ديباجة الكتاب

بسم الآب والابن والروح القدوس الإله الواحد آمين

كتاب الامتحان بالبلايا التي امتُحن بها أيُّوب الصدِّيق، وقد فسَّره باليونان القدِّيس الجليل المعظَّم في القدِّيسين يوحنّا فم الذهب رئيس أساقفة القسطنطينيَّة. وقد نقله بالترجمة إلى اللغة العربيَّة الحقير أنطونيوس الراهب اليسوعيّ، رزقه الله الصبر الجميل في هذه الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة.

ديباجة الكتاب

إعلم أنَّ جميع المشتمل عليه سيِّدنا يسوع المسيح من الأوصاف المختلفة في الجلالة والمقدار يستدعي التمجيد والتعظيم على المساواة في العزِّ والتكريم. فإنَّ اتِّضاعه في دار الشدايد التي قاساها وصبره على آلامها، يستوجب المجد والتبجيل باعتبار اقتداره على إظهار المعجزات وخرق العادات وفعل العجايب. لكنَّ الروح القدس، الذي صرَّح في التوراة وساير الكتب المقدَّسة، وبيَّن فيها بطريق الرموز والإشارات جميع ما جرى لسيِّدنا يسوع المسيح. فإنَّ عامَّة اجتهاده وأجلّ مراده أن يوضح لنا، بأشكال الأمثال المتكاثرة والرسوم الوافرة، حقارتَه في العالم وهوانَه وشدَّة آلامه وأصناف أوصابه على وجه الأرض. وأمّا قدرته وجلالة قدره وجمال مجده وبحر خبريَّته الممتدّ في ملكه الأزليّ، فلم يخبر عنه بسبيل الرموز، ولم يبثَّها لنا بالإشارة إلاَّ بيانًا يسيرًا. وسبب ذلك إنَّما هو كون مجد الناس باطل، وقدرتهم قاصرة، وأفراحهم جزئيَّة، لا دوام لها، زايلة. لا يستطيعون المماثلة لما في سيِّدنا يسوع المسيح، من سموِّ السلطنة والجاه وعلوّ الشأن، واتِّساع الأملاك وعظمة الرفاهيَّة بأنواع اللذايذ في المسرّات، بالتمتُّع بها في دار النعيم.

فأمّا الشدايد والكروب وأصناف الحقارات التي يقاسيها الإنسان، فإنَّها حقيقيَّة، كثيرة الأعداد، مختلفة الأنواع، مستطيلة شاقَّة، مريرة الأوجاع والآلام، متناهية في التعذيب والنكال، يمكنها الوقوع في درجة الرمز والإشارة لما كابد سيِّدنا يسوع المسيح، من الطرد والحقارة، من الكآبة والأنصاب، من الأوجاع وأشكال الآلام.

فمن جملة الأنبياء والصالحين الذين تشرَّفوا بالمماثلة، وأقامهم الحقّ تعالى في مقام الرموز والإشاير لأحوال سيِّدنا يسوع المسيح، (أيوب)

***

1. فأيُّوب الصدِّيق قد مثَّله في أمور شتَّى، كونه كان صاحب مال ودنيا متَّسعة، أجلّ الأمراء في مملكة أدوم. ومن حيث المال وحسن الجاه وعلوّ الشأن، لا نظير له بين جميع أكابر بلاد الشرق. فانتُهبت جميع أمواله وافتقر حتّى جلس على الثرى والمزبلة. وعاد كما ولدته أمُّه عاريًا، وسيِّدنا يسوع المسيح، كان ملك الدنيا بأسرها، ضابط السماء والأرض وجميع ما فيها، فترك مجده المتعالي، وتعرَّى من جميع أملاكه. ويوم ولدته أمُّه البتول، وضعته على التبن في مذود البقر.

2. أيُّوب الصدِّيق في أيَّام القلَّة والدلَّة والعلَّة، زارته ثلثة من أشراف الأمراء. وسيِّدنا يسوع المسيح، حين كان في الإصطبل، أتته ثلثة من المجوس.

3. أيُّوب الصدِّيق كان يرشد الناس ويهديهم بالتعليم، وهم مبتهجون بسماع ما يقول، كما شهد على نفسه بما قال في الفصل التاسع والعشرين من كتابه: «المستمعون كلامي كانوا ينتظرون نصوص أقوالي صامتين مستيقظين لاستماع شوري». وسيِّدنا يسوع المسيح أتى إلى العالم لتعليم الناس، وهم متشوِّقون إلى لقائه واستماع مقاله كما شهد لوقا الإنجيليّ في الفصل الثامن من بشارته حيث قال: «كانت الجموع تخرج من المدن ويأتون إليه ويتبعونه».

4. أيُّوب الصدِّيق كانت أياديه في الجود والإحسان، حسبما شهد على نفسه في الفصل المذكور قايلاً: «كنت للعميان عينًا، وللعرجان رِجلاً، وكنت للمساكين والأيتام بمنزلة الأب». وسيِّدنا يسوع المسيح شهدوا في حقِّه بما ذكر في الفصل الأوَّل من الأبركسيس (أو: أعمال الرسل): حيثما توجَّه وجاز، كان يُفيض الجود والإحسان.

5.   أيُّوب الصدِّيق كان يأوي الغرباء، ويضيفهم وخدّامهم ومواشيهم. ولشدَّة حبِّهم له، كانوا يتمنُّون أكْلَ جسده وإدخاله داخل قلوبهم. وسيِّدنا يسوع المسيح أشبع الجمّ الغفير في البرِّ المقفر، وقدَّم لنا جسده الشريف مأكلاً، ودمه الكريم مشربًا.

6.   وأيُّوب الصدِّيق (الإله) فوَّض الحقُّ سبحانه تعالى أمرَه إلى الشيطان، ليفعل به مهما شاء من الضرر. وسيِّدنا يسوع المسيح، لمّا سلَّمه يهوذا الإسخريوطيّ ليد اليهود، قد شهد أنَّ تلك الساعة كانت لهم، وأنَّها ساعة سلطنة الظلمة، يعني بها سلطنة الشيطان.

7.   أيُّوب الصدِّيق أهله وأصحابه وخدَّامه، هربوا وهجروه وتركوه وفرُّوا عنه. وسيِّدنا يسوع المسيح، في نفس الليلة التي أُخذ فيها، تركته التلاميذ وفرُّوا عنه.

8.   أيُّوب الصدِّيق أغصبوه (أو: غصبوه) بالخروج إلى خارج المدينة، كي إن مات يموت هناك. وسيِّدنا يسوع المسيح، حكموا عليه بحملان الصليب، والخروج إلى خارج أورشليم ليُصلب هناك.

9.   أيُّوب الصدِّيق ابتُلي بأشرِّ أحوال الفقر والقلَّة، ولم يملك خرقة، بل التزم بالظورة إلى قطعةٍ من الخزف، وأزال بها الصديد عن جسده. وسيِّدنا يسوع المسيح لم يملك شيئًا طول حياته، وفي ساعة الموت، جرَّدوه من جميع أثوابه وصلبوه عريانًا.

10. أيُّوب الصدِّيق ضُرب بقرحةٍ أشدَّ أنواع القروح وأقبحها، ممتدَّة من الذروة إلى القدم، محرقة كالجمر الوقيد، آكلة لجسده الشريف كالآكلة، مفسدة اللحم كالبرص، ومسمومة تجري السمّ كالطاعون، كون الشيطان البغيض العاري قلبه من الرحم، القاسي كالحديد، ما ترك نوعًا من السقام إلاَّ وسلَّطه عليه، ولهذا شكى الصدِّيق إلى الحقِّ تعالى من مكايد اللعين بقوله: «أحاطني بجميع سهامه». وشكى أيضًا من يده، أنَّه فوق ما هو فيه من الوجع، ضاعف عليه الأوجاع في إذاء جسده، حيث قال في الفصل السادس عشر من كتابه جرحه جراحًا داخل جروحاتي، وعاد عليه بمنزلة الجبّار.

وقد ذكر المفسِّرون واستدلُّوا من نتيجة كلامه المحرَّرة في مواضع شتَّى من كتابه، واستعدُّوا أنواعًا ما كانت في جميع أعضايه من صنوف الأوجاع، من جملتها رأسه كان مبتليًا بالصداع يحسُّ به كضرب الفأس، وفمه كان مملوءًا بحبِّ القلاع، وخدوده متورِّمة من كثرة الخدود، وعينيه دامية متقرِّحة بفرط البكاء وشدَّة الحرارة النازلة على الجفون، يديه وقدميه بوجع النقرس، وجميع المفاصل بالضربات. جلده قد اسودَّ بسخونة الحمّى المحرقة، والتصقَ بالعظام من شدَّة الحرارة، وعاد كالمعلول بسوء السلّ. أحشاؤه معذَّبة بأنواع الأوجاع الخاصَّة بها. كلامه بوجه الحصاء، وقلبه بالغلبة والخفقان وخواصره بالناخز. وتمزَّقت إمعاؤه بالتزحير وصيبة الدم، واتَّصل الفساد في نواحي جسده بأسرها، وامتلأت بالديدان ولا يفترون الليل والنهار من اللدغ والإيلام.

وقال بعض العلماء: إنَّ كلَّ دودة دخل الشيطان فيها لإيلامه بها، يعذِّبونه من غير فاصل على ممرِّ الدقايق والأنفاس، والأوجاع الناشية عنها لا تعبر باللسان ولا تدخل تحت حيطة البيان. وكلُّ فردٍ من هذه السقام كان موجبًا للموت، وكان مات مرَّات عديدة لو لم يسوسها الشيطان بتدبيره، حسبما أذِنَ له بتعذيبه الحقُّ تعالى بقوله: سلَّمتُ في يديك جسده، وأمّا نفسه فاحتفظْ منها.

وسيِّدنا يسوع المسيح آلامه شتّى. فقد شهد عنه إشعيا النبيّ، أنَّه لم يوجد في جسده من القدم إلى الهامة موضع معافى سالم. فإنَّ رأسه تألَّم بإكليل الشوك. الشعر واللحية بالنتف. وخدوده باللطم، ووجهه المبارك كلُّه بالتفل. وعنقه بشدِّ الحبال. وأكتافه بحملان الصليب. ويداه وقدماه بالمسامير. وأعصابه ومفاصله بالتفكُّك في الصلبوت، وخاصرته بطعن الرمح. وكلُّ جسده بجلد السياط. وما تركوا في جسده محلاًّ سالماً من أذى الجروحات، مع ما أنَّ روحه كانت أشرف الأرواح، وجسده في الرقَّة واللطف والنضارة. وجلالة قدره أرقى الدرجات وأعلاها، فعادت آلامه أشدّ الآلام وأصعبها. ولهذا قال بلسان إرميا النبيّ: أيُّها السائرين (أو: السائرون) في الطريق انظروا وتبصَّروا، هل يوجد آلام مثل آلامي.

11. أيُّوب الصدِّيق. فإنَّ الأوجاع والأسقام العارضة له، غيَّروا صورته ومنظر وجهه، حتّى إنَّ المحبِّين القادمين لزيارته كادوا أن لا يعرفوه، وبُهتوا ناظرين إليه. وسيدِّنا يسوع المسيح. من كثرة الضرب واللطم والتفل، تبدَّل شكل صورته الشريفة إلى أن قال عنه إشعيا النبيّ: نظرنا إليه فلم نزله منظرًا.

12. أيُّوب الصدِّيق اشتكا (أو: اشتكى) أنَّ أهله وأقاربه وخدَّامه ومواشيه والمحبِّين من أخواته، هجروه وفرّوا منه وتركوه وحيدًا. وسيِّدنا يسوع المسيح، هجرته تلاميذه وهربوا وتركوه منفردًا يوم آلامه، بل أبوه السماويّ تخلَّى عنه حتّى قال وهو على الصليب: إلهي إلهي لماذا تركتني.

13. أيُّوب الصدِّيق. فإنَّ المحبِّين لمّا أبصروه وما هو فيه من البلاء شتموه ونسبوه إلى الرياء والنفاق والتجديف. وسيِّدنا يسوع المسيح، الكهنة والشعب الواجب عليهم أن يقبلوه بالشكر والتمجيد، عابوه وقالوا في عرضه بما لا يليق: إنَّه ساحر، كذّاب، فتنيّ، مجدِّف.

14. أيُّوب الصدِّيق دعا بالصفح والغفران، إلى الذين عوض التسلية وتسكين الخاطر، كدَّروه وأغاظوا خاطره. وسيِّدنا يسوع المسيح، تضرَّع وابتهل إلى الحقّ تعالى، وطلب الغفران للذين بعدما صلبوه كانوا يغيظونه بالشتم والتعيير.

15. أيُّوب الصدِّيق قِبَل الله دعوتَه وغفر للذين أغاظوه وكدَّروه، لمّا ندموا على ما صدر منهم من النقصان والخطايا في حقِّه. وسيِّدنا يسوع المسيح، أجاب الله دعاه (أو: دعاءه) وغفر لجميع أهل الأرض، فضلاً عن الساعين في قتله إن تابوا وإلى الحقِّ أثابوا (أو: ثابوا).

16. أيُّوب الصدِّيق صبر الصبر الجميل، واحتمل أوجاع قالته، وقابلها بالرضى وعزم القلب، إلى أن تحنَّن الباري وأزالها عنه بالشفاء والعافية. وسيِّدنا يسوع المسيح صبر شاكرًا حامدًا، لا مغضبًا ولا كارهًا، حتّى انتهى إلى آخر العمر ومات على الصليب.

17. أيُّوب الصدِّيق نال جميع ما فقد وخسر من الأموال والدوية، وضاعف الله عليه العطيَّة الضعف ضعفين، وتمتَّع بالهناء والرفاهيَّة بغير تكله وآلام عمرًا طويلاً. وسيِّدنا يسوع المسيح قام من بين الأموات بمجدٍ عظيم ودولة البقاء إلى أبد الآبدين. ونال في الملكوت أجر صبره ومكافأة احتمال، ما لا يدخل تحت حيطة البيان، ولا يحصيه التقرير باللسان.

18. أيُّوب الصدِّيق لمّا خلع الله عليه ملابس السعادة والإقبال، أقبلت إليه الأكابر والعوالي والأفاضل وجميع الخلق على طبقاتهم، بالمجد والثناء والشكر الجزيل والتهنية، حتّى واليوم ذكره في جميع المَواطن، مبتهج، مشكور، ممتدح، محمود. وسيِّدنا يسوع المسيح، بعد صعوده إلى السماء ودخوله إلى قصور الملكوت، فجميع الخلايق آمنوا به وعبدوه، وأطلقوا عليه ألسنة المحامد بالشكر والثناء الجميل، ولا يوجد أقليم من الأقاليم ولا بقعة من البقاع ولا ديرة من الديار، إلاَّ واسم المسيح لديهم معروف، مشكور، معبود بأنواع العبوديَّة والتكريم والسجود.

***

لكنَّ المناسبة التي بها كان أيُّوب الصدِّيق رمزًا وإشارة لسيِّدنا يسوع المسيح، وماثله بطريق الحما المماثلات، وهو كونه كان بارًّا تقيًّا نقيًّا سالمًا من كلِّ إثم وخطيئة، حسبما شهد الحقُّ تعالى في حقِّه: إنَّ في جميع ما قال أيُّوب الصدِّيق لم تكن عليه خطيئة قطّ. وأجلّ مقاصد الروح القدس ومطلبه الأخصّ، فمن إظهار كتاب أيُّوب الصدِّيق إنَّما هو إعلان براءته وطهارته من جميع النقايص والأنام. ولو تعذَّب وعوقب بأنواع الشدايد وقاسى أصناف السقام المؤلمة، فإنَّها ما كانت من قبيل مجازاة ما فعل من المناهي والخطايا،

لأنَّ الروح القدس الناطق على ألسنة الأنبياء، كان عالمًا بالعلم الأزليّ السابق، أنَّ كثيرًا من الناس يقع التشكيك في قلوبهم، من أجل مقاسات أنواع البلايا التي قاساها سيِّدنا يسوع المسيح، في أيَّام حياته ومماته على الصليب، من باب الظنِّ بأنَّه لو كان صالحًا بارًّا مرسلاً من جناب الباري لتخليص الناس، لما كان يُظلَم ويُعاقَب بتلك العقوبات والمصايب، وأشكال القهر والشدايد، إذ الحقُّ تعالى حكيم عادل، لا يَظلم أحدًا ولا يعاقبه بغير سبب وذنب سالف، بل يكافئ عباده الأتقياء، ويدافع عنهم مواقع الإساء، ويصونهم بمنزلة حدقة العين، ولا يدع أحد الجبابرة والفراعنة يتسلَّطون عليهم أو يوصلوا الضرر عليهم.

ولهذه العلَّة قد أظهر قضيَّة أيُّوب الصدِّيق، كي يعلِّمنا أنَّ لا كلَّ مبتلي خاطئ، ولا البلايا التي بلي بها جزاء معاصيه، حيث أنَّ الباري تعالى مرارًا متعدِّدة، قد يبلي العبد بنوع من المكاره وهو بريء طاهر، ويشدُّ عليه في المحن، كونه عزَّ وجلَّ يريد أن يضاعف له المواهب في دار النعيم، ويرقِّيه إلى المرتبة المعيَّنة له قبل إنشاء الدهور، أو لسبب آخر لم يعلمه أحد سواه.

ولأجل هذه العلَّة، أيُّوب الصدِّيق اجتهد الجهد الكلّيّ في البحث والمجادلة، وإقامة الدليل والبرهان، ليعكس ما قالته المحبُّون، حيث إنَّهم عوض ما كان المطلوب منهم تسلية خاطره وتسكين قلبه، كانوا يغيظونه يتطويل كلامهم الباطل، من غير لياقة ولا مناسبة ولا صواب، لأنَّهم كانوا يقولون ابتداءً بالحقِّ والمعقول، وينتجون منه شيئًا باطلاً خارجًا عن دائرة الحقِّ الصحيح حين قالوا: إنَّ الحقَّ تعالى عادل مقسط، غير ظالم، يعذِّب الخطأة بسوء أفعالهم، ويكافئ الأبرار بحسن أعمالهم. ومن قال عنه سبحانه، أنَّه يعذِّب الخاطئ فوق استحقاقه كفر، وهذا حقٌّ صحيح، ليس فيه خلاف، لكنَّ النتيجة التي أخرجوها من ذلك المقال باطلة كذب محض، خارجة عن قوانين المنطق، من حيث إنَّهم كانوا يقولون من باب الاستخراج واقتضاء الملاحقة: إن أيُّوب الصدِّيق شرِّير خاطئ، لأنَّه مبتلي، عذَّبه الله بأنواع العقوبات.

***

وبهذه الحيثيَّة، كان القدِّيس يوحنّا فم الذهب والقدِّيس أغستينوس والقدِّيس غريغوريوس المعظَّم بابا روميه، يسمُّون أولئك المحبِّين السابق ذكرهم، أراتقة كلامهم خارج عن الحقّ.

فأمّا أيُّوب الصدِّيق، فإنَّه كان ينافي كلام الخارجين بحرارة القلب، في المواجهة من غير عيّ ولا ملل بقوله: صدقتم بأنَّ الله عادل على القسطاس المستقيم، لكن قد شوهد مرارًا متعدِّدة أنَّ الخاطئ متنعِّم مبسوط، بنجاح المطالب وحصول الآمال. وأمّا الصالح متكدِّر محزون بوقوع الأكدار والآلام والحال، التي برئ من الكبائر وفي العذاب فوق الاستحقاق. واستمرَّ القدِّيس على هذا الرأي والإقرار، ولم يتحوَّل عنه بالعجز عن المجادلة والبحث، بل استقام على تأكيده وتأييده، كلَّما أتاهم بنوع من الدليل والبرهان، إلى أن تجلَّى الباري عليهم وفصل الدعوى، بأنَّ الحقَّ مع أيُّوب، وهو محقّ فيما قال وادَّعى، وأمّا المحبِّين (أو: المحبّون) فإنَّهم على الباطل.

ولهذا أيُّها الأخ الأجلّ، فلا تتَّهم أيُّوب الصدِّيق بسوء الظنّ، ولا تنسب إليه النقص باللوم والعتاب، من حيث إنَّه أطال البحث والجدال في مزيَّة النفس وتزكية روحه من الخلل، لأنَّه ما قال جميع ذلك عن ذاته فقط، بل كونه كان في مقام الرمز والإشارة، فيما سيجرى لسيِّدنا يسوع المسيح الذي تعذَّب وهو بريء طاهر. وهذا فقصْدُ الروح القدس وغرضه من تأليف هذا الكتاب المحتوي على اثنين وأربعين فصلاً، كونه عزَّ وجلّ استعمل خمسة وثلاثين منها في إيضاح هذه القضيَّة وإثباتها، أنَّ لا كلَّ مبتلي خاطئ.

وإن ورد السؤال عن تاريخ أيُّوب الصدِّيق: في أيِّ دهر كان، ومن الذي صنَّف كتابه، ومتى كان ظهوره وإطلاع الناس عليه، وأيّ معلِّمين سعوا في تفسيره، وأيّ المنفعة الحاصلة منه للمؤمنين.

اعلم أنَّ أصحاب غالب التواريخ قالوا، بأنَّ أيُّوب الصدِّيقُ ولد في مكان يدعى سدر حلام سنة ألفين وثلثماية وثمانية وعشرين من مبدأ الخليقة، حين كان ليعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم من عمره ماية وثلثون سنة، وعمر يوسف الحسن تسعة أعوام، ومن مبدأ ملك الأثوريِّين سنة ثلثماية وسبع وتسعين، وذلك قبل ميلاد سيِّدنا يسوع المسيح بألف وسبعماية وخمس وعشرون (أو: عشرين) سنة، وأخبرنا القدِّيس أثناسيوس، بأنَّ أيُّوب الصدِّيق كان في العمر ابن سبعين سنة، حين أذن الله تعالى للشيطان بالتصرُّف فيه كما أراد في جسده وأملاكه.

وقال القدِّيس كيريلُّس، بأنَّه استمرَّ في مقاسات (أو: مقاساة) البلايا سبعة أعوام، لأنَّ النعم ما زالت عنه دفعة واحدة بل بالتواريخ. ولمّا نزلت البليَّة بالدواب والمواشي، كان ذا أملاك وأراضي وبساتين وبيوت، مملوءة بالتجمُّلات والنقود والحلى والحلل. ولم يُضرَب بسهام الأوجاع ورماح السقام بيوم واحد، بل بشدَّة وراشدة وسقم بعد سقم لأنَّها لو نزلت به مرَّة واحدة لفارق الحياة. والشيطان اللعين عارف مكان حيلي يرجوا في تسليطه المصايب، عساه بالطولة يوقع الصدِّيق في الخطيئة بالضجر والتجديف. ولهذا قالت المؤرِّخون، أنَّ أيُّوب الصدِّيق ابتلي أوَّلاً بالأمراض الباطنة، والحكماء عالجوه بأنواع التداوي والمعالجات، فلم ينجح الأمر في منفعة ولا شفاء، لكن كلَّما وضعوا أياديهم في علاج داء من الأدواء، زاد الألم والوجع حتّى كلُّوا عن مداواته. حيث إنَّهم لم يشرعوا في مداواة سقم من الأسقام، إلاَّ وزاد كلُّ واحدٍ منها عشرة أضعاف. واستمرَّت الشطَّار من الحكماء وأساطين الأطبّا يتردَّدوا (أو: يترددون) إليه بأنواع المداواة والعلاج ستَّة أعوام، حتَّى نفدت الأموال، وبلي الصدِّيق بالقلَّة والفقر. ومهما تبقَّى من بقايا التجمُّلات، سطت عليه الحواشي والخدّام واستغنموه وأخذوه، كما تؤخذ الغنايم لعَدَم الوالي والناظر.

وفي السنة السابعة ابتُلي بغاية الفقر والقلَّة، ولم يبقَ عنده لا مؤنس ولا خادم سوى زوجته وحدها، واقفةً له في الخدمة وقضا الحوائج. وكانت كما قال القدِّيس باسيليوس والقدِّيس يوحنّا فم الذهب، تستعطي النفقة بالصدقة من الأبواب. وفي تلك السنة، اجتهد اللعين الجهد الكلّيّ في تعذيب الصدِّيق، بأقبح ما عنده من صنوف الشرور والأذى، وضربه بجنس من البرص الحاوي لجميع أنواع الأوجاع. المشكلة من فرقه إلى قدمه، وبه توزَّم جسده، وتقزَّز بفساد لحمه، وأنتن وفاحت منه الروائح المستقبحة أشدَّ نتنًا من روائح الجيف. وانفسد جوهر الهواء من نفخاتها. وأَلزمتْ بالفرار والهرب من كان حوله من الناس. ولكون ناموس البلاد أقضى (أو: قضى) أنَّ الأبرص لا يقيم بين الناس ولا يسكن في منازلهم، فاستكروا بعض الأدنياء من الخلق، فحملوه إلى خارج المدينة، وأتوا به إلى البرِّيَّة، وألقوه كما الجيفة على مزبلة ليس تحته وطا ولا فوقه غطا.

وكلُّ من قربَه فرَّ وسدَّ خياشيمه كرهًا لنتن الرائحة، إلاَّ زوجته تابعة له وخادمة ما دام في سوء الأحوال. لكن التحق بها في الآخر الضجر، وأخذها الملل من القلَّة وشدَّة السقم وقبح العلَّة ونتنها. وقالت له من ضيق قلبها ونزاقة خلقها: «حتّى إلى الآن أنت مستمسك بالصلاح. أعرضْ عن ربِّك بالشتم والتجديف، وإن استطعت الموت متّ». وقال القدِّيس يوحنّا فم الذهب: إنَّ الشيطان أبقى زوجة الصدِّيق بالعافية سالمة من العذاب إلى آخر الأمر، ليستعملها في إلقاء أيُّوب في حفرة الكفر والخطيئة، السهمَ الصايب يطعنه بطعن الافتراء من غير تشكيك.

فالصدِّيق لمّا سمع مقالها وبَّخها، ونسب خطيئتها للجهّال وقلَّة العقل، وعلَّمها أنَّ الباري تعالى مستحقٌّ لعبوديَّة العبد، سواء كان في النعيم أو التعب الأليم، إذ الواجب على الإنسان أن يحبَّ الجوّاد أكثر من الجودة، والمعطي فوق العطيَّة، وأن الله إله متى ما أفاض الخير ومتى ما أزاله، والعبد عبد على الدوام. والواجب عليه اتِّباع أحكام إرادته عزَّ وجلّ، وقبولها سواء كانت مستكرهة أو ما لوقت للغرض.

فانطلقت حردانة من عنده، ولم تَعُد إلاَّ لتلقي عليه قطعة من المأكول: إن شاء فليحيى، وإن شاء فليمت. وأصبح أيُّوب الصدِّيق غريقًا في بحار القلَّة والوحدة، ليس عنده شيء يستعين به عند الاضطرار، ولا قطعة من الثوب الخلق يزيل بها مسحًا ما يسيل من الصديد، بل التزم أن يأخذ قطعةً من الخزف لمسح القروح الجارية دمًا وقيحًا. ولمّا كان الخزف مُزيدًا على القروح ألمًا وجرحًا، تدمَّل جسده جميعًا بأصناف الدمامل، وامتلأ بلوته من الصديد المفسود. حينئذٍ تولد الدود لدغًا في القروح. وأكلوا لحمه، وخزَّقوا جسده، ونخروا العظام، وعطفوا على أكل الثوب الذي كان مستترًا به، كما قد شهد على نفسه في الفصل الثلثين من كتابه حين قال: "في الليل عظامي نخرت بالأوجاع، والأكالاي لا يرقدون، ومن كثرتهم فسدت ثيابي.

وأمّا الصدِّيق في تلك الأحوال المتصعِّبة، لم يتكدّر قلبه ولم يتمرمر كرهًا لأحكام الباري، بل قابل تلك المحن بالصبر والرضاء والشكر والثناء، وقلبه معموم بالرجاء أنَّ الحقَّ سينجِّيه، وكلّ اجتهاده وعامَّة مطلوبه أن تكون إرادته موافقة لإرادة الله تعالى، ولا يرغب في شفاء علَّة وإلاَّ كما يريد الله إيلامه بها. ولهذا نقل بعض من العلماء بقوله، أنَّه كان كلَّما سقطت دودة من جسده رفعها وتركها في موضعها، لأنَّه استعمل جميع أنواع التداوي. ولمّا شاهد عجز الأطبّاء عن مداواته، تحقَّق علم اليقين من عجزهم أنَّه قد تمَّت قوَّة فعّالة أرقى من فوقهم وأعلى، وأنَّ الباري تعالى مُريد تألَّمه بجميع ما لديه من الأوجاع.

***

واستمرَّ هكذا يتقلَّب تحت أنواع الأوجاع، حتّى انقضت سبعة أعوام، واتَّصلت أخباره إلى كلِّ بلدةٍ في ديرته، واتَّفقت ثلاثة من الأمراء على المجيء إلى عند أيُّوب الصدِّيق بنيَّة الزيارة. قال واحد يقال له أليفاز أمير مدينة تيمان، والآخر أمير مدينة بلداد أمير مدينة شوحان، والثالث سوفار أمير مدينة نعمتان. وهؤلاء المدن الثلثة من ديرة بلاد أدوم. ولمّا اتَّصلوا وقربوا إليه لم يعرفوه، لأنَّه ما تمَّ على جسده شيء سواء (أو: سوى) جلدة مستورة مخزَّقة من شدَّة النحول وصولة الديدان. وبعدما أقاموا عنده سبعة أيَّام بلياليها، صامتين من الحيرة لا يتكلَّمون، افتتح الصدِّيق فمه، ودخل إلى دايرة الكلام الذي صدرت منه المحاولة، واستطال البحث والجدال. إلى أن تجلَّى الباري؛ وفصل بينهم الدعوى، وبَّخ الزوّار على بطلان آرايهم. وشكر أيُّوب الصدِّيق على صحَّة كلامه وصدقه فيما قال، وبارك عليه وشفاه من جميع العلل في لمحة البصر. وعاد جسده في القوَّة والنضارة والصحَّة، مثل الشابِّ الغادي في تمُّوز عزِّه.

ولمّا سمعت الأهل والأقارب وجميع الأحبّاء والخلاّن، أقبلوا إليه بالتهنية فوجًا بعد فوج، وقدَّموا له الهدايا والخلع، وحصل عندهم السرور التام إلى النهاية. وأمّا الصدِّيق ففي مدَّة يسيرة، استغنى واحتوى عنده من الدنيا جانب عظيم، وتسبّب فيه واكتسب. فاضت عليه الكثرة، وعاد كلّما (أو: كلُّ ما) فقد من الأرزاق لديه موجود المثل مثلين، وقضى بقيَّة عمره في العزِّ والسعادة وهناء العيش والرفاهيَّة نحو ماية وأربعين سنة. ولمّا انتهى في العمر والحياة الدنيويَّة إلى مايتي وسبعة عشرة سنة، أتاه الأجل وانتقل إلى جوار الباري تبارك وتعالى. فوافقت سنة وفاته من خلقة الدنيا سنة الخامسة والأربعين بعد الألفين والخمسماية. وكان عمر هارون يومئذٍ خمسة وثمانين سنة، وأوَّل عام جلوسه على كرسيّ رئاسة الأحبار. وكان موسى الكليم في العمر اثنين وثمانين سنة. وكانت سنة ملك الأثوريِّين ستماية وأربع عشرة سنة قبل مجيء سيِّدنا يسوع المسيح بألف وخمساية وثمانية أعوام.

قال المؤرِّخون: إنَّ أيُّوب الصدِّيق حرَّر جميع ما حلَّ به من النوايب وشدايد الآلام باللغة العربيَّة، بعدما عافه الله وعاده إلى الدولة والرفاهية. والكتاب الذي حرَّره هو أوَّل الكتب المقدَّسة التي برزت للوجود بإلهام روح القدس. واتَّصل ذلك الكتاب إلى يد موسى الكليم، حين خرج هاربًا من مصر لأجل المقتول بيده، واختفى في زوايا براري العرب عند أمين مدين، وترجمه الكليم بالنقل من العربي إلى اللغة العبرانيَّة. ولمّا عاود إلى مصر، أتى به وعاد يقرأه على العبرانيِّين ليسلِّي خواطرهم ويسكن قلوبهم بالصبر واحتمال المكاره، حسبما يسمعون بما حلَّ بأيُّوب الصدِّيق من الأهوال، وهو شاكرًا (أو: شاكرٌ) لله من أجلها بالقبول والصبر الجميل.

***

وأنا الفقير، لمّا شاهدت الكرب والشدايد، وصنوف الهموم والأحزان والنوايب، المستولية على المسيحيِّين القاطنين تحت حكم بني عثمان، من جهة الجزية والخساير وأنواع التكاليف ودواعي الذلّ والهوان، والغمّ المسلسل والهمّ المتَّصل على ممرِّ الليالي والأيّام، فما وجدت شيئًا يناسب ما هم فيه من تصاريف الدهور لتسكين القلوب وتسلية الخواطر، مثل كتاب الصدِّيق أيُّوب، لاشتماله على الصبر والثبوت وكمال التحمُّل، وعدم الضجر والانزعاج، بمواصلة السقام وتتابع المضايق والآلام، وأيضًا الأجر الجزيل الذي أعطاه الله في الدنيا بانقضاء مدَّة الشدايد ومجيء أوقات الشفاء والفرج بالسعادة، لتقوى قلوبُهم بانتظار الفرح ورجاء المكافأة دنيا وآخرة. مع وجود اعتقادهم الصحيح أنَّ الله تعالى كريم جوّاد رحيم عالم بالحال، لا يبلي مخلوق إلاَّ وهو يعلم أنَّ البلايا له نفع عظيم وعقباه أجر لا نهاية له، ويتذكَّرون على ممرِّ الأحيان ما قاله يعقوب الرسول في الفصل الخامس من رسالته حيث قال، من باب التسلية وتسكين قلوب المسيحيِّين من أهل الشدايد والكرب: «قد سمعتم بصبر أيُّوب ورأيتم ما فعل الربُّ معه في النهاية فإنَّ الربَّ رأوف رحيم».

لكنَّ أقاويل القدِّيسين ونصايح الأبرار المخلصين، كونها شديدة التأثير في المسامع والقلوب وتنوير العقول واجتذاب الإرادة إلى الأفعال المرضيَّة للربِّ تعالى، ترجمت الأربعة مواعظ التي ألَّفها القدِّيس يوحنّا فم الذهب في تمجيد أيُّوب الصدِّيق وتعظيم صبره الجميل، واستخرجتها من اللغة اليونانيَّة إلى اللغة العربيَّة، وأضفتُ إليها بطريق الانتخاب بعض أقاويله المحرَّرة في مؤلَّفاته المتعدِّدة في شأن الصدِّيق السابق ذكره، وجعلتها بالجملة في مقام الموعظة الخامسة.

ولكون جميع العلماء وأصحاب التأليف، يوردون القضايا قبل الشروع في تفسير معانيها، فقدَّمت أخبار أيُّوب الصدِّيق حسبما هي محرَّرة في الكتب المقدَّسة، قبل تقديم ما فسَّره القدِّيس يوحنّا فم الذهب. ولم أذكر سوى الفصل الأوَّل والثاني والأخير، لأنَّ القدِّيس المذكور ما أطنب في التفسير إلاَّ تلك الفصول الثلثة. وبقيَّة الفصول التي هي تسعة وثلثون فصلاً حرَّرتها على وجه الاختصار واختصرتها في فصل واحد، حيث إنَّ القدِّيس لم يذكر من تلك الفصول إلاَّ القليل. ولم أورد الفصول المذكورة لفظة فلفظة، بل شرحت مضامينها كي يهون فهمها على المتأمِّلين.

فالمأمول منكم الدعا بحسن الختام. مثلما أوضحتُ لكم الطريق وسهَّلت لكم فهم المواعظ الخمسة الآتي ذكرها، فكذلك تطلبون من الكريم الوهّاب أن يساعدني بالتوفيق والعناية، ويسهِّل إليَّ الصبر واحتمال ما تمَّ عليَّ من أثقال المكاره في الدنيا ويجازيني وإيَّاكم في الآخرة، مع أيُّوب الصدِّيق والقدِّيس مار يوحنّا فم الذهب وساير القدِّيسين خير الجزاء والثواب آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM