تيودور بركوني: أيوب الصديق

تيودور بركوني

أيوب الصديق

ما تركه تيودور بركوني من شروح تشبه موسوعة دينية. عنوانه كتاب الدريسات(1) أو المقالات القصيرة. حُفظ في تسختين. في واحدة منها نقرأ نصاً قصيراً(2): أيوب، في مقطعين. في الأول مقدّمة. وفي الثاني: شرح الكلمات الصعبة التي في سفر أيوب. في النسخة الثانية(3)، نقرأ 14 سؤالاً وجوابًا، مع جواب طويل حول بهيموت. أما الاسئلة فهي من نوع: بهيموت، بدون شكل. هوتنين مستنبط. لجج السيل: أعماق السيول. مدّ الشمال انطلاقًا من البريّة: قال من الشمال للاقطار الأربعة. البرية: من لا شيء. اللهيب: دخان يخرج، إما من القدر وإما من النار تحتها. تشعل: تنزل وتخرج...

قال بعض الناس إنَّ (أيُّوب) كان بعد الشريعة، ولكنَّهم مالوا كثيرًا عن الحقيقة. فإن كان موسى واهب الشريعة هو الخامس بعد إبراهيم، وهو (أيُّوب) الخامس بحسب كلام اليونان، فكيف يكون متأخِّرًا عن الشريعة؟

إبراهيم وَلد إسحاق. إسحاق، عيسو. عيسو، رعوئيل. رعوئيل، زارح. زارح، يوباب الذي هو أيُّوب، الذي قيل فيه بحسب كلام موسى إنَّه ملكَ في أدوم (تك 36: 31-33). فإن تحرَّى إنسان أنَّ يوباب هذا غير أيُّوب، ليعطنا اسمًا آخر غير اسم أيُّوب الذي ملك في أدوم ونحن نصدِّقه.

والأكثر شرًّا من كلِّ هذه، هو أنَّ أناسًا تجرَّأوا فقالوا: إنَّ خبر الصدِّيق كُتب بيد موسى الطوباويّ. وأولئك الذين قالوا بأنفسهم هذا، قالوا أيضًا إنَّه وُلد أيضًا بعد الشريعة عشرةُ أجيال أو اثنا عشر جيلاً. لا أعرف كيف سُلبَتْ منهم حقيقة المعرفة: مَن ذاك الذي ما كان وُلد بعد، من وَلد أبناء ووضع لهم أسماء، مع أصدقائه، أسماءهم وحساب مقتناه، أن يكتب موسى خبرَه كما لو أنَّه حصل من قبل! إلاَّ إذا قالوا إنَّه تنبَّأ تنبؤًا كما تنبَّأ أيضًا على مخلِّصنا. ولكن ها هو الكفر. وأولئك الذين إذ أرادوا أن يمدحوا شاعريَّة متجلِّية أفاضها كاتب هذا الخبر، مع استنباط فارغ لأسماء الحيوانات، حاولوا أن يربطوها بموسى الطوباويّ لكي يكون موضعٌ لقيام ضلالتهم.

يبدو أنَّ زمانه هو في الجيل الثاني الذي وُجد في مصر يوم كان يوسف بعدُ حيًّا أو بعد موته بقليل.

ما هو هدف كتاب أيُّوب هذا، وكيف رُكِّبت روايته بواسطة الكاتب نفسه، سواء وُجدتْ أم لا؟

كلُّ الكتب المقدَّسة في طريق ملوك واحدة، أجروا الحياة وهم يعلِّمون سامعيهم معرفة الله وعمل ما يَحسن في عينيه. ويدلُّون أيضًا على العذابات المحفوظة للذين ضلُّوا عن الله، ومارسوا ما يضايق الله والبشر. وفي طريق الحقِّ هذه، جرَوا كلُّهم معًا سويَّة فوضعوا على الأساس الوحيد للحقيقة أركان بنائهم، وما استأصلوا الأركان التي وضعها الأوَّلون. لكن إذ نصبوا عليها حجارة بناء تعليمهم، بحيث يصعد منظر البناء بشكل مستقيم بمنأى عن الفساد والانحراف، وهذا البناء قد أتقنوه وأنهوه بشكل مختلف: منهم إذ تنبَّأ وعلَّم مثل موسى في أسفاره الخمسة. منهم من تنبّأ على الأزمنة الأولى والأزمنة الأخيرة. ومنهم من فقَّهوهم وعلَّموهم بكلام الفقاهة، مثل داود الطوباويّ والأنبياء كلّهم، ومنهم من كتب بالأمثال والألغاز كتاباتهم، لكي يعلِّموا، من أجل السبب عينه، سامعيهم معرفة الله والحياة الفاضلة، مثل أمثال سليمان وكتاب يشوع بن شمعون المدعو ابن سيراخ. ومنهم من كتب روايات أعمال تمَّت بيد أناس، إمّا بشكل عامّ تجاه العموم، وإمّا بشكل فرديّ تجاه الأشخاص والأفراد.

وهذه المعرفة أيضًا جدَّدها البشر، إذ بواسطة الروايات التي كتبوا، علَّموا أيضًا عن الله وعن ممارسة الفضيلة: أيَّة فائدة تقتني مخافةُ الله للذين يحفظونها، وبأيِّ ضرر يمتلئ نسيانُ الله والعمل ضدَّ مشيئته – أو ما هو كتاب يشوع بن نون والقضاة وراعوت وسفر الملوك([1])، تذكُّرًا للروايات القديمة لأعمال القدماء والأجور المختلفة التي نالها الصالحون والأشرار. فكلُّ واحد منهم (= من الكتّاب) بحسب مؤلَّفاته جرى، وعلَّم أولئك الذين يقرأون كتبه ليُسرعوا نحو معرفة الله والعمل بما يرضي ويبتعد عن الضلال وعن السلوك المشين، ليُفلتوا من العقاب المحفوظ للأشرار، ويتقبَّلوا الجزاء المحفوظ للصالحين.

وهذا السبيل رآه أيضًا هذا الكاتب الذي كتب كتاب أيُّوب، تذكُّرًا لرؤية رجل مدهش غلب كلَّ زمرة الأشرار، وقطع كلَّ فخاخ مامون[2] والغنى، الأبناء والبنات وأعضاء جسده التي بها أراد الشيطان أن يقيِّده، وفي كلِّ هذه وُجد ظافرًا. وبالأجر الذي اقتبله مقابل ظفره، حرَّك كلَّ إنسان نحو معرفة الله وممارسة ما يَحسن في نظر الله. وإذ كان يقدِّم لهذا السبيل مسيرة كتابته، إذ اكتشف رؤية البارّ (أو: الصدِّيق) التي كان الكثيرون يروونها، اهتمَّ أن يرسمها في كتاب لتكون مثل صورة للفضيلة قدَّام جميع الداخلين إلى العالم. ما اخترع من نفسه الرواية هذه وركَّبها، ولكن إذ كانت ثابتة ويكرِّرها الكثيرون، كتبَها كما سمعها وتعلَّمها وإن أضاف كلمات وكلمات، أو أنَّه ظنَّ أنَّه يزيِّن الرواية، أو أنَّه أدخل تركيب الكلام من عنده، إلاَّ أنَّه تقبَّل الرواية كلَّها كما تسلَّمها. فمن أيُّوب حُبِّرَتْ رواية كلِّ ما كان لديه، وانتقلت.

من أين عرف أيُّوب الطوباويّ أنَّ الشيطان هو الذي يجرِّبه، وكيف علَّمه الكاتب فكتبه؟

جليٌّ أنَّه حين تجلَّى الله عليه، جلا له وعلَّمه كلَّ ما حدث له في جهاده وأُخفي عنه. وعلى سؤال إلى الله طرحه الشيطان الذي طلب أن يمتحن أيُّوب، وعلى السبب الذي لأجله أذن (أو: ترك) (الله) له بأن يمتحنه. وفي الأخير على كلِّ الأشياء التي صُنعَتْ في الخفية وما كُشفت لإنسان، كشفها لأيوب وعرَّفه بها. وكما تعلَّم من لدن الله، نقل أيضًا الرواية إلى الناس في زمانه، وانتقلت من واحد إلى واحد. وإذ سمعه هذا الكاتب، أراد بواسطة الكتابة أن يكشفها للناس الذين من بعده. وكما كتبَ يشوع بن نون والقضاة وسفر الملوك وتعلَّموا في رواية إيحاءات على هؤلاء الأشخاص الذين كتبوا عنهم، إن على يشوع بن نون، وإن على جدعون، وإن على منوح وإن على ميخا وإن على داود، بعد أن نقل هؤلاء إيحاءات كانت عليهم، في رواية لاحقة. وهؤلاء الذين تعلَّموا من الرواية وكتبوها (أي: الإيحاءات)، هكذا أيضًا هذا الكاتب: فالأمور التي سُردت في رواية من الذين سمعوها وتعلَّموها من أيُّوب، فبما أنَّهم تعلَّموها في وحي، أرادوا أن يأتوا على ذكرها من أجل فائدة الذين سوف يلتقون بكتابه.

أمّا الكتابة نفسها، فاقتداء بداود الطوباويّ وبسليمان الحكيم، صنعها شعرًا لكي تكون سهلة ومرغوبة لدى الذين يلتقون بها. ولأنَّه لم يُؤمَر من قبل الروح لكي يكتب، فما وضع أيضًا اسمه في كتابته، كما وضع موسى وسائر الأنبياء (اسمهم) في رأس كتبهم وفي رأس الأقسام التي فيها أسماؤهم. هي رؤى وتجلِّيات تقبَّلوها بعمل الله، كما سليمان في رأس كتاب الأمثال، وذاك الذي كتب اسمه «قهلت»([3]) فعرَّف أنَّ الكتاب الذي كتبه هو من عنده ويستحقُّ أن يُقبَل كما (من شخص) أخذ من الله موهبة الحكمة. ولكن في هذا الكتاب، احتفظ (أيُّوب) باسمه فتشبَّه بالذين كتبوا يشوع بن نون وسفر القضاة وسفر الملوك، أولئك الذين ما كشفوا اسمهم ولا عرَّفونا به.

ج- من أين جاء أنَّ أناسًا ظنُّوا أنَّ موسى الطوباويّ كتب هذا الكتاب، وإن كان هكذا أرغب في أن تعلِّمني.

هذا الرأي كان لدى بعض الناس، لأنَّ في زمانهم كان أيُّوب الطوباويّ. فإن كان موسى، كما ظنَّ آخرون، هو الذي كتب هذا الكتاب([4])، لعرَّف جليًّا باسمه في رأس كتابه، وأنَّه أُمر من قِبَل الله بأن يضع هذا (الكتاب)، كما عرَّفنا ذلك في الأسفار الخمسة التي كتب. ومن هنا، أن لا يكون رُسم على الكتاب اسمه (أو: اسم موسى) كما رُسم في كتبه، ومن أنَّ هذا الكتاب كُتب شعرًا، من الواضح أنَّ موسى لم يكتبه. فلا يمكن أن نرى إنسانًا من الكتّاب قبل داود الطوباويّ استعمل في كتابته كلامًا في شعر، لأنَّه وهبَتْ أوَّلاً لداود هذه الموهبة، ثمَّ اقتدى به أيضًا سليمان ابنُه، بحيث كان جليًّا أنَّ من بعد داود وسليمان، كانت كتابةُ هذا الكتاب. وذاك الذي كتبه، كتبه اقتداءً بداود الطوباويّ في أقوال شعريَّة.

د- إذًا من أين كان جنس أيُّوب الطوباويّ، ومن أين يجري نسبه؟

إذًا كان أيُّوب الطوباويّ أدوميًّا في شعبه وفي جنسه. تأصَّل من عيسو الذي منه قام كلُّ شعب الأدوميِّين. ولأنَّ عيسو لُقِّب باسمين، واحد من ولادته يدلُّ على منظره المشعر، كما عرَّفنا الكتاب: خرج الأوَّل سامقًا([5]) وكلُّه جداديل شعر فدعت اسمه عيسو (تك 25: 25). والآخر وُضع له بسبب شراهته، يوم باع بكوريَّته ليعقوب من أجل طبق عدس لهذا دُعيَ أدوم على اسم سمق (لون السمّاق) العدس الذي به باع بكوريَّته (تك 25: 34)، وهو اسم يدلُّ على الطمع. وأيضًا كلُّ الشعب الذي تأصَّل منه دُعيَ باسم أدوم، لأنَّ كنوتهم هي عارُ رئيسِ أمَّتهم. وكما أنَّ يعقوب الطوباويّ كُنِّي باسمين، واحد من ولادته: كُنِّي يعقوب لأنَّه أمسك عقب أخيه (تك 25: 25). والآخر الذي كنِّي به، إسرائيل، لأنَّه أُهِّل للرؤية وللوحي الإلهيّ وتفسيره: رأى الله. وكلُّ الشعب الذي تأصَّل منه كنِّي إسرائيل ليبيِّن فضيلة رأس جنسهم الذي لأجله تَسمَّوا بهذا الاسم. وهكذا أيضًا أولئك الذين تأصَّلوا من عيسو، دُعوا أدوميِّين للدلالة على شراهة رئيس جنسهم. إذًا، من هذا الشعب تأصَّل أيُّوب الطوباويّ، وهذا كافٍ لكي يعرِّف من أين يَجري جنسه.

هـ - ما هو موضع أيُّوب الطوباويّ ومسكنه؟

إذًا هو موضع عرابيا([6])، الذي فيه سكن وكمَّل أيَّام حياته. وهذا ليس معروفًا من كلامنا، بل أيضًا من شهادة الأعمال. فيحقُّ لمن يشكُّ بهذه المعطيات، أن يمضي إلى أرض عرابيا، ويرى بيتَ أيُّوب وموضعَ جهاداته والزبل المبارك لجهاداته وضيقاته، وقبرَ الصدِّيق (أو: البارّ) وكلّ الأماكن التي فيها أتمَّ جهاداته. فهذه، منذ ذلك الوقت وحتّى الآن، هي مكرَّمة لدى سكّان الموضع.

و-  إذًا، ما هو زمن أيُّوب الطوباويّ؟ أين هو؟ قبل الشريعة أو بعد الشريعة، وكيف قرَّب ذبائح؟

إذ أراد اليهود أن ينسبوا برارة أيُّوب الطوباويّ إلى تعليم الشريعة، قالوا: كان بعد الشريعة، وللشريعة تتلمذ ومنها تعلَّم البرّ. ولكنَّهم ابتعدوا كثيرًا عن الحقيقة. فإن كان أيُّوب الطوباويّ بعد الشريعة، وإن كان أضاع شريعة التعليم، لوجب عليه أن يعمل ما عملَتْه تلك الأممُ التي تتلمذت لتعليم الشريعة: أو يترك أرضه ويأتي ويستوطن في شعب إسرائيل كما فعلت راعوت الموآبيَّة (را 1: 22)، أو يصعد من وقت لآخر إلى أورشليم لإكرام الله، وهناك يقدِّم له عبادةً كما فعلت ملكة شبأ (1 مل 10: 2)، ومسلَّطو داريوس الفارسيّ، وأيضًا أولئك الذين صعدوا من الأمم المختلفة، في عيد الفصح، في أيَّام ربِّنا ليسجدوا في العيد، فاقتربوا من فيلبُّس الذي من بيت صيدا الجليل وتوسَّلوا إليه، لكي يروا بواسطته يسوع (يو 12: 20-21). ومثل الخصيّ الكوشيّ المسلَّط لدى قنداق ملكة الكوشيِّين (أع 8: 27-37). هذا أتى ليسجد في أورشليم فتلمذه فيلبُّس وعمَّده (آ27-37)، فأرسِل من قبله معلِّمًا إلى كلِّ أرض الكوشيِّين. وإن عُملت واحدة من هذه بيد أيُّوب الطوباويّ، لما عَبَرَ عليها الكتاب الإلهيّ (وتركها) خارجًا، بل كان أنارها بعناية من أجل فائدة الذين يلتقون بها (ليقرأوها). وبما أنَّ الكتاب لم يقل شيئًا عمّا  صنعه أيُّوب من هذه، يكون جليًّا أنَّه كان قبل الناموس، لا بعد الناموس.

وهو أيضًا ما قرَّب ذبائح، لأنَّه لم يكن من نسل الكهنة. فلهم وحدهم سُمح، بأمرٍ من الناموس، أن يقرِّبوا الذبائح (لا 6: 7). وما تجرَّأ أيضًا أن يقرِّب ذبائح في مكان آخر، إذا كان هو بعد الناموس وتسلَّم تعليم الناموس، لأنَّ الله جزم أنَّ كلَّ رجل «ينحُر ثورًا أو حملاً ولا يأتي به إلى باب المسكن الزمنيّ (أي: المعبد) ليقرِّبه قدَّام الربّ، يُحسَب دم الضحيَّة نجسًا لهذا الرجل» (لا 17: 4). وأيضًا ما كان الله قبِلَ ذبائحه، لأنَّه لم يقرِّبها بيد الكهنة بحسب الناموس، (وتكون) في أرض غريبة. هكذا لا يعطي سببًا لبني إسرائيل بأن يشيحوا عن الكهنة، وأن يقرِّبوا ذبائح فيما بينهم، وأن يتجرَّأوا فيفعلوا هذا في كلِّ مكان ثمَّ ينحرفون إلى عبادة الأصنام. من هذه كلِّها نعرف أنَّ الطوباويّ أيُّوب كان قبل الناموس وخارج الناموس، ويبدو أنَّ ذاك كان زمن أيُّوب الطوباويّ، ويبدو أنَّ زمنه كان زمن يعقوب الطوباويّ، فدخل أبناؤه إلى مصر. وهذا يكفي بالنسبة إلى زمانه.

ز- كيف أنير أيُّوب الطوباويّ في معرفة مخافة الله، ومن أين تقبَّلها؟

معرفة الله والأمور التي تسرُّه حين يعملها الواحد تجاه الآخر، ثبَّتها الله منذ البداية في طبيعة البشر كما قيل: «صنع الربُّ لكي يخافوه» (جا 3: 14) «وكلُّ ما تريدون أن يفعله الناس لكم، هكذا اصنعوه لهم أنتم أيضًا» (مت 7: 12). وهذه المعرفة أنماها (الله) وقوّاها بالأمور التي تمَّت في الخلائق وفي التنظيم الذي يتمُّ من قِبَله. فإن كانت الطبيعة ضعيفة لكي تعرف هذا منطلقة من الاستعدادات اليوميَّة (= كلّ يوم ܕܟܠܝܘܡ) في التدبير الإلهيّ، فالوجدان يتفقَّه ليَعرف الخالق بواسطة الخلائق. لهذا وضع فيها تبدُّلات عجيبة لكي بتبدُّلاتها والتحوُّلات التي تأتي عليها، ينجلي ويُعرَف أنَّها أشياء مصنوعة، وبواسطة هذه يُعرَف أيضًا صانعها، ذاك الذي صنعها كلَّها وحفظها بقدرته وحرسها لئلاَّ تبيد بسبب كثرة التبدُّلات التي تنصبْ عليها. وحين يعرفون (أي الناس) هذا، يعترفون به على أنَّه الباري (= الخالق)، ويسألونه في حاجاتهم على أنَّه المحسن. هذا ما صُنع من قبلهم لمساعدتهم. تلك هي معرفة الله بالذات، انطلاقًا من إتقان البرايا وتنظيمها الذي عُرف في قيامها، كما قيل: «ليكونوا طالبين الله ومتعقِّبينه، ولكي يجدوه من خلائقه» (أع 17: 27)، الذي أنماه (الله) في وجدان بعضهم، الذين بيَّنوا نفوسهم أنَّهم أهلاً بواسطة أعمالهم؛ بواسطة إيحاءات عديدة ورؤى صنعها لهم من وقت إلى آخر، والتي بها جلا لهم وأنارهم وعرَّفهم ربوبيَّته وصُنعَه. تارة حين وضع ناموسًا لآدم، بيَّن أنَّه الربُّ والصانع (أو: الخالق)، وكالربّ وضع بسلطته ناموسًا لمصنوعاته. وتارة رُئيَ في رؤى جليَّة، على بيت قايين وهابيل: تقبَّل قربان هابيل بجلاء وجه بهيج. وبوجه حزين رَذل ذبائح قايين، وعلَّمهما ممارسة الخير وأبعدهما عن أعمال الشرّ. وتارة حين نقل أخنوخ، واختار نوحًا بسبب برِّه، وكشف له كصدّيق ما يستعدُّ أن يعمله، وأمره كيف يصنع وسيلة لنجاته. وطورًا إذ تجلَّى لإبراهيم ووعده المواعيد حول زرعه، وهي التي أخذت كمالَها في المسيح الذي هو من زرعه. فبهذه التي صنعها تجاههم علَّم كلَّ إنسان حول لاهوته وربوبيَّته.

وهكذا استنار الكثيرون في معرفة الله وفي ممارسة ما يُسره، فاختلط ضمير مخافة الله بالعجيب البشريّ كلِّه. في مروج البشر أزهرت زهورٌ كثيرة من الفضيلة، أكثر إشعاعًا من الأزاهير الروحيَّة في أيّام نيسان. وزُرع زرعُ مخافة الله في العقول البشريَّة، وأفرخ وصنع ثمار برٍّ عديدة، تُفرح قلب الله والإنسان. مثل هذا كان ملكيصادق وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وسائر القدِّيسين، وأبيمالك الملك والشعب الذي دُبِّر تحت يده، ذاك الذي على برِّه شهد الله وقال: «أنا عرفتُ أنَّ ببساطة قلبك واستقامتك صنعتَ هذا» (تك 20: 6). وعلى البرِّ ومخافة الله لدى أبناء الملكوت شهد إبراهيم حينَ قال: «فكَّرتُ أن ربَّما لا مخافة لله في هذا المكان» (آ11). وبيَّن أنَّه وجد أنَّ عندهم مخافة الله. فهذه هي معرفة فاضلة لله، وتتمَّة كلِّ ما يسرُّه، اقتناها أيضًا أيُّوب الطوباويّ من تمييز وجدانه ومن التعليم الذي جرى من إبراهيم، رئيس جنسه، إذ لبث (عائشًا) في كلِّ متطلِّبات واجبه، في حبٍّ جميل تجاه الله وبمحبَّة (أو: رحمة، ܪܚܡܬܐ) تجاه البشر، حين كان يكرم الله بواسطة الذبائح التي كان يقرِّبها عن نفسه وعن أبنائه وبيته، ويُشبع المساكين (أو: الفقراء) بواسطة الصدقات والعطايا.

ح-  لماذا ترك (أو: سُمح) الشيطان يتحارب مع أيُّوب الطوباويّ؟ وكيف في هذه الأجيال العشرة السابقة للطوفان عُرف اسمه أو حروبه مع (الرجل) الفاضل؟

إذًا من آدم، الإنسان الأوَّل، بدأ الشيطان الحرب. وإذ رتَّب الجدال معه، عرّاه، أخذ منه كنز معرفة الله، وجعله يتجاوز وصيَّة صانعه (= خالقه)، فحكم عليه الحكم بالموت. ولأجل هذا بعد انتصاره في حرب شديدة رتَّبها قبالة آدم، أخرجه الله من موطن البشر الضالَّ والمضلَّل، وحصره في اللجَّة مثل عبد متمرِّد في المنفى. وامتداد كلِّ زمن هذه الأجيال العشرة قبل الطوفان، سُلِّم إلينا بحسب تسليم (أو: تقليد) من معلِّم قديم. وكما رُميَ من أقوال لوقا الطوباويّ: حين أخرج الربُّ الشياطين من رجل ممسوس، هؤلاء الشياطين طلبوا منه أن لا يأمرهم بأن يمضوا إلى اللجَّة (8: 31). فنعرف أنَّهم تذكَّروا المنفى الأوَّل، فطلبوا منه ألاَّ يرسلهم إلى اللجَّة. ولهذا في هذه الأجيال العشرة، لم تكن تُرى أعمال الأصنام ولا ضلال كثرة الآلهة، لأنَّه في ذلك الوقت لم يُسمَح للشيطان بأن يبيِّن شرَّه، لأنَّ البشر كانوا أطفالاً([7]). وإذ تمرَّس البشر في مخافة الله، كيف لا يخافون من مكره، لو هم شاؤوا؟ إذًا سُمح له بأن يدخل إلى موطئ البشر ليبرهن عن حرِّيَّته في الاختبار. وما إن دخل حتّى أقام حربًا خفيَّة على البشر بها أراد أن يميل بهم عن صانعهم (أو: خالقهم)، ويَجرُّهم ويُخرجهم إلى ضلال كثرة الآلهة. وحين رأى أنَّ الكثيرين اقتلعوا([8]) فخاخه وقطعوا مصائده، ثقُل عليه الأمر وتمرمر وسأل أن يُسمَح له لكي يرتِّب معهم حربًا جليّة، ظانًّا أنَّه يقدر أن يغلبهم حين يضربهم بسهام تجاربه.

وحين رأى أنَّ أيُّوب الطوباويّ متنبِّه، متمسِّك بمعرفة الله، وأنَّه اقتنى اجتهادًا كبيرًا لكي يعمل ما يسرُّ الله وما يريح البشر أكثر من كلِّ الذين في زمانه، وإذ رأى اهتمام الله به وعنايتَه فأفاض عليه الخيرات الكثيرة لأجل فضيلته، وسكب عليه البركات فانصبَّ عليه، بالعناية الإلهيَّة، الأبناءُ والقطعانُ والمقتنيات والسلطان. وكلُّ هذه كانت بهجة له في اهتمام الله. وهكذا تحرَّك فيه الحسد، فاستعدَّ لترتيب القتال معه. أجل دفعَه الحسدُ تجاه آدم لأنَّه سُمِّي صورة الله وشبهه (تك 1: 26). وإذ لم يستطع أن ينفِّذ ذلك بدون سماح من الله، سأل الله أن يسمح له بأن يتحارب معه.

وإذ عرف الله ربُّنا أنَّ بطله ليس أضعف منه، سمح له أن ينطلق للقتال معه: أوَّلاً ليُقفل فم الشيطان بحيث لا تكون له ذريعة فيقول: تصرَّفوا معه بدون عدالة إذ خُلق ناطقًا (أو: عاقلاً) لم يُترَك له أن يبيِّن إرادته ويشتكي لأنَّه سُلِّم إلى النار الأبديَّة التي ما كانت عليه بحقّ. ثانيًا، لكي تنجلي فضيلة أيُّوب وبرّه لكلِّ إنسان، ويُكرَز بظفره على عيون الملائكة والبشر. ثالثًا، لينكشف أنَّ طغمة الشياطين هي أضعف من أن تنتصر، فيتشجَّع الجنسُ البشريّ بأنَّه استطاع أن يغلب إبليس، مثل أيُّوب الذي هو من الجنس البشريّ، فغلبه وحطَّه. رابعًا، لكي ينكشف الشرُّ الذي يمتلك الشياطين تجاه البشر والقوَّة التي له فتجعلهم يذلّوننا. خامسًا، لكي تُعرَف لدى العلويِّين والسفليِّين عناية الله تجاه البشر التي بها يحرسهم من الشرِّ ومن قوَّة الشياطين المسيئة، لئلاَّ يُساء إليهم أو يُبادون. سادسًا، لكي ينكشف طول أناة الله. فكما أنَّه يحتمل كلَّ هذا الشرِّ ووقاحة الشياطين، فهو يطيل روحه عليهم حتّى الأخير، وإذ لا يكون للشيطان ذريعة ليقول: يزرع أيُّوبُ مخافةَ الله لقاء أجر، وهذا ما قاله أيضًا (1: 9). فكَّر أنَّه إن سُمح له أن يُفسد كلَّ ما هو لأيُّوب، يدفعه إلى أن ينكر([9]) الله ويجدِّف عليه، فيُرى هو منتصرًا وأيُّوب مهزومًا.

فسُمح له كرغبة مشيئته بأن يُفسد كلَّ مقتنيات أيُّوب، ويبيد أيضًا أبناءه، ويدمِّر صحَّة جسده بواسطة مرض خبيث يأتي به عليه. من هنا يتجلَّى انتصار أيُّوب على عين الأرضيّين والسماويِّين، ويُكرَز عن حبِّه الحقيقيّ الذي امتلكه تجاه ربِّه. فلا إبادة مقتنياته ولا موت أبنائه ولا إبادة صحَّة جسده، (كلُّ هذا) لم يحرِّكه عن حُبِّه تجاه صانعه (= خالقه). بل احتقر المقتنيات ومحبَّة أبنائه الطبيعيَّة، وجسدَه، وكرَّم فوق كلِّ شيء محبَّة الله. وبواسطة هذه انكشفت هزيمة الشيطان. فهو إذ حارب بكلِّ هذه الوسائل اقتنى خزيَ الوجوه من الحرب التي صلاها مع أيُّوب. من أجل هذه الأسباب كلِّها، كانت تجربةُ أيُّوب الطوباويّ.

ط- ما يقوله الكاتب: أرض عوص. إذًا (يدعو) أرض عوص التي أقام في جزء منها أيُّوب الطوباويّ (1: 1)

دعا أرض عوص، الأرض التي أقام فيها عوص الابن البكر لأرام ابن سام، وهذا معروف من كتاب موسى الطوباويّ. إذ كتب مواليد أبناء نوح، قال: ولد سام أيضًا أبا كلِّ أبناء عابر، وهو أخو يافث الكبير. أبناء سام: عيلام، أرفك، ولود وأرام. وأبناء أرام: عوص وحول (تك 10: 21-22). ففي الأرض التي بلغت إلى عوص هذا، أقام أيُّوب الطوباويّ، ومن عيسو يجري نسلُه (أو: جنسه)، كما قال إرميا الطوباويّ: «ابتهجي وافرحي يا بنت أورشليم، يا ساكنة في أرض عوص» (مرا 4: 21). وقال إشعيا أيضًا: «عاصمة أرام هي دمشق» (إش 7: 8).لا، هو ما دعا أرض عوص، كما ظنَّ أناس، حيث سكن عوص بكر ناحور، شقيق إبراهيم (تك 22: 20-21). عند ذاك، في أيّام عوص بكر ناحور، كانت الأراضي قُسمَتْ من قبْل وتميَّزَتْ أسماؤها. فمن أيّام فالج([10]) الذي هو الثالث من أرفكشاد، أخي أرام، قُسمت الأراضي بأسمائها من أجل ساكنيها. وفي ذلك الزمان، عوص بكر ناحور، لم يكن بعدُ (وُلد)، لأنَّ ناحور نفسه كان بعدَ ميلاد فالج بمئة وسبع وثمانين سنة. إذًا ندعو أرض عوص، كما قلنا، الأرض التي بلغت إلى عوص بكر أرام، زمنَ انقسمت الأرض التي إليها أتى بنو عيسو وأقاموا، وهم الذين يدعوهم الكتاب الأدوميِّين الذين منهم كان أيُّوب الطوباويّ، هذه التي تُدعى اليوم أرابيا أي عربيا (أرض العرب).

ي- من سمّى الكاتب أبناء المشرق الذين قال إنَّ أيُّوب الطوباويّ كان أكبر منهم كلِّهم (1: 3)؟

دعا أبناء سام أبناء المشرق، هؤلاء الذين بلغت إليهم أرضُ المشرق لإفادتهم، كما قال موسى الطوباوي: كان مسكن أبناء سام من «منشا»([11])، التي في مدخل جبل سفرويم في المشرق» (تك 10: 30). قال أناس: «دعا أبناء المشرق، أبناء إبراهيم، لأنَّ إبراهيم سكن أوَّلاً في أرض المشرق، ولأنَّ أيُّوب نفسه وُلد من عيسو ابن ابن (= حفيد) إبراهيم. وهذه: كان أكبر من كلِّ أبناء المشرق (1: 3) تدلُّ أنه لا بالغنى ولا بالسلطان فقط كان أكبر من كلِّ أبناء المشرق، بل بالسلوك الفاضل. وتحرَّك إبليس حسدًا لمقابلته، لا لأنَّه كان الأعظم بمقتناه، بل لأنَّ تفوَّق بالفضيلة على كلِّ من كان في زمانه وفي جيله، الذين سكنوا في أرض مسكنه. ووضع (الكاتب) هذه هنا ليُبرز فضيلة الصدِّيق (أو: البارّ) الذي، مع أنه اقتنى كلَّ النجاح في الغنى وفي المقتنى وفي الأبناء وفي السلطان، وفضيلة النفس وعظمة النسل الذي منه تحدَّر -سواء قال إنسان: هو من سام أو من إبراهيم- ولا واحدة من هذه جعلته يتشامخ ولا هي أعاقته عن البرّ (ܙܕܝܩܘܬܐ)، ولكنَّه كان يتصرَّف بالكمال في الفضيلة كلِّها.

ك-  ماذا يعني ما قال الكتاب: أتى بنو إلوهيم ليقوموا (أو: ليمثلوا) قدَّام الربّ، وأتى الشيطان أيضًا بينهم ليمثل قدَّام الربّ (1: 6)؟ من يسمِّي «بني إلوهيم»؟

قال أناس: دعا بني إلوهيم رؤساء الأدوميِّين وعظماءهم، لأنَّ الرؤساء دُعوا آلهة وأبناء آلهة. وقال قدَّام الربّ. ليقول: اجتمع رؤساء الأدوميِّين في موضع فُصل لهم ليَسجدوا لله وليتمُّوا العبادة الإلهيَّة، وهذا ما قالوه بشكل خاطئ لأنَّه لا يتَّفق مع الحقيقة. ومن أين يُعرَف؟ أوَّلاً، لأنَّ الكتاب دعا أوَّلاً بني إلوهيم أولئك الذين تميَّزوا في تتميم مشيئة الله، مقابلةً بالآخرين الذين ما اهتمُّوا بها. والأدوميُّون لم يتميَّزوا فقط باللافضيلة، بل مقابل ذلك تعلَّقوا بالشرِّ أكثر من الخير. ويشهد الرسول الطوباويّ على ذلك الذي حسبَ رئيس أمَّتهم زانيًا ومتراخيًا، فحذَّرهم بأن لا يقتدوا به «لئلاَّ يوجَد فيكم إنسان زانٍ ومتراخٍ مثل عيسو الذي من أجل أكلة واحدة باع بكوريَّته. وأنتم تعرفون أنَّه بعد ذلك طلب أن يرث البركة فرُذل لأنَّه ما وَجد موضعًا للتوبة» (عب 12: 16-19). فهم (=الأدوميُّون) رُذلوا وأُبعدوا منذ رئيس أمَّتهم بحيث لا يكون أيضًا لهم موضع للتوبة. كيف سمّاهم (الكاتب) بني إلوهيم؟ لم يكن للأدوميِّين موضع مميَّز فيه يعبدون الإله الحقيقيّ. ذاك ما يعلِّمنا الكتاب الإلهيّ. فلو كان هذا، لما كان (الله) صنع للخليقة نفسها قرابة ملكيصادق ولا نوع الذبائح التي قرَّبها (تك 14: 18). فإن دُعيَ نسل إسرائيل أبناء الله بفم الله، وأُبعد الأدوميُّون كمرذولين، فكيف كان سمَّى المبعَدين والمرذولين أبناء الله؟

ولكنَّ الكاتب هنا سمَّى الملائكة بني إلوهيم – مع أنَّ الملائكة لم يُدعَوا أبناء الله في أيِّ مكان – إلاَّ بسبب حبِّهم تجاه الله واهتمامهم بالكمال في خدمة المشيئة الإلهيَّة. لأنَّ الأبناء (يعرفون) أن يكرِّموا بالحبّ، قبل كلِّ شيء، في تتميم مشيئة أبيهم. لا لأنَّهم من أجل هذا ينتظرون الأجر، ولكن من أجل حبٍّ كثير. هكذا أيضًا أولئك الذين دُعوا لتتميم الشرائع الإلهيَّة وتميَّزوا في هذه: ليس لأنَّهم رجَوا الأجر، بل من أجل حبِّهم، حسِبَهم الله أبناء. وكذلك موسى دعا البشر بني إلوهيم (تك 6: 1)، لا لأنَّهم ارتدوا الطبيعة الإلهيَّة معطفًا، بل لأنَّهم تميَّزوا بعبادة الله واقتنوا بذلك التوبة إلى الله. وهذا الكاتب أيضًا سمّى ملائكةً، بني إلوهيم لأنَّهم انفصلوا بواسطة حبِّهم للخدمة ولتتميم وصايا الله، ليعرِّفونا بأنَّ الاستماع (أو: الطاعة) للوصايا الإلهيَّة يُنمي هكذا في الفضيلة من يكمِّلها، فترفعه أيضًا من ترتيب طبيعته إلى وقارٍ واسم متساميين، بحيث جعل الملائكة أهلاً لدرجة البنوَّة الإلهيَّة.

والعصيان (أو: اللاطاعة) كم هو شرِّير، لأنَّه يُحدر من الترتيب والإكرام واسم الطبيعة، ذاك الذي اقتناها، كما أنزل أيضًا إبليس من درجة الملائكة واسمهم، إلى موضع حقير ودرجة سُفلى من السقوط. وكنية (أو: لقب) الشيطان تُبيِّن أنَّه شطَّ عن الله، وسقط من عظمته. وأمامنا يُصرِّح أنَّ الشيطان مَثُل قدَّام الربِّ مع بني إلوهيم (1: 7) الذين هم الملائكة. فلا مجال للتصديق، ولا أنَّ الله سأل الشيطان الذي أعطاه جوابًا. ولكن لأنَّ الله عرف إرادة (أو: نيَّة) الشيطان الذي طلب أن يجرِّب الصدِّيق (أو: البارّ)، سُمح له للبرهان على انتصار أيُّوب وهزيمة الشيطان نفسه: والسماح الممنوح من الله إلى الشيطان، ما تقبَّله بصوت جليّ، بل بنوع خفيّ به يتعلَّم الملائكة والشياطين مشيئة الله.

ل- هؤلاء المرسلون الذين عرَّفوا أيُّوب بإبادة مقتناه وبموت أبنائه (1: 14-18)، هل كانوا من رعاة القطعان أم من الشياطين؟

جليُّ أنَّ كلَّ ما صُنع كان من قبل إبليس. فهو نفسه بيد الشياطين أعوانه، شابه اللصوص، فاقتاد الثيران والأتن، وهو أيضًا أباد بالنار الأغنام والرعاة، ومرسلوه الذين شابهوا الكلدانيِّين اقتادوا الجمال. اقتنى القدرة بعد أن تُرك يبيد كلَّ ما أراد. وشهد لجيون الذي أباد هذه الخنازير كلَّها (مر 5: 9-13)، فهو استعمل هنا أيضًا شرَّه عينه وقدرته عينها. أباد مقتنى البارِّ وأبناءه. والمرسلون الذين أتوا لأيُّوب بالأخبار، كانوا شياطين بيَّنوا نفسهم لأيُّوب بأشكال فلاّحين ورعاة وجمّالين، بحيث تصدَّق أقوالُهم من أشكالهم: ما ترك إبليس من القطعان ومن ملاَّكيهم وحرَّاسهم شيئًا إلاَّ وأباده. وأن يستطيع الشياطين أن يبيِّنوا أشكالاً بعيدة عن حقيقة الأمور، فهذا ما يشهد له يانيس ويمبريس (2 تم 3: 8) ساحرا مصر اللذان بيَّنا هكذا للناظرين شكل حيوانات ودم وضفادع وبعوض بحيث يظنُّون أنَّها هي بالحقيقة.

م-   ما الذي قال الكاتب: قال إبليس للربّ: جلْدٌ بدل جلد، وكلّ ما يملكه الإنسان يهبه بدل نفسه فينجو (2: 4).

لا عجب أن لا يكون أيُّوب جدَّف بعد أن بادت قطعانه وقُتل أبناؤه. وهذا لأنَّ الطبيعة أسيرة حبِّ الوجود، تحتمل كلَّ شيء لئلاَّ يدركها ثقل الألم الذي يبيدها، فتمنح جلد الأعضاء الدنيئة لتنجِّي الجلد والأعضاء الرفيعة التي فيها الحياة مأسورة، وهي ترجو أن تفلت من ألم الموت. تكلَّم (الكاتب) عمّا يُصنَع عادة لدى البشر في زمن الضيق، بحيث يمدُّ الإنسان يده أو ذراعه لكي يتقبَّل الضربة بهما، وينجِّي الأعضاء الأساسيَّة من ألم الضربة.

ن- بهيموت هذا الذي يتكلَّم عليه الكاتب (40: 14)، من هو؟ ومن أين وجد علَّته حين الكتب الإلهيَّة لا تقول شيئًا عنه؟

هذه التي تكلَّم عليها الكاتب أعلاه، وقيلت بفم الله ربِّنا من أجل أيُّوب، غريبة عن الإيحاءات الإلهيَّة التي وُضعت في الكتب المقدَّسة، وعن الأقوال التي قالها الله في إيحاءاته، إمّا لأهل البيت وإمّا للغرباء، والتي ما احتاج أيُّوب أيضًا أن يعرف بالسماع عنها عظمة الطبيعة الإلهيَّة وحقارة شخصه، مع العلم أنَّه عرف ذلك قبل أن يَسمع هذه الأقوال- كما ذلك معروف من عنده (ܦܪܨܘܦܗ) من هذه الأقوال التي وضعها في الكتاب. كلُّ هذا نجده في عرْض الكاتب، لا بحسب وجدان الكتب الإلهيَّة، لأنَّه لا يليق بالله أن يعرِّفنا بقدرته بواسطة حمار وحشيّ أو ريم أو حصان أو عقاب، إلخ، ويترك خلق السماوات والأرض والأشياء التي وُجدت معها. فمنها انطلق موسى مع كلِّ الإنبياء، الذين استُودعوا قدرة الله، وبيَّنوا شدَّة قدرته.

ولكن ما يضعه الكاتب هنا ليس له شبيه، لأنه يكون من الجهل لله بأن يعرِّف أيُّوبَ بقدرته العظيمة انطلاقًا من حيوان واحد ويُعلن بأنَّه صُنع بيده، فيقول عليه أمورًا عظيمة ساعة لا إنسان من الذين كتبوا عن الخلق، تكلَّم عن هذا الحيوان عينه، لا بين الحيوانات البيتيَّة (=الداجنة) ولا بين(الحيوانات) البرِّيَّة. فموسى ما ذكر شيئًا في ما كتب عن التي خلقَتْ في ستَّة أيّام. وداود حين روى علَّة كلٍّ من الخلائق وفائدتها في هذا المزمور 104، لم يذكره. وأهل الخارج (ܒܪ̈ܝܐ) الذين كتبوا على طبيعة الحيوانات والزحّافات، لم يذكروا حتّى اسمه. فأين وَجد الكاتبُ اسمه والكلمة (التي قال) عليه؟ لا أعرف. فإن كان هذا الحيوان الوحيد مائت، فكيف يقول أيضًا إنَّه لحم (ودم، ܒܣܪܐ) وإنَّه يأكل الأكل مثل باقي الحيوانات اللحميَّة، كما يقول هو نفسه: «يأكل العشب مثل الثور» (40: 14)، وإن كان لحميًّا معرَّضًا للفساد -كما قيل: «كلُّ بشر (ܒܣܪ، لحم) عشب»- (سي 14: 8) فمن الضروريّ أيضًا، حين يموت، أن يزول ويبيد جنسه، لأن لا أنثى له بحيث يقوم نسله بواسطة الإخصاب. لهذا خلق الله الحيوانات والطيور والزحّافات ذكورًا وإناثًا، وباركهم وقال: «انموا واكثروا» (تك 1: 27-28) بحيث يقوم جنسهم ويُحفَظ بواسطة النسل الذي منهم. وإن كان هذا الحيوان لامائتًا، فكيف يأكل؟ وإن هو مائت فله أنثى، وفي الجماع معها يستطيع أن يقوم جنسُه. وإن لم تكن له أنثى، فلا يمكن أن يكون هذا قيل من قِبَل الكاتب ولا من قبل الله.

س- بما أنَّ الكاتب قال على بهيموت أمورًا مذهلة، أرغب أن تنوِّرني حول الكلام الذي قيل عليه (42: 14-23).

قال الكاتب هكذا وهو يعظِّم هذا الحيوان: ها بهيموت الذي صنعتُ (= خلقت) معك» (40: 14) وها بهيموت لم يُصنَع مع أيُّوب، إن هو وُجد حقًّا، مع كلِّ الحيوانات والزحّافات. وليس حقيقيًّا أيضًا إن فكَّرنا أنَّه قال معك عن الطبيعة البشريَّة كلِّها في شخص أيُّوب، لأن التنانين لم تخلَق مع الإنسان، لكن قبل الإنسان، في اليوم الخامس (تك 1: 20-23). ولكن بلفظ معك يريد أن يقول: ما هذا صُنع مثلك، فلا تستطيع أن تخرِّبه. وكيف تدخل (في جدال) معي؟

يأكل العشب كالثور (40: 14ب). هو أيضًا قائم بالطعام مثل الثور الذي يقتات بالعشب فهو لا يمتلك حياة لامائتة لكي نفكِّر أنَّه من أجل هذا لا تقدر شيئًا حياله.

قوَّته في ملجأه (40: 15أ). قوَّته تستره فلا يحتاج إلى شيء ليستتر سوى إلى ملجأه.

يرفع ذنبه مثل الأرز فتكون عضلات بطنه منتصبة (40: 16). بذنبه يضرب وينتقم من الذين يريد (أن ينتقم منهم)، والعضلات المفروشة على جسمه كلِّه والتي بها يستطيع أن يميل ويتحرَّك، ليست رقيقة كما عند سائر الحيوانات، بل ثابتة وشديدة.

عظامه شديدة مثل النحاس ومثل الحديد، وهو رأس كلِّ مخلوقات الله التي صنعها ليصنع الحرب (40: 17-18).

ها إنَّه وَجب على الكاتب إذ هو يحفظ ترتيب كلامه أن يقول: هو رأس كلِّ الخلائق التي خلقتُها لأنّي صنعتُه ليصنع الحرب. فهذا يليق بهذه: ها بهيموت الذي خلقته معك (40: 14). ولكنَّ الكاتب لم يأخذ الأمور في الاعتبار، بل كان فريسة الضياع، فنقل الكلام إلى وجه آخر. لأنَّ (بهيموت) لا يُرى أنَّه رأس الخلائق، لأنَّ رأس الخلائق هو السماوات والأرض كما كتب موسى الطوباويّ قال: «في البدء خلق الله السماوات والأرض» (تك 1: 1). ولكن قال أناس: قال الكاتب هذا عن رأس الخلائق، لا فقط عن الحيوانات والزحّافات. ثمَّ إنَّ رؤساء كلِّ الخلائق هم الملائكة الذين هم أقوى منه في كلِّ شيء كما شهد النبيّ أيضًا عنهم: «مقتدرون بالقوَّة وصانعو أعماله» (مز 103: 20). إذًا بيَّن الكاتب أن سبب صُنع بهيموت، ورئاسته هو الحرب. وماذا كانت هذه الحرب التي لأجلها صُنع بهيموت لكي حين يخرج إلى الحرب، ينتصر؟ أو ربَّما بيَّن الكاتب هذا: بما أنَّ (الله) عرف أنَّ حربًا مزمعة أن تندلع، سبق فصنع أداة من أجل الحرب أو مقاتلاً. فمن البداية وحتّى يومنا، ما تعلَّمنا من الكتب ولا من أخبار البرّانيِّين([12]) أنَّ حربًا اندلعت أو أنَّ شيئًا خرج ونظَّم الحرب وانتصر أو هُزم. ولكن يبدو أنَّه قال هذا: (بهيموت) صُنع أوَّل الخلائق وصُنع قويًّا جدًّا بحيث إن وُجد من أراد أن يتحارب معه، لا يستطيع أن يغلبه.

كثرة الجبال تحمله (40: 19أ). عرَّفنا بهذا إلى عظمة جسمه ومخافته المفروشة (أو المنتشرة) على الجبال، لأنَّه لا الحيوانات ولا البشر يتجرَّأون أن يقتربوا للقائه، لأنَّ ما من أحد يقترب باتِّجاهه ويبقى حيًّا.

وكلُّ حيوانات البرِّ تنام تحت ظلِّه (40: 19ب). أراد أن يقول: هي مكدونة تحت مخافته. فكما قيل عن نبوخذ نصَّر: «تحته تقيم كلُّ حيوانات البرّ، وفي أغصانه تسكن كلُّ طيور السماء» (دا 4: 18). فحين يتكلَّم (الكتاب) عن الأمم الخاضعة له، يقول أيضًا عن بهيموت: «كلُّ حيوان البرِّ ينام تحت ظلِّه، أي إنَّ مخافته تمتدُّ إلى الجميع.

وفي ملجأ من قصب يتربَّع (40: 20). أن في الغيض وفي وسط القصب يتربَّع ويرتاح، إذ لا يخاف من شيء يجعله يرتعب فيدخل ويختبئ في المغاور وفي الأنفاق.

تحيط به الظلال، كما تحيط به غربان الوادي (40: 21). فبسبب عظمة جسمه وارتفاعه، تحيطه الغربان من كلِّ جانب. فالغربان التي اعتادت أن تصنع عشَّها في الوديان لتعاين اللحوم وتقتات منها، تجتمع في جواره فتقتات من البقايا التي بقيَت ممّا حطَّم وأكل. وما من شيء يقترب منه سوى ظلِّ الجبال التي فيها يقيم، وظلّ الوديان التي فيها تصنع الغربان أعشاشها.

إن تشوَّر (ܫܘܪ، طغى) النهر، لا يتحرَّك وهو واثق حتّى إن صبَّ الأردنُّ إلى فمه (40: 23). إذًا، بسبب ثبات أعضائه، حتّى الأردنّ أو نهر مثله صبَّ مياهه على فمه، يكاد لا يكفي لكي يسقيه.

يأخذه سحُبه و(بهيموت) يُؤسَر في مصائده (40: 24أ). فهذا القاسي والشديد هكذا، حين يُحرَّك ليُفسد الكثيرين، يُحبَس بسهولة بواسطة السحب كما في مصيدة، ويُنقَل إلى أماكن لا بشر فيها بإشارة من (الله) ضابط الكلّ.

إذًا يشرع ويقول كما في سؤال: هل تمسك التنين بمصيدة، تمسكه بحبل بلسانه؟ (40: 25). هل تقدر أن تمدَّ المصيدة وتمسكه وهو الشديد هكذا، وتربط بالحبل لسانه لكي تلجمه؟

هل ترمي اللجام في فمه وتثقب فكَّه بشصِّ؟ (40: 24-25). أي: هل تقدر أن تسيطر عليه بواسطة اللجام، كما (تفعل مع) الفرس، وتثقب فكَّه الثابت وتضع له كمّامة؟ هذا ليقول: لا تقدر أن تصنع له شيئًا من ذلك.

إن لم يطلب منك ويُكثر ويقول لك أقوالاً رقيقة، هل تعقد معه عهدًا؟ أو لماذا تجعل نفسك عبدًا له إلى الأبد؟ (40: 28). من لا يعرف أنَّه يستحيل أن يطلب طلبًا من التنِّين أو يكلِّمه كلامًا رقيقًا أو قاسيًا؟ ولكن هذا ما قاله، إنَّه لا يقبل أبدًا أن يُخضَع لإنسان مثل أولئك الذين، لأنَّهم أُخضِعوا، تكلَّموا كلامًا رقيقًا وقطعوا عهدًا وعملوا عبيدًا.

هل تضحك عليه مثل عصفور أو تحتفظ به لأيّام صباك؟ (4: 29). فكما أنَّ الذين يأخذون عصفورًا يضعون له خيطًا فيطيِّرونه ويضحكون عليه، هل تضحك أنت عليه؟ أو كما يختار أناسٌ حيوانات فيدرِّبونها ويحفظونها ليوم عرسهم، هل أنت تعمل هذا؟

مشاركون كثيرون يجتمعون عليه، هل يقتلونه ويقتسمونه فيما بينهم؟ (40: 30). كذلك كانت العادة عند بعض الناس حين ينحرون ثورًا أو حيوانًا آخر، بأن يقتسموا لحمه فيما بينهم.

هل تملأ جلده لحمًا وتقرِّب رأسه من ظلِّ النار؟ إذا سُلخ جلده، هل تقدر أن تملأه لحمًا؟ وإن قُتل، هل تستطيع أن تأخذ رأسه وتحرقه في النار؟ وهذا لكي يقول: أنت لا تقدر!

ضعْ عليه يدك وتذكَّر الحرب، يجعلْك لا تزيد (40: 31). حتّى وإن قُتل، لا يُسمَح لك أن تبسط يدك لتضعها عليه، إذ لا تحسب حسابًا بأنَّك أمام حيٍّ يستطيع أن يحارب. فهكذا أيضًا لا تستطيع أن تقترب منه: فاقتربْ وضعْ أقلَّه يدك أو رجلك عليه.

هو لا يبتعد حين يستيقظ. حتّى وإن اقترب إنسان للقائه وهو نائم، فحين يستيقظ لا يقدر أن يهرب من موضعه، لا يهرب ولا ينجو بنفسه. بمجرَّد النظر إليه يُغمَى عليه ويَهلِك.

من الذي يقوم (أو: يقف) قدَّامي. وإن قبالة هذا الذي هو صنعتي، لا تقدر أن تقف (أو: تقاوم)، فقدّامي أنا خالق الكون من يقدر أن يقف ويقول: الحقّ معي. فكيف حسبتَ أنَّك (تقدر) أن تصنع الحقّ؟

من هو قدَّامي لأسلِّمه (للدينونة)؟ ما هو تحت كلِّ مدى سمائي، هو لي، ولا أسكت؟ (41: 4) إذًا السماوات والأرض وكلُّ ما فيها هي صُنعي، ولا أقتنع بأن أسكت دون أن أحاسب وأوبِّخ أولئك الذين يتجرَّأون فيقفون قبالتي مثلك أنت.

في الشدَّة وفي أعصاب جبروته، من جلا وجه لباسه؟ (41: 5). من يقدر أن يتجاوز شدَّته وجبروته، على مثال إنسان ينزع الكسوة واللباس من جسم إنسان اكتسى (أو: اختبأ) فيه من دون خوف.

وحين تسقط المصيدة عليه، من يأتي؟ وإن أُخذ في المصيدة، من يأتي ليتعلَّق به ويصعده؟

من يفتح باب فمه؟ دائرة أسنانه رُعبٌ في الوادي (41: 6). من يفتح فمه ليرمي فيه لجامًا وكمّامة، تنفتح أيضًا دائرة أسنانه ويتطلَّع في الإنسان. تدوخ عيناه كمن يتطلَّع في وادٍ عميق.

واحد (أو: فكّ) قريب من واحد، والريح لا تدخل بينهما. واحد يلتصق بواحد، فيأخذان ولا يُفلتان (41: 8). قال: فكّاه ملتصقان الواحد بالآخر فلا يدخل الهواء بينهما إلاَّ للتنفُّس. فإذا فُتحا جُرَّ الهلاك لكلِّ من نظر إليه.

ناظراه مليئان بالنور وعيناه مثل شعاع الفجر (41: 10). من عينيه تخرج أشعَّة النور التي تحرق عيون الناظرين أكثر من أشعَّة الشمس.

تخرج من فمه قناديل مثل جمرات نار ومثل شرارات نار ملتهبة (41: 11). نار مثل القناديل والجمرات المستعرة تخرج من فمه، فتكفي لتُوقد وتغني الكثيرين، ومن لهاثه تخرج شرارات نار تكفي الموقدة.

من منخريه يخرج دخان مثل دائرة القدر المشتعلة (41: 12). من النار الكثيرة المطمورة فيه يتقيّأ منخراه ويُخرجان الدخان فيحسبه الناظرون دخانًا يصعد من الحطب الكثير تحت القدر التي تُدعى دائرة.

نفَسَه يشعل الجمرات فتخرج اللهب من فمه (41: 13). حين يفتح فمه، تخرج اللهب الكثيرة من فمه فتُوقد وتحرق كلَّ ما تلتقي به.

في عنقه تبيت القوَّة وقدَّامه تقفز مخافته (41: 14). مع عنقه، تحدَّث عنه (أو: بهيموت) كلِّه، فلديه تنبت قوَّته وتبقى ولا تنتقل منه. وقوَّته متعلِّقة به من كلِّ جوانبه.

لحمه مجيد وسمين ومتماسك، وقلبه لا يتزعزع (41: 15). فبسبب السمن والقوَّة التي يملك لا يحتاج إلى قدرة أخرى تسنده، بل هو يستند على قدرته ولا يتزعزع ولا يخاف من شيء.

متماسك مثل الصخر وثابت مثل الصنم (41: 16). فالصنم هو جسر صخريٌّ أثبت من الحجر الظرّان.

من مخافته يتزعزع الأشدّاء والثابتون يُوضَعون. حتّى أولئك الذين قدرتهم شديدة وهم ثابتون أقوياء، يخافون من منظره ويُوضَعون ويسقطون.

باب (أو: حدُّ) السيف لا يستطيع أن يقاومه (41: 18). فمه يفتح السيف والهلاك، وما من إنسان يقدر أن يقف قدَّامه ويغلبه.

«يصدّ» تفكُّرات العظماء. كلُّ الحيل التي يجريها العظماء والملك لكي بها يقتلوه، فهو يصدُّها ويبطلها.

يحسَبُ الحديد كالتبن والنحاس مثل الخشب الذي سقط فيه النخر (41: 19). قال أعلاه: عظامه أشدُّ من النحاس ومن الحديد. والآن يقول كلامه ويكرّر بأن له النحاس والحديد مثل التبن بحيث يصبح كذبُ كلامه جليًّا.

لا يهرب من القوس (41: 20أ) مثل سائر الحيوانات التي حين تسمع زمزمة الوتر تهرب وتختبئ خوفًا من السهام.

ومثل القشِّ تحسب له حجارة المقلاع. يضحك على الرمح (41: 20ب). فالحجارة والسهام التي تُرمى عليه لا تؤلمه، فتحسَب، مثل القشٍّ الذي يبلغ إلى إنسان ولا يؤلمه. والرمح لا تقدر أن تخرقه، فيَحسب كلَّ أدوات الحرب مثل لعبة أو أضحوكة.

ومثل الأرض اليابسة بحسب اللجَّة، وقدرته تمشي على التراب. يبيِّن أنَّ مسكنه على الأرض اليابسة مع أنَّه ليس على الأرض اليابسة.

كلُّ رفيع يراه يجعله دمارًا. كلُّ ما يراه يُخليه إلى الدمار ولو كان رفيعًا وقويًّا.

صار ملكًا على كلِّ الزحّافات. فكأنَّه يقول: كما أنَّ مخافة الملك مفروشة على كلِّ من يطيعه (أو: يسمعه) بحيث إنَّ الكلَّ يرتعدون منه، هكذا أيضًا المخافة التي منه انتشرت على كلِّ أجناس الزحّافات والحيوانات.

أن لا يدعو بهيموت الشيطان كما قال أناس، فهذا جليٌّ ممّا قاله: يأكل العشب مثل الثور وعظامه شديدة مثل النحاس ومثل الحديد. ومن هذه: لحمه مجيد وسمين. فالشيطان لا لحم له ولا عظام وهو لا يقتات العشب. ومن هذه كلِّها نعرف أنَّه دعا بهيموت حيوانًا، لا شيطانًا. وكلُّ ما قيل عليه من قبل الكاتب هو تركيب من أقوال مبسَّطة وليست حسب هدف الكتب الإلهيَّة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM