16- قائدنا المسيح 2: 10

16- قائدنا المسيح

2: 10

أحبائي نتابع قراءتنا للرسالة الى العبرانيين، فهي رسالة كهنوتية بإمتياز. تجعل أمامنا يسوع المسيح الكاهن الأوحد، الذي بعده ما من كاهن. فإن كنا نحن كهنة، فنحن نشارك في الكهنوت الواحد، كهنوت يسوع المسيح. كما نحن أبناء مع الابن الوحيد، كما نحن ورثة مع الوارث الوحيد، كذلك نحن كهنة مع الكاهن الوحيد، الكاهن الأوحد. أمّا تأمّلنا اليوم فعنوانه قائدنا المسيح. نحن لا نرضى أن نسير وراء أحد في هذا العالم وبولس الرسول ذاك الذي جابَ البلاد يحمل الإنجيل قال لنا: إقتدوا بي. فكيف نقتدي بإنسان من الناس؟ هذا مستحيل، ولكنّ بولس أرفق كلامه حالاً: إقتدوا بي كما اقتدي أنا بالمسيح. أنا لا أمشي وراء بولس ولا وراء بطرس، ولا وراء أحد من رؤساء هذا العالم الدينيين والمدنيين. أنا أمشي وراء يسوع المسيح. وهو الذي قال لنا: لا تَدْعُوا أحدًا معلّمًا. معلّمكم واحد. وقائدنا واحد ونحن نسير وراءه.

كلّ الذين ساروا وراء القوّاد على مدى التاريخ، كيف انتهت حياتهم؟ في الموت، نتذكّر إذا شئنا هنيبعل الزاحف من قرطاجة في أفريقيا الشمالية الى إيطاليا. أين انتهى؟ في الموت. نتذكّر اسكندر المقدوني: مضى يموت في بابل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. ونتذكّر قوَّادنا في هذه الأيام: موتسي تونغ في الصين، ستالين ترك وراءه عشرين مليون من القتلى ما عدا الذين غابوا في ثلوج سيبيريا. وهتلر الذي سُمّي القائد الفوهرر بالألماني، الى أين قاد بلاده؟ الى الدمار، الى الخراب، وترك في حرب أصلاها ستين مليون قتيل.

هؤلاء هم القوّاد في العالم، سواء كانوا كبارًا أو صغارًا، في عالمنا أو في عالم أوسع. كلّ قائد بشري يريد من الناس أن يدافعوا عنه، أن يركعوا قدّامه، أن يعبدوه، أن يسجدوا له. فهل ونسير وراء مثل هؤلاء القواد مثل الغنم، كما يقال للذبح؟

أما قائدنا يسوع المسيح فهو لا يضحّي بنا من أجل حياته، بل يضحّي بحياته من أجلنا. هكذا أحب اللّه العالم، قال اللّه الآب. وقال يسوع عن نفسه: ما من حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه، لا أن يبدّل أحبّاءه من أجل نفسه. ذاك هو قائدنا اللذي لا يمكن أن يخوننا، الذي لا يمكن أن يتركنا وحدنا. هو الذي يبقى الى النهاية حاضرًا، مستعدًا للموت، للصلب، لكي نبقى نحن أحياء، نبقى في الحياة. هذا هو قائدنا يسوع المسيح، وهكذا يكون الكاهن.

الكاهن هو الذي يستعدّ أن يكون ضحية مع يسوع المسيح الضحية. حين يقول في القدّاس: هذا هو جسدي، خذوا فكلوا، نحن نأكل جسد المسيح. ولكن يجب أن نأكل أيضًا الكاهن. الكاهن، قال الأب شفرييه، هو رجل مأكول، هو رجل في خددمة الجميع. هذا هو الكاهن، الكاهن لا يأكل الآخرين، لا يستفيد منهم، كما تحدّث حزقيال النبي عن الرعاة: يشربون الحليب يأكلون اللحم، يستفيدون من الصوف، ولكنّهم لا يرعون القطيع، بل يرعون نفوسهم. لا، لم يكن يسوع كذلك، ولا يمكن للكاهن أن يكون كذلك، والويل له إن كان من هؤلاء الرعاة الأردياء الذين رذلهم الرب، طردهم، وقال لهم: أنا أريد أن أرعى غنمي.

ويسوع الراعي الصالح هو المثال: لنا يمشي أمام القطيع لا وراءه. إن كان من خطر، فهو الذي يصاب أول ما يصاب خروف بالخطر. لا يترك القطيع يُصَاب بالخطر، لا يترك القطيع يتبدّد وهو يهرب يختبئ، لأنه يخاف على نفسه. كلاّ، المسيح يموت عنّا. هذه هي عظمة قائدنا. ما أعظم النعم التي ننالها من هذا القائد. نعم، قائدنا هو المسيح.

ولكن البعض ما اكتفوا بالكلام عن قواد على الأرض، فتحدّثوا عن قواد في السماء في الملائكة الذين هم، على حد قولهم، أعظم من يسوع المسيح. وكيف يكون ذلك؟ الملاك، كما يُقَال، لم يلبس جسدًا، والمسيح لبس جسدًا، وبما أنه لبس جسدًا صار أقل من الملائكة. ما هذا اللاهوت؟ وكيف نجسر أن نقول في الطلبة عن مريم العذراء: هي سلطانة الملائكة؟ إذا كانت مريم سلطانة الملائكة، فمن أين جاءها هذا السلطان إلاّ من ابنها الذي هو السلطان في السماء والأرض، الذي به خُلِق كلّ شيء، ملائكة ورؤساء، سلاطين هذه الدنيا والدنيا الآخرى. كلّ شيء خُلِق به، كلّ شيء خُلِق له. فكيف نجسر بعد ذلك أن نتحدّث عن شخص يمشي أمام المسيح أو يكون موازيًا للمسيح؟ المسيح وحده هو القائد، هو الذي به خُلِق كلّ شيء، هو الذي يُدبِّر الكون، يدبّر الكنيسة، فلماذا نبحث عن غيره؟ كم نحن مساكين!

في هذا الإطار، نقرأ أحبائي الرسالة الى العبرانيين 2: 5-8 واللّه ما أخضع للملائكة العالم المقبل... وأخضعت كل شيء تحت قدميه.

تقول الرسالة إلى العبرانيين (2: 5)، واللّه ما أخضع للملائكة العالمَ المقبل. الملائكة هم خاضعون، شأنهم شأن كلّ الخلائق. هم يسجدون للابن كما نحن نسجد أيضًا للابن. لهذا فالعالم يتوازى مع الملائكة، لأن العالم خلقه اللّه، والملائكة خلقهم اللّه. وفي أيّ حال سواء كان هذا العالم أو العالم المقبل، كلّ هذا هو في خدمة الربّ يسوع. العالم المقبل الذي نتكلّم عليه سيأتي الكلام عنه. فكهنوت المسيح على الأرض هو صورة عن كهنوته في السماء. هو الكاهن المتشفّع من أجلنا. ويسوع القائم من الموت والجالس عن يمين الأب، ما زال يتشفّع من أجلنا. نعم، لنا شفيع في السماء، ولنا شفيع على الأرض. لنا كاهن في السماء، ولنا كاهن على الأرض، يعرف ضعفنا ويسير معنا ويغفر خطايانا ويقوّينا في دربنا.

ويأتي البرهان من المزامير، وأولها المزمور الثامن: أيها الربّ ربّنا ما أعظم اسمك في كلّ الأرض وفي هذا المزمور نقرأ ما هو الإنسان يا اللّه حتى تذكره. فهذا الإنسان، كما يقول المزمور، الموجود في الخليقة، أي السماء، الأرض، البحار، الكواكب، النجوم، الشمس، والقمر، إذا نظرنا بعيوننا هذا الإنسان فهو لا يحسب شيئًا ما هو بالنسبة الى الشمس؟ إذا اقترب منها أحرقته. ما هو بالنسبة الى الجبال، الى الوديان، الى الأنهار؟ هو لا شيء. ويتساءل المزمور: كيف تَذكُرُ هذا الإنسان؟ ماذا يشكّل بالنسبة الى بقية الخلائق؟ في نظر البشر لا شيء. أبدًا. ويُطرَح سؤال ثانٍ: وما هو ابن آدم حتى تفتقده؟ آدم الذي هو صورة عن الإنسان، لا أول إنسان على الأرض. فخبر الكتاب المقدس عن آدم، يعود بنا الى خمسمئة سنة قبل المسيح، يوم كانت البشرية خمسين مليون نسمة أما آدم فهو كلّ إنسان، وهو مأخوذ من التراب، سواء كان رجلاً أو إمرأة ، فالكتاب يقول: وخلق اللّه الإنسان، يعني آدم، على صورته، رجلاً وامرأة خلقهم. نعم "آدم" نصفه رجل ونصفه إمرأة. وصورة اللّه نصفها رجل ونصفها امرأة. ولا تكتمل صورة آدم ولا صورة الإنسان الا حين يجتمع الرجل والمرأة، فيكون الإثنان جسدًا واحدًا.

ما هو الإنسان حتى تذكره؟ يجب أن تنساه: هو شيء كلا شيْ. ومن هو ابن آدم حتى تفتقده، تزوره، تترافق معه في الجنة الفصل الثاني من سفر التكوين، نرى الربّ يتمشّى في الجنة. مع من يتمشّى؟ هو يتمشّى مع آدم. هل هو عظيم الى هذه الدرجة حتى يمشي معه اللّه، حتى يتمشّى معه اللّه؟ بيحرز، كما نقول، نعم، لأنه، لما جبله من تراب الأرض، جبل معه كل الخليقة، ولكنْ ميّزه: جعل في أنفه نسمة حياة، جعل له نفسًا حية، وخصوصًا أعطاه من روحه. لم يَعُد الإنسان فقط ذلك المؤلف من اللحم والدم، من العظم والرأس واليدين والرجلين، صار الإنسان أعلى من الإنسان. وإذا كان اللّه يتذكّره، فلأنه جعل فيه من روحه. وإذا كان اللّه يفتقده يزوره، فلأن هناك علاقة بينه وبين ذاك الإنسان.

وماذا نقول عندما يكون هذا الإنسان هو ابن اللّه بالذات، الذي تجسّد، أخذ جسداً وصار شبيهًا بنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة. هذا الإنسان نقّصته حيناً عن الملائكة، هكذا قال النصّ اليوناني في المزمور الثامن. ولكنّ النصّ العبري أقوى بكثير: نقَّصته قليلاً عن اللّه. نعم جعلت الإنسان قريباً منك، يا اللّه. هذا هو الإنسان. جعلتَهُ كذلك وما تراجعتَ أبداً. جعلتَه قريباً منك مع أنه خطئ، ويستحقّ أن يقول فيه المزمور، ما هو الإنسان؟ هذا الذي كان قريباً من اللّه، صار في الخطيئة، صار قريباً من الحيوان. ومع ذلك لم تندم يا رب، يوماً لأنك جعلته كذلك.

وإذا كان الإنسان قريباً من اللّه، فماذا يكون ابن اللّه يسوع المسيح؟ وماذا يكون الكاهن؟ نتخيّل الكاهن في القداس الإلهي يقول وهو يمسك الخبز: هذا هو جسدي. انه يتكلّم باسم ابن اللّه، ويقدم لنا جسد ابن اللّه. يقول أين اللّه؟ هذا جسدي، والكاهن الفلاني لا يقول: خذوا كلوا هذا جسد يسوع المسيح. كلا. ولا يقول: خذوا اشربوا هذا دمّ يسوع المسيح. كلا. بل يقول: هذا هو جسدي أنا، هذا هو دمّي أنا، أخذ الابن فمّ الكاهن وتكلّم به، أخذ الابن جسد الكاهن. فيا ليت الكاهن يعرف عظمته! كم هو رفيع! هو يحلّ محل اللّه. حين غفر يسوع للمخلّع خطيئته، حين شفاه من مرضه، قال له: مغفورة خطاياك. تعجَّب الكتبة والفريسيون، تشكّكوا من الذي يستطيع أن يغفر الخطايا الا اللّه. لا شكّ، يسوع هو ابن اللّه. ولكن الكاهن يفعل ما فعله يسوع المسيح. يقول للمؤمن: أنا أحلّك من جميع خطاياك، أنا أغفر لك خطاياك. من أنت حتى تغفر؟

ويخبرنا القديس متّى أن الناس تعجّبوا حين رأوا الناس يغفرون الخطايا. نعم أنا الإنسان، أنا الضعيف أنا الخاطئ أغفر الخطايا لأن يسوع أخذ يدي، لأن يسوع أخذ فمي، أرادني أن أواصل عمله. وهكذا صرتُ ناقصاً قليلاً عن اللّه.

ويتابع النصّ: وكلّلته بالمجد والكرامة وأخضَعْتَ كلّ شيء تحت قدميه. قال القديس يوحنا ماري فيانيه الذي نعيده في هذه السنة الكهنوتية بعد 150 سنة على وفاته: إذا رأيتُ الملاك والكاهن أحيِّي الكاهن ثمّ أحيِّي الملاك. وهنا نفهم الإكرام الذي يحاط بالكاهن. وغير المسيحي يسميه المحترم، أي من يستحقّ كلّ إكرام، لا بسبب شخصه، هو ضعيف. ويمكن أن يكون مريضًا، ويمكن أن لا يكون تعلّم كثيراً؛ ولكنه محترم.

والمؤمنون ماذا يقولون حين يرون كاهناً، المجد للّه أنت أيها الكاهن صرت شبيهاً باللّه، صرت قريباً من الله للّه، هل أنت تمجّد اللّه بحياتك، بكلامك، بتصرّفاتك؟ أم أنت أخذت الاسم وبقيت على مستوى الاسم؟ أنت صرت على مستوى اللّه، فهل تعرف المجد الذي جعله اللّه عليك؟ وفي أي حال، هذا المجد أساساً هو للابن، لإبن اللّه. من أعلى السماء قال الآب: هذا هو ابني الحبيب، اسمعوا له. ولا يمكن أن نسمع الا لهذا الابن، ولا يمكن أن نسمع إلاّ للذي يتكلّم بفمه الابنُ إلاّ للذي يكون كلامه امتداداً لكلام الإبن؟

وان لم يكن الكاهن كذلك، يكون، كما يقال في العهد القديم، النبيَّ الكاذب. يُحسبُ حاله نبياً، ليحسب حاله دخل في سرّ اللّه، وهو لم يدخل أبداً. يحسب نفسه يتكلّم باسم اللّه وهو يتكلّم باسم نفسه. الويل لهذا النبي الكاذب! الويل للكاهن الذي لا يكون على مستوى نداء الربّ، على مستوى من يمثّل! المسيح قال لنا: تشبّهوا بي أنا وديع ومتواضع القلب. تشبّهوا بي، أنا كنت خادمكم. تشبّهوا بي، كنت عند أقدامكم أغسلها لكم، تشبّهوا بي حين سرت أمامكم أتحدى الموت والموت على الصليب.

بارك يا ربّ كهنتنا، ليعرفوا المثال اللذي أمامهم، وليعرفوا خصوصاً أن لا قائد لهم الا أنت يا يسوع المسيح، لك المجد والإكرام من الآن والى الأبد آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM