19- تقدّس الابن فقدَّسنا 2: 11-15

19- تقدّس الابن فقدَّسنا

2: 11-15

أحبائي نتعرف دوماً إلى هذا الابن الذي صار إنساناً من أجلنا، الذي تنازل فحُسِبَ أقل من الملائكة. وكل هذا من أجلنا، لخيرنا، لخير كل إنسان. نتعرف إلى هذا الكاهن الذي، وهو صورة الله، قبِلَ أن يصير إنساناً، أن يأخذ صورة العبد، لكي يرفع الإنسان إلى صورة الله. نتعرف إلى هذا الابن الذي تقدس فقدسنا.

هذا هو موضوع تأملنا. تقدّس الابن فقدَّسنا. نتخيَّل ذاك الذي هو القدوس، قبل أن يتقدّس، يعني أن يتكرّس، أن يكرّس ذاته، يكرّس حياته. يلاشيء ذاته لكي يقدّس البشرية كلّها، ولا سيما الخطأة بيننا. لأنه ما أتى من أجل الأبرار، بل من أجل الخطأة. ما أتى من أجل أصحاب الصحة والعافية، بل من أجل المرضى. نعم تقدَّس الابن لكي يقدّسنا. ونقرأ أحبائي الرسالة إلى العبرانيين الفصل 2: 10-13: نعم، كان من الخير... وهبهم الله لي.

نعم، كان من الخير أن الله الذي من أجله كل شيء وبه كل شيء. في تأمل سابق، وفي آية 9 قال: إن المسيح ذاق الموت لخير كل إنسان. نعم ما يبحث الله عنه هو الخير. منذ البداية حين خلق، خلق كل شيء خيراً، خلق كل شيء حسناً. فالشر لا يمكن أن يأتي من الله، الشر يأتي من الإنسان الذي يريد أن يتّخذ صفة ليست له، الذي يريد أن يصير الله. وحين يحسب الإنسان أنه صار الله، هناك الظلم هناك الجوع، هناك الموت، هناك القتل، هناك سحق الإنسان. الله لا يطلب لنا الا الخير، وإذا نحن تركناه نمضي إلى الشر، نمضي إلى العبودية، نخسر حريتنا، ونخسر بالتالي كل شيء. الله خلق كل شيء، وبه كان كل شيء. وجعل هذا كله في خدمة يسوع المسيح.

يقول يوحنا: به كان كل شيء وبدونه لم يكن شيء مما كان. ماذا أراد الله؟ أراد أن يهدي إلى المجد كثيراً من الأبناء، هذا هو الخير الذي يريده الله لنا. أن يهدينا إلى المجد. نتخيل! تكلّمنا في ما سبق عن المسيح، المكلَّل بالمجد والكرامة والرب يريد أن يرفعنا إلى مجد هذا الابن، أن يجعل حياتنا مجدَه، أن يجعل كلامنا مجده، موتنا مجده، قيامتنا مجده.

من يهدي إلى المجد كثيراً من الأبناء. ولفظ كثير في الكتاب المقدس، يعني الكل. يريد من أبنائه كلهم، ونضيف من بناته كلهنّ أن يصلوا إلى المجد. هذا ما يقوله الرسول: يريد خلاص جميع البشر، لا أنا واخوتي واخواتي وأبناء وبنات طائفتي. كلا، كل البشر مدعوّون إلى الخلاص، كل البشر مدعون إلى المجد. نحسب مرات أننا وحدنا أبناء الخلاص. وقيل في وقت من الأوقات لا خلاص خارج الكنيسة. ما معنى هذا؟ إذا كانت الكنيسة جماعة أبناء وبنات الله المخلوقين على صورة الله؟ إذا كانت الكنيسة فئة صغيرة، فماذا نعمل بالباقي؟ إذا كان المسيحيون يصلون إلى ملياري شخص، ويبقى هناك أربعة مليارات، فماذا نعمل بهؤلاء؟ هل نرميهم في جهنم؟ هل نبقيهم على الأرض، فيعيشون كما يعيش سائر الخلائق؟

كلا، كل أبناء الله، كل بنات الله، مدعوّون إلى المجد، مدعوّون إلى الخلاص. ومن يخلّصهم؟ الكاهن الأوحد يسوع المسيح. هو قائدهم، هو يمشي أمامهم. يقول الكتاب هنا: جعل قائدهم إلى الخلاص. نعم، وحده يسوع قائدنا إلى الخلاص. وحده يقودنا إلى الخلاص. ولكن هذا القائد كيف يكون كاملاً؟ هل يكون كاملاً بالكلام، بالنظريات بعالم من الخيال؟ كلا. فقائدنا يكون كاملاً بالآلام. أخذ الطريق التي نعرفها نحن. فمنذ البداية، البداية اللاهوتية، نعرف أن الإنسان هو ابن الألم كما قال سفر أيوب: المرأة تلد وهي تتألم أساس حياتها أن تكون أمًّا، أن تكون أم الأحياء. وفي أساس حياتها الألم والوجع. وكذلك الرجل. آدم المأخوذ من الطين، المأخوذ من الأرض، عليه أن يأكل خبزه بعرق جبينه. نعم، الآلام هي في أساس حياة كل إنسان، والمسيح ما جاء يحررنا من الألم. فهو ما تحرّر منه. والمسيح ما جاء يلغي الألم، بل أراد أن يكمَّل بالألم، أن يكون كاملاً بالآلام.

والرسول يحدثنا عن ألمه الذي لم يكن قد تمّ، لم يكن كاملاً، لأني أنا وأنتَ وأنتِ، نكمل في جسدنا ما ينقص من آلام المسيح، من أجل جسده الذي هو الكنيسة. هو صار كاملاً بالآلام، ويدعونا أن نكون معه كاملين بالآلام. لم يبقَ الله، لم يبقَ ابن الله في علياءه. كلا أراد أن يكون معنا. وبما أنه الكاهن، تقدّس وهو يقدّسنا معه. تقدس، نعم. تكرس، نعم. لبث بتولاً طوال حياته، ليكون كله في ما هو للأب: ألا تعلمان يا أمي وأبي أنه يجب أن أكون في ما هو للأب السماوي. هذا هو التقديس. نعم جُعِل جانباً، لم يكن مثله مثل البشر. كلّهم اختلفوا عنه، مع أنه هنا يقول النص: الذي يقدِّس والذين تقدَّسوا لهم أصل واحد.

كلنا "من آدم"، كلنا بشر، كلنا نلنا الحياة الواحدة. أنا إنسان، أنا إنسانة، ويسوع إنسان كان شبيهاً بنا في كل شيء. نتخيل أن أصلنا أصله، أو بالأحرى أصله من الله، أما أصله البشري فهو أصلنا. نحن كلنا من الشجرة الواحدة. تقدّس ويقدّسنا. تلك هي صورة الكاهن. هي صورة الكاهن التي تحدث عنها يسوع في الصلاة الكهنوتية يوحنا 17، قبل الذهاب إلى موته: قدست نفسي ليكونوا مقدَّسين في الحق. إذا كان الابن قدّس نفسه، فما الذي يجب أن يفعله الكاهن؟ ألا يجب أن يطلب القداسة، أن يقدس حياته،

عندنا اليوم الكثير من القديسين: مار شربل، نعمة الله الحرديني، يعقوب الكبوشي قديسون عديدون: مار أنطونيوس الكبير، افرام السرياني، هؤلاء كلهم تقدّسوا، وما زلنا ننعم بقداستهم إلى أيامنا. هم لا نعود نراهم، ومع ذلك يفعلون أكثر من الذين نراهم. لماذا؟ لأنهم تقدّسوا. فماذا يبقى على الكاهن الا أن يقدّس ذاته؟ ولهذا نعيّد هذه السنة القدّيس يوحنا ماري فيانيه، كاهن آرس. قداستُه ما زالت ترف فوق تلك القرية التي صارت مدينة قرب ليون في فرنسا. قداستُه ما زالت حاضر مئة وخمسين سنة بعد موته. وإذا اعتبرنا أننا جميعاً نمارس كهنوت المسيح، فماذا نقول عن تريزيا الطفل يسوع التي توفيت وهي بعمر 24 سنة. قالت: سأقضي حياتي في السماء أنثر الورود على الأرض.

ويتقدّس الكاهن بحياته الشخصيّة، بالتأمل اليومي، بقراءة الكتب المقدسة. يتقدس الكاهن بالرسالة التي يقوم بها: يزور المرض يزور أبناء الرعية، يمارس الأسرار، يرافق الحزانى، يرافق الفرحين: افرحوا مع الفرحين وابكوا مع الباكين. هكذا يتقدّس الكاهن، ويقدّس الذين هم حوله. إذا كان المسيح هو معنا من أصل واحد، أترى الكاهن صار فوق الجماعة؟ هل نسي أنه من أصل واحد هو واخوته واخواته؟ كلهم من أصل واحد، كلنا بشر، كلنا خطأة، كلنا ضعفاء، سواء كنا من الكهنة أو من العوام، ونحتاج أن نتقدّس يوماً بعد يوم، أن نكرّس أفكارنا. لا نقبل بفكر يبعدنا عن رسالتنا. نكرس كلامنا فلا يصدر منا كلمة نابية، كلمة لا تليق بمن هو رفيق يسوع المسيح على المذبح. لا تصدر منا كلمة تجرح الآخرين، كلمة افتراء.

نقدم ذواتنا بأعمالنا، لأن عملنا عمل الله. قال لنا يسوع: أعمالكم تمجّد الله. إذا كانت أعمالاً حسنة، فهي تمجد الله. ولكن لا سمح الله إذا لم تكن حسنة فتجعل الناس يجدّفون على اسم الله بسببنا. يسوع تقدّس، والكاهن يتقدّس، وكل مؤمن يتقدّس. نحن من أصل بشري، والمسيح صار من أصل بشري، لكنه أراد أن يرفعنا إلى مستوى الله، فهل نستعد أن نرتفع معه؟ نحن كلنا من أصل واحد، لهذا يقول النص: لا يستحي أن يدعوهم أخوة وأخوات. نحن أخوة يسوع، نحن أخوات يسوع.

مساكين الذين يجادلون إن كان للمسيح إخوة وأخوات على مستوى الجسد، وإذا كانت أمه عرفت يوسف فيما بعد وكان لهما البنون والبنات! مساكين هؤلاء! فليلبثوا على مستوى الأرض ولا يرتفعوا فوق الأرض. سأل يسوع يوماً بعد أن قيل له: أمك أخوتك في الخارج. قال: من هي أمي ومن هم إخوتي؟ إخوتي، أمي هم من يعملون مشيئة الله، هم من يعرفون كلمة الله ويعملون بها. ما استحى يسوع أن يدعونا إخوته واخواته، بل افتخر بنا، حملنا معه على صليبه إلى هذا المستوى، أراد يسوع المسيح أن يرفعنا.

وعاد النص إلى المزمور: أبشّر باسمك اخوتي. ثم: ها أنا والأبناء الذي وهبتهم لي.

وهبنا الله الأب لابنه يسوع المسيح. صرنا هدية من الله الآب، وحملنا يسوع المسيح هدية. ثم أعادنا، ولكن هذه الهدية تحولت كلياً: كنا خطأة صرنا أبرارًا. كنا إلى الموت صرنا إلى الحياة. فكما الخبز يصبح جسد المسيح، والخمر دم المسيح، هكذا يتبدّل كل شيء، تتبدّل المادة إلى الروح، والأرض إلى السماء. كذلك نحن سلمنا الله الآب إلى ابنه يسوع، إلى الكاهن الذي أرسله إلى العالم، وها هو الابن يحوّلنا قبل أن يُعيدنا إلى الأب.

لم نعد بشراً فقط، صرنا أبناء الله، أبناء مع الابن. واذ نحن نمضي مع الابن، تنطبع صورة الابن على وجه كل واحد منا، فلا يعود الرب يميز كلَّ واحد منا عن ابنه الوحيد. هذا الذي له ابن وحيد، كما نقول في النؤمن: وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد، رفض أن يبقى ابنه وحيداً. صار له الأبناء والبنات. صار ليسوع المسيح الاخوة والأخوات. ما أراد أن يعود يسوع إلى السماء وحده، بل أراد أن يأخذنا كلنا: كثير من الأبناء، كل الأبناء، كل البنات. كيف يرضى يسوع المسيح أن يرجع إلى السماء، وكلّ اخوته وكلّ أخواته ليسوا معه. مستحيل. حين رجع قال: ها أنا مع الأبناء الذي وهبتهم لي. من وهبت لي، حوّلتهم، قدّستهم، صيّرتهم لك. كانوا خطأة فنالوا الغفران، كانوا موتى، فنالوا القيامة، كانوا ضعفاء تقووا لأنهم صاروا معي.

ولكننا لن نكون أبناء الخلاص، إلا إذا سرنا وراء قائدنا. يسوع المسيح وحده الذي جاء من السماء، يحملنا إلى السماء، هذا هو القائد الحقيقي. أما قوّاد الأرض فنبقى معهم على الأرض. راحوا إلى الموت ونتبعهم إلى الموت. وحده يسوع مرّ في الآلام، مررنا معه. وصل إلى القيامة، فوصلنا معه، على ما يقول الرسول إن متنا معه قمنا معه، إن تألمنا معه تمجّدنا معه. هنيئاً لنا بهذا القائد الذي نسير وراءه. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM