إليكم هذه الوصيَّة أيُّها الكهنة

إليكم هذه الوصيَّة أيُّها الكهنة

الخوري بولس الفغالي

حين نقرأ الكتاب المقدَّس ونحاول أن نتعرَّف إلى المجتمع الذي بدأ تكوينه مع "موسى" وتواصل مع "زعماء محلِّيِّين" دُعوا "القضاة" لأنَّهم يقضون في الشعب ويتدبَّرون، بانتظار الملكيَّة مع داود وسليمان، عندما نقرأ نجد ثلاث فئات مميَّزة: الملك مع حاشيته وجنوده، رجال الإقطاع والأغنياء، وأخيرًا الكهنة مع رئيسهم الذي يعيِّنه الملك. إلى هؤلاء كلِّهم توجَّه الأنبياء كلٌّ بدوره. خطئ داود الملك فأتى ناتان لينبِّهه إلى خطيئته. وكذلك فعل إيليّا مع أخاب بانتظار يوحنّا المعمدان وهيرودس. والأغنياء نالوا حصَّتهم من الكلام القاسي، خصوصًا من إشعيا الذي تحدَّث عن الظلم الذي يمارسون، وعاموس الذي صوَّر الغنى الفاحش لدى "بقرات باشان" أي نساء العاصمة، تجاه الفقر المدقع وما يتبع ذلك من استغلال الناس والاتِّجار بهم. والكهنة؟ سيكون الكلام عنهم أيضًا قاسيًا، فيُجمعون مع "الفئة الحاكمة" أو ينالون نصيبهم وحدهم لأنَّهم حادوا عمَّا يطلبه الله منهم. لهذا عنونَّا مقالنا بكلام من النبيِّ ملاخي، أي رسول الله وملاكه: "إليكم هذه الوصيَّة أيُّها الكهنة، وإن كنتم لا تسمعون أرسل إليكم اللعنة، وأجعل بركتكم لعنة" (2: 1-2).

أمّا موضوعنا فيتوزَّع في ثلاث محطَّات فنقرأ بشكل خاصٍّ ثلاثة أنبياء: إرميا الذي يهدِّد الكهنة مع سائر الفئات الحاكمة، وقوَّتُه قوَّة الربّ: "جعلتك اليوم، يا إرميا، مدينة حصينة، وعمودًا من حديد وسورًا من نحاس في وجه جميع الذين في أرض يهوذا، من ملوك ورؤساء وكهنة وشعب، فيحاربونك ولا يقوون عليك، لأنِّي معك لأنقذك" (1: 18-19). والنبيُّ الثاني يكون هوشع مع كهنة عبدوا البعل وتركوا الله، صاروا أبناء بليعال، وخدَّامًا للملك والملكة. يأكلون على المائدة الملوكيَّة ويخضعون للسلطة من أجل أكثر من إفادة. يمكن أن نترك الربَّ فلا نخسر الكثير ممّا نطلب. ولكن لا نخسر الرؤساء، لأنَّ الاتِّكال عليهم غير الاتِّكال على الله، في تحويل لما يقوله المزمور: "الاحتماء بالربِّ خيرٌ لي من الاتِّكال على العظماء" (118: 9). لهذا قال هوشع: "اسمعوا هذا أيُّها الكهنة... صرتم فخًّا... وشبكة ممدودة... وهاوية عميقة... فما أنا أؤدبكم" (5: 1-2). والنبيُّ الثالث يكون ملاخي الذي أخذنا منه عنوان مقالنا. فهو يقول: "فالآن، استعطفوا، أيُّها الكهنة، وجه الله ليحنَّ علينا. فمن أيديكم وبسببكم ما جرى لنا" (1: 9).

1. إرميا، كاهن من عناتوت

هو من الريف القريب من العاصمة. من عناتوت، القرية التي تسمَّت على اسم الإلاهة الكنعانيَّة. هو من أرض بنيامين حيث بُني الهيكل. كاهن ابن كاهن، "وأحد كهنة مدينة عناتوت" (1: 1). تعلَّق بأرضه فاشترى قطعة أرض من عمِّه كادت تمضي إلى الغرباء: "اشترِ حقلي الذي في عناتوت، لأنَّ لك حقَّ فك الرهن والشراء" (32: 7). أحبَّ ربَّما المعبد الذي كان يخدم فيه مع سائر الكهنة. ولكنَّ أهله نقموا عليه لأنَّه شارك في الإصلاح الذي قام به الملك يوشيّا: أغلق المعبد ووجب على الكهنة في عناتوت أن يلتحقوا بأورشليم. خسرت البلدةُ مداخيل معروفة وصار كهنةُ المعابد لدى القبائل العبرانيَّة، كهنة من الدرجة الثانية تحت أمرة كهنة أورشليم.

ففي المعابد المشتَّتة في البلاد، امتزجت عبادة الله بعبادة "آلهة" الأمم القريبة. عبادة البعل، عشتاروت. وبلدة إرميا ارتبطت بعناة، الإلاهة التي عُرفت في أوغاريت (راس شمرا). هي رفيقة البعل وهي تجمع له الغيوم لكي يُنزل المطر. فارتبط اسمها بـ"ع ن ن"، الغيم والسحاب. فتخيَّل الآتين إلى المعبد في أوقات القحط والجفاف. والآن أغلق في إصلاح كان إرميا أشدَّ المدافعين عنه، بل الدافعين له. اغتاظ الأهل من هذا النبيِّ الذي لا يعرف مصلحة مدينته، وهدَّدوه: "لا تتنبَّأ لئلاَّ تموت بأيدينا" (11: 21). فرفع النبيُّ صلاته إلى الربِّ: "أعلمَني الربُّ فعلمت، وأراني فرأيتُ أعمالهم" (آ18). هي تمرُّدٌ على الله، ورفضٌ لسماع كلامه، واتِّباع آلهة أخرى ليعبدوها (آ10). أجل، وبَّخ إرميا، لا أهل بلدته فقط، بل "رجال يهوذا وسكّان أورشليم" (آ9). فهل يسكت الناس حين يسمعون كلام النبيِّ وما فيه من إنذار؟ لماذا لا يسكت؟ وإن هو لا يسكت فنحن نُسكته!

"كنتُ أنا كخروف وديع يُساق إلى الذبح ولا علم لي أنَّهم كادوا لي مكيدة وقالوا: نُتلف الشجرة مع ثمرتها، نقطعه من أرض الأحياء، ولا يُذكَر اسمه من بعد" (آ19-20). عندئذٍ رفع النبيُّ صلاته إلى الله: "فيا ربَّنا القدير الذي يحكم بالعدل ويفحص المشاعر والأفكار، دعْني أرى انتقامك منهم. فإليك رفعتُ دعواي" (آ20). إذا كان الربُّ هو الإله العادل، فماذا ينتظر لكي يفعل، لكي يعاقب.

لماذا "تُتلَف الشجرة"؟ لأنَّ النبيَّ سبق فقال لشعبه: "إذا كان الربُّ سمَّاك مرَّة زيتونة خضراء، جميلة، شهيَّة الثمر، فهو بهبَّة ريح عاصفة يُضرم فيك النار فتلتهم أغصانك. وإذا كان الربُّ القدير تكلَّم عليك شرًّا، فلأنَّ بيت إسرائيل وبيت يهوذا فعلوا الشرَّ ليغيظوه بتبخيرهم للبعل" (آ16-17).

ولكنَّ الربَّ ما اعتاد على الانتقام. فالجميع أبناؤه وبناته، ولاسيَّما الخطأة، وإن هو هدَّد، فلكي ينبِّه ويحذِّر، وإلاَّ لكان فعل. كلام النبيِّ دعوة إلى التوبة. وإن رفضوا كلامه مرَّة أولى، يعيد الكرَّة ولا يتوقَّف ولا يحقُّ له أن يسكت. فصوتُ الله في قلبه أقوى من صوت البشر. فهل يستطيع النبيُّ أن "يتمرَّد"، أن لا يسمع؟ عندئذٍ يحسُّ بنار في داخله يجب أن يخرجها. فماذا بقي له؟ الشكوى: ألا ترى يا ربُّ ما يحصل هنا: سلوكي تجاه سلوكهم. هم ينجحون وأنا "فاشل"! ألا ترى كذبهم فنكتفي بسماع ما تتلوه أفواههم؟ الأرض ناحت، العشب يبس، والطبيعة كلُّها تألَّمت... أمّا الخصوم فيقولون: "الله لا يرى ما نفعل" (12: 4).

عنفٌ في قلب النبيِّ هو ثمر الغيرة على كلام الربّ. ويريد من الربِّ أن "يفرزهم مثل غنم للذبح" (آ3). ولكنَّ الربَّ يبقى هادئًا أمام "تعب" النبيّ. بل هو يعدُّه لصعوبات أكبر من التي يعرف الآن: "تجري مع المشاة فتتعب، فكيف تسابق الفرسان؟" (آ5). والخطر؟ "إخوتك وأهل بيت أبيك يغدرون بك ويصرخون وراءك بملء أفواههم..." (آ6).

سوف يسمع يسوع التهديد عينه فيقول: "أعداء الرجل أهل بيته". ثمَّ: "لا يكرَّم نبيٌّ في بلدته". كيف يتجاسر أن يهدِّد الكهنة؟ فيقولون: "يموت واحد عن الشعب ولا يموت الشعب كلُّه". وقالوا في إرميا: تحدَّث عن الزيتونة، فنحن نقتلعها. هم يضعون رؤوسهم في الرمل لئلاَّ يروا الخطر الآتي ولا يسمعوا التحذير. عرف إرميا أنَّه "خروف يساق إلى الذبح" فطلب لهم الذبح، أمّا الذي دعاه يوحنّا المعمدان "حمل الله الذي يرفع خطايا العالم" فكان "كخروف يساق إلى الذبح، وكحمل صامت لا يفتح فمه".

ولماذا كلُّ هذا العنف على النبيّ؟ لأنَّه تكلَّم على الكهنة، وهدَّد الهيكل: "فلا الكهنة قالوا: أين الربّ؟ ولا معلِّمو الشريعة عرفوني، والرعاة أنفسهم عصوني، والأنبياء تنبَّأوا باسم البعل وذهبوا وراء إله لا نفع فيه" (2: 8). هاجم النبيُّ الكهنة في وظائفهم الأربع. الأولى، هم مثال للشعب. لا يسألون عن الربِّ ولا يهتمُّون بحقوقه. ربَّما أضاعوه فما عادوا يعرفون صوته، فشابهوا الكاهن عالي الذي انتظر ثلاث مرَّات لكي يعرف أنَّ الربَّ هو من يكلِّم صموئيل، لا صوتٌ بشريّ. والكهنة لا "يرون"، صاروا مثل "أعمى يقود أعمى، فيسقط الاثنان في حفرة". فهل نعجب إن ضلَّ الشعب؟ والوظيفة الثانية، هم معلِّمو الشريعة. ولكن ما هذا المعلِّم الذي لا يعرف؟ ربَّما مرَّ في "مدارس" الكهنة ولكنَّه ترك "الدرس" لأنَّه انشغل بأمور أخرى. قال إرميا: "تركوني أنا ينبوع المياه الحيَّة، وحفروا لهم آبارًا مشقَّقة لا تمسك الماء" (آ13). ماذا نقرأ؟ وفي هذه الأيّام، ماذا نرى؟ هناك التلفزيون وأمور أخرى. أمّا الكتاب المقدَّس وشروحه، وأمور اللاهوت ومرافقة آباء الكنيسة فصارت بعيدة. في الماضي، كان الكاهن وحده عنده مكتبة مهما كان فقيرًا، ومهما كانت درجة علومه. وكان يقرأ كلَّ يوم فيها. هل أضعنا هذه العادة بعد أن تعلَّمنا اللغات وأخذنا الشهادات وربَّما سافرنا إلى الخارج؟ وفي أيِّ حال، الإناء ينضح بما فيه. إن امتلأ من علم الله فاض علمًا على المؤمنين. وإلاَّ يطلب الأطفال خبزًا ولا يكون من يعطيهم (مرا 4: 4). فيذهبون إلى من يغذِّيهم. أتذكَّر تاجرًا ترك كنيسته لأنَّه، كما قال لي، لم يسمع مرَّة شرحًا للإنجيل في رعيَّته. ونتساءل بعد ذلك، لماذا لا يحبُّ الناس الوعظ. حين كان الأب (المونسنيور) ميشال حايك يتكلَّم على الراديو، كانت الدول العربيَّة تنتظر حديثه، وما زلنا نقرأ مواعظه بفرح إلى الآن.

والكهنة هم "الرعاة". فالراعي يعرف خرافه وخرافه تعرفه. الراعي يقود الخراف إلى المرعى، إلى الماء، إلى الراحة. قال لنا أحد رجال الدين: نحن نأكل بيوت الأرامل بعلَّة تطويل صلاتنا. فأجبته: إن قلتَ هذا تشتمنا نحن أيضًا. ذاك ما قاله يسوع للكتبة والفرِّيسيِّين الذين يقولون ولا يفعلون، الذين يحمِّلون الناس أحمالاً ثقيلة وهم لا يحرِّكونها بإحدى أصابعهم. فالكاهن يقدِّم للشعب "مائدة الكلمة". في لقاءات، في سهرات إنجيليَّة، في اجتماعات الأخويَّات وغيرها، كما يقدِّم "مائدة القربان" التي تكون شهيَّة إذا كان الكاهن يعرف أنَّه يحلُّ محلَّ المسيح فيقرِّب نفسه كما المسيح "ذبيحة" بحسب ما قال الرسول عن نفسه (2 تم 4: 6).

وأخيرًا، الكاهن هو "نبيّ". والنبيُّ هو من يدخل في سرِّ الله ويتحدَّث باسم الله، ولو "غضب" الناس عليه. فهو لا يبحث عن رضى الناس، مهما عظموا، بل عن رضى الله. أمّا "الأنبياء" في زمن إرميا، وهم الكهنة، "فيتنبَّأون باسم البعل"، لا باسم الله. وبكلام إنجيليّ: يعبدون المال، لا الله. ماذا قال يسوع عن الصادوقيِّين، الذين كانوا الكهنة الأوَّلين في أورشليم؟ "يحبُّون الفضَّة". ولهذا نفروا من كلامه عن الفقر والعطاء. المشاركة في الجنّاز مثلاً هو "واجب" كما كان يقول أحدهم، وما أحلاه من واجب لأنَّ فيه النفع الكبير. ولكن أما علينا واجب أهمُّ تجاه الله وتجاه الجماعة التي أرسلنا إليها "كخدمة" على مثال يسوع الذي جاء يخدم ويبذل حياته عن الكثيرين؟

والخطأ الكبير بالنسبة إلى الكهنة هو إعطاء الطمأنينة للناس، وأيَّة طمأنينة! لا تخافوا. الأمور تسير بأحسن حال. بعض الممارسات، بعض التقاليد، بعض الصلوات. تقوم بعمل من الأعمال سبع مرَّات أو تسع مرَّات فننال السماء أو نعمة أقلَّ منها. لا حاجة إلى التوبة، يكفي أن تأتوا إلى الهيكل، أن تتمسَّكوا بالهيكل. قال النبيُّ: "اسمعوا كلمة الربِّ، أصلحوا طرقكم وأعمالكم" (7: 3). وماذا نقول للناس: هناك مشاريع ومشاريع، لا بأس. والفرِّيسيّ اعتبر أنَّه يكفي أن يصوم ويدفع العشر من كلِّ شيء ويزور الهيكل. هل هذا يعني أنَّه صار بارًّا؟ كلاَّ ثمَّ كلاَّ. وقال إرميا: "لا تتَّكلوا على قولكم هيكل الربّ... فتخدموا أنفسكم" (آ4). ويعود إلى النداء من أجل حياة بحسب الوصايا: "اقضوا بالعدل بين الواحد والآخر، لا تجوروا على الغريب واليتيم والأرملة، ولا تسفكوا الدم البريء" (آ5-6). الناس يتعلَّقون بظهورات كاذبة عند هذه أو تلك. يسمعون أمورًا تحسَب من الإنجيل ولكنَّ الإنجيل منها بريء. والكهنة يقبلون بهذه الأمور ما دامت تدرُّ علينا الأموال. الكاهن يسكت. ولكنَّ السكوت في مثل هذه الأمور خطيئة. لهذا، رفض إرميا أن يسكت تجاه عبادات تنسينا العبادة الحقيقيَّة. صار الهيكل صنمًا، بضعة حجارة جميلة. افتخر بها الرسل. ونحن نفتخر بكنائسنا. ولكن لا يبقى من كلِّ هذا حجر على حجر. هل المهمّ كنيسة الحجر أم كنيسة البشر؟ كنيسة كبيرة وهي فارغة. أو فيها بعض المؤمنين الذين يكثرون في بعض المناسبات فتكون "الصينيَّة" ملآنة. "الويل لكم أيُّها الكتبة والفرِّيسيّون!" "ومن يجسر أن يقول كلمة بحقِّ "الطائفة"! فالكاهن يمثِّل الطائفة. يا ليته يمثِّلها حقًّا فيتمجَّد الله بأعماله. والعكس: "يجدِّف الناس على الله بسببنا" (رو 2: 24).

 

2. هوشع وعاموس في بيت إيل

بيت إيل، أي بيت الله. كانت مركز عبادة كنعانيَّة فصارت مركز عبادة للإله الواحد. ارتبطت بعالم الزراعة، باللوز. هي "لوز" الذي ربَّما كان إلهًا، كما السنديانة والبطمة وعدد من الأشجار. ولكنَّ المعنى تحوَّل في الكتاب المقدَّس. فاللوز صار عند إرميا شجرة تسبق سائر الأشجار بزهرها، فتدلُّ على الربيع (1: 11). ففي الربيع يقوم "الإله أدونيس" بعد أن يموت في الشتاء، واللوز يبشِّر "بعودته".

صارت بيت إيل بيت الإله الواحد (ا ل ه ي م، اللهمَّ). ولكن في زمن ملوك السامرة، صارت معبد الملك، لا معبد الله. وكاهنها هو أمصيا، خادم الملك لا خادم الله. هنا نتذكَّر الكهنة الذين كانوا يأكلون على مائدة الملكة إيزابيل زوجة أخاب: بالمئات. والناس يسيرون وراءهم، فارتفع معبد "البعل"، أمّا مذبح الربِّ فكان مهدَّمًا (1 مل 18: 30). الحمد لله أنَّ إيليّا أتى إلى جبل الكرمل، جبل الجنائن والأشجار المقدَّسة، "فرمَّم مذبح الربّ". نتذكَّر هنا بشكل عابر الغابات المقدَّسة للآلهة الوثنيَّة، ومنها مثلاً دفنة، قرب أنطاكية، حيث أخذ المسيحيُّون يجعلون نصبًا لشهيد من الشهداء حيث كان صنم لإلهٍ من الآلهة. ونفهم لماذا ارتبط الرهبان الكرمليُّون بهذا الجبل الذي يطلُّ على البحر.

وبيت إيل تحوَّلت مع الملك يربعام. عاد إلى ما صنع أوَّل عظيم كهنة، هارون، الذي جعل للشعب صنمًا، بعد أن غاب موسى وطال غيابه. لماذا يذهب الشعب إلى أورشليم، المدينة التي اختارها الله لسكناه؟ بل يأتي إلى بيت إيل: "صنع عجلين من الذهب وقال لشعبه: لا حاجة لكم بعد الآن بالصعود إلى أورشليم. هذا إلهكم الذي أخرجكم من مصر" (1 مل 12: 28). لهذا دعا هوشع بيت إيل، "بيت الإثم" (بيت أون). كما أثمَ الشعب في البرِّيَّة، فحطَّم موسى بسببه لوحي الوصايا، هكذا أثم يربعام وملوك السامرة، وسيكون خراب تلك العاصمة قريبًا. ومن يخدم بيت الإثم هذا؟ أمصيا ومعنى اسمه: الربُّ قويّ. ولكنَّ هذا الكاهن بعيد كلَّ البعد عن الله. هو قويّ باسم الملك، باسم الملكة، وذلك لكي يتسلَّط. وهكذا طُرد النبيُّ عاموس من المعبد. نحن لا نحتاج إلى صوت الله، بل إلى صوت "الرئاسات والسلاطين" كما دعاهم الرسول في كلامه إلى أفسس، قال بولس: "أنا ضعيف. ولكنِّي قويٌّ بالمسيح الذي يقوِّيني. يحسبنا الناس كلا شيء ونحن نملك كلَّ شيء. أمّا أمصيا، والكهنة رفاقه، فهم يملكون الكثير ولكنَّهم كلا شيء في نظر الله. رفض كاهن بيت إيل النداء إلى التوبة. قال لعاموس: "لا تتنبَّأ" (عا 7: 16). ولكن هل يسكت النبيُّ؟ بل قال: "زأر الأسد فمن لا يخاف، تكلَّم الربُّ فمن لا يتنبَّأ؟" (2: 8). الله "كشف سرَّه لعبيده الأنبياء" (آ7). فكيف يبقونه في المخادع؟ بل هم يكرزون به على السطوح. جاء الربُّ بنبيِّه من أقصى الجنوب إلى شمال البلاد، فهل ينجو معبد الملك والكهنة من حكم الله ودينونته؟ خارجيًّا، انتصر الكاهن وطُرد النبيُّ من بيت إيل، فكان وضعه مثل وضع يسوع الذي قيل له إنَّ هيرودس يريد قتلك. حامل كلمة الله يُبعَد، ولكنَّ الكلمة تبقى إلى الأبد.

كان عاموس قاسيًا مع "كبير" الكهنة في بيت إيل "معبد الملك وبيت ملكه" (7: 13)، أمّا هوشع فما وفَّر الكهنة إجمالاً. قال: "لا يخاصم أحدٌ شعبي ولا يوبِّخه، فخصومتي معكم أنتم أيُّها الكهنة" (4: 4). بماذا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم: أين الصدق والأمانة؟ لا وجود لهما. أين الرحمة؟ غابت، وحلَّ محلَّها "اللعنة والغدر والقتل والسرقة والفسق" (آ2). الوصايا كلُّها تداس ولا من يسأل ولا من يحاسب. والسبب: لا وجود "لمعرفة الله" ولهاذا قال الربُّ بفم نبيِّه: "لحق الدمار بشعبي لأنَّهم لا يعرفونني؟"، لأنَّ ليس من يعرِّفهم بشريعة الربِّ ووصاياه: لا تقتل، لا تسرق، لا تزنِ..."

ومرَّة أخرى يُبعد الربُّ عن الحكم. فخطيئتهم بسيطة تجاه خطيئة الكهنة. قال: "بناتكم يزنين وكنّاتكم يفسقن، فلا أعاقب بناتكم على زناهنَّ ولا كنّاتكم على فسقهنَّ" (آ13-14). نتذكَّر هنا ما كان يُصنع من زنى وبغاء مكرَّس قرب المعابد الكنعانيَّة، "تحت أشجار البلُّوط والحور والبطم لأنَّ ظلَّها حسن" (آ13أ). ويبقى العقاب الكبير للكهنة: "انفردوا بالزواني، وذبحوا الذبائح مع البغايا" (آ14ب). يا للمثل السيِّئ في ذلك الزمان وفي كلِّ زمان. تحدَّث الرسول عن الذي يحسب نفسه "قائد العميان، مؤدِّب الأغبياء، معلِّم البسطاء"، فهو "نور لمن هو في الظلام، وله في الشريعة كمال المعرفة" (رو 2: 19-20). كيف يبدو هذا النور؟ ظلمة. احذر أن يكون النور الذي فيك ظلامًا. حينئذٍ ماذا يكون الظلام؟ ذاك كلام الربّ. والذي نال "كمال المعرفة" ويريد أن يعلِّم غيره، أما يعلِّم نفسه؟ (آ21). "تنادي لا تسرق، وأنت تسرق! تنادي لا تزنِ وأنت تزني (آ22). كم من الشكوك في كنائسنا ولدى من دُعوا خدَّام الله وشعبه!

ما أسهل الوعظ والكلام المنمَّق! ما هذا الطبيب الذي يتفوَّق بمرضه على المرضى! ويقول بولس أيضًا: "تفتخر بالشريعة وتهين الله بعصيان الشريعة" (آ23). تفتخر بكهنوتك وتتصرَّف عكس ما وعدتَ به الربّ. هنا نتذكَّر الرسامة الكهنوتيَّة في الشعب العبرانيّ، وكم يجب أن يميَّز الكاهن الطاهر من النجس. نقرأ في سفر اللاويِّين عن موسى أنَّه "قدَّم هارون وبنيه وغسلهم بالماء،... وأخذ موسى زيت المسح ومسح المسكن وجميع ما فيه وقدَّسه، ورشَّ منه على المذبح سبع مرَّات، ومسح المذبح وجميع أدواته والمغسلة ومقعدها وقدَّسها، وصبَّ من زيت المسح على رأس هارون ومسحه وقدَّسه" (8: 6-12). نلاحظ المرّات التي فيها ورد فعل "قدَّس"، أي كرَّس، خصِّص لله، وضعه جانبًا، لم يَعُد لنفسه بل صار لله ويمكن أن نقرأ في هذا الإطار ما قاله بولس الرسول للمؤمنين في كورنتوس: "أجسادكم هي أعضاء المسيح. فهل آخذ أعضاء المسيح وأجعل منها أعضاء امرأة زانية؟" (1 كو 6: 15). ويواصل الرسول كلامه: "ألا تعرفون أنَّ أجسادكم هي هيكل الروح القدس؟" (آ19). أهكذا يمجِّد الكهنة الربَّ بأجسادهم، بحياتهم، بتصرُّفاتهم؟!

وقال النبيُّ هوشع: "على قدر ما تكثرون أيُّها الكهنة تكثر خطاياكم. فسأبدِّل مجدكم هوانًا" (4: 7). كلُّ لباس الكاهن بحسب سفر اللاويِّين يدلُّ على الكرامة. ولكن هل الكرامة في الخارج فقط أم في الداخل؟ قال النبيُّ: "سأبدِّل". ولكنَّ الله لا يبدِّل، بل نحن نتبدَّل، فيقول لنا الربُّ بفم نبيِّه: "أعاقبكم أيُّها الكهنة على طرقكم. وأجازيكم على شرِّ أعمالكم. فتأكلون ولا تشبعون، وتزنون ولا تكثرون" (آ9-10). لو كنّا نقرأ التاريخ! لو كنّا نسأل آباءنا وجدودنا عن البيوت التي "ارتفعت" واليوم هي خراب. فعاقبة من يأكل المذبح تكون كبيرة جدًّا حتّى على هذه الأرض، وذكره يموت قبل أن يموت هو.

كيف يكون هذا؟ "تأكلون من ذبائح التكفير عن خطايا شعبي، فتحملونهم على الإكثار من الإثم" (هو 4: 8). حين يخطأ المؤمن، يأتي إلى الهيكل ويقدِّم ذبيحة بها يكفِّر عن خطاياه. وحين تكثر الخطايا تكثر ذبائح، وتكون للكهنة الحصَّة بعد الحصَّة. ولكن إذا قلَّت الخطايا تقلُّ الذبائح ويذوب الربح. أجل، بهذه الطريقة يصبح بيت الله بيت تجارة ومغارة للصوص، "كما يكمن اللصوص، فكذلك الكهنة" (هو 6: 9). ضاعت قدسيَّته فما بقيَ منه شيء لله، فصار كلُّ ما فيه "لمامون"، أي المال، هذا الإله الذي يعطينا الأمان في حياتنا اليوميَّة، فلا نخاف الغد. بهذه الطريقة يصير الكاهن "فخًّا وشبكة ممدودة" يسقط فيهما الناس. فجاء كلام النبيِّ عنيفًا: "رفضتم أن تعرفوني. فأنا أرفضكم فلا تكونون لي كهنة، وبما أنَّكم نسيتم شريعة إلهكم، فأنا أيضًا أنساكم" (4: 6).

3. ملاخي أو ملاكي

بعد إرميا وإيليّا، بعد عاموس وهوشع، نواصل قراءتنا للأنبياء وما قالوه في الكهنة في أيّامهم، وهو ينطبق علينا نحن اليوم، لعلمنا أنَّ ما كُتب في الماضي إنَّما كُتب لتعليمنا. وهي مناسبة للكهنة، في سنة الكهنة كما أعلنها قداسة البابا، لفحص ضمير على ضوء كلام الله، لا بحسب ما يقول البشر. عندئذٍ نسمع كلام الربِّ: "الويل لكم إذا مدحكم جميع الناس، فهكذا فعل آباؤهم بالأنبياء الكذّابين" (لو 6: 26). هذا الكلام الإنجيليّ وحده يحكم علينا بما فيه الكفاية: يدعوننا الناس، يضعوننا في الصدارة. هكذا يكون الاحتفال فخمًا. ويُذكَر رجال الدين مع الزعماء في مجمل الحضور، وتكون أسماؤهم في الصحف والمجلاّت وسائر وسائل الإعلام. هكذا يراهم الناس. ولكن لا مكان للربِّ فيما بينهم. يبحثون عن يسوع فلا يجدونه بين الجمهور، ويقولون كما قيل لأندراوس وفيلبُّس: نريد أن نرى يسوع. ولكنَّ يسوع ليس هنا. لا تبحثوا عن الحيِّ بين الموتى، فقد مضى وهو يسبقنا إلى الجليل حيث تبتدئ البشارة.

ونعود إلى الأنبياء. فنسمع مثلاً حزقيال أمام أورشليم الغارقة في الخطايا والمعدَّة للدمار: "نكبة على نكبة، وخبر على خبر يرد، فيلتمسون رؤيا من نبيٍّ وما من رؤيا. الكاهن يفقد الشريعة، والشيوخ الحكمة" (7: 26). لا شيء للكاهن يقوله لأناس يطلبون كلام الربّ. والشيوخ الذين اشتهروا بحكمتهم البشريَّة، صمتوا وما حاروا جوابًا. إذًا، لماذا وجود "السلطة" الدينيَّة والسلطة المدنيَّة، إذا كانت لا تنير الشعب في ساعات الضيق. لذلك، حين مضى الكهنة إلى السبي سنة 586 ق.م.، لم يحسَّ الشعب أنَّه خسر شيئًا. فهم الذين منعوا النبيَّ أكثر من مرَّة أن يتنبَّأ، أي أن يقول كلمة الله، بل وضعوا إرميا في القيود لأنَّه نبَّه المسبيِّين إلى ما يجب أن يعملوا (إر 39: 24ي).

ويحكم النبيُّ حزقيال على الكهنة كما على الرؤساء: "كهنة أورشليم يخالفون شريعتي. ويدنِّسون أماكني المقدَّسة. لا يميِّزون بين الحلال والحرام ولا يعلِّمون الشعب الفرق بين النجس والطاهر. يحوِّلون عيونهم عن شريعة السبت ويدنِّسون اسمي في وسطهم" (22: 26). كهنة "يخالفون" الشريعة، يتجاوزونها. كيف يكونون مثالاً للرعيَّة. هل هكذا يقدِّسون اسم الله؟ ويأتي فعلان مع النافية: لا يميِّزون. ثمَّ: لا يعلِّمون. خسروا فضيلة التمييز الضروريَّة جدًّا لدى من يدلُّ الناس على طريق الله: أين الحلال وأين الحرام؟ لا تمييز. أين النجس وأين الطاهر؟ لا تمييز. أمّا الرؤساء فهم "كالذئاب المفترسة" (آ27)...

وفي النهاية، يقول حزقيال: "لا يكون للكهنة ميراث، فأنا ميراثهم. ولا تعطونهم ملكًا في الأرض، فأنا ملكهم" (44: 28). هل يرضون بترتيب الربِّ أم يرتِّبون الأمور بحسب هواهم، ممَّا جعل ميخا يقول: "رؤساؤها يحكمون بالرشوة، وكهنتها يعلِّمون بالأجرة" (3: 11). وصفنيا: "أعيانها في وسطها أسود مزمجرة، قضاتها ذئاب جائعة في المساء لا يُبقون شيئًا إلى الصباح، أنبياؤها فاجرون غادرون، كهنتها يحلِّلون كلَّ حرام ويخالفون الشريعة" (3: 3-4).

ذكر اسم هذا النبيّ أو ذاك. ولكن أبعد من النبيِّ هناك الكلمة التي يحملها باسم الله. لهذا كان آخر الأنبياء الاثني عشر بدون اسم مثل سائر الأسماء. هو المرسَل، هو الرسول، رسول الله وملاكه. نقرأ: "وقال الربُّ القدير، ها أنا أرسل ملاكي (= رسولي) فيهيّئ الطريق أمامي" (ملا 3: 1). المهمّ لا الشخص بل الرسالة. وهذا الرسول الذي يسبق الربَّ يطلب من الكهنة أمرين، في وقت عصيب من حياة الشعب العائد من المنفى. الاهتمام بأمور العبادة، دعوة الشعب إلى حياة خلقيَّة. ومن تقع عليه مسؤوليَّة هذين الواجبين تجاه الله وتجاه القريب؟ الكهنة.

يرد كلام هذا النبيِّ بشكل حوار بين الله والكهنة (1: 6ي). يعطي الله مثلين مأخوذين من الحياة اليوميَّة: الأب وابنه. العبد وسيِّده. ويأتي التطبيق: الابن يكرم أباه، العبد يكرم سيِّده، وأنا الذي تدعونني أباكم وسيِّدكم، أين كرامتي، أين مهابتي؟ أهذا هو الاحترام الذي تؤدُّونه لله، أيُّها الكهنوت؟ بل هو الاحتقار لي، لاسمي. والاسم يعني الشخص. توبيخ قاسٍ من لدن الربّ، وحكم مُبرَم لا يسمح بالاستئناف. ومع ذلك، ردَّ الكهنة على الربِّ وكأنَّهم لا يعرفون ماذا يعملون: "كيف احتقرنا اسمك؟". جاء جوابهم شبيهًا بجواب قايين بعد أن قتل أخاه هابيل: أحقًّا احتقرنا اسمك؟ هل أنت جادٌّ في كلامك؟ هي جرأة قريبة من الوقاحة. ولكنَّ الربَّ أطال روحه، فقال: "احتقرتموه بأنَّكم تقرِّبون على مذبحي خبزًا نجسًا" (آ7). سوف يأتي الكلام عن النجاسة. فالخبز النجس هو الذي لم يقدَّم بحسب متطلِّبات الشريعة. ولفظ خبز يدلُّ على الطعام بشكل عامّ: "ما به عيب لا تقرِّبوه للربّ، لأنَّه لا يرضى به منكم" (لا 22: 20).

وكيف تكون التقدمة نجسة؟ حين تعتبرونها "محتقرة"، فنضع على المائدة أيَّ شيء كان. فالشخص الذي نأتي إليه لا يُرى، وربَّما لا يَرى. وإن رأى فهو لا يفعل لأنَّه الإله البعيد. أمّا الكاهن القدِّيس فيقول: أنا لا أرى الله بعيني. ولكنَّ الله يراني. مثل هذا الكلام يبدِّل كلَّ تصرُّفاتنا الكهنوتيَّة، بل المسيحيَّة. اختبأ آدم بين الشجر. أترى الله لم يعرف فسأله: أين أنت؟ وأخذ قايين أخاه إلى البرِّيَّة، هناك لا يراه أحد. من البشر؟ ربَّما. ولكن لو قال في قلبه: الله يراني، لما كان فعل ما فعل. ومن رفض هذا الموقف يشبه الجاهل الذي يتكلَّم عنه المزمور: "لا إله". أو: الله غير موجود. أو أتصرَّف وكأنَّ لا وجود له في حياتي. وإن كنّا لا نقول مثل هذا القول الجنونيّ، إلاَّ أنَّنا نتصرَّف مثل الشعب العبرانيّ: هل الله معنا أم لا؟ ويكون جواب الخادم الرديء: لا.

أجل، طرح الكهنة السؤال: "كيف نجَّسنا اسمك؟". ما نجَّس الكهنة فقط "تقدمة"، بل احتقروا الربَّ نفسه، لأنَّ عبادتهم كانت ناقصة. وجاء مثل آخر يبيِّن تعامل الكهنة مع الله: هل تجسرون أن تقرِّبوا إلى الحاكم "خروفًا أعرج..." هل يرضى عنكم؟ والجواب هو كلاَّ. هل يرفع شأنكم؟ كلاَّ. بل تنالون العقاب. ويطبِّق النبيُّ الكلام على الله: تقرِّبون لي "الأعمى والأعرج والسقيم... أفلا يكون ذلك شرًّا؟ (آ8).

وأطلق النبيُّ الحكم: "كيف يرفع الربُّ القدير شأنكم؟" (آ9). رفعكم حين صرتم كهنة، ولكنَّكم نسيتم الزيت الذي مُسحَتْ به جباهكم. ويواصل النبيُّ بفم الله: "لا مسرَّة لي بكم، ولا أرضى تقدمة من أيديكم" (آ10). وتأتي المقابلة بين "الكهنة" وبين "الأمم" التي تعتبَر غير عارفة بالربِّ القدير. وتنزل كفَّة الميزان بجانب الأمم. يا لتعاسة شعب الله! "اسمي عظيم في الأمم" (آ11). مرَّتين تتكرَّر العبارة. أمّا الكهنة فيدنِّسون هذا "الاسم" ويقولون: "مائدة الربِّ منجَّسة، وثمرتها طعام منبوذ" (آ12).

ماذا يبقى للكهنة أن يفعلوا؟ "أن يستعطفوا وجه الله ليحنَّ عليهم" (1: 9). وإن لم تأتِ التوبة يكون العقاب مريعًا. ومع الاهتمام بشعائر العبادة بحيث يتمجَّد الله، هناك نداء إلى عيش الأخوَّة: "أما لنا كلِّنا أبٌ واحد؟ أما إله واحد خلقنا؟ فلماذا يغدر الواحد الآخر مدنِّسًا عهد الله مع آبائنا؟" (2: 10). ها هنا يأتي أيضًا دور الكاهن... ويطول الكلام في هذا المضمار.

الخاتمة

تلك كانت قراءة ما قاله الأنبياء في شأن الكهنة. فالنبيُّ الذي يدخل في قلب الله فيكشف له الله أسراره، لا يستطيع أن يسكت عن كلِّ ما يحصل في حياة الأفراد والجماعات. أتُراه يبقى صامتًا حين يرى الكاهن "يبيع" الله ويتبع البعل، أو مامون، السيِّد، الفضَّة؟ أتُراه يبقى صامتًا حين يرى الخدمة الكهنوتيَّة تتمُّ بدون إيمان ينتقل إلى المؤمنين الذين يشاركون الكاهن حين يصلِّي أو يقدِّم الذبيحة؟ فهو لا يمكن إلاَّ أن يتدخَّل حين يرى الكاهن أو الكاهن الأعظم، بجانب الرؤساء، لا بجانب الفقراء والمساكين في الشعب! الكاهن معلِّم ولا يعلِّم. ويا ويله إن كان نسيَ الشريعة والتعليم، وما عاد يعرف أن يكتشف صوت الله من خلال الأحداث. لا شكَّ قرأنا كلامًا قاسيًا مثل "أرمي وجوهكم بالزبل" (ملا 2: 3). فالشرُّ مستفحل عميق، وإن كان من عودة إلى قيم الكهنوت، فالحياة الرتيبة تعود بالكاهن إلى العالم، مع أنَّه أُخذ من العالم لما فيه مجد الله وخدمة إخوته. الصعود الدائم مطلوب من الكاهن، ولكنَّ المراوحة في مكاننا تعطي بعض الراحة. والتساهل مع الذات والنزول هما الخطر الأكبر الذي يهدِّد الكهنة في كلِّ زمان، فيصبح خادم الملك لا خادم الله، يسير بحسب التقاليد البشريَّة وينسى كلمة الله التي هي سيف ذو حدَّين. لا. ما سكت الأنبياء، ولا اكتفوا بالانتقاد، بل ذكروا الكهنة "بهذه الوصيَّة" من لدن، بل قالوا لنا نحن الكهنة: "شفتا الكاهن تحفظ المعرفة، ومن فمه يُطلَب التعليم، لأنَّه رسول الربِّ القدير" (ملا 2: 7). والرسول عند ملاخي هو "ملاك" يرسله الله قدَّامه. فماذا ينتظر كهنة العهد الجديد؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM