الفصل الثاني:

الفصل الثاني

في شرح الامتحان الثاني بالبلايا التي بلي بها أيُّوب الصدِّيق

في جسده من الأوجاع وأصناف الأمراض وسوء السقام المرّ

إعلم أنَّ أخبار ما جرى لأيُّوب الصدِّيق، من تلاف الأموال، وخراب الديار بموت الأولاد، لم تكن اتَّصلت إلى ساير الأقطار، لمّا عاودت الملائكة واجتمعوا في ديوان الحضرة الإلهيَّة، ليعطوا الأجوبة عمّا أُمروا به من مصالح الباري عزَّ وجلّ، ويسمعوا ماذا يوصيهم من تنفيذ الأحكام. والتزم اللعين أيضًا بالحضور. فلمّا استقرَّت الملائكة بالجلوس حسب المراتب والمقامات، وانتصب اللعين واقفًا على هيئة الخدَّام، فسأله الباري: «من أين القدوم؟ ماذا فعلت اليوم من المساوئ والشرور؟ بأيِّ مكيدة كدت الناس وغشَّيتهم؟» فأجاب قايلاً: «الدنيا بأسرها تحت يدي، وجميع الناس طوع حكمي والحال إنَّني طفت الملوك في نقود حكمه مثل حكيم حكمي. والحال إنَّي طفت أملاكي جميعًا، ولم أدَعْ محلاًّ، ولم أترك أحدًا، لم أشرف عليه».

حينئذٍ الباري عزَّ وجلّ العالم بخذلانه، وجميع ما اتَّصل بالصدِّيق من النصر والظفر عليه، والذي يريد قهره وكسر شوكته واستنزاله إلى أرض الذلّ، بقدر ما هو فيه من التجبُّ والغرور، فسأله قايلاً: «أمّا أشرفت على عبدي أيُّوب الصدِّيق؟ فإنَّه رجلاً (أو: رجل)، كما أخبرتك سابقًا، ساذجًا  (أو: ساذج)، سليم القلب من الغشّ، عادلاً (أو: عادلٌ) من غير غدر ولا عدوان، عابد لي بالتواضع والخشوع، مبعود عن جميع الشرور، ثابت القدم في البلايا، شاكرًا لاسمي عند نزولها. من حيث أنَّك أتلفت أمواله، وأهلكت أولاده كما استأذنتني، وظنِّيت أنَّه يكفر بارتكاب التجديف. ومهما فعلت من جميع المكايد والشرور، استمرَّ على وظيفة  الشكر والحمد والثناء مع الصبر الجميل».

وكلّ لفظة صدرت عن الباري، مرَّت على قلب الشيطان كالأسنَّة والسهام المسمومة. فأجاب قايلاً: «صبرُ أيُّوب ليس بمشكور إلى هذا الحدّ فالمال والأولاد المفقودة، إنَّما هي أعراض برّانيَّة. والشجاع في حومة الميدان، إذا أصيب في ملابسه، لا يبالي بذلك. فإذا أصيب وانجرح في لحمه، وإن كُسر ساعده يتغلَّب. فليتك أذنت لي باختلاس العافية من جسده بسهام الأمراض! فبلا شكّ ولا خفاء، إنَّه يفشل ويقع في أودية الكفر والتجديف. فإنِّي موثق، بأنَّه لم يحبَّ الأرزاق ولم يطلبها، إلاَّ لحفظ العافية وإكرامًا لدوامها. والحال أن لا معبود له سوى صحَّة البدن».

فأمّا الباري عزَّ وجلّ، المطَّلع على الخفايا، العالم بالأحوال قبل صدورها، كان عالمًا حقَّ اليقين، عين اليقين، بأنَّ الصدِّيق سيصبح منصورًا مظفَّرًا، وغالبًا غير مغلوب. واللعين لا يظهر في هذه القضيَّة إلاَّ مغلوب (أو: مغلوبًا) مقهور (أو: مقهورًا) مختزًى، مهان (أو: مهانًا) له باختطاف العافية من جسده، وتسليط أصناف الأوجاع عليه قايلاً: «سلَّمتُ جسده ليدك، فافعل مهما تريد به من السقام الداعية إلى السخط والتجديف، لكن احذر على روحه واحفظه حيًّا بالسلامة من طوارق الموت لعدم الإذن في قبضها».

فاللعين الباغي، والظلوم المعتدي، الذي ليس في قلبه ذرَّة من الرأفة والرحمة على بني آدم، لكن قصده الأعمّ ومراده الأتمّ إضرارهم وإهلاكهم بصنوف العذاب، فأوَّل ما سمع بالإجازة، انطلق مسرعًا كالسهم النافذ، وأتى نحو أيُّوب الصدِّيق، وضربه بسياط الجذام من الفرق إلى القدم، ولم يدع عضوًا من لحمه وعظامه، سواء كان ظاهرًا أو باطنًا، سالمًا من أنواع الأمراض وأجناس الآلام، فكلَّت شطّار الحكماء وحذّاق الأطبّاء عن مداواته، وما فعلوا معه سوى أنَّهم زادوا أسقامه، ونقصوا باقي أمواله. وابتلي الصدِّيق بالفقر والقلق، ولم يبقَ لديه شيئًا للكسوة والإنفاق. وشدَّة الأوجاع ومرارة الآلام لم تأخذ في النقصان، بل تزيد على ممرِّ الأيّام

وصدرت، بطول المدَّة، عن القروح المفسودة روائح أنتن من الجيف. وربَّما أنَّه من أجل هذا التزم بالضرورة، لعدم تحمُّل الناس، بالخروج من بيته والسكنى خارج المدينة. حينئذٍ ذلك الأمير الفاضل، والغنيّ صاحب الجاه والمرتبة العالية، المقبول المكرَّم عند جميع أصحاب المراتب السنيَّة، الذي ما كان يتكلَّم مع الرعيَّة والشعب إلاَّ وهو جالس على سرير الملك والسلطنة، أضحى جالسًا على المزبلة، فوق فراش الذلِّ والهوان، كأحد الأداني من بني آدم. ويمينه التي كانت معتادة على قضيب الملك، عادت قابضة على قطعة من الخزف، يجرِّد بها الصديد عن القروح التي في جسده، من فرط القلَّة والعازة، لأنَّه لم يبقَ عنده قطعة من الثياب الخلقان

وزوجته، التي أبقاها الشيطان سالمة من الضرر، ليستعملها كالآلة الأمضى والسلاح الأقطع ليلزمه التجديف، فإنَّها لمّا أبصرت زوجها في هذه الحال من الذلّة والقلَّة والفقر والعلَّة (وهو) شاكرًا حامدًا صبورًا راضيًا، لم يفتر لسانه عن الثناء، ولا يغفل طرفة عين عن تمجيد الله وذكره، كانت تهزوا (أو: تهزؤ) به وتعيِّره على ما هو عليه من الطاعة والعبوديَّة بقولها: «يا جاهل، يا غشيم، يا مغفَّل، يا عديم العقل! الناس يحمدون ويشكرون إذا شاهدوا عليهم آثار المواهب والنعم، وأنت تشكر بالحمد على ما أنت فيه من ضروب النقم. هذا جزاء ما آويتَ الأيتام، وتلطَّفتَ بالأرامل، وتعطَّفتَ على الفقراء والمساكين. وإذ جرَّبتَ ربَّك، واطّلعت على أنَّه باغي (أو: باغٍ)، ظالم، لا يعرف الجميل، يقابل الخير بالشرّ، ويضيِّع الحسنات، ويعامل الأجواد بالسوء. دَعْه واعرضْ عنه، واكفر باسمه وجدِّف عليه، لأنَّه لم يستأهل الشكر والعبادة، بل الجحود والكفر. وإن عهدته رحيم (أو: رحيمًا) يقبل الدعاء، فلا تسأل شيئًا سوى الموت كي تنجو ممّا أنت فيه من صنوف الآلام».

ولكون الصدِّيق كان عارفًا بالواجب على الإنسان من الطاعة، القيام بوظائف العبادة لجلالة الحقِّ تعالى، ولو كان تحت أثقال الغضب، جاوَبَها (أو: أجابها) من باب التوبيخ قايلاً: «يا جاهلة، ويا عديمة الفهم والتعقُّل، لا تعلمين عظمة شأن الربوبيَّة، ولا تدرين حقوقها الواجبة على الناس. فإنِّي طول عمري ما عبدت الله إلاَّ خالصًا لوجهه الكريم. ومثلما شكرته على وظايف النعم، والمواهب الجليلة، ومواصلة اللطف والإحسان أيَّام المساعدة والإقبال، فكذلك الواجب عليَّ والمطلوب، أن أكون منقادًا متقيِّدًا بالحمد والثناء، والصبر والرضى أيَّام الشدَّة والأضرار وساعات البؤس من حيث إنِّي ليس في غرض ولا مطلب ولا مأمول، إلاَّ مطابقة إرادتي بإرادة الله عزَّ وجلّ، والطاعة والرضا بأحكام مراده».

والحاصل أنَّ أيُّوب الصدِّيق في جميع ما حلَّ به من المصايب، وإتلاف الأموال وموت الأولاد وابتلايه بأنواع الأسقام والأوجاع، لم تصدر من شفتيه لفظةٌ في مقام الهفوة والزلَّة، بل (كان) على الدوام شاكرًا حامدًا راضيًا صابرًا، وقلبه بالسكون مسرورًا مع ما هو فيه من أصناف الأوجاع والذلّ والهوان.

ولمّا شاع أمره، واتَّصلت أخباره السيِّئة بما ابتُلي به من سوء الأحوال، وبلغت إلى ساير الأمصار، اتَّفق ثلثة من الأمراء المحبِّين له بالمجيء لزيارته والتعطُّف بخاطره. واتَّصلوا (أو: وصلوا) إلى عنده في يوم واحد. لكي إذا تكلمُّوا معه جملة، يعود كلامهم أفود (أو: أفيدَ) وأنفع للتسلية. فلمّا أبصروه عن بعدٍ ورأوه في هذه الحالة الكريهة، لم يعرفوه لتغيير صورته ولون وجهه. حينئذٍ صرخوا ومزَّقوا ثيابهم، ونثروا التراب على رؤوسهم ورفعوا أبصارهم إلى السماء، لعرفانهم بأنَّ جميع ما حلَّ به من الشدايد، فهو من قِبَل الحقِّ تعالى. واستمرُّوا عنده جلوسًا ستَّة أيَّام بلياليها. وفي تلك المدَّة لم يفتتح أحدهم فمه بالكلام معه، بل هم شاخصون إليه وهو شاخص إليهم، وقد لزموا السكوت وقلوبُهم قائلة بلسان الحال: «ليس لهذا الداء دواء ولا لهذه العلَّة شفاء».

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM