الفصل الثالث: خطوط التفسير السريانيّ

الفصل الثالث

خطوط التفسير السريانيّ

أ. تواصل في التقليد

تحدّثنا عن عدد كبير من الكتّاب، وعن مؤلّفات متنوّعة، لكلّ نهجه في خطّ الكنيسة. والآن يلفت نظرنا، حين نقرأ هذه التفاسير، التواصل حتّى التكرار. فكاتب يستعيد مقاطع ممّن سبقه فيذكر اسمه أو لا يذكره مرارًا. فحين نقرأ مثلاً تفسير إيشوعداد حول سفر التكوين، نرى أنّه يذكر اسم أفرام، 23 مرّة، نرساي، 9 مرّات، حنّان الحديابيّ، 21 مرّة. فحنّان (+610) هذا ألّف تفسيرًا لسفر التكوين، وقد ضاع اليوم. ويذكر ميخائيل أو مار ميخائيل (معلّم في القرن 7-8) 8 مرّات: هذا كتب «أسئلة حول النصّ البيبليّ» في ثلاثة كتب ضاعت اليوم (كمش 156، ص XVI-XV )

حين قدّم إيشوعداد تفسير تك 11: 29، كتب: «ملكة، امرأة ناحور، وأسكة التي هي ساراي، كانتا أختين. حسب المفسّر (تيودور المصيصيّ) في كتاب الخليقة، كانتا ابنتي حاران الأكبر، أخي أبي إبراهيم. ولكنّ حنّان قال إنّهما كانتا أختَي لوط. وكذلك قال المفسِّر في برهان متّى، فدعا إبراهيم عمّ سارة... غير أنّ باباي الفارسيّ وآخرين يعارضون ذلك فيقولون إنّ حاران المذكور كان أخا إبراهيم، وكان أكبر منه سنًّا، وأكبر من ناحور. غير أنّ الكتاب جعل إبراهيم قبل إخوته بسبب أهمّيّته» (كمش 126، ص 140-141= 156، ص 153).

ذُكر المفسّر (أو تيودور المصيصيّ) مرّتين هنا، بمناسبة تفسير سفر التكوين وإنجيل متّى. ومع حنّان، ذُكر باباي الفارسيّ، وهو كاتب عاش في القرن 5-6، وكتب «الردود المتفرّعة» التي ضاعت فما وصلت إلينا([1]).

أورد فان دان أيندي في مقدّمته أسماء كتّاب من العالم السريانيّ كما من العالم اليونانيّ. برحدبشابا (القرن 6-7)، أوريجان (السداسيّة، تفسير سفر التكوين)، لوقيان الأنطاكيّ (+ 312) مع نقاحه للنصّ البيبليّ. ثمّ باسيل أو مار باسيل (8 مرّات) في الأيّام الستّة، وغريغوار النازينزيّ الذي قال: «قبل ذلك، بالنسبة إلى جميع الكائنات التي خلق، كوّن الله أوّلاً المادّة، ثمّ الصورة. أمّا هنا، في وضع الشمس، فقد صنع أوّلاً الصورة ثمّ المادّة، لأنّ النور صورة الشيء»([2]).

ومرّ أبولينار أسقف اللاذقيّة (+ 390)، ثمّ إبيفان، أسقف سلامينة (+ 403) والذهبيّ الفم في عظاته حول سفر التكوين. ذُكر المفسِّر 17 مرّة. وحين تحدّث إيشوعداد عن أسماء الملائكة وفرقهم، استلهم دنيس الأريوباجيّ ابن القرن الخامس: «لا يعرف سوى الربّ عدد الكائنات الروحيّة. أمّا نحن، فقد عرفنا من الكتب المقدّسة أنّها تكوّن تسع جوقات...» (كمش 126، ص 21= 156 ص 24). نستطيع أن نتكلّم عن تجميع وتكرار. هذا يصحّ في شرق انغلق على سائر الكنيسة. ولكن نستطيع أن نرى هنا أمانةً لتقليد الآباء من جهة، وبحثًا عن اغتناء في عالم يونانيّ ما زال يؤثّر على العالم السريانيّ دون أن ينسى أن يأخذ الجزء الكبير من روحانيّته.

ب. تفسير واقعيّ (حرفي) أو تاريخيّ

إستعمل أفرام ثمّ يعقوب السروجيّ لفظًا سريانيًّا: ܣܘܥܪܢܐܝܬ الفعل ܣܥܪ يرتبط بفعل «سعر» في العربيّة: أحاط، أسرع، عدا عدوًا شديدًا. والمعنى الأوّل في السريانيّة: زار. هو يقابل في اليونانيّة  επισκοπεω سهر، زار، أشرف بنظره على الأشخاص والأشياء (مت 25: 36). هو قريب من ܦܩܕ: اعتنى بمريض (را1: 6) أو «صنع» (1 كور 5: 3 νονεμασαγρετακ). في الزيارة، نمرّ في موضع لنبحث عن موضع الجملة في محسوسيّة الحدث. أمّا الظرف ܣܘܥܪܢܐܝܬ فيدلّ على حقيقة الأشياء كما نقرأ في خطب فيلوكسين (لندن، 1894، ص 589، س 9). أو أيضًا: معنى الكلمات كما يقول أفرام (السمعانيّ1 ص 112ج). وها نحن نورد ما في 43: 1 من تفسير سفر التكوين: «الآن، وبعد أن تكلّمنا عن مباركات يعقوب ܣܘܥܪܢܐܝܬ (حرفيًّا، واقعيًّا)، نعود ونتكلّم عنها ܪܘܚܢܐܝܬ (روحيًّا). ما قلناها واقعيًّا كما يليق، ولا كتبناها بإيجاز "روحيًّا". في القسم 42 من شرح سفر التكوين الذي عنوانه «مباركات يعقوب» نقرأ ما يتعلّق «بالتاريخ»، بالأحداث التي حصلت. بدأ يعقوب مع رأوبين: «روبيل أنت بكري وقوّتي وبداية رجولتي، أي، لبث في البتوليّة أربعًا وثمانين سنة قبل أن يأخذ ليئة...» وتجاه بتوليّة الأب الذي انتظر طويلاً لكي يتزوّج، هي خطيئة الابن البكر «الذي صعد على فراش أبيه» (تك 49: 4)([3]).

وإذ تحدّث الشارح عن شمعون ولاوي، هذين الأخوين اللذين كانا أداة غضب من طبعهما (تفسير التكوين 42: 3)، لمّح إلى تك 34 وخبر دينة وانتقام الأخوين في مدينة شكيم.

في 43: 2، نستطيع أن نتحدّث عن التفسير الروحيّ، أي بالنسبة إلى تاريخ الخلاص. «بكر يعقوب هذا، لعنه يعقوب بسبب شرّه. غير أنّ لعنة رأوبين قد محاها موسى (تث 33: 6) الذي هو ابن يعقوب. وهكذا تقرّر الموتُ على آدم بيد الله، بسبب عصيان الفريضة. ولكن أتى ابنُ الله وأبطل، بالوعد بالقيامة، الحكم الذي رافق آدم حين خروجه من الفردوس».

أوردنا هذا المقطع قبل الكلام عن التأويل الروحيّ في المعنى الحصريّ للكلمة، لنبيّن الفرق بين الاثنين. نستطيع القول: إذا بقي التفسير الواقعيّ على مستوى العهد القديم وما خرج منه إلاّ نادرًا، فالتفسير الروحيّ يخرج من العهد القديم لكي يصل إلى المسيح. هنا يجد النصُّ البيبليّ كلّ معناه وكماله.

ونسمح لنفوسنا أن نورد تفسير التكوين 42: 2 ونشرحه، لكي ندلّ على هذا التفسير «التاريخيّ» في النصّ. أورد أفرام نصّ الكتاب المقدّس: «فاضلٌ في الرفعة، فاضلٌ في العزّ» (تك 49: 3). وشرح أفرام: «أي، أنت ابنُ شبابي، أمّا سائر إخوتك فهم بقيّة قدرتي وشبابي، أو لو كنت مثلي، لكان لك نصيب أفضل بسبب حقّ البكوريّة».

ويواصل النصّ البيبليّ: «هائج كالسيل». والتفسير: «ماء يترك ثلمه لكي يروي أرضًا أخرى. هذا القول (هائج كالسيل) يعود إلى المرأة التي اتّخذها رأوبين ثم تركها. وساعة لم يزعجه العطش، مضى يشرب من المياه المسروقة».

وهكذا يبدو النهجُ امتدادًا للنصّ البيبليّ الذي لا نبتعد عنه. هذا ما دُعي تفسير مدرسة أنطاكية. رأى الشارح في جميع الأخبار البيبليّة مدلولاً عامًّا، مباشرًا، تاريخيًّا، هو ذاك الذي كان لها بالنسبة إلى الذين عاشوها. في هذا الخطّ، لا يقبل إيشوعداد بموقف أوريجان كما تبعه باسيل وآخرون الذين «اعتبروا أنّ المياه التي فوق الجلد هي قوى روحيّة». إنّه موقف بليد. فالمياه التي فوق الجلد، هي المياه التي تُرسل المطرَ على الأرض. هذا ما ظنّه كتّاب البيبليا، فمن يجسر على مناقضتهم؟

هذا التأويل لا يستطيع أن يقبل، في نقاوته، خروجًا عن النصّ لاستكماله بمرجع آخر. لهذا، رفض إيشوعداد موقف أفرام الآتي من التقاليد اليهوديّة: «قال أفرام: ملكيصادق هذا كان سامًا الذي كان ملكًا». ثمّ أجاب إيشوعداد «من الواضح أنّه لم يكن سامًا، لأنّ سامًا هذا يرد اسمه في الأنساب، لا ملكيصادق». وأسند إيشوعداد طرحه على كاتبين سابقين. قال ميخائيل في معرض كلامه عن تسلسل البيوت في الزمن: «مات سام قبل ذلك الوقت بمئة سنة. ثمّ قال زكريّا في تاريخه الكنسيّ: "كُشف لإبيفان أنّ أم ملكيصادق دُعيَتْ شولتيل، ووالده هرقل، وقد كان كنعانيًّا فكان أوّل من بنى أورشليم"» (كمش 126: 147= 156: 159). وشرّ ما في الأمر، أن يتجرّأ واحد فيرى في ملكيصادق صورة المسيح. مثلُ هذا الكلام تجديف. هذا التفسير الذي يحصر نفسه في العهد القديم، لا يستطيع أن يقبل التفسير الذي قدّمته الرسالة إلى العبرانيّين. فحين نحاول أن نرى في النصّ صورًا مسيحانيّة مسبقة، نكون قد خرجنا من النصّ.

نظنّ أنّنا نكمل، فإذا نحن نشوّه ما يخصّ آدم وحوّاء اللذين أكلا من التينة (لا من التفاحة). كتب إيشوعداد: «أكلا من هذا، حين يروون أنّ ربّنا أعطى جسده بواسطة الخبز لأنّ آدم أكل سنابل قمح. لا شكّ في أنّ ربّنا أعطى خبزًا، لا سنابل، وآدم لم يكن لديه خمر. ثمّ إنّ السنبلة نبتة تُزرَع، لا شجرة» (كمش 126: 85 = 156: 90-91).

وبالنسبة إلى شجرة الحياة: «ولكن هؤلاء الناس يضلِّلهم كلامُ أشعيا، كما يُقرأ في اليونانيّ: «ستكون أيّامُ شعبي مثل أيّام شجرة الحياة» (أش 65: 22). أمّا النبيّ فلا يلمّح إلى شجرة الحياة في الفردوس، بل يرمز (ܪܡܙ، كما في رمز وعلامات) بهذه التسمية، إلى سموّ الحياة الورعة، كما يشهد الحكيمُ بذلك...

«إذن، يرمز النبيّ إلى الأيّام العذبة والسعيدة، أيّام العودة (من المنفى) التي تشبه الشجرة التي ثمرها حياة» (كمش 126: 93 = 156: 98-99).

هنا وفي مكان آخر، هذا التفسير «ܣܘܥܪܢܐ» يسعى إلى أن يحصر نفسه في نصّ العهد القديم، ولا يبحث في كلّ موضع عن المسيحانيّة. فنرى تأثير تيودور المصيصيّ. ثمّ نحن لا نجد النقد النصوصيّ في هذا التأويل، بل مقابلة مع اليونانيّ حين يعرف الكاتب هذه اللغة. وأخيرًا دخلت في هذا التفسير عدّة عناصر علميّة وفلسفيّة وتطبيقات خلقيّة أنهت الشرح، لأنّ الدير هو المناخ الذي دوِّن فيه هذا التأويل.

ولكن كيف نقرأ الأنبياء، في هذه الحال؟ هنا اختار التقليد السريانيّ ما يُسمّى استقلاليّة كلِّ فنّ أدبيّ. فمار أفرام الذي تحدّثنا عنه مع «مباركات يعقوب» واضح في هذا المجال. أوّلاً ܣܘܥܪܢܐܝܬ ثمّ ܪܘܚܢܐܝܬ. هذا ما نجده بشكل عامّ لدى المؤوِّلين في اللغة السريانيّة. إن هم رفضوا التأويل الإليغوريّ (الاستعاريّ). وحاربوا مدرسة الإسكندريّة مع معلّمها الكبير أوريجان، في الواقع هم يأخذون بالتفسير التيبولوجيّ، النمطّي. أو كما يسمّونه: الروحيّ، أي السرّيّ ܐܪܙܢܝܐ. نحن أمام سرّ لا يدخل فيه إلاّ الذين تنشّأوا، تدرّجوا. لهذا فالمعنى التيبولوجيّ ليس مفتوحًا للجميع، بل فقط لأولئك الذين دخلوا في التنشئة المسيحيّة.

ج. التفسير الروحيّ أو السرّيّ

أوّلاً: فكر إيشوعداد

قبل أن نورد نصًّا من يعقوب السروجيّ يبدو امتدادًا للتمييز الذي قام به أفرام، نودّ أيضًا أن نقدّم إيشوعداد الذي هو في نظرنا أفضل ممثِّل للتفسير السريانيّ، بوسع مؤلّفاته التي حُفظت لنا، بالعدد الكبير من الكتّاب الذين ذكرهم، وبتجديدٍ حاول به أن يتجاوز قواعد عصره، بل كنيسته، ليكتشف غنى سائر الكنائس.

يقف إيشوعداد في خطّ المسيحيّة القديمة، ولا سيّما المفسِّر الذي يحصر مدلول تك 3: 15 فقط في الصراع الخلقيّ بين الشيطان والإنسان، وذلك دون أي تلميح إلى المدلول المسيحانيّ أو النمطّيّ([4]): «من الواضح أنّ الناس لا يضربون فقط رأس الحيّة بل جسدها أيضًا، مع أنّهم يحاولون بالأحرى أن يسحقوا رأسها... ولكن هي صورة عن إبليس تدلّ على أنّ الله جعله أدنى منّا وواضعه، بحيث نقدر، إذا شئنا الخير، أن نسيء إليه كثيرًا. أمّا هو فيقدر أن يسيء إلينا حين يراقب عقبنا، أي طريقنا الذي هو عملنا»([5]).

نجد أنّ مباركة سام ولعن حام ينالان تفسيرين اثنين: الأوّل مسيحانيّ فقط وفي شكل مباشر. والآخر يمزج([6]) التطبيق التاريخيّ والتفسير المسيحانيّ.

«غير أنّ لا قيمة لأيّ سبب مقدَّم، لأنّ حامًا لم يكن وحده مرمى اللعنة، ولا توجّهت بركة سام فقط إليه. فنوح ما قال: «مبارك سام وملعون حام، بل: مبارك الربّ، إله سام. وهكذا تطلّع، في الدرجة الأولى، إلى بيت إبراهيم، ثمّ إلى ربّنا الذي سيُولَد من نسله. وانتقلت البركة من نوح إلى سام، ومن ملكيصادق إلى إبراهيم، ومن إسحق إلى يعقوب ناقلها» (كمش 126: 129 = 156: 139) في ص 140 (=129)، تحدّث أيشوعداد عن بركات تحقّقت في المسيح الذي هو ربّ العبيد (أبناء حام) والأحرار (سام ويافث).

وتفسير دياربكر 22 (483: 64) الذي نقرأه في كمش 484، لا يقول غير ما قاله إيشوعداد. حين بارك نوح الله، «لمّح إلى من هو من نسله، إلى المسيح في بشريّته»([7]).

ونقرأ أيضًا «تطبيقين اثنين لمباركة اسحق ليعقوب»: «تارة هو وعد بخيرات مادّيّة وروحيّة تُعطى لأبي الآباء، وطورًا هي تلميح إلى النشاط الخلاصيّ لدى الأنبياء والرسل والمسيح» (كمش 156: 8-9). وكان أفرام سريعًا حين قرأ تك 27: 1-46 (كمش 156: 87-88): إكتفى بأن يوجز النصّ البيبليّ. أمّا دياربكر 23 فقال: «ما كانت رائحة مادّيّة (رائحة يعقوب) بل بعض فضائل النعمة. وقد أعلنت الخيرات الآتية بواسطة الرائحة. "نحن لله رائحة طيّبة للمسيح"، كما يقول الكتاب (2 كور 2: 15). فالندى يدلّ على عناية الله... والشحم على وفرة الثمار» (كمش 483: 96= 484: 123).

ثانيًا: يعقوب السروجيّ([8])

ميّز يعقوب السروجيّ ثلاثة معانٍ في تفسير الكتاب المقدّس: (1) المعنى الجسديّ ܦܓܪܢܝܐ، بحسب الجسد، المعنى البشريّ، (2) والمعنى الروحيّ ܪܘܚܢܝܐ، بحسب الروح. (3) وأخيرًا، المعنى السرّيّ، ܐܪܙܢܝܐ، حسب السرّ ܐܪܙܐ.

ونورد أوّلاً هذا النصّ من مقابلات مع الشعب اليهوديّ:

لأنّه الكتاب الذي يمسك اللغة الساميّة في عالم جديد،

ولكنّه لا يجلوه (ܓܠܐ) بشكل خفيّ (ܟܣܝܐ) إلاّ لأبناء السرّ (ܐܪ̈ܙܐ)

فالربّ روح (ܪܘܚܐ) وقد أقام الشريعة روحانيًّا (ܪܘܚܢܐܝܬ)

تسلّمها الشعبُ وقرأها جسديًّا (ܦܓܪܢܐܝܬ)

سمع الشعب أنّ الله يطلب ذبائح، فتخيّل

أنّ الله يحبّ أن تقدَّم له الذبائح المطلوبة.

فلو أنّ هذا الشعب البليد فهمها (= الشريعة) روحيًّا،

لكان أدرك لماذا أراد الله ذبائح([9]).

- المعنى الجسديّ

ها هي الألفاظ المفاتيح الثلاثة. قراءة بحسب الجسد. تقف عند مستوى الحرف، مستوى شعب العهد القديم. وبما أنّ الجسد مائت، زائل، فالمعنى «الجسديّ" يغيب في المعنى الروحيّ. بل هو يصبح سجنًا لم يستطع الشعبُ اليهوديّ أن يخرج منه لكي يفهم أيّة ذبيحة يريد الربّ. لا ذبيحة العجول والثيران (7: 23)، بل فعل الشكر (ܬܘܕܝܬܐ) والقول الحقّ. أي على مستوى محبّة الله ومحبّة القريب، ولا سيّما في المحكمة. فالذي يلبث في المعنى الجسديّ يبقى خارج النصّ المقدّس، بل لا يدرك تاريخ الخلاص. وهذا في الواقع ما حصل لليهود في زمن ربّنا، كما في زمن يعقوب السروجيّ.

الجسد (ܦܓܪܐ) هو البشريّ. هو الإنسان والفرد. والمعنى الجسديّ هو ذاك الذي يفهمه البشر لأنّهم بشر. فالإنسان الذي لا يريد تجاوز البشريّ، لا يفهم سوى المعنى الجسديّ.

وأبعد من هذا المعنى الذي يحدّنا، هناك المعنى الباطنيّ، نظرة الإيمان التي تجعل الإنسان يدهش أمام غنى النصّ البيبليّ، التي تُطلقه ممّا يُرى إلى ما لا يُرى، ممّا هو ظاهر إلى ما هو خفيّ. ننطلق ممّا هو برّانيّ ܒܪܝܐ، خارجيّ، إلى ما هو داخليّ، ܓܘܝܐ، باطنيّ.

تكلّم يعقوب عن الفرّيسيّ الذي تعلّق بعماه، ساعة استنار الأعمى منذ مولده، بنور جديد فدخل في حقيقة المسيح. نحن نفهم هذا حين نقرأ مقطعًا حول البقرة الصهباء وصليب ربّنا([10]):

بالزوفى رسم الرشّ، بالقرمز الدم.

عرف الأصمّ هذه الأسرار (ܐܪ̈ܙܐ) في الرمز (ܪܡܙܐ)،

والأعمى تميّزها باللمس وفهِمَ.

لو أراد (الفرّيسيّ) بعقله أن يتأمّل هذه الأسرار،

لكان رأى صليب الابن وما تردّد.

هذا المعنى الجسديّ لا ينحصر في الوجهة الحرفيّة، ولا يتعلّق بحرف النصّ، بل يتجاوزه ليصل إلى الأبعاد الاجتماعيّة والحضاريّة والتاريخيّة. من لا يعرف أنّ على الأبرص أن يعيش بعيدًا عن الأماكن المأهولة، وأنّ النازفة نجسة لا يحقّ لها أن تمسّ أيًّا كان لئلاّ تنجّسه. ولكن يجب أن نكتشف الكبرياء عبر الفرّيسيّ، والتواضع حين نشاهد العشّار. كلّ هذا يقودنا إلى المعنى الروحيّ.

- المعنى الروحيّ

سبق وقلنا إنّ المعنى الجسديّ لا يتماهى مع المعنى الحرفيّ كما في النظرة الغربيّة. هو تفسير بحسب أسلوب أنطاكية، ينطلق من حرفيّة النصّ ليصل إلى وجهات أخرى تترك الحرف الذي يقتل لتصل إلى الروح الذي يُحيي.

لو قبل الشعب أن يقرأ في النور،

لعرف ابنَ الله بهذه القراءة.

ولو فهم الشريعة فهمًا روحيًّا (ܪܘܚܢܐܝܬ)

لبيّنت له العلوّ والعمق، والعرض والطول

لأنّه كتاب يحمل لغة سامية في عالم جديد،

ولا يكشفه في الخفاء (ܒܟܣܝܐ) إلاّ لأبناء الأسرار (مقابلات 7: 1-6).

أبناء السرّ هم المتدرّجون، قبلوا أن ينتقلوا من المعنى الجسديّ إلى المعنى الروحيّ، من مجال الشريعة إلى مجال النعمة، من الظلّ إلى الحقيقة التي وصلت إلينا بيسوع المسيح، من العهد القديم إلى العهد الجديد. هذا يعني أنّه يجب أن نسمع الابن لكي نفهم التعليم مثل الكمّال، مثل أناسٍ يُنعشهم الروح. في هذا الإطار، تحدّث يعقوب عن الإنجيل على أنّه ملء النور، وعن تعليمه الذي هو كنز حقيقيّ. المهمّ هو أن نلتقي به، نميّزه. لهذا، نحتاج إلى الأفكار الروحيّة، فنسمع سماع الإنسان الكامل، الباطنيّ. ثمّ نطلب معونة الربّ من أجل إنصاتٍ روحيّ وحكمة تجد ينبوعها في حكمة الله (بيجان 2: 382-383).

هنا يتحدّث السروجيّ عن سماع روحيّ، عن فهم خفيّ لإدراك المعنى. ويكون «الروحيّ» إمكانيّة يمتلكها العقل البشريّ لكي يدخل في السرّ. حينئذٍ يكون تماثل بين الفهم الروحيّ وسماع الإيمان، بين أذن النفس وأذن الإيمان. ونعطي مثلين. يتحدّث الأوّل عن نار إيليّا (2 مل 1: 10). في فهم جسديّ، هي نتيجة الغضب. غير أنّ موقف إيليّا لا يمكن إلاّ أن يكون روحيًّا. البحث عن خلاص الإنسان. والمثلُ الثاني يبيّن كيف تجرّأ داود فأكل خبز التقدمة: فهم الشريعة بحسب الروح، لا بحسب الجسد مثل كاهن نوب (1 صم 21: 2ي).

- المعنى السرّيّ

هو المعنى بحسب السرّ. فالسرّ يشبه جبل الثلج في البحر. نحن نرى قسمًا منه، ولكنّ الأهمّ يبقى خفيًّا. نحن نرى البداية، أمّا النهاية فتُكشف فيما بعد. إن توقّفنا عند البداية، لبثنا على مستوى الجسد (ܦܓܪܐ). وهكذا لا نستطيع أن نلج السرّ. فعلينا أن نكتشف عبر موسى، شخص المسيح. فالتدبير الإلهيّ أراد أن ننطلق من العهد القديم ونُظُمه، لنصل إلى الجديد. وما هو ينبوع المعنى السرّيّ؟ الإنجيل نفسه. والأمثلة عديدة: بين يونان من جهة وموت المسيح وقيامته من جهة ثانية (مت 12: 39-40). بين حكمة يسوع وحكمة سليمان (آ 42).

طلب الله من إبراهيم ابنَه. هذا لا يعني أنّه يحتاج إلى ذبيحة، بل أراد أن تكون هذه الذبيحة رمز موت ابنه. إسحق هو الظلّ، والمسيح الحقيقة.

هنا جعل يعقوب نفسه في خطّ آباء الكنيسة السريانيّة منذ أفرام. ما اكتفى بأن يجد وجه المسيح في العهد القديم، بل ذهب أيضًا يبحث عنه في الأخبار الإنجيليّة([11]). هو إله حقّ وإنسان حقّ. هو منظور وخفيّ. وحين كشف ذاته في طبيعتيه، قرّب السماء من الأرض، وأن يجذبنا. ببشريّته إلى لاهوته، وأن يجعلنا نحترم طبيعته الانسانيّة بمعجزاته التي هي برهان لاهوته.([12])

وإذا عدنا إلى إيشوعداد، نرى كيف أنّه أوضح الطابع التصويريّ للعهد القديم، «رأى كيف أنّ صور العهد الجديد تشعّ في خطوط العهد القديم" (كمش 126: 204= 156: 122). والأمثلة عديدة: دم هابيل هو بحقّ دم المسيح. ملكيصادق يمثّل المسيح الكاهن. سارة هي صورة العهد الجديد، ظهور الله لإبراهيم صورة مسبقة عن تجسّد الله (كمش 156: 9-10).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM