الفصل الأوَّل:

الفصل الأوَّل

شرح الامتحان الأوَّل المشتمل على تلاف أموال أيُّوب الصدِّيق وموت أولاده

إعلم أنَّ بين دمشق الشام وبين نهر الأردنّ، كانت بلدة تسمَّى في القديم عوص من مملكة أدوم. واسمها المتعارف الآن حوران، وهي معروفة في التواريخ من أجل ولود الجبابرة فيها. لكن أجل انتسابها أنَّها كانت فيما سبق منتسبة لمأوى سبط منسّا (أو: منسّى)، وفي تلك البلدة كان رجلاً (أو: رجلٌ) من أكرم الأمراء يقال له أيُّوب، وإلى الآن قبره هناك يُزار، وآثار قصره موجودة. وذلك الأمير كان جليل الحسب والنسب، من ذوي البيوت والأصايل، حيث إنَّ أجداده كانوا أكابر الأدوميِّين وأعيانهم، وكونه نشأ في كمال الديانة والتقوى، محبّ الرعيَّة ومحسن إليهم، يسوسهم بالعدل والأمانة، على رأي الصالحين في السراط المستقيم، معصومًا من جميع المحذورات والمناهي. بل جميع اجتهاده في تحسين الأخلاق والفضايل، وإيصال الجميل ونشر الإحسان.

ورزَقَهُ الحقّ تعالى من الأولاد عشرة، سبعة ذكور وثلاث إناث. وهم من حيث كمال الجسد في الحسن والاعتدال، ومن حيث العقل ومعرفة الصواب، قلَّ أن يوجد لهم نظير في المعارف والآداب ومحامد الأخلاق. وخصَّه أيضًا باتِّساع المال، لم ينقصه شيء من دواعي الأفراح والمسرّاة (أو: المسرّات) وعُدَّت أغنامه سبعة آلاف ترعى في أراضيه. وكانت له خمسماية فدَّان يفلحون بقاعه، وثلاث ألاف بعير مع خمسماية أتان لنقل أمتعته وأرزاقه في المسافرة.

ومن حوله من الأمراء والأعيان وأكابر السكّان، يقومون له في وظائف العزِّ والتكريم بالمهابة والوقار، وأجلّ قصدهم الصلح والاتِّفاق معه بإظهار المحبَّة والوداد، ولا يتجرّأ أحدهم على ردِّ كلامه وكسر خاطره، بالتثاقل عليه باختلاف رضاه؛ بل كان مرقد الأحوال مستريح القلب والبال. وبهذه النعمة والرفاهيَّة كانت أولاده مبسوطّين آمنين، مطمئنين، تنقضي أيّامهم في لذايذ الولايم، بلطايف المذاكرات والمسامرات. وكونهم سبعة، يمضي كلَّ يوم من الأسبوع عند أحدهم، بالاجتماع في منزله بدار الضيافة الخاصّ باسمه. وأجلّ قصدهم في ذلك، دوام الإلفة بالمحبَّة والوقار وإبقاء الصلح والاتِّفاق. وكيلا يصدر بينهم شيء من الإساءة، كالسكر والهزل والمزاح البارد واللغو الخارج عن دايرة الأدب، كانت أخواتهم أيضًا تحضر معهم في المجالس، عند الولايم على الموايد.

وأيُّوب الصدِّيق، ولو كان عالمًا بحسن أخلاقهم وكمال آدابهم، وحسن اتِّفاقهم وصفاء ضمايرهم من الأكدار، لكن كلَّما انتهى الدور ونفد الأسبوع، كان يبعث إليهم رجلاً من قِبله بالسلام عليهم ويقول لهم على لسانه: «يا أبنائي لا أكتفي بوجود الصلح والاتِّفاق وإمارات المحبَّة وكمال الوداد فيما بينكم، بل لا بدَّ وأن يكون الصلح أيضًا والاتِّفاق بينكم وبين خالقكم. إيَّاكم وارتكاب محذور من المناهي وسوء الإثم. وإن اتَّفق صدور أمر من قبل السوء، فتداركوا أرواحكم بالتوبة والاستغفار، والإلتجاء إلى الله بطلب الصفح والغفران».

ولكون العمل أفضل وأجلّ من الكلام، والصلاة أقطع وأقوى من النصح والمواعظ، كان يقدِّم في آخر الأسبوع عشر ذبايح، ويذكر أسماء أبنايه واحدًا فواحدًا عند تقديم كلِّ واحدةٍ منها بقوله: «اللهم اغفر لابني فلان لربَّما وقع في خطيئة من باب السهو والنسيان. فاقبلْ هذه الذبيحة، واصفحْ عن زلَّته، وبارك عليه». واستمرَّ على هذا الأمر متقيِّد (أو: متقيِّدًا) غاية الانقياد، ولم يغفل عنه يومًا واحدًا، ولو عارضته المهمّات من المصالح الضروريَّة العارضة للحكّام وأصحاب التدبير.

***

ولأنَّ نعيم الدنيا زايل ليس بدايم، والراحة تستدعي العناء والمشقَّة، والدولة والسرور، يعقبهم التغاير والأحزان، فتلك الأحوال من الراحة والسعودات التي كانت مشتملة بأيُّوب الصدِّيق، التحق بها الذلّ والهوان والشقاء، وأشدّ أصناف القضاء، حيث اتَّفق أنَّ يومًا جميع الباري تبارك وتعالى، في ديوان حضرته، الأرواح المقدَّسة المقيِّمين بتدبير أمور الدنيا وتبشير الناس بإرادته وأحكامه. والتزم الشيطان بالحضور بينهم، لا ليفوز بالجلوس في درجات الكريم، بل ليكون واقفًا كوقوف الجلاّد ليستمع من الباري نصوص أحكامه، إمّا لتخريب الصالحين. أو لتعذيب الطالحين.

فسأله الحقُّ تعالى: «من أين القدوم». فأجاب اللعين: «طفت الدنيا بأسرها، ولم أدَعْ مكانًا بغير مرور ولا اطّلاع. ورأيت الناس جميعًا طوع كلامي، ولم أجد أحدًا خارج طاعتي. وكونهم مثلي عصاة مخالفين، فلي أمل أن يكونوا بأسرهم معي في العقوبات». فسأله الباري تعالى: «أما مررتَ بالاطلاع على عبدي أيُّوب الصدِّيق؟ عساك لا تعرفه ولم تسمع بأخبار فضايله! رجل عديم المثيل، ليس له على وجه الأرض نظير، ساذج نقيّ الضمير، عادل تقيّ، لا يغدر بأحد، مكتف بخشيتي، حافظ وصاياي، مبعود من كلِّ إثمٍ وخطيئة».

فلمّا سمع اللعين بجميع هذه المحامد والذكر الجميل، بما أنَّه حسود بني البشر، يخفِّف تمجيدَهم ولا يرضى لهم المدح والثناء، أجاب الحقَّ وقال: «أيُّوب ليس بمستحقّ التمجيد في هذا الحدّ والمقدار، كوني عالمًا أنَّه لا يحبُّك قطّ، إكرامًا لعظمة مجدك وارتفاع قدرك، بل إنَّما هو عابد لمراعاة الدولة، واتِّساع الأرزاق وكثرة المواشي، والإنعام التي خصَّصته بها. وقد أوقفتَ الملائكة حرسًا لحفظ أمواله، مطمئنَّ القلب من الخوف على زوالها، والسماء والأرض وما فيهما من الخيرات ميسَّرة له. توسّعه كلّ تأثيرات الطوالع، والشمس والقمر طبق مراده، في نموِّ زروعه، وثمار بساتينه وكرومه. ولقد كثَّرتَ مواشيه من الدواب والجمال والغنم، حتّى استدَّت (أو: سُدَّت) بقاع الأرض بمراعيها.

«والحالّ إنَّ أيُّوب كلُّ باله وعقله مصروف في هذه الأمور، ليس في قلبه سواهم. فاذِنْ لي بامتحانه، ودَعْني أسلب جميع تلك المواهب. ففي الحين من غير تشكيك ولا ارتياب تسمع منه الكفر والتجديف، والبث والشكوى كونه عابد (أو: عابدًا) لا تكريمًا للخالق بل حبًّا وميلاً للدولة الحاصلة له من الخليقة». فأمّا الباري تعالى المطَّلع على حقايق الأمور والسراير، عالم بأنَّ أيُّوب الصدِّيق مخلص في العبوديَّة، سالم من النقايص والعلل. أراد إطلاع الناس بأسرهم على كمال الصدِّيق وفضايله، فأذن لإبليس وقال له: «فوَّضت جميع ما لديه من الأموال والأرزاق إليك. افعل ما بدا لك من التصرُّف بانتزاعها. لكن إيَّاك ثمَّ إيَّاك من وضع اليد على جسده بنوع من الضرر».

***

فاللعين بمجرَّد ما سمع هذا الدستور من الحقِّ تعالى، بادر للوقت كالبرق الخاطف، وتدارك ماذا يصنع بالصدِّيق كي يلقيه في الكفر ويقوده إلى التجديف. وكونه خبير (أو: خبيرًا) في إيصال السوء والأذى إلى حدِّ النهاية، دبَّر له تدبيرًا في الشرِّ والضرر أدهى وأمرّ ما يكون. ولأنَّه، خزاه الله، كان عارفًا بأنَّ الصدِّيق مستريح القلب والخاطر، سالم من القلق والاضطراب، لا يجري على باله شيء من المكاره والأكدار، وجميع أولاده زايرين في منزل أخيهم الأكبر، على موايد السرور والهناء، آكلين شاربين فرحين بصفاء الأوقات وسلامتها من طوارق الهموم والأحزان، فأرسل إليه بشيرًا يخبره «بأنَّ الفُدُن بينما كانوا يفلحون، والأتن في المرعى عندهم، من غير مخافة ولا وجل من اللصوص وقطّاع الطريق، إذ أقبلت عليهم قبايل القاطنين في وادي سبا. غاروا على الفدن والأتن ونهبوها. والخدَّام والفلاّحين قاتلوهم بالمحاربة فغلبوا بالكثرة وقتلوا عن آخرهم. ولم ينجوا (أو: يَنجُ) أحد منهم سواي لأخبرك بما جرى».

وقبل أن يتمِّم البشير مقاله المتضمِّن بالأسوأ، إذ أقبل الثاني مبشِّرًا بقوله: «بينما كنّا نرعى الغنم في المرعى، ونحن آمنين من الحوادث، إذ سمعنا صوت رعد قاصف. وانحدرت الصواعق بنيران ملتهبة، ومرَّت على الغنم والرعاة وأحرقتهم، وعادوا هباء منثورًا ولم يبق من الغنم ولا الرعاة شخص واحد غيري. وسلمتُ من الهلاك وأتيتُ مخبرًا بسوء ما بلينا به». وبينما هو في السؤال والجواب مع الصدِّيق، إذ وافى البشير الثالث وهو يرتعد كالسعفة من شدَّة الرعبة والفزع قايلاً «بأنَّ العربان المقيمين في البرِّ المقفر أدركونا وانقسموا أربع فرق، وساقوا جميع الجمال وهجموا على الخدَّام وقتلوهم بغتة. فلمّا أبصرت ذلك، ولَّيتُ هاربًا في طلب النجاة وجيتك (أو: وجئتك) مخبرًا بالواقع».

بالشدَّة والهول والمرارة في تواتر الأخبار (أو: أخبار) السوء على التوالي، حيث إنَّ مع جميع تلك، وافاه خبرٌ أشرّ وأقبح من جميع ما تقدَّم. وذلك أنَّه أتاه رجل من حواشيه، باكي العين، شقيق الجيب، داعي الويل حزينًا. تمثَّل أمامه وقال: «سيِّدي، عظَّم الله أجرك في البنين. بينما هم جلوس على المائدة في منزل أخيهم الأكبر، يتنعَّمون بلذايذ المأكول والمشروب، إذ هبَّت ريح عاصفة لم يُرَ مثلها بين العواصف، وصدمت البيت من الجهات الأربع وسقط السقف، وارتدمت الجدران على جميع الأولاد، والفقير (أنا) نجوتُ وحدي وجيتك (أو: وجئتك) مخبرًا بما رأيت».

فلمّا سمع الصدِّيق بسقوط الدار وهلاك الأولاد تحت الردم، كان جالسًا فنهض على قدميه من الجزع قايمًا، وشقَّ أثوابه لعجزه عن تحمُّل حرارة الحزن ونار الجو. وشعر رأسه المستطيل على عادة الإفرنج قصَّه تبعًا للعادة الجارية عند أصحاب الأحزان. وخرَّ ساجدًا لله خاضعًا وقال: «الحمد لله الحيّ الباقي على الدوام، الذي ليس لمُلكه زوال، صاحب الغنا (أو: الغنى) والجاه، ذو الدولة الأزليَّة والعزَّة الأبديَّة! فإنِّي قد خرجتُ من بطن أمي عاريًا وأتيتُ إلى الدنيا، وسأخرج منها وأدخل القبر عاريًا. خوَّلتَني مالاً جزيلاً بفضلك، وانتزعْتَه عنِّي بعدلك. المال مالك والأولاد إرادتك والعبدين (أو: وعبيد) يديك، فافعل ما تشاء. فلك الحمد والثناء، تقدَّس اسمك العظيم!».

وفي مجرى كلِّ هذه الأهوال وتأثير آلامها، لم يرتكب الصدِّيق بشفتيه حرفًا يُفضي إلى الخطيئة. ولم تخرج من فمه لفظةُ جهلٍ خارجة عن الأدب، ولم يرتج ولا غضب ولم يسخط، ولم يقل ما هذه البلشة السوداء. (قال): «إلهي ماذا فعلت أنا، وما الذي صدر منِّي ممّا يوجب هذا العناء؟ أفهل خطيئتي أعظم من خطايا الناس؟ أرى الخطأة مرفَّعين بالتنعُّم، وأنا معذَّب بضرب النقم. فلعلَّك عاجز عن تدبير المُلك، غافل متشاغل عن الوقايع والأهوال، تَدعُ الصلحاء تحت أثقال المظالم والظلمة، والأشقياء في أفياء النعيم وظلال الأفراح». حاشا أيُّوب الصدِّيق أن يجري على لسانه شيئًا (أو: شيء) من هذا القبيل. كلاّ، بل قابل تلك الشدايد بالرضاء والتسليم صبرًا وشكرًا، وانسرَّ في سرِّه فرحًا بما جرى، وصار مطابقًا إرادته بإرادة الحقّ تعالى. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM