الفصل الحادي والعشرون أشعيا النبي القسم الأول

الفصل الحادي والعشرون

أشعيا النبي
القسم الأول

أشعيا هو أعظم أنبياء العهد القديم. وُلد حوالي سنة 765، فبدأ رسالته في السنة التي توفي فيها الملك عزيا (740)، وتابعها خلال أربعين سنة ونيّف. كان له تلاميذ عديدون جعلوا من كتابه أطول أسفار التورا ة (66 فصلاً).
ميّز الشرّاح في هذا الكتاب ثلاثة أقسام تنتمي إلى أزمنة مختلفة.
الأول (ف 1- 39) يحدّثنا عن شخص أشعيا ورسالته في القرن الثامن.
الثاني (ف 40- 55) ألّفه تلميذ عاش في زمن المنفى، في القرن السادس. سمّي أشعيا الثاني.
الثالث (ف 56- 66) هو عمل كاتب (أو كتّاب) عاش بعد العودة من المنفى، في زمن الفرس. وقد سمّي أشعيا الثالث.
ولكن أخذ عدد من العلماء يتحدّثون عن كتاب واحد أعيدت قراءته على ضوء الأحداث لا سيّما الحياة في المنفى والعودة من المنفى مع سيطرة الفرس (وكورش) على بلاد الشرق. ومهما يكن من أمر، فسفر أشعيا كتاب متشعبّ يفرض علينا أن ندرس كل نص بمفرده ونحاول أن نكتشف الإطار الذي دوّن فيه، فنؤوّنه بالنسبة إلى حياتنا اليوم.
أما نحن، ومن أجل سهولة العرض، فسنتحدّث في هذا الفصل عن أشعيا الأولى، ونترك إلى فصلين لاحقين الحديث عن أشعيا الثاني، وأشعيا الثالث.
يمتد أشعيا الأول على 39 فصلاً ويتركّز على الحرب الأرامية الإفرائيمية في إطار حكم عزيا ويوتام وأحاز وحزقيا، ملوك يهوذا.

أ- دعوة أشعيا
قصة أشعيا هي قصة رجل أرستوقراطي هزّه نداء الرب. هذا النداء سمعه أشعيا في السنة التي توفّي فيها الملك عزيا، سنة 740 ق. م. (6: 1). نقرأ الخبر الذي دوّن فيما بعد، فنكتشف من خلاله كلمات وصور خاصّة بالعصر، يقينَ النبي بأن الله أرسله في مهمّة لدى شعبه (ف 6).
كانت المملكة آنذاك في فترة من الحيرة والضياع. حلّ يوتام محل عزيا على عرش يهوذا. وفي ذلك الوقت، جعل تجلت فلاسر الثالث من أشورية أعظم قوّة في العالم. ماذا سيحصل لمملكة يهوذا الصغيرة أمام هذا التحدي التاريخي الرهيب؟
إكتشف أشعيا في رؤياه أن ملك العالم الوحيد هو الرب الذي "يملأ مجده الأرض كلها". إذن، هو يستطيع أن يفرض نفسه على سلطة أشورية الواسعة، بل يستعمل هذه السلطة ليحقّق مشاريعه. أمام الرب، لا طابع قدسياً لأحد. فهو وحده القدوس الذي ترتعد أمامه السرافيم فتخفي وجوهها.
إلتقى أشعيا بالله، فجعل منه هذا اللقاء إنساناً واعياً لخطيئته وخطيئة شعبه. ومع ذلك، فقد أرسله الله: "إذهب وقل لهذا الشعب" (6: 9). حين يُرسل الله شخصاً من الأشخاص، فهو يفعل من أجل ارتداد الشعب وخلاصه. أما في وضع أشعيا، فنحسّ وكأننّا أمام مهمة مستحيلة ولا فائدة منها، أقلّه في وقت قريب (6: 9- 13).

ب- بدايات رسالته
جعل نداء الله من أشعيا إنساناً جديداً. ما رآه، هو الأرستوقراطي، جعله يثور: وقاحة العظماء، سحق الضعفاء، تكديس الأموال لدى عدد قليل من الناس. فتكلّم مثل عاموس، إبن الريف، قال: "سينخفض تشامخ الانسان وينحطّ ترفّع البشر" (2: 17). "ما بالكم تسحقون شعبي وتطحنون وجوه (تدوسون بأرجلكم كرامة) البائسين" (3: 15)؟ "ويل للذين يضمّون بيتاً إلى بيت ويَصِلون حقلاً بحقل، حتى لا يبقى مكان لأحد، فيسكنون في الأرض وحدهم، (5: 8).
وتجرأ فسدّد سهامه أيضاً على الأعياد والصلوات والذبائح. لأن كل هذا يرافقه الجور والظلم والضيق. "إذا بسطتم أيديكم للصلاة أحجب عينيّ عنكم، دمان أكثرتم من الدعاء لا أسمع لكم، لأن أيديكم مملوءة من الدماء" (1: 15). وما يجب أن نفعله، وما ينتظره اللّه منا هو تبدّل في القلوب، تحوّل في المحجتمع. "كفّوا عن الإساءة. تعلّموا الأحسان (عمل الخير) واطلبوا العدل. أغيثوا المظلوم (أو: أوقفو الظالم عند حدّه)، وأنصفوا اليتيم، وحاموا عن الأرملة" (1: 16- 17).
عرف أشعيا محيط الحكماء والكتبة وسائر المستشارين الملكيين الذين يوجّهون سياسة يهوذا. فانتقدهم حين رأى أن مشاريعهم تحيد عن "مشروع" الله (5: 19؛ 30: 1). وفي يوم من الأيام، تخلّى أشعيا عن كرامته، فسار في شوارع أورشليم حافياً عرياناً ليقوم برسالته (20: 2).
رغم الظواهر، لم يكن أشعيا وحده. فعائلته تشاركه في عمله. سمى امرأته "نبيّة" (8: 3) وأعطى أولاده أسماء رمزية، وعنهم قال: "أنا والأبناء الذين وهبهم لي الرب، آيات ومعجزات في أرض إسرائيل" (8: 18، أي ندلّ على الرب في أرض إسرائيل). وكان لأشعيا تلاميذ طلب منهم أن يؤدّوا الشهادة ويحفظوا التعليم (8: 16).

ج- أشعيا وأزمة سنة 734
ترتبط تدخلاّت أشعيا الرئيسية بالواقع اليومي الذي تعيشه المملكة، بالإطار الدولي الذي عرفه عصره.
أول تدخّل له كان سنة 734. سار ملك دمشق وملك السامرة على رأس حلف يقف سراً في وجه أشورية. وإذ أرادا تقوية الإمكانيات الحربية وتأمين الجبهة الجنوبية، حاولا أن يفرضا على ملك يهوذا بأن ينضمّ إليهما. رفض أحاز مخطّطاً يسعى لإزالة سلالة يهوذا: يحل محل أحاز ملك يختاره الحلف: إبن طابئيل (6:7، من دمشق أو من صيدا). وجُهّزت على أورشليم حملة ألقت الرعب في القلوب. هل ستخسر عائلة داود السلطة؟ هل نستطيع أن نثق بعدُ بمواعيد الله؟
تدخلّ النبي ساعة صار الخطر قريباً. كان الملك مهتماً بمراقبة تأمين المياه للمدينة خلال الحصار. فجاءه كلام النبي نداء إلى الثقة بالرب: ما يخافه الجميع "لا يكون ولا يقوم" (7: 7). هكذا تكلّم إنسان لم يخسر شيئاً من ثقته بمواعيد أعطيت في الماضي لداود ونسله (2 صم 7). ولكن النبي عاد فقال: "إن لم تؤمنوا (إن لم يكن عندكم إيمان) لن تأمنوا" (لن تكونوا في أمان) (7: 9). هذا يعني أن التزام الرب تجاه شعبه والسلالة الملكية ليس موقفاً آلياً أو سحرياً. إنه يتطلّب إيمان الناس. فأشعيا يرى أن خلاص أحاز وبيته يرتكز على أمانة الله لمواعيده، كما يرتكز على جواب إيمانه.
ولكن الملك خيّب أمل النبي. دعاه لكي يطلب من اللّه آية تدلّ على حضوره وعلى عمله في هذه المحنة، فتراجع. فهو لا يتكّل على الرب (7: 10- 12). ويعلمنا التاريخ أن أحاز دعا ملك أشورية ليعينه على تفادي الكارثة. أدار ظهره لمعاهدة مع الرب وحده، وفضّل التبعية لملك أرضي (2 مل 16: 7).
في هذه الظروف، ماذا ينتظر أشعيا من أحاز؟! غير أنه عرف أن الله أمين لمواعيده، فتطلّع إلى شخص آخر من سلالة داود يضع فيه آماله. إسمه الرمزي عمانوئيل (أي اللُّه معنا) عو علامة أمانة الله هذه (7: 14). إن ولادة حزقيا، خلف أحاز، ألهمت النبي إعلاناً عن السعادة سيعبّر فيما بعد عن انتظار الشعب للمسيح، والإنجيل ليسوع المسيح.
بعد أن فشل أشعيا في مهمته لدي أحاز، إعتزل المسرح السياسي وعاش مع أصدقائه وأفراد عائلته (8: 16- 18). صار يهوذا محمية أشورية. غير أنه حصلت أحداث دولية خطيرة منعت النبي من اللامبالاة. سقطت دمشق في يد تجلت فلاسر سنة 732 (17: 1- 6). ودمّرت السامرة سنة 721 (28: 1- 4).

د- أشعيا والملك حزقيا
كان حزقيا، خلف أحاز، أفضل من أبيه. حاول أن يتخلّص من قبضة الأشوريين ويبدأ إصلاحاً دينياً (2 مل 18: 1- 7). لا نعرف الدور الذي لعبه أشعيا في هذا الإتجاه الجديد، ولكنه وافق عليه وقد يكون ألهمه.
فالخلاص يكمن في نظر النبي في الوعد الذي يرافق سلالة داود المالكة في أورشليم، وفي الإيمان بهذا الوعد. هذا اليقين عبرّ عنه النبي مستعيناً بصورة الحجر (حجر الغلق) الذي يسند البناء فلا يقع: "ها أنا أضع في صهيون حجراً، حجر زاوية (أو حجر غلق) كريماً، أساساً راسخاً، فمن آمن به لا ينهزم (28: 16).
إن بداية عهد حزقيا ألهمت أشعيا رجاء متجدّداً: الله سيحمي أورشليم (31: 5). فيها يملك الحق والعدل (32: 1)، فيها سيسمعون للأنبياء (32: 3).
ولكن ما زالت الأخطار تهدّد المملكة. أراد رجال السياسة أن يواجهوا أشورية، فبحثوا عن حلف مع مصر التي ما زالت تحرّك الممالك الصغيرة ضد العدو الآتي من الشمال. وكانت ردّة الفعل عنيفة من قبل أشعيا: المعاهدة مع مصر هي "معاهدة مع الموت" (28: 18). لا بد من سياسة "حياد" واستقلال. هكذا ينجو الشعب من غضبة الأشوريين، بل يكون أميناً لمتطلّبات الإيمان بالله وحده: "ويل للنازلين إلى مصر طلباً للمعونة، المعتمدين على الخيل، المتوكّلين على كثرة المركبات، وجبروت الفرسان. الويل لهم! لا يلتفتون إلى قدوس إسرائيل ولا يلتمسون الرب" (3: 1).
وسيدلّ وَلْي الأحداث أن هذه التنبيهات كانت مبنيّة على الواقع.

هـ- أشعيا والهجمة الأشورية سنة 701
وفي النهاية، سقط حزقيا في التجربة وسلّم أمره إلى مصر. فكانت النتيجة إجتياحاً مريعاً قام به سنحاريب الأشوري سنة 701. إحتل 46 قلعة قبل أن يضع الحصار أمام العاصمة. حصّن حزقيا أورشليم، وحفر في الصخر قناة تحت الأرض لتصل إلى داخل الأسوار مياه نبع جيحون (وجدت مدوّنة تتحدث عن حفر "قناة حزقيال"). هل ستسقط أورشليم كما سقطت أختها السامرة منذ عشرين سنة؟
وعبرّ أشعيا مرة أخيرة عن وجهة نظره. فأشورية هي (قضيب يستعمله الرب ليؤدّب شعبه الخائن (10: 5). ولكن هل نعتبر أن محاولات الامبريالية الأشورية الحمقاء ولا سيما الهجوم على أورشليم، توافق مخطط الله؟ هذا مستحيل. وأعلن أشعيا بجرأة لا تصدّق، أن سنحاريب سيفشل وأن أورشليم ستنجو من الكارثة (ف 37).
لا نعرف بالضبط كيف توالت الأحداث سنة 701. تتحدّث التوراة عن تدخل علوي "لملاك الرب". وأشار المؤرخ اليوناني هيرودوتس عن هجمة من الجرذان (أي: الوباء) أجبرت الملك الأشوري على العودة إلى بلاده: مهما يكن من أمر، نجت أورشليم من الكارثة، وحافظ حزقيا على عرشه بعد أن دفع الجزية للأشوريين. كان النبي على حق فيما قال، ولهذا عظمت مكانته لدى الشعب.
ماذا حصل لأشعيا بعد سنة 701؟ يقول تقليد يهودي إنه نشر بالمنشار في أيام منسّى، الملك المضطهد (عب 11: 37).

و- أشعيا رجل الإيمان
تحدّث أشعيا مراراً عن الإيمان. فالإيمان هو عكس الخوف والرعدة. الإيمان هو الشرط الضروري لكي نتابع الجهاد والعمل بشكل فردي وجماعي: "إن لم تؤمنوا لن تأمنوا" (7: 9).
لقد جاء إيمان أشعيا وهدوءه وجرأته من وعيه بأن له في الرب السند المتين الذي لا يتزعزع. فاللّه هو في نظره العظيم والمهيب والذي لا نفهم أعماله في بعض الأوقات. هو القدوس. ولكنه أيضاً ملتزم في التاريخ ولا سيما في تاريخ شعبه. هو قدوس إسرائيل. فالسياسة التي يتطلّع إليها أشعيا هي سياسة مؤسّسة على الإتكال على الله، وهذا ما جعل البعض يقولون: هي سياسة لا واقعية. إستشفّ للشعب مستقبلاً بقدر ما يشكّل هذا الشعب جماعة من المؤمنين. هذا من جهة. ومن جهة ثانية أفهمت خبرته الشخصية أن الأقلية، أن "البقية" وحدها، ستقبل بأن تحيا هذا الإيمان (8: 11- 15)، بقية الوضعاء وصغار القوم (29: 19).
وأخيراً تكوّن إيمان أشعيا بما سمّي الإيديولوجيا الداودية. لقد اعتقد كل الإعتقاد أن المواعيد التي أعطيت لداود ونسله هي كلمة الله. قد يكون الملك الحالي مخيّباً للآمال، كما كان أحاز وحزقيا. ولكن أشعيا يترجّى ملكاً مثالياً ومملكة مثالية، وعالماً جديداً تتحوّل فيه الأسلحة إلى أدوات من أجل السلام والإزدهار (2: 2- 5). سيعود الشعب إلى هذا الرجاء ويتعمّق فيه حتى مجيء يسوع المسيح.

ز- كتاب أشعيا الأول
لم يُولد هذا الكتاب دفعة واحدة. ثم إن فصوله لا تتبع الترتيب الزمني.
نعرف أن أشعيا كتب أو أملى كلماته حين تدخلّ للمرة الأولى في سياسة شعبه سنة 734 (8: 16). فنكون أمام 6: 1- 9: 6. ونعرف أيضاً أنه كان لأشعيا تلاميذ، فجمعوا مجمل أقواله. إلا أن ف 1- 39 ليست كلها من نبي القرن الثامن. ففي القرون اللاحقة ظلّ المؤمنون يتأملون في تعليمه، يؤوّنونه، يكيّفونه، يفسّرونه. وكان اهتمام خاص بنبوءة عمانوئيل (7: 14). وسيتوسّع نصّان (8: 23- 9: 6؛ 11: 1- 9) في هذا الوعد ويطبّقانه على الملك يوشيا الذي أعتبر داود الجديد. وستزاد نصوص أخرى فيما بعد ولا سيما ف 24- 27 و34- 35.
وأما الآن، فيبدو أشعيا الأول على الشكل التالي:
- ف 1- 12: أقوال في إسرائيل ويهوذا.
- ف 13- 23: أقوال في الأمم الغريبة.
- ف 24- 27: نظرة إلى المستقبل بشكل رؤيا.
- ف 28- 33: أقوال مختلفة.
- ف 34- 35: الرؤيا الصغيرة.
- ف 36- 39: أشعيا في زمن الملك حزقيا.
نستطيع أن نقرأ نشيد الكرمة (5: 1- 7) وكتاب عمانوئيل (ف 6- 8). نتعرّف إلى داود الجديد (11: 1- 9) والنبي الذي هو آية (ف 20). نتعرف إلى حجر الزاوية (ف 28) وإلى حزقيا في مرضه (ف 38).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM