الفصل الأول:التفسير الكتابي في اللغة السريانية

التفسير الكتابي

في

اللغة السريانية

هي مقالة وردت في «جذورنا»، وقد جعلناها في مقدمة وأقسام.

1- ترجمات الكتاب المقدس إلى اللغة السريانية

2- تفاسير الكتاب المقدس في اللغة السريانية

3- خطوط التفسير السرياني.

مدخل إلى التفسير السرياني

حين نتحدّث عن التفسير البيبليّ في الحقبة الآبائيّة نقابل مرارًا بين مدرسة الإسكندريّة ومدرسة أنطاكية. مدرسة تشدّد على الأليغوريّا (أو الاستعارة) منذ فيلون الإسكندرانيّ مع ذروة في شخص أوريجان. ومدرسة تشدّد بالأحرى على قراءة حرفيّة للنصوص مع تأثير قويّ لقراءة يهوديّة تبقى جدّ محتفظة لتجد شخص المسيح، على مثال تيودور المصيصيّ، الذي ما كان يقرأ سوى أربعة مزامير مسيحانيّة. ولكن يبقى في نظري مدرسةٌ ثالثة تنطلق من أنطاكية دون أن تنسى غنى الإسكندريّة ودون أن تصل إلى مبالغاتها، فترى في الخيط القرمزيّ الذي وضعته راحابُ في النافذة (يش 3: 21)، صورة عن دم المسيح. هو تفسير حرفيّ في شروح المدارس، منذ أفرام وصولاً إلى ابن العبريّ. وهو تفسير نمطيّ، تيبولوجيّ (يرى في نصوص العهد القديم نمطًا، صورة بعيدة عن يسوع المسيح) مع عبارة صارت كلاسيكيّة في الدراسات السريانيّة المعاصرة أوردها لويس لالوار حين قال: «إقتنع أفرام بالتلاقي بين العهد القديم والعهد الجديد، ففسَّر دومًا الواحد بالنسبة إلى الآخر»([1]). فكلّ شخص، وكلّ نصّ، وكلّ مشهد في البيبليا، يشير إلى شخص المسيح وحياة كنيسته. وتبع مثالَه آباءٌ آخرون. وهكذا يكون للقراءة البيبليّة ثلاثة مستويات: على مستوى الجسد أو الحرف؛ على مستوى الروح؛ وأخيرًا على مستوى السرّ، أي سرّ المسيح وكنيسته.

في قسم أوّل نتحدّث عن ترجمة البيبليا إلى اللغة السريانيّة. في قسم ثانٍ نُلقي نظرة سريعة إلى المفسّرين الرئيسيّين. والقسم الثالث، الذي سيكون أطول الأقسام، يقدّم ثلاثة خطوط من التفسير السريانيّ بحسب مبدإ أطلقه أفرام في تفسيره لسفر التكوين([2]) وواصله يعقوب السروجيّ أوفى التلاميذ للقديس أفرام.

الفصل الأول

ترجمات الكتاب المقدّس إلى اللغة السريانيّة

إن تحدّثنا عن ترجمات البيبليا إلى اللغة السريانيّة، فلكي نبيّن أنّنا أمام خطّ تفسيريّ لم يأخذ شكله النهائيّ إلاّ في القرن العاشر. في ذلك الوقت فرضت الترجمة «البسيطة» (ܦܫܝܛܬܐ) نفسها بشكل نهائيّ على جميع الكنائس السريانيّة.

أ. السريانيّة العتيقة

إذا أخذنا بما تقوله كرونيكة أربيل([3])، وُجد في زمن باكر مسيحيّون في العالم السريانيّ. هي تتحدّث عن أوّل أسقف لهذه المدينة، مار فقيدا (105-115). وانتشرت المسيحيّة أيضًا في حدياب([4]). ومدوّنة (نهاية القرن الثاني) أبرقيوس، أسقف هيرابوليس (= منبج)، تتحدّث عن إخوة يشاركون في الإيمان الواحد في «سهل سورية وكلِّ مدن نصيبين إلى ما وراء الفرات»([5]). لا نستطيع أن نتصوّر مثل هذا الانتشار المسيحيّ من دون نصّ إنجيليّ أو أقلّه كتاب قراءة (ܪܝܫ ܩܪܝܢܐ) العهد الجديد. وفي الواقع، كشفت، في القرن التاسع عشر، ترجمتان سبقتا ترجمة «البسيطة

نقرأ الترجمة الأولى في كودكس كيورتون الرابع. تعرّف كيورتون إلى الترجمة واستعدَّ لنشرها سنة 1858. كان في الأساس رقّ يتضمّن 87 وريقة، وُجد في المتحف البريطانيّ (14,451). جاء هذا النصّ، سنة 1842-1847، من دير السريان (دير القدّيسة مريم، والدة الإله) في برّيّة النطرون، في مصر. بعد ذلك، وُجدت ثلاثُ وريقات أخرى. والنشرة النهائيّة كانت عمل بوركيت([6])، سنة 1904. اسمها في اللغة العلميّة «الكيورتونيّة».

ونُشرت الترجمة الثانية مرّتين، سنة 1894([7]) وسنة 1910([8]). هو طرس (صحيفة مُحيت ثمّ كُتبت) الأناجيل (سريانيّ 30). وُجد في دير القدّيسة كاترين، في جبل سيناء، دُعيت «السينائيّة». نشير هنا إلى أنّ النشرة الثانية (1910) وَضَعَت في الحواشي اختلافاتِ الكيورتونيّة([9]).

هناك طرحان بالنسبة إلى أصل هذين النصّين. طرحٌ أوّل يتحدّث عن ترجمتين([10]) بحيث تصبح نظرة «السينائيّة» مختلفة عن نظرة «الكيورتونيّة». وأوّل مقال نقرأه في مت 1: 16، حسب السينائيّة، «يوسف الذي خُطبت له العذراء مريم، ولد يسوع». ولكن في الكيورتونيّة: «مريم التي منها وُلد يسوع». في متّ 1: 20، تحدّث السينائيّ عن مريم امرأة (AئررA) يوسف. أمّا الكيورتونيّ فعن الخطبة (ܡܟܝܪܬܐ). هل نستطيع أن نستنتج بعض الشيء حول بتوليّة مريم؟ بعضهم فعل بعض الشيء.([11])

غير أنّ معظم الشرّاح يقولون بأنّنا أمام ترجمة واحدة مع تنقيحين مختلفين([12]) وهي قد تمّت في الرها، على يد فالوط، الأسقف الثالث على هذه المدينة، أو في أنطاكية، أو في حدياب، حيث كان اليهودُ عديدين. هو نصّ قديم جدًّا، بحيث اعتُبر سابقًا للإنجيل الرباعيّ (الدياتسّارون) الذي يعود إلى القرن الثاني.([13])

ب. دياتسّارون تاتيان

هذا النصّ أو الإنجيل عبر (dia) الأربعة (tessarwn) يعود إلى النصف الثاني من القرن الثاني. هذا يعني، إن سبقت السريانيّة العتيقة الدياتسّارون، أنّ أوّل ترجمة للإناجيل قد تعود إلى سنة 150 على أكبر تقدير. غير أنّ كلّ شيء يرتبط باللغة الأصيلة التي انطلق منها تاتيان. فإن كان اليونانيّ هو المنطلق، فهذا يعني أنّ تاتيان هو الذي نقل نصّه من اليونانيّ إلى السريانيّ. وإن كان السريانيّ، نجد في تاتيان مجمِّعًا انطلق من أربعة أناجيل فكوّن إنجيلاً واحدًا.

كتب أوسيب في التاريخ الكنسيّ (4/9: 6): «صنع تاتيان تجمّعًا ومزيج أناجيل. لستُ أدري كيف دعاه دياتسّارون. وما زال بعضهم يستعملونه»([14]). وقال إبيفان في كلامه عن الهراطقة: «يُقال إنّ إنجيل الدياتسّارون الذي يدعوه بعضهم الإنجيل بحسب العبرانيّين هو عمله» أي عمل تاتيان.

وحين يتحدّث اللاتين (إيرينه، ترتليان) أو اليونان (كليمان الإسكندرانيّ أو أوريجان) عن تاتيان، لا يشيرون إلى الدياتسّارون([15]). أمّا الكتّاب السريان فيعرفون كلّ المعرفة عمل تاتيان الذي يُقرأ في كنائسهم([16]). إنتشر هذا الكتاب انتشارًا واسعًا حيث انتشرت اللغة السريانيّة، وقرئ في الليتورجيّا القديمة. في هذا الإطار، اشتكى تيودوريه القورشيّ (393-466) بأن يُقرأ الدياتسّارون، لا في الكنائس اللاأرثوذكسيّة وحسب، بل وأيضًا في تلك التي تتبع عقيدة الرسل. فأحلّ محلّ مئتي نسخة من الدياتسّارون، نصوص الأناجيل الأربعة المنفصلة (ܡܦܪ̈ܫܐ). وربّولا، أسقف الرها (412-435) فعل الشيء عينه في بلاد الرافدين. فأمر «الكهنة والشمامسة بأن يسهروا ليكون في كلّ الكنائس، إنجيل «المنفصلة»، وأن يُقرأ فيها»([17]).

ويُطرح سؤال: لماذا كتب تاتيان الدياتسّارون؟ لا نتكلّم فقط عن غيرة رسوليّة، بل هو أراد أن يمرّر بعضًا من أفكاره. وخصوصًا التعففيّة التي تَعتبر الزواج زنى، والتي تمنع أكل اللحم وشرب الخمر. في مت 27: 34، ما شرب يسوع خمرًا، بل خلاًّ. في يو 2: 10، لا نقرأ عند تاتيان: «حين سكر الجميع». ونلاحظ أيضًا تأثير الأناجيل المنحولة. تحدّث تاتيان عن نور ساطع أضاء مياه الأردنّ. في لو 23: 48، كانت الإضافة التالية: «الويل لنا، الويل لنا، لأنّه كان ابنَ الله». وتُرى أيضًا اتّجاهات مرقيونيّة في الدياتسّارون الذي ألغى نسب يسوع وعلاقته بداود. في الواقع، نحن أمام بداية تفسير نجده في فكر دينيّ بدائيّ.

ج. بسيطة العهد الجديد

لا نمتلك من الدياتسّارون سوى الأناجيل «المختلطة» (ܡܚ̈ܠܛܐ)، ومن السريانيّة سوى الأناجيل الأربعة، التي تعود إلى القرن الثاني. ولكنّنا نستطيع أن نعيد تكوين سائر أسفار العهد الجديد([18]). أمّا البسيطة فتقدّم لنا العهد القديم والعهد الجديد. ونستطيع القول، بادئ ذي بدء، إنّ العهد القديم انطلق من العبريّ مع تأثير من التراجيم. وقد نقول: هو عبور من أراميّة الترجوم إلى السريانيّة. أمّا العهد الجديد، فقد بسّط النصّ حين ترجمه.

بسيطة (ܦܫܝܛܬܐ) العهد الجديد هي النشرة الرسميّة في الكنائس السريانيّة إنطلاقًا من القرن الخامس. بعضهم نسبها إلى ربّولا([19])، وأسّسوا قولهم إلى نصّ من حياة هذا الأسقف، دوّنه واحدٌ من تلاميذه: «في حكمة الله التي كانت فيه، نقل العهد الجديد من اليونانيّة إلى السريانيّة، بدقّة، كما هو، بسبب الاختلافات»([20]).

رفض فوبوس، وبحقّ، هذا الطرح. فربّولا واصل استعمال السريانيّة العتيقة. وقد نقول بأبعد تقدير، إنّه صحَّح بعض النصوص لكي توافق الأصل اليونانيّ. فحين نقرأ البسيطة عن قرب، نرى أنّها أقرب من النسخة القديمة، إلى اليونانيّ. ثمّ كيف نستطيع القول إنّ هذا النصّ فرض نفسه في القرن الخامس، ساعة نعرف أنّ ربّولا عاش في هذا العصر نفسه. وأخيرًا، حين نسبوا هذا النصّ إلى ربّولا، وجدوا أفضل وسيلة لنشره على حساب الدياتسّارون.

درس فوبوس المسألة وتوسَّع فيها([21])، وصحّحه آخرون([22]). ولكنّنا نستطيع القول إنّ نصّ البسيطة وُلد في نهاية القرن الرابع([23])، إذن قبل ربّولا الذي يورد النصّ القديم وكأنّه نصّ البسيطة. أمّا هذه فما فرضت نفسها بالسرعة التي نظنّ. جاءت طريقها شبيهة بما حصل للترجمة الشعبيّة (فولغاتا) في العالم اللاتينيّ.

هل كان هذا النصّ ترجمة جديدة؟ يبدو أنّ الجواب هو كلاّ. إنّه بالأحرى إعادة قراءة النصّ القديم مع تصحيحات في الوقت المناسب. في هذا المجال، قدّم ليون([24]) مقابلة بين النصوص القديمة والبسيطة، فرأى أنّ الاختلافات ليست كبيرة. وإن وُجدت اختلافات، فالسريانيّة العتيقة هي التي أضافت لفظًا أو عبارة لتجعل الكلام قريبًا من الجماعة المصلّية.

ساند الأساقفة الترجمة الجديدة. أمّا الأوساط الرهبانيّة التي استقلّت عن السلطة، فحافظت على العتيقة. في الواقع، يجب أن ننتظر القرن العاشر لكي تصبح البسيطة النصّ الوحيد، بحيث تختفي السريانيّة العتيقة، اختفاء شبه تامّ.

د. الترجمة الحرقيّة

الترجمة السريانيّة الأخيرة للعهد الجديد، قام بها توما الحرقليّ سنة 615-616، في دير قريب من الإسكندريّة. هي نشرة (ܡܦܩܬܐ) علميّة تأسَّست على مبادئ موروثة عن أرسترخي الإسكندرانيّ (217-145 ق م) عبر أوريجان (+245) والسداسيّة السريانيّة. فائدتها واضحة للدراسات البيبليّة، لا لتحلَّ محلّ البسيطة.

كان العمل ثقيلاً وطويلاً بعد أن بحثوا عن الدقّة. بدأ بوليكرب العمل من أجل فيلوكسين المنبجيّ. وقابل توما النصوص. إعتبر الشرّاح أنّهم أمام ترجمتين. لهذا نستطيع أن ندعوها الفيلوكسينيّة أو الحرقليّة. هذه الترجمة التي تضمّ كتبًا لا نجدها في البسيطة (2 بط، 2 يو، 3 يو، يهو، رؤ) أتاحت للطبعات الحديثة أن تكمّل العهد الجديد بأسفاره السبعة والعشرين.

هـ. بسيطة العهد القديم

النسخة (ܡܦܩܬܐ) البسيطة (ܦܫܝܛܬܐ) هي التي تمّت على العبريّ([25])، تجاه تلك التي تمّت على السداسيّة السريانيّة. يعود العهد القديم إلى القرن الثاني، بل إلى القرن الأوّل، فبرديصان العائش في القرن الثاني، أيورد بعض النصوص. هل نستطيع الكلام عن «خلق» اللغة السريانيّة، أو تكريس لهجة الرها كلغة أدبيّة، لا «كلهجة» أراميّة بين لهجات أخرى؟ هل صارت السريانيّة لغة المسيحيّين؟ الأمر ممكن وإن كنّا لا نستطيع أن نتحقّق منه بسبب غياب مراجع أخرى في هذه اللغة، في الرها. هل زالت هذه المراجع التي لا تتوافق مع الفكر الجديد، كما اعتاد الشرق أن يفعل؟ لا بدَّ من دراسة هذه المسألة.

حين نتحدّث عن العهد القديم، نعرف أنّنا أمام مكتبة واسعة. لهذا، يجب أن نميِّز: عادة يُقال إنّ البنتاتوكس (أو أسفار موسى الخمسة) يتبع بأمانة النصّ الماسوريّ (التقليديّ)، ويتضمّن عناصر من الترجوم. أسفار أشعيا والأنبياء الاثني عشر تتضمّن عددًا من العناصر الخاصّة بالسبعينيّة اليونانيّة. فتقليد الأنبياء هامّ بالنسبة إلى المسيحيّين، كما البنتاتوكس هامّ بالنسبة إلى اليهود. والنصّ السبعينيّ مساعد كبير للقراءة التيبولوجيّة التي تجد المسيح في نصوص العهد القديم.

وما تبقّى من أسفار العهد القديم أمين للعبريّ بشكل عامّ. كان جدال بالنسبة إلى ابن سيراخ. ولكن حين وُجد الأصل العبريّ في مخبأ (غنيزة) القاهرة في نهاية القرن التاسع عشر، لم يبقَ مجال للشكّ.

كيف يبدو ترتيب الأسفار في البيبليا؟ يأتي أيّوب حالاً بعد البنتاتوكس([26]). في القرن التاسع، قُسمت البيبليا لدى النساطرة أربعة أقسام. وهذا واضح في شرح إيشوعداد المروزيّ. بعد البنتاتوكس أو الشريعة، يأتي كتاب المجالس (ܒܝܬ ܡܘܬܒ̈ܐ): أيّوب، يشوع، قضاة، صموئيل، ملوك، أمثال، ابن سيراخ، الجامعة، نشيد الأناشيد، راعوت. نحن هنا بعيدون عن القسمة المثلّثة التي نجدها في البيبليا العبريّة (توره أو الأسفار الخمسة، الأنبياء، سائر الكتب). بالنسبة إلى الأسفار القانونيّة الثانية (ما عدا ابن سيراخ) فهناك جدال. ولكنّ التمييز بين نصوص لا جدال فيها، ونصوص موضع جدال، لا يجد له أثرًا في العالم السريانيّ كما في العالم اليونانيّ([27]).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM