجرتك لحظة، وبرحمة فائقة أضمك" (54: 6- 7).

6- المرحلة السادسة: بقية الشعوب
ولكن المستقبل الموعود به يعني كل شعوب الأرض. مال النبي في البداية إلى احتقارهم: ليسوا أمام الرب إلا قليلاً من الغبار (40: 15). وتصوّر كيف سيذلّون (45: 16). هذه ردّة فعل انسان مغلوب ينتظر أن يتبدّل وضعه. ولكنه اكتشف فيما بعد ان إلهه، الاله الواحد الحقيقي، سيكون مخلّص جميع البشر. "لا إله غيري، لا إله عادل مخلّص سواي. تعالوا إلي تخلصوا يا جميع شعوب الأرض" (45: 21- 22).
وهكذا يكون الافق النهائي في أشعيا الثاني أوسع من افق حزقيال الذي انحصر في نهضة شعب اسرائيل. ولكن وجب على المنفيين أن يتجاوزوا كل بغض وحقد قبل أن يصلوا إلى هذا المستوى.

د- عبد الله وعابده
ذكرنا هذا الشخص الذي جعل أشعيا الثاني شهيراً. يدلّ هذا اللقب على شعب اسرائيل (41: 8- 9)، على كورش (44: 26). ولكن هناك أربعة مقاطع تتحدّث عن شخص سّري، وضيع وقوي، معذب ومضطهد، قُتل ولكنه هُيّىء للمجد عبر الموت لأنه قدّم حياته ذبيحة (42: 1- 7؛ 49: 1- 9؛ 50: 4- 11؛ 52: 13- 53: 12). منذ زمان بعيد، رأى فيه المسيحيون يسوع المسيح. فيسوع نفسه عبرّ بواسطة هذه النصوص عن آلامه وموته.
ولكن، بمن فكّر أشعيا الثاني حين تحدّث عن هذا العابد؟ هل أراد أن يرسم وجه كائن سّري سيظهر في يوم من الأيام؟ هل فكّر في شخص عرفه؟ يوياكين، ملك يهوذا والمسجون في بابل؟ هل فكّر في أرميا النبي؟ هل نجد الشخص الواحد في المقاطع الاربعة، أم هل نحن أمام أشخاص (عابدين) كثيرين؟ كورش في النشيد الأول، النبي نفسه في الثالث، نواة اسرائيل المؤمن في الثاني والرابع؟ أسئلة يجادل فيها الشّراح ولا يتفقون. أما نحن فنصل في المعنى النهائي إلى يسوع المسيح الذي أخذ اوجاعنا وحمل عاهاتنا، وبجراحه شفينا.

هـ- خاتمة
وسط شعب يعيش الضيق وينتظر التحرير، شعب يتساءل عن الوضع السياسي الذي يعيش فيه، جاء نبي يحمل نور الايمان. قرأ علامات الله في صراعات البشر وآمالهم. وجعل هذه الأحداث في مشروع الله العظيم من أجل البشرية. وتحدّث في قلب كل هذا عن شخص يعطي حياته لخلاص البشر... أما هذا الذي ننتظره نحن اليوم أيضاً؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM