الفصل الثالث عشر: طريق الآلام والموت


الفصل الثالث عشر
طريق الآلام والموت
إن الفصول الأخيرة من أع تقدم لنا خبر آلام بولس وهي تقسم قسمين. قسم أول في أورشليم وفي قيصرية (ف 21- 25)، وقسم ثان في رومة (ف 27- 28).
أ- في أورشليم وقيصرية
1- الصعود إلى أورشليم
ويبدأ ف 21 الخبر في صيغة المتكلم الجمع: وبعدما فارقناهم (شيوخ أفسس) أبحرنا متوجّهين إلى كوس. كوس هي جزيرة صغيرة قبالة الشاطىء الجنوبي الغربي لآسية الصغرى. ورودس مركز تجاري وثقافي كبير. باترة: مرفأ ليسية.
وصل المركب إلى صور التي ظلت مرفأ مهماً في فينيقية. بشّرها المسيحيون الذين شتتهم الاضطهاد الذي اشتعل في أورشليم (11: 19- 20). لهذا وجد فيها بولس ورفاقه "تلاميذ" قالوا لبولس (وهم مدفوعون بالروح، رج 21: 11) بأن لا يصعد إلى أورشليم. وكانت صلاة ووداع، ثم ذهبوا إلى بطلمايس (أي عكا الحديثة) ثم إلى قيصرية (تقع بين يافا ودورا) موطن كورنيليوس. والتقى الفريق بفيلبس أحد السبعة، وقد سمّي المبشر بالإنجيل من أجل نشاطه ونجاحه في عمل الرسالة. وقام أغابوس بفعلة نبوية: قيّد رجليه ويديه بحزام بولس وقال: "هكذا يقيّد صاحب هذا الحزام". رجا الحاضرون بولس أن لا يصعد الى أورشليم، ولكنه أعلن استعداده للقيود والموت من أجل الرب يسوع. حينئذ قالوا: "لتكن مشيئة الرب"، فكانت هذه الكلمة امتداداً لكلمة يسوع في جتسيماني: لا مشيئتي، بل مشيئتك (لو 22: 42).
لقد بنى لوقا صعود بولس إلى أورشليم على مثال صعود يسوع. أنبأ يسوع بآلامه: سيسلم ابن الإنسان (لو 9: 44). وقال بولس لشيوخ أفسس: القيود والمشقات تنتظرني (أع 20: 23). وكما صعد يسوع إلى أورشليم وأرسل التلاميذ يتقدّمونه (لو 9: 51- 52)، كذلك فعل بولس في طريقه إلى أورشليم (أع 19: 21). كانت الجموع ترافق يسوع (لو 11: 29) في هذا الصعود، كما شيّعوا جميعاً (مع نسائهم وأولادهم) بولس (أع 21: 5). وصل يسوع إلى أورشليم (لو 19: 28)، بل إلى أبوابها (لو 19: 29) فلقي استقبالاً حاراً (لو 19: 29- 40) قبل أن يدخل الهيكل (لو 21: 37- 38). وتأهّب بولس للسفر (أع 21: 15) فوصل إلى أورشليم فرحّب به الإخوة فرحين (أع 21: 17). ثم دخل بولس إلى الهيكل (21: 26).
أوقف يسوع وسعى اليهود إلى قتله (لو 19: 47- 48). سألوه: بأي سلطة تفعل هذا (لو 20: 1- 8)؟ وحاول اليهود أن يقتلوا بولس (أع 21: 31)، فدافع عن نفسه: اسمعوا الآن ما أقول في الدفاع عن نفسي (أع 22: 1). وكما انقسم الصادقيون والفريسيون حول القيامة في أيام يسوع (لو 20: 27- 40)، كذلك انقسموا في أيام بولس. قال بولس: "أنا فريسي ابن فريسي، وأنا أحاكم الآن لأني أرجو قيامة الأموات" (أع 23: 6). خلال النزاع، جاء ملاك يعزّي يسوع في الجسمانية (لو 22: 43). وأمام الصعوبات ظهر الرب لبولس في الليل وقال له: "تشجّع، فمثلما شهدت في أورشليم، هكذا يجب أن تشهد لي في رومة" (أع 23: 11). تآمر اليهود على يسوع وقدّموه إلى بيلاطس الحاكم (لو 23: 1) لأنه يثير الشغب (23: 2- 5). وعرف بيلاطس أن يسوع بريء وأراد أن يطلقه (23: 4، 14، 20- 22) ولكنه ضعف أمام اليهود وأعطاهم طلبهم (لو 23: 24- 25). وتآمر اليهود على بولس (أع 23: 12- 22) ونقلوه أمام فيلكس الحاكم (أع 23: 23- 26). قالوا: "هذا الرجل يثير الفتنة بين اليهود في العالم كله" (أع 24: 5). قال فستوس عن بولس: "لم يفعل شيئاً يستوجب به الموت" (أع 25: 25). وإذا أراد فيلكس أن يرضي اليهود، ترك بولس في السجن (أع 24: 27).
ولكن بولس لا يموت في أورشليم مثل معلمه، بل سيذهب إلى رومة. وستتخذ هذه المرحلة معنى جديداً. إنها مرور عبر عالم الظلمة و"المياه العظيمة" التي ترمز إلى الموت الذي مرّ فيه بولس. وفي النهاية، لن يحتفظ الموت بيسوع، كما لن يحتفظ البحر ببولس (ولن يحتفظ السجن ببطرس، 12: 7 ي). أفلت بولس من البحر ووصل الى رومة، فأعلن بكل حريّة ملكوت الله. وهكذا نفهم لماذا لم يتحدّث لوقا عن استشهاد بولس (كما لم يتحدّث عن استشهاد بطرس). فهذا الاستشهاد كان معروفاً لدى القراء. لهذا وجّه لوقا اهتمام القارىء إلى يقين آخر، وهو أن لا شيء يعيق كلمة الله، لا شيء يعيق إعلان الملكوت، لا شيء يعيق الشهادة حتى الموت نفسه.
2- بولس في أورشليم
وصل بولس إلى فلسطين فوجد البلاد تغلي. فالناس لم يعودوا يتحمّلون إدارة الحاكم فيلكس الذي مارس "صلاحيات ملك بنفسية عبد" (طاقيطس، مؤرخ روماني). وقام الغيورون يعملون خناجرهم (سيكا، لهذا سموا: سيكاوين)، وصار الناس يصدّقون كل من يدعوهم إلى الثورة ليتخلّصوا من الأجنبي: مثلاً، ذاك المصري الذي ادّعى النبوءة وجمع حوله الآلاف. سار عليهم فيلكس، هرب المصري، وقُتل أو أسر أتباعه (أع 21: 38، يوسيفوس: الحرب اليهودية).
في هذه الظروف كان وضع الجماعة المسيحية المتهوّدة دقيقاً: ما هو موقفها وسط المتطرفين من الجهتين؟ من اجل هذا، لم يستقبل يعقوب وشيوخ أورشليم بولس استقبالاً حاراً: فمواقفه المتحرّرة أغضبت الكثيرين. إتهموه بانه يعلّم اليهود المقيمين بين الوثنيين أن يرتدوا عن شريعة موسى (أع 21: 21). وقدّم يعقوب لبولس نصائح تدعوه الى الفطنة، وعرّفه بالقرارات التي اتخذت لتسهيل التعايش بين المسيحيين الآتين من العالم اليهودي والمسيحيين الآتين من العالم الوثني (أع 21: 25).
وبناء على دعوة يعقوب، قبل بولس أن يشارك في حفلة ظهور في الهيكل (أع 21: 26– 27. لا نعرف ما كان تأثير هذا العمل على الأحداث اللاحقة). مثل هذا الموقف يدهشنا: هل نتّهم لوقا بأنه أعاد بولس إلى العالم اليهودي؟ حلق رأسه لنذر كان عليه (أع 18: 18)، وها هو يشارك في طقوس الهيكل. لم يخترع لوقا ما كتب، بل أورد الواقع كما عرفه، ولو بدت الأمور معارضة لموقف ذلك الذي كتب رسالة إلى أهل غلاطية فقال فيها: لا يبرّر الإنسان بأعمال الشريعة، بل بالإيمان بيسوع المسيح (غل 2: 16). ولكن بولس ليس بإنسان عقائدي يفكّر في عالم التجريد، إنه رجل من عصره، بل رسول يتنبّه إلى عقليات الناس. إذن، يعرف أن يتكيّف مع الظروف شرط أن لا تُمَّس نقاوة الايمان. أما أعلن أنه صار لليهود يهودياً ليربح اليهود، وصار للذين بلا شريعة كالذي بلا شريعة ليربح الذين هم بلا شريعة (موسوية) (1 كور 9: 20- 21)؟ وسنجد هذا الحس الرعائي عينه خلال الحديث عن اللحوم المذبوحة للأوثان (1 كور 8- 10)، وتحريضه للأقوياء والضعفاء (روم 14: 1 ي).
من زار أورشليم، يتصوّر بمخيلته المشهد الوارد في أع 21: 27- 36: ساحة الهيكل الواسعة وفيها المختونون. والجيش الروماني يقيم في قلعة أنطونيا المشرفة على الساحة. اتّهم بولس بأنه أدخل إلى رواق اسرائيل يونانياً من آسية الصغرى اسمه تروفيمس الأفسسي. وكادوا يقضون على بولس لو لم يتدخل الجنود ويخلّصوه من الغضبة الشعبية (أع 21: 27- 36).
3- من أورشليم إلى قيصرية
يكفينا هنا أن نلخّص الأحداث البارزة التي رواها لوقا بفن كبير:
- دفاع بولس عن نفسه أمام اليهود (22: 1- 22): يبرز الرسول، في خبر ارتداده، تعلّقه بديانة الآباء، كما يتحدّث عن دور حنانيا ذلك الرجل التقي والأمين للشريعة.
- كشف بولس عن نفسه أنه مواطن روماني فنجا من الجلد (22: 22- 29): "أيحق لكم أن تجلدوا مواطناً رومانياً من غير أن تحاكموه"؟
- مثل بولس أمام السنهدرين (أو المجلس الاعلى) (22: 30- 23: 10): أعلن إيمانه بقيامة الموتى على طريقة الفريسيين فأثار الخلاف بين القائلين بهذه العقيدة والرافضين لها.
- مؤامرة اليهود على بولس (23: 11- 22): حلفوا، لا يأكلون ولا يشربون حتى يقتلوا بولس.
- ونُقل بولس بحماية مشدّدة إلى قيصرية حيث يقيم الحاكم (23: 23- 35).
- اتهام اليهود لبولس بحضور فيلكس (24: 1- 9): يثير الفتنة (آ 5)، ينجّس الهيكل
(آ 6).
- دفاع بولس عن نفسه (24: 10- 21): بيّن الرسول ضعف الاتهامات الموجّهة إليه، وشدّد على إيمانه بالقيامة: أنتم تحاكموني اليوم لأني أؤمن بقيامة الأموات.
- وجعل بولس في السجن مدة طويلة (24: 22- 27). لم يحسّ بولس أنه وحده، لأن فيلكس سمح لأصحابه أن يخدموه ويزوروه. على كل حال، كان الحاكم يرجو أن يعطيه بولس شيئاً من المال ليطلقه.
4- ارفع دعواي إلى قيصر
تميّزت أواخر أيام إدارة فيلكس بصدامات دموية بين اليهود واليونانيين المقيمين في قيصرية. عجز الحاكم عن ضبط الأمور، فأرسل وجهاء من الطرفين ليفضوا خلافهم أمام نيرون. فأرسل الامبراطور فستوس حاكماً، فبدأ بتهدئة الحالة. وقد عرف عنه أنه كان حازماً في تطبيق العدالة.
أراد فستوس أن يربح ودّ السنهدرين، فاستجوب بولس وعرض عليه أن يمثل أمام محكمة يهودية. فأجاب بولس: "أنا لدى محكمة القيصر، ولدى محكمة القيصر يجب أن أحاكم" (25: 10). لا يستطيع فستوس أن يتهرّب من طلب بولس. فأجاب: "رفعت الى القيصر دعواك، فإلى القيصر تذهب" (25: 12).
ولكن لا بد من إعداد ملف القضية. فاستفاد فستوس من مرور الملك أغريبا الثاني (ملك خلقيس أو عنجر في البقاع اللبناني) وزوجته برنيكة وطلب من بولس أن يوضح موقفه (25: 13- 27): "من عادة الرومان أن لا يسلّموا أحداً (للموت) قبل أن يواجه متهميه ويُسمح له بأن يرد على دعواهم" (25: 16).
ويقف بولس كأحد الخطباء القدماء، فيقدّم دفاعه باحتفال وعظمة (26: 1) ويروي خبر ارتداده من جديد، ويعبّر عن معنى رسالته: قال يسوع: "أرسلتك لتفتح عيون الأمم الوثنية" (26: 18). ظهرت براءة بولس، ولكن بما أنه رفع دعواه إلى قيصر، فإلى قيصر سيذهب (26: 30- 32).
ب- في رومة
1- السفر إلى رومة (ف 27)
يتحدّث لوقا عن الإقلاع (آ 1- 12)، عن العاصفة (آ 13- 26)، عن النجاة من العاصفة (آ 27- 44).
رفع بولس دعواه إلى رومة (25: 11؛ 26: 32)، فنتج عن ذلك إرساله إلى رومة. وهكذا تحقّق مشروع رسولي. كان قد قال بولس: بعد إقامتي في أورشليم، يجب علي أن أرى رومة أيضاً (19: 21). ها هو يذهب إلى رومة كأسير. ولكن لوقا سيحسب أن بوصول بولس إلى رومة ستصل كلمة الله إلى "أقاصي الأرض". وتحققت أيضاً مشاريع العناية الإلهية. قال له الرب في رؤية: "هكذا يجب أن تشهد لي في رومة" (23: 11). لا شك في أن الأخطار والصعوبات كانت كثيرة خلال هذا السفر الطويل (27: 1– 28: 16)، ولكن الكاتب يرى أن الله هو الذي يوجّه الأمور: "لا تخف، يا بولس، فلا بد لك أن تحضر لدى القيصر. والله وهب لك حياة جميع المسافرين" (آ 24).
وعاد الخبر في صيغة المتكلم الجمع: استقر الرأي أن نسافر (آ 1). وستبقى هذه الصيغة حتى الوصول إلى رومة: "ولما دخلنا رومة" (28: 16). يبدو الكاتب وكأنه يشارك في هذه الرحلة التي يرويها بأسلوب حي ودقيق.
وتمر المدن: أدراميت، تقع على الشاطئ الغربي لآسية الصغرى، تجاه لسبوس. صيدون هي مدينة فينيقية مهمّة وصلت إليها البشارة بعد اضطهاد الهلينيين (11: 19). أما الأصدقاء الذين تتكلّم عنهم آ 3 فهم مسيحيو صيدا. ميرة هي محطة عادية بين مصر واليونان. كنيدس: في الشمالي الغربي لآسية الصغرى. خليج سلمونه يقع في جنوب كريت. لسائية: تقع جنوبي جزيرة كريت.
في آ 9 سيبدأ خبر العاصفة. نحن هنا أمام فن أدبي كلاسيكي (مز 107؛ يون 1). تبدو الأمور حسب الرسمة التالية: جدال حول الإقلاع (آ 9- 11): أرى في السفر من هنا خطراً. لم تترك العاصفة أي أمل (آ 13- 20): قطعنا كل أمل لنا بالنجاة. تشجيع الملاك وتدخّل بولس (آ 21- 25): تشجّعوا أيها الرفاق، لأني أثق بالله. تحطّم السفينة (آ 27- 44). يسود الخبر فكرة واضحة، وهي أن الله يقود بولس إلى الهدف المحدد، إلى رومة (آ 24- 25).
نشير هنا إلى صوم كيبور (آ 9) الذي يقع في شهر ايلول. وتقول آ 35: إن بولس أخذ خبزاً وشكر الله ثم كسره. اما النص الغربي فشدّد على الناحية الإفخارستية في طعام قد يكون عادياً (20: 7). ووصل الركاب كلهم (276) سالمين إلى مالطة حيث اجترح بولس عجيبة فحملوا إليه المرضى.
2- الوصول إلى رومة
أولاً: كنيسة رومة
وكان السفر من مالطة إلى رومة في ظروف طيبة. أولاً استقبل الإخوة بولس في بوطيولي (مرفأ في خليج نابولي). هكذا نلاحظ انتشار الإيمان بسرعة في عدد من المدن مثل الاسكندرية (18: 24 ي)، بطلمايس (21: 7) ورومة. دون أن نعرف أسماء المبشّرين. وأراد مسيحيو رومة أن يكرّموا بولس، فجاؤوا ينتظرونه في ساحة أبيوس (تبعد 65 كلم عن رومة) أو عند الحوانيت الثلاثة (تبعد 49 كلم) وهي خان على طريق أبيا الشهيرة.
كان في رومة سكان من أجناس متعدّدة. وتجذّرت هناك جماعة يهودية مهمة منذ قرن من الزمن. وزاد عددها بالعبيد الذين باعهم بومبيوس سنة 63 ق. م. يوم احتل أورشليم.
أول علامة عن وصول المسيحية إلى رومة ظهرت حين اتخذ كلوديوس قراره سنة 49 بطرد اليهود. يقول سواتونيوس الروماني: "بما أن اليهود كانوا يتمرّدون بسبب شخص اسمه كرستوس، طردهم الامبراطور من رومة". قد تكون هناك مجادلات عاصفة في مجامع رومة بين اليهود الذين ارتدوا وأولئك البذين بقوا على ديانتهم القديمة. وحين كتب بولس رسالته، كانت الجماعة مهمة وكان لها شعاعها فقال: "إن ايمانكم ذاع خبره في العالم كله" (روم 1: 8). تألفت النواة الأولى في الجماعة المسيحية من اليهود المرتدين. ولكن حين كتب بولس، صارت هذه النواة الأقلية بحيث برز التوتر بين تيارين، بين الأقوياء (الوثنيين) وبين الضعفاء (اليهود) (روم 14: 1 ي).
ثانياً: المحاكمة أمام القيصر
رفع بولس دعواه إلى قيصر. لكن هذا لا يعني أنه سيُحاكم أمام شخص الامبراطور. فالامبراطور يفوّض حاكم المدينة أو أحد القناصل ليقوم بهذه المهمة. إتهم اليهود بولس، ولكن فستوس أرسل قراراً اتخذ جانب الرسول، فلم يوضع بولس في السجن، بل سُمح له بان يستأجر بيتاً ويقيم مع جندي يحرسه (تربط يد السجين اليمنى بيد الحارس اليسرى). يقول النص الغربي إن بولس أقام في شمالي شرقي المدينة (28: 16)، وظل هناك سنتين (28: 30).
توسّع لوقا في مراحل محاكمة بولس في قيصرية. أما في رومة فلم يهتم الا بالتبشير، وهي مهمة قام بها بولس بحرية نسبية في رومة. أرسلت إليه الجماعة اليهودية وفداً، ولكن كان لخطبته النتيجة التي عرفناها في كل مدينة بشر فيها: انقسم اليهود، فلاحظ الرسول أن ساعة تبشير الأمم وقساوة شعب اسرائيل قد حلّت حقاً (28: 25- 28). وصل بولس الى رومة، إذاً وصل الخلاص الشامل إلى قلب الامبراطورية.
وينتهي أع في جو متفائل: كان بولس يكرز بجرأة وحرية (لا شيء يقيده 28: 31). ونحسّ أن إطلاق سراح السجين صار قريباً. بما أن يهود اورشليم هم المتهمون، وجب عليهم أن يلاحقوا غريمهم أمام محكمة الامبراطورية. ولكن يبدو أنهم لم يفعلوا (28: 21: "ما تلقينا كتابأ، ولا جاءنا أحد من الإخوة"). مر الوقت المذكور في 28: 30 (سنتان)، فسقطت الدعوى. قد يكون هناك حكم براءة، لا سيما وأن الجماعة المسيحية سوف تتبدّل بعد حريق رومة في تموز سنة 64.
3- بولس وجماعات آسية الصغرى
ظل بولس، خلال سجنه في رومة، يهتم بكل الكنائس (2 كور 11: 28). وكم كان ينتظر بشوق الأخبار التي تعلمه عن تقدّم الإنجيل في هذه الجماعات التي أحبّها.
زاره ابفراس الكولسي الذي ردّه بولس إلى الإيمان في أفسس فذهب يبشّر في كولسي ولاودكية وهيرابوليس (كو 4: 13). ولكن لم يعد ابفراس يقدر أن يقوم بالعمل. فقد جاء من يبشّر من جديد بالختان (كو 2: 11- 13) والممارسات المتعلّقة بالأطعمة (2: 16- 21)، ويقول بروزنامة تجعل عبادة الأرض توافق الملائكة (2: 16- 18). وأعلن "معلمو" كولسي أنهم رأوا رؤى (2: 18)، فتوسّعوا في نظريات حول المراتب السماوية: القوات، العروش، أصحاب السلطة. يبدو أن مثل هذا التعليم قريب ممّا في قمران. مهما يكن من أمر، لا تزال الدعاية اليهودية تلاحق بولس من خلال الكنائس التي تأسست في آسية الصغرى وفي غير مكان.
أثار تقرير أبفراس لدى بولس تأملاً في أولوية المسيح على كل صعيد. فلا يكفي فقط أن نعلن أن الخلاص يأتي بالمسيح، بل أن نقرّ بأن دوره الخلاصي ينبع من عمله كالخالق. وطبّق على المسيح النصوص التوراتية التي كانت تدل على دور الحكمة الالهية في عمل الخلق. وهكذا يجعلنا بولس نشاهد المسيح: صورة الله غير المنظورة، بكر كل خليقة، ذلك الذي به خلق كل شيء (كو 1: 15). فلماذا التعلّق بهذه القوى التي نزعت منها كل سلطة على الصليب؟ ولماذا الاعتناء بممارسات خارجية بعد أن لبسنا في المعمودية الإنسان الجديد (كو 3: 10)؟
في هذا الوقت رد بولس إلى الإيمان وعمّد أونسيموس، وهو عبد هرب من كولسي ولجأ إلى رومة. أحس بولس تجاه هذا الابن الذي "ولده" في سجنه (فلم 10) بعاطفة كبيرة. أما يستطيع أن يبقيه لديه؟ من يدري؟ ومع ذلك، قرّر بولس أن يعيده إلى سيده، وهو مسيحي غني يعيش في كولسي وفي بيته تجتمع الكنيسة (فلم 1- 2). سلّم بولس إلى تيخيكس (كو 4: 7) الرسالتين: واحدة لجماعة كولسي، والأخرى لفيلمون، وفيها يدعوه ليعفو عن عبده، بل ليحرّره (فلم 16): "لا يكون عبداً بل أخاً حبيباً في المسيح". وفي النهاية يعلن بولس رجاءه بأن يُطلق سراحه قريباَ فيذهب إلى كولسي (فلم 22).
ونجد الأخبار الشخصية العديدة في كو وفلم، وفيها أسماء معاوني بولس (كو 4: 14): مرقس الذي نسي خلاف أنطاكية (أع 15: 38)، وصار ترجمان بطرس كما يقول التقليد. أرسترخس الذي من تسالونيكي (أع 20: 4) والذي رافق بولس إلى أورشليم وحمل معه اللمة (التبرعات) من أجل القديسين. ديماس الذي من تسالونيكي والذي ترك بولس حباً بالعالم (2 تم 4: 10). لوقا الطبيب الأمين الذي رافقنا في رحلات بولس الرسولية. أبفراس الذي يقاسم بولس أيام سجنه (فلم 23).
4- وخرج بولس من السجن
يخيم الضباب على السنوات الأخيرة من حياة بولس. فاستشهاده في رومة أكيد، ولكن التاريخ غير أكيد. هناك تقليد قديم يجعله في السنة 14 من حكم نيرون أي بين تموز 67 وحزيران 68. هذا ما يورده أوسابيوس في كرونيكته (الكتاب الثاني، الألمبيادا رقم 211) ويذكره إيرونيموس الذي يحدّد موت بولس بسنتين بعد موت سينيكا (نيسان 65) (الرجال العظماء 5 و12).
بين نهاية السجن الأول في رومة (سنة 63) وبين الاستشهاد، تندرج التنقلات التي تحدّثت عنها الرسائل الرعائية (1 تم، 2 تم، تي). هذا ما قاله أوسابيوس المؤرخ الكبير للمسيحية القديمة: بعد أن دافع الرسول عن قضيّته، ترك رومة من جديد من أجل خدمة الكرازة. ثم جاء مرة ثانية إلى المدينة عينها وأنهى حياته بالاستشهاد. وإذ كان في القيود تحدّث عن دفاعه الأول وعن نهايته القريبة. وبعد أن أورد أوسابيوس مقاطع من 2 تم، اختتم قوله: "نشير إلى أن استشهاد بولس لم يتم خلال إقامة الرسول في رومة، التي يصورها لوقا. من المعقول أن نيرون كان في بداية حكمه وديعاً فقبل بسهولة دفاع بولس عن تعليمه" (التاريخ الكنسي 20؛ 22/2- 8).
ويبدو أن بولس ذهب الى إسبانية بعد خروجه من السجن. هذا ما كان قد نواه (روم 15: 28)، وهذا ما يذكره اكلمنضوس الروماني.
ونعود إلى الرسائل الرعاوية التي تعكس تقاليد ثمينة عن عمل الرسول في السنوات الأخيرة من حياته، وتدلّ على اهتمامه بإعطاء الكنائس تنظيماً ثابتاً يتحدّى العواصف.
في أفسس، ترك بولس تيموتاوس يهتم بتسيير الجماعة.
في كريت، كلّف تيطس بتنظيم الحياة الكنسية وبتأسيس الشيوخ (تي 1: 5).
مرّ بولس في ترواس فترك رداءه الشتوي وبعض المصاحف (2 تم 4: 13).
قضى بولس شتاء كاملاً في نيكوبوليس وهي مرفأ هام في دلماطية.
في هذا الوقت، كانت الأحداث تتطوّر مهدّدة الكنيسة الفتية. ففي سنة 62، استفاد الكاهن الأعظم من فراغ السلطة (ذهب فستوس ولم يأت بعد البينوس) فرجم يعقوب أخ يسوع المسمى المسيح وغيره آخرين، بعد أن اتهمهم بالتعدّي على الشريعة (يوسيفوس، القديميات اليهودية 20/200). تأسف الفريسيون على هذا العمل، وطلبوا من البينوس أن يعزل رئيس الكهنة (كان من الصادوقيين).
وفي تموز سنة 64، نشب حريق هائل في رومة، ويبدو أن نيرون أشعله. لا بد من خنق أقاويل الناس. إذن نبحث عن المجرمين: إتّهموا المسيحيين، ولكنه أظهر شفقته على ضحايا بريئة تشتعل في حدائق الفاتيكان. في هذا الوقت، صُلب بطرس ودُفن تحت قرميدات حقيرات قرب ملعب نيرون. وفي هذه المناسبة، أصدر نيرون قراراً يمنع "الاسم المسيحي" (ترتليانس في دفاعه 8- 9). وقال بعض العلماء إن نيرون طبّق مبدأ قديماً في الشرع الروماني يقول: "لا يكن لأحد آلهة جديدة أو غريبة، إلا التي تقبل بها الدولة" (نص قديم ورد لدى شيشرون الخطيب الروماني في كتابه الشرائع، 2/8).
ولكن كانت المسيحية تُعتبر شيعة يهودية، فكيف انفصلت عنها؟ هي وشاية من قبل الصادوقيين وصلت إلى رومة بواسطة بولبي زوجة نيرون المرتدة إلى الديانة اليهودية. لن يكون قرار عام بالاضطهاد قبل القرن الثالث، ولكن الجماعات المسيحية ستعيش في القلق، معرّضة لسوء تصرّف الشعب ولوشايات الحسّاد. هذا ما تقوله رسالة بعث بها بلينوس الأصغر إلى الامبراطور تراجان (الرسالة 10/ 96 و97).
5- الاستشهاد في رومة
وظل بولس يتنقّل بين الكنائس، ويحاول أن يفلت من السلطات. وشى به اسكندر النحاس (2 تم 4: 14). قال عنه بولس: "أساء إليّ كثيراً". نُقل بولس إلى حبس رومة الرطب على سفح الكابيتول. وعرف العزلة الباردة. ما زاره إلا أونيسفورس الذي جاء من أفسس وما خجل من قيوده (2 تم 1: 15- 18). وزاره أيضاً لوقا، بل بقي معه (2 تم 4: 11). ولكن جميع الذين في آسية تخلّوا عنه، ومنهم فيجلس وهرموجينيس.
في هذا الإطار نقرأ ما كتبه اكلمنضوس الروماني عن "الحسد" الذي سبّب استشهاد بولس وبطرس. هل نتهم حسد المسيحيين المتهودين؟ لا، بل حسد اليهود الذين حاولوا دوماً في غيرتهم على إيمان الآباء أن يتخلّصوا من بولس.
ونجد في 2 تم بعض الإشارات عن مسيرة المحاكمة. في الجلسة الأولى، كان بولس وحده، ولم يكن من يدافع عنه (2 تم 4: 16). حينئذ أعلن هذه الكلمات التي تعتبر وصيته الروحية: "لكن الرب وقف معي وقوّاني، فتمكنت من إعلان الدعوة لتسمع جميع الأمم الوثنية. ونجوت من فم الأسد (رج دا 6: 21). وسينجّيني الرب من كل شر ويحفظني لملكوته السماوي" (2 تم 4: 17- 18).
ولم تمضِ بضعة أسابيع حتى نال بولس العقاب الخاص بالمواطن الروماني: قطع رأسه، يقول التقليد. إلا أن الاستشهاد تم على بعد ثلاثة أميال من رومة، بالقرب من طريق أوستيا. وسيقول غايوس الكاهن الروماني في نهاية القرن 2: "أما أنا فأقدر أن أدلك على ذخائر الرسل. إذا ذهبت إلى الفاتيكان (بطرس) أو إلى طريق أوستيا (بولس) تجد ذخائر الذين أسّسوا هذه الكنيسة" (كنيسة رومة) (أوسابيوس، التاريخ الكنسي) (2: 25/7).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM