كهنة في خطِّ راعي الرعاة

كهنة في خطِّ راعي الرعاة

الخوري بولس الفغالي

حين تطلب اللغات الساميَّة أن تفضِّل شخصًا على أشخاص عديدة، فهي تجعل المضاف في صيغة المفرد والمضاف إليه في صيغة الجمع. نقول: ملك الملوك، فنعني به أعظم الملوك. وكذا نقول عن ربِّ الأرباب وإله الآلهة. لا شكَّ في الأصل، هناك العدد الكبير فنفضِّل واحدًا على الكثرة، ولكن في كلامنا اليوم نعطي الشخص ونُعليه بحيث يتميَّز عن أيِّ شخص آخر ويسمو عليه. في هذا المناخ نقول هنا راعي الرعاة. فهو أفضلهم وأسماهم ولا يمكن أن يجاريه أحد، لا في الرئاسة، بل في البذل والعطاء والتضحية. ومن هو راعي الرعاة؟ هو يسوع المسيح "كنتم خرافًا ضالِّين فاهتديتم الآن إلى راعي نفوسكم وحارسها" (2: 25). إلى "راعي الخراف العظيم ربِّنا يسوع" (عب 13: 20). نتعرَّف، وهو يقدِّم لنا الشرط الأساسيَّ للرعاية: أن نحبَّ أكثر. وأخيرًا تأتي التنبيهات لأنَّ العدد الكبير منَّا نسيَ أو تناسى المثال الذي وُضع أمامنا حين وُضعت يد الأسقف على رؤوسنا وقيل: "النعمة الإلهيَّة".

1. راعينا بذل حياته

وجهُ يسوع في رسالة بطرس الأولى، هو وجه الكاهن الذي يقدِّم الذبيحة، لا تلك الخارجة عنه، بل ذبيحة نفسه. وهو أيضًا "عبد الربّ" المتألِّم الذي تحدَّث عنه إشعيا فقال فيه: "حمل عاهاتنا، تحمَّل أوجاعنا... هو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل خطايانا... وبجراحه شفينا..." (53: 4-5). وهذا الذي دعاه الربُّ دعوة خاصَّة تحمَّل خطايا الكثيرين وبرَّرهم (آ11). سُحِق بالأوجاع، تألَّم فصار مثالاً للمؤمنين العائشين في الضيق والاضطهاد. وها نحن نتعرَّف إلى ذاك الذي بذل حياته من أجلنا ومن أجل خلاصنا، ليضع كلُّ راعٍ في الكنيسة نصب عينيه صورة راعي الرعاة.

منذ بداية الرسالة نقرأ العنوان: "إلى الذين اختارهم الله الآب بسابق علمه وقدَّسهم بالروح ليطيعوا يسوع المسيح ويتطهَّروا برشِّ دمه" (1: 2). مرَّتين يُذكر الدم في كلام بطرس. مرَّتين، هنا على مستوى ذبائح الكهنة مع عبارة "رشّ الدم"، وفي 1: 19 يُذكَر دمُ الحمل الذي يجمع في أكثر من صورة، حمل الفصح والحمل الذي تحدَّث عنه إشعيا. ثمَّ الحمل الذي ذكره يوحنّا المعمدان. وأخيرًا، الحمل الذي كان على الصليب ولم يُكسر له عظم.

أ‌- رشُّ الدم

مرَّات عديدة يُذكَر في التوراة، رشُّ الدم. فحين يُذبَح حمل الفصح، يأمر موسى: "ويأخذون من دمه، ويرشُّونه على جانبي الباب وعتبته العليا في المنازل..." (خر 12: 7). وما قيل عن عيد الفصح يقال عن عيد الفطير. قال موسى: "خذوا باقة زوفا واغمسوها في الدم الذي في الطست ورشُّوا منه على العتبة العليا وجانبي الباب، ولا يخرجْ أحدٌ منكم من باب منزله حتّى الصباح" (آ22). فرشُّ الدم يتمُّ بطريقتين: إمّا باليد وإمّا بغصن الزوفى. فحين أُبرم العهد، يوم صعد "موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ بني إسرائيل" (خر 24: 1)، قيل عن موسى: "أخذ موسى نصف الدم وصبَّه في أجران، ورشَّ النصف الآخر على المذبح" (آ6). فالدم يبني العلاقة مع الله. هنا تكرَّس المذبح. ولكن هذا لا يكفي. لهذا، بعد أن تلا موسى "كتاب العهد على مسامع الشعب" (آ7)، ووافقوا على ما سمعوه "أخذ موسى الدم ورشَّه على الشعب وقال: "هذا هو دم العهد الذي عاهدكم الربُّ به على جميع هذه الأقوال" (آ8).

فالدم له طابع مقدَّس، لأنَّه يدلُّ على الحياة. نقرأ في لا 17: 11: "فنفس الجسد هي في الدم، ولذلك جعلتُه لكم على المذبح لتكفِّروا به عن نفوسكم، لأنَّ الدم يكفِّر عن النفس". ففي الخطيئة "تموت" النفس. يصبح الإنسان في ذاته معَدًّا للموت. ولهذا يكون "الدم" ما يعيد الحياة إلى النفس. لهذا، حين تقدَّم الذبائح يُجعَل الدم على المذبح (تث 12: 27) بحيث يحمِّله الله قوَّة الحياة. فإذا كان الدم هو الحياة، كلُّ ما يلامس الحياة يرتبط بالله، الذي هو وحده سيِّد الحياة. هنا نفهم ما يتمُّ في القدَّاس، في الذبيحة الإلهيَّة. يقول الكاهن بفم المسيح: "هذا هو دمي، دم العهد الجديد". ولكنَّ الاختلاف كبير بين ما يُصنَع في العهد الأوَّل وما يُصنَع في العهد الثاني. في العهد الأوَّل يؤكل "اللحم". أمّا في العهد الجديد فيقول الكاهن: "هذا هو جسدي الذي يُبذَل لأجلكم". أي الربُّ يعطي ذاته بكلِّيَّتها، لهذا تكتفي ليتورجيّات عديدة بأن تعطي "الخبز" فقط للمؤمنين، فيتَّحدون بالربِّ يسوع. أمّا وجود الدم على المذبح بجانب الجسد، فدلالة على موت يسوع الذي سفك دمه. وحين يرشُّ الكاهن من الدم على الجسد، من الكأس على "البرشانة" ويرفع الاثنين معًا، يدلُّ على الاتِّحاد بين الاثنين، وبالتالي القيامة، لهذا يقف المؤمنون دلالة على مشاركة المسيح في قيامته.

في العهد القديم، الدم يرمز إلى العهد بين الله وشعبه ولهذا يقول الكاهن: "هذا هو دمي، دم العهد الجديد الذي يراق من أجلكم لمغفرة الخطايا". والدم الذي يرشُّ على المذبح يكرِّس المذبح فيصبح ملك الله. نقرأ مثلاً في نبوءة حزقيال: "هذه هي أحكام المذبح يوم تقيمه ليصعد المحرقة، ونرشُّ الدم عليه" (43: 18). هنا نفهم في العهد الجديد أنَّ المذبح يدلُّ على المسيح. ولهذا السبب ننحني أمامه وكأنَّنا ننحني أمام يسوع. لهذا يبخَّر المذبح في الوسط وعلى جانبيه في بعض الطقوس، وفي طقوس أخرى، على أربعة جوانب المذبح. فكلُّ زاوية من زوايا المذبح مقدَّسة، فهكذا قال الربُّ لحزقيال: "وتأخذ من دمه وترشُّه على القرون الأربعة وعلى أربع زوايا السطح وعلى الحافَّة من حولها، فتطهِّره وتكفِّره" (آ20). أي تنظِّفه من كلِّ ما يمكن أن يكون جاء عليه من غبار، ثمَّ تغطِّيه وكأنَّك تلبسه لباسًا ليتورجيًّا. أمّا وضع الصليب على المذبح وتبخيره فعادة جاءت من الغرب، ولم تكن موجودة أصلاً في الشرق. وكذا نقول عن بيت القربان حيث يُحفظ الجسد في بعض الطقوس، هي عادة جاءت من العالم اللاتينيّ. أمّا حفظ الجسد والدم في طقوس أخرى، فهو من أجل المرضى. وفي تقاليد مسيحيَّة أخرى، لا يُحفَظ شيء من الخبز والخمر، من الجسد والدم، في خطِّ ما قيل في سفر الخروج، يوم الفصح: "لا تُبقوا منه شيئًا إلى الصباح" (خر 12: 10).

أمّا كلامنا هنا، فيهتمُّ بالمذبح وبالدم الذي يُرشُّ عليه. تُركَت الصورة الملموسة التي وُجدَتْ في العهد القديم، وحلَّت محلَّها الصورة اللامنظورة. فالمسيح الذي مات، مات مرَّة واحدة. أمّا ذبائح العهد القديم فتتكرَّر. ودم المسيح الذي يعني حياة الله، فهي تحيي أجسادنا المائتة لكي نعبد الله الحيّ.

ب‌- دم الحمل

الحمل هو ذاك "الخروف الصغير" الذي عرفته جميع الحضارات السامية. هو البكر بلونه الأبيض الناصع والمجيد، الذي يدلُّ على قدرة الربيع. إنَّه يجسِّد ظفر التجديد في الكون وانتصار الحياة على الموت، سنة بعد سنة. من أجل هذا يكون الذبيحة التكفيريَّة التي تقدَّم من أجل خلاص الإنسان والجماعة. وإذ يقدِّم المؤمن الحملَ فكأنَّه يقدِّم نفسه لله، لأنَّ كلَّ مؤمن إنَّما هو حمل (أو: نعجة) الله. ونقرأ إش 40: 9ي

9   ها هو الربُّ إلهكم

10  آتٍ وذراعُه قاضية.

11 يرعى قطعانه كالراعي

ويجمع صغارها (الحملان) بذراعه.

يحمل الحملان في حضنه

ويقود مرضعاتها على مهل.

أوَّلاً: عبد الربِّ في إشعيا

نبدأ بقراءة عن هذا الشخص السرِّيّ الذي اسمه "عبد الربّ" وعابده. أطلَّت الصورة أوَّلاً مع إرميا الذي اضطهده خصومه تشبَّه نفسه "بحمل وديع يُساق إلى الذبح" (11: 11). استعادت النبوءة الإشعيائيَّة هذه الصورة وطبَّقتها على "عبد الربّ" الذي مات لكي يكفِّر عن خطايا شعبه.

كنعجة تُساق إلى الذبح،

وكحمل صامت أمام الذين يجزُّونه

لم يفتح فمه (53: 7).

دلَّ هذا النصُّ على التواضع والصبر أمام الاضطهاد يحتمله إنسانٌ بريء:

أدير ظهري للضاربين

وخدِّي لناتفي اللحى

وأحتمل التعيير والبصق (50: 6).

هذا الموضوع كان مناسبة حوار مع وزير ملكة الحبشة، فانطلق منه فيلبُّس أحدُ السبعة وتحدَّث عن مصير المسيح. قرأ هذا الوزير إش 53: 7-8 ونحن نورد فقط آ8:

8   أذلُّوه وسلبوا حقَّه

حياته زالت من الأرض

فمن يخبر عن ذرِّيَّته؟

"فقال الرجل لفيلبُّس: "أخبرني من يعني النبيُّ بهذا الكلام. أيعني نفسه أم شخصًا آخر؟" فبدأ فيلبُّس من هذه الفقرة من الكتاب يبشِّره بيسوع" (أع 8: 34-35، بعد قراءة إشعيا في آ32-33) جاء كلام فيلبُّس في خطِّ الأناجيل التي تأمَّلت في آلام المسيح على ضوء هذه النصوص الإشعيائيَّة حول "عبد الربّ". فشدَّد متّى على صمت يسوع أمام المجلس الأعلى: "قام رئيس الكهنة وقال ليسوع: "أما تجيب بشيء؟ ما هذا الذي يشهدان عليك؟" فظلَّ يسوعُ صامتًا" (26: 62-63). وكما كان يسوع صامتًا "لا يقول كلمة" (مر 14: 61) لكي يدافع عن نفسه أمام رؤساء الكهنة، كذلك كان أمام بيلاطس الذي سأله أكثر من سؤال. "أمّا يسوع فما أجابه بشيء" (يو 19: 9).

في هذا الإطار نستطيع أن نقرأ كلام يوحنّا المعمدان أمام تلاميذه على دفعتين... وفي الغد رأى يوحنّا يسوع مقبلاً إليه، فقال: "ها هو حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم" (يو 1: 29). وأنهى يوحنّا كلامه في هذه المناسبة الأولى: "وأنا رأيت وشهدتُ أنَّه هو ابن الله" (آ34). أجل هذا الحمل الوديع. هذا الإنسان الذي يُتَّهم وهو بريء، لا يردُّ على الاتِّهامات لأنَّه ضعيف. فهو الله وابن الله وقدرته لامتناهية. إنَّما هو أراد أن يمضي طوعًا إلى الموت لأنَّه "أحبَّ خاصَّته وأحبَّهم إلى الغاية" (يو 13: 1). أراد أن يكون الحمل الذي يكفِّر عن خطايا العالم. وما قاله المعمدان مرَّة أولى، أعاده موجزًا في المرَّة الثانية: "هذا هو حمل الله" (يو 1: 35). الحمل الذي لا عيب فيه ولا دنس. في الطقس اللاتينيّ، يدعو الكاهن المؤمنين إلى المناولة: "هذا هو حمل الله...". وسار في هذا الخطِّ الطقس المارونيُّ مدَّة طويلة، ليعود إلى الطقس الشرقيّ: "الأقداس للقدِّيسين". أي جسد المسيح ودمه للذين تقدَّسوا بالعماد واستعدُّوا استعدادًا مباشرًا، بحسب نصيحة الرسول: "فليمتحن كلُّ واحد نفسه، ثمَّ يأكل من هذا الخبز ويشرب من هذه الكأس، لأنَّ من أكل وشرب وهو لا يراعي جسد الربِّ، أكل وشرب الحكم على نفسه" (1 كو 11: 28-29).

ب‌- الحمل الفصحيّ

ليلة الخروج من العبوديَّة، أمر موسى الشعب بأن يذبحوا حملاً قبل الانطلاق. يستفيدون من ضوء الليل والقمر بدرٌ. قال: "في العاشر من هذا الشهر (الشهر الأوَّل في الحساب البابليّ، نيزان الذي يقابل آذار – نيسان) يأخذ كلُّ واحد حملاً واحدًا عن أهل بيته" (خر 12: 3). "يكون صحيحًا، ذكرًا، ابن سنة" (آ5). يأكلونه في المساء "مشويًّا بنار" (آ9). يرشُّون من دمه على الخيمة وهكذا ينجون من "المُهلك".

اتَّخذ دم الحمل قيمة فدائيَّة. قالت التقاليد: "بسبب دم عهد الختان، وبسبب دم الفصح، نجَّيتكم من مصر"، قال الربُّ. فبفضل دم الحمل الفصحيّ، نال الفداءَ الشعب العبرانيُّ من العبوديَّة، وصاروا "مملكة كهنة وأمَّة مقدَّسة" (خر 19: 6). ارتبطوا بالله بواسطة عهد تشرق عليه شريعةُ موسى.

حملُ الفصح رفع خطيئة شعبه. وحمل الله، يسوع المسيح، رفع خطيئة العالم. حمل الفصح يذبحه ربُّ البيت بانتظار أن يذبحه الكهنة في الهيكل، أمّا حمل الله فهو من قدَّم نفسه ذبيحة على ما قال الرسول: "أحبَّني وضحَّى بنفسه لأجلي" (غل 2: 20). كما أنَّه في محبَّته صار كفَّارة عنّا، ولا عنّا فقط، بل عن العالم كلِّه. هذا الحمل مات على الصليب ساعة كانت تُذبَح الحملان في الشعب اليهوديّ. وكما أنَّ حمل الفصح لا يُكسَر له عظم (فعظامه طريئة) كما قالت الفريضة (خر 12: 46؛ عد 9: 12؛ رج مز 34: 21)، هكذا الحمل الإلهيّ. قال إنجيل يوحنّا: "طلب اليهود من بيلاطس أن يأمر بكسر سيقان المصلوبين وإنزال جثثهم عن الصليب" (19: 31). فعلوا ما أمروا به بالنسبة إلى لصَّي اليمين والشمال، "ولمّا وصلوا إلى يسوع وجدوه ميتًا، فما كسروا ساقيه. ولكنَّ أحد الجنود طعنه بحربة في جنبه... وحدث هذا ليتمَّ الكتاب: لن يُكسَر له عظم" (آ33، 36).

بهاتين الصورتين رأى التقليد المسيحيُّ في المسيح "الحمل الحقيقيّ"، وصُوِّرت مهمَّته الفدائيَّة في الفقاهة العماديَّة التي هي في خلفيَّة الرسالة إلى بطرس. فهذا العمل "افتدانا من سيرتنا الباطلة التي ورثناها عن آبائنا، لا بالفاني من الفضَّة أو الذهب، بل بدم كريم دم الحمل الذي لا عيب فيه ولا دنس، دم المسيح" (1 بط 1: 18-19). وصاحب الرسالة يدعو المؤمنين للاقتداء بهذا "الكاهن" الذي "تألَّم من أجلكم وجعل لكم من نفسه قدوة لتسيروا على خطاه: ما ارتكب خطيئة ولا عرف فمُه المكر، ما ردَّ على الشتيمة بمثلها، بل أسلم أمره للديان العادل، وهو الذي حمل خطايانا في جسده على الخشبة حتَّى نموت عن الخطيئة فنحيا للحقّ، وهو الذي بجراحه شفيتُم" (2: 21-24).

ج- مثله يكون الكهنة

أوردنا نصوص رسالة بطرس وما أردنا أن نتوسَّع فيها، بعد أن تحدَّثنا عن دم الذبائح التي كانت تقدَّم عن الشعب، وصولاً إلى الذبيحة الوحيدة التي لا ذبيحة بعدها. "فالمسيح نفسه مات مرَّة واحدة من أجل الخطايا، مات وهو البارُّ ليقرِّبكم إلى الله، مات في الجسد (ساركس، اللحم والدم)، ولكنَّ الله أحياه في الروح" (3: 18) ومن يقرِّب المؤمنين من الله؟ الكاهن. لو امتلأت الكنيسة من المؤمنين ولم يوجد كاهن، هل يمكن أن يشاركوا في الذبيحة؟ كلاَّ. مائدة الكلمة مفتوحة والحمد لله. أمّا مائدة الجسد والدم... هذا يعني أهمِّيَّة الكاهن في الجماعات المسيحيَّة. قال أحد الكهنة القدِّيسين: اتركوا رعيَّة بلا كاهن عشر سنين، ماذا يحصل لها؟ صارت خرافًا مشتَّتة لا راعي لها. وغطِّى العشب أبواب الكنيسة، وأكل العفن نوافذها.

ما هو أساس الكهنوت؟ بعضهم يقول: أريد أن أخلِّص نفسي. ولكن يُطرَح السؤال: هل الكاهن وحده يخلِّص نفسه؟ والجواب كلاّ. أغار من الكاهن حين يرفع الخبز والخمر في القدّاس، ثمَّ يوزِّع جسد المسيح ودمه على المؤمنين. شيء رائع. أحبُّ أن أعلِّم الأولاد التعليم المسيحيّ وأرشدهم إلى طريق الله. لا بأس. ولكن غير الكاهن يستطيع أن يفعل الشيء عينه... ويبقى السؤال مطروحًا: ما هو الأساس؟ هنا نسمع الحوار بين سمعان بطرس ويسوع (يو 21: 15)

- يا سمعان بن يوحنّا، أتحبُّني أكثر ممّا يحبُّني هؤلاء؟

- نعم، يا ربُّ، أنت تعرف أنِّي أحبُّك.

- إرع خرافي.

وعاد الحوار أيضًا مرَّتين. وفي المرَّة الثالثة، حزن بطرس لأنَّ يسوع سأله مرَّة ثالثة: "أتحبُّني؟" (آ7). أجل، الأساس هو المحبَّة، ومحبَّة تفوق محبَّة سائر المؤمنين، لأنَّ العطاء المطلوب لا حدود له. ويكفي أن نتذكَّر بعض ما قاله بولس عن أتعابه: "جلدني اليهود خمس مرَّات تسعًا وثلاثين جلدة، وضربني الرومانيُّون بالعصي ثلاث مرَّات، ورجمني الناس مرَّة واحدة، وانكسرت بي السفينة ثلاث مرَّات. وقضيتُ نهارًا وليلة في عرض البحر..." (2 كو 11: 24-25). ويتواصل كلام الرسول حول السجون والتعرُّض للصوص والجوع والعطش... وفي أيِّ حال، حين تعمَّد لم يعده يسوع بالراحة والشرف الكبير والعزَّة والكرامة. بل قال عنه لحنانيا: "سأريه كم يجب أن يتحمَّل من الآلام في سبيل اسمي" (أع 9: 16). هل أنت مستعدٌّ يا بولس على مثل هذه المحبَّة وما يتبعها من تعيير واضطهاد؟ نعم يا ربّ. أنت تعرف أنِّي أحبُّك، بل استطاع أن يقول: أنت تعرف كم أحببتك بعد أن أتممتُ سعيي وحافظت على إيماني (2 تم 4: 7). وبطرس ذاك الشابُّ المندفع الذي لا شيء يوقف حماسه، سمع أيضًا كلامًا قاسيًا: "يشدُّ غيرك حزامك ويأخذك إلى حيث لا تريد" (يو 21: 18). هذا على المستوى البشريّ حيث الواحد منّا يحاول أن يبتعد عمّا يزعجه ويؤلمه. ولكنَّ بطرس أجاب نعم على أسئلة يسوع الثلاثة: نعم. أنا أحبُّك وأحبُّك أكثر من هؤلاء. عندئذٍ سمع النداء الأساسيّ: "اتبعني" (آ19). إلى أين؟ فهل من طريق سوى طريق الصليب؟

في هذا الإطار جاءت رسالة بطرس الأولى: "أمّا الكهنة الذين أنا بينكم فأناشدهم، أنا الكاهن مثلهم" (5: 1). أنا لا أعطيكم طريقًا جديدة قيل لي عنها، أنا لا أعطيكم نصائح بعيدة عن حياتي. قال الرسول: "أنا الشاهد لآلام المسيح". نحن رافقنا يسوع خلال حياته على الأرض، في بستان الزيتون، حتّى الصليب، كما قال لنا القدِّيس لوقا: "وكان جميع أصدقاء يسوع، والنساء اللواتي تبعنه من الجليل، يشاهدن هذه الأحداث عن بعد" (23: 49). لا يحقُّ لهم أن يقتربوا. ولكنَّهم حاضرون "يشاهدون". تلك هي الطريق التي تحدَّث عنها يسوع لتلميذَي عمّاوس: "كان يجب على المسيح أن يعاني هذه الآلام فيدخل في مجده" (لو 24: 26). لا. الآلام ليست نهاية الطريق. لهذا قال بطرس: "وشريك المجد الذي سيظهر قريبًا. ذاك ما اختبره بطرس ويعقوب ويوحنّا خلال حياة يسوع العلنيَّة. أنبأهم الربُّ: "يجب على ابن الإنسان أن يتألَّم كثيرًا، وأن يرفضه الشيوخ ورؤساء الكهنة ومعلِّمو الشريعة، وأن يُقتَل وفي اليوم الثالث يقوم من بين الأموات" (لو 9: 22). ودعاهم لكي يحملوا الصليب كلَّ يوم ويتبعوه (آ23). وحالاً "بعد هذا الكلام... تجلَّى أمامهم وصارت ثيابه بيضاء لامعة" (آ28-29).

سار بطرس في خطِّ يسوع ومات مثله، ولكنَّه مُجِّد كما مُجِّد بولس كما قال سفر الرؤيا بطريقة رمزيَّة. تحدَّث عن "شاهدَين" قُتلا "ولبثت جثَّتاهما مطروحتين في ساحة المدينة العظيمة" (11: 8) أي في رومة. ولكنَّهما قاما "وصعدا إلى السماء في سحابة بمشهد من أعدائهما" (آ12). آلام ومجد لكلِّ من يريد أن يسير في طريق الربِّ يسوع ويحبُّه "أكثر من هؤلاء". ماذا طلبت الرسالة من الكهنة؟

"أن يرعوا". هم رعاة على مثال الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن أحبّائه. هم رعاة لا أجراء يعملون لقاء أجرة. إن عملنا من أجل الناس، نلنا المكافأة من الناس. وإن عملنا من أجل الله، نلنا المكافأة من الله. وكم نكون تعساء إن قيل عنّا: "أخذوا أجرهم" (مت 6: 6). أهذه هي المجّانيَّة التي دُعيَ إليها الرسل؟ هم ما نسوا أنَّ الفاعل يستحقُّ أجرته. ولا نسوا اهتمام الله بأصغر أولاده، وبالأحرى بالذين تركوا كلَّ شيء وتبعوه.

"يرعوا رعيَّة الله". الفرق بعيد بين "رعيَّتي" أنا ورعيَّة الله. رعيَّتي أستثمرها، أستغلُّها، أترأَّس عليها. فيحدِّثني النبيّ حزقيال كصدى لصوت الربّ: "تأكلون اللبن، تلبسون الصوف، تذبحون الخروف السمين" (34: 3). هكذا تتميَّز رعيَّة عن رعيَّة بحسب "المدخول" الذي فيها. ما أتعس مثل هذا السؤال بطرحه كاهن على أخيه! لو أنَّ خوري آرس درس إمكانيَّة الرعيَّة التي أُرسل إليها، لما كان مضى إليها. هو مجنون! أمّا الكهنة اليوم فهم عقلاء، يعملون ألف حساب وحساب، ويتعلَّقون بالرعيَّة "الغنيَّة" ولا يتركونها مهما كان الثمن. الرعيَّة "رعيَّتي" لا "رعيَّة الله". كم تكون دينونتنا قاسية حين يقول الربّ: "أستردُّ غنمي... فلا يرعى الرعاة أنفسهم من بعد، وأنقذ غنمي من أفواههم فلا تكون لهم مأكلاً" (آ10).

الرعيَّة رعيَّة الله وهي أمانة في أعناقنا. جعلها الله في عنايتنا. فالكاهن أبٌ وأمّ. عينه على الجميع: الضعيف، المريض، المكسور، الشارد، المفقود... نحن نلتقي الناس في كنيسة الأحد. أو بالأحرى نعرف بعضًا منهم. ونغشُّ نفوسنا: الكنيسة ملآنة. حسنًا. كم، ثلاثمئة، أربعمئة... وأين الآخرون. وهل الذين يأتون ألتقي بهم، أسلِّم عليهم، أحدِّثهم، أعرف صعوباتهم وأفراحهم وأحزانهم. هم "الحشد الكريم". المهمُّ أنَّ "الصينيَّة" كانت "حرزانة" الحمد لله. هل أعرف عدد أبناء وبنات رعيَّتي وكم هم الذين يأتون إلى القدَّاس؟ قال الراعي الصالح: "هناك خراف أخرى. فهذه يجب أن آتي بها إلى الحظيرة فتكون الرعيَّة واحدة بإمرة راعٍ واحد" (يو 10: 16).

قال الربُّ بفم نبيِّه: "تسلَّطتم على الخراف بقسوة وعنف، فتبعثرت من غير زرع" (حز 34: 4-5). أين هو الراعي "الوديع والمتواضع القلب"؟ أين هو ذلك الذي لا يكسر القصبة المرضوضة ولا يطفئ السراج مهما ضعف نوره؟ ويواصل الله: "لا من يسأل ولا من يبحث" (آ6). وماذا يكون جوابنا في وقت الحساب؟

العناية. مثل ممرِّضة (أو: طبيب) في المستشفى. ثمَّ "الحراسة". يأتي الذئب، يأتي السارق. أين هو الراعي؟ كان نائمًا، أو هو خاف فهرب، ويحسب في قلبه أنَّه في أمان وإن حصل ما حصل للخراف. وتقابل الرسالة بين الذاهب إلى عمله "طوعًا" أو "مكرهًا". عندئذٍ نزرع في الشحِّ كما يقول الرسول ونحصد في الشحّ. إذا مضينا مكرهين إلى عملنا. ويغيب الفرح، كما تغيب الحماسة. نشبه عمَّالاً ينتظرون بصبر نهاية النهار لكي يقبضوا أجرهم. لا قدرة لي ولا حيلة. وهذا يكون خصوصًا حين يُرسَل الكاهن إلى رعيَّة (أو عمل) قيل له عنها الكثير الكثير. إذا الراعي لا يحبُّ الرعيَّة التي يمضي إليها، فعبثًا يحبُّونه. وتكون الحواجز بين الكاهن وبين المؤمنين. ولا يطلب سوى أن يترك هذا العمل. وتتابع الرسالة بأنَّ الراعي يحسُّ بالإكراه أمام "مكسب خسيس" (5: 2). فلا يرتاح لعمله.

وينهي بطرس كلامه إلى "الكهنة" الذي يعدُّ نفسه واحدًا منهم: "كونوا قدوة للرعيَّة" (آ3). قال بولس: صرنا منظرًا للناس. وطلب من المؤمنين: اقتدوا بي كما أنا أقتدي بالمسيح. وشدَّد على هذه الصفة أكثر من مرَّة: "أنتم تعرفون كيف يجب أن تقتدوا بنا" (2 تس 3: 7). وإذ تصرَّف بولس كما تصرَّف كان هدفه: "لتكون لكم قدوة تقتدون بها" (آ9). يصلِّي الكاهن فيصلِّي الشعب معه. يكون الكاهن محبًّا للسلام فتتبعه الرعيَّة. يحترم الجميع كبارًا وصغارًا، فيكون حقًّا المحترم. يحدِّث الشيخ ويعتبره أبًا له ويأخذ بنصيحته. يكون مع الشابِّ أخًا له، لا ذاك الذي يحسب نفسه فوق الشبّان في رعيَّته. كلُّ امرأة هي أمُّه وكلُّ فتاة أخته. هكذا يكون الكاهن قدوة وبالتالي يكون محبوبًا. وتنجح رسالته أيَّ نجاح فيعمُّ الفرح في قلبه وفي الذين حوله. ولكنَّ هذا لا يعني أنَّ الصعوبات اختفت، وأنَّ لا خصوم له، وأنَّه بمنأى عن كلِّ خطأ. يحب أن لا ينسى أنَّ الصليب هو رفيقنا الدائم، ولكنَّنا لا نحمله وحدنا، بل هناك من يكون لنا كما كان سمعان القيرينيُّ مع يسوع، بل يسوع نفسه يضع يده بيدنا على المحراث فنفلح كرم الربّ، ويرسل روحه فيعطينا الكلمة التي تبني الجماعة وتلقي الوفاق والمحبَّة.

الخاتمة

نحن الرعاة نتطلَّع إلى راعي الرعاة. تواضعه يعلِّمنا. وداعته نور لنا. استعداده لبذل ذاته نداء لنا. هو الطريق الذي نسير فيه فيقودنا إلى الحقِّ والحياة. سفك دمه لأجل رعيَّته ونحن نشاركه في كلِّ قدَّاس نحتفل به، فنقدِّم ذواتنا ونقدِّم رعيَّتنا فيصبح الصليب حاضرًا اليوم على مذبحنا، وتكون كلمة الإنجيل مدوِّية في قلوبنا. "ومتى ظهر راعي الرعاة ننال إكليل المجد الذي لا يذبل" (5: 4). فيا لها من سعادة سعادتنا!

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM