10- طهّرنا من خطايانا
1: 3
مشروع اللّه مشروع كبير. من الخلق كان بإمكان اللّه أن يكتفي بذاته. فهو عائلة، عائلة الثالوث، الآب والإبن والروح القدس. الآب هو الأول لا في السماء بل في الأصل. ومنه الابن يعيد الى الأب كلّ ما له، ما عدا الصفة الخاصة التي هي البنوة. نحن لسنا على مستوى الأرض، حيث الرجل يتزوّج ليكون له أولاد. هي صورة بشرية، لأننا لا نستطيع أن نتكلم عن اللّه الا بلسان البشر. اللّه لا يُرى فكيف نجعله أمام عيوننا. اللّه لا يتكلّم كما نتكلّم نحن، فكيف نسمعه بأذاننا؟ اللّه لا صورة له، فكيف نتصوره نحن. ولكن ننطلق من مفاهيمنا حتى نتكلّم عن اللّه.
كيف يظهر الرجل؟ حين يكون أبا. ويُقَال: فلان هو أبو يوسف، أبو أنطوان، أبو محمد، أبو علي. الرجل يكون رجلاً حين يصبح أباً. هي طريقة بشرية نبيِّن فيها كيف يكون الإنسان. وحملْنا هذه الطريقة الى مستوى اللّه. كيف يكون اللّه عائلة مثل عيالنا؟ لأن عنده الابن. ولكن الصورة هي أن اللّه ما هو فقط أب، بل هو أيضاً أم. اللّه أب وأم، لأن الصورة الكاملة عن اللّه على الأرض، بقدر ما الأرض تستطيع أن تقدّم صورة عن اللّه، هو الأب والأم معاً. الأب وحده لا يعطي صورة عن اللّه. والأم وحدها لا تعطي صورة عن اللّه. ولكن يقول الكتاب فى التكوين (1: 26): خلق اللّه الإنسان رجلاً وامرأة على صورة اللّه. الإثنان يصبحان خالقين. إذا لم يجتمع الرجل مع المرأة، فلا يكون هناك أولاد ولا تنمو البشرية.
قال لهما الربّ: انموا وأكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها. فكيف ينمو الكون إذا كان الرجل هو الأرض كلّها أو إذا كانت المرأة هي الأرض كلّها؟ كلاّ، الرجل والمرأة معاً يعطيان صورة عن اللّه، لهذا نقول اللّه هو أب وأمّ معاً. ما هو فقط أب، بل أب وأمّ. ونحن إذ نقول الصلاة الربّية، الصلاة التي علّمنا إياها يسوع المسيح، أبانا الذي في السماوات، يمكن أن نقول في أعماق قلوبنا: أبانا وأمنا. هو أبٌّ وأمٌّ معاً.
ونتذكر دوماً هذا الكلام الرائع في مثل الأب المحبّ والابن الضال. حين عاد الإبن يقول الإنجيل: تحرّكت أحشاء الأب. عادة، في مفهومنا، نقول: أحشاء الأم، لا أحشاء الأب. فهذا الأب له أحشاء أم.
ونتذكّر خصوصاً هوشع النبي في فصل 11 يقول: أنا علمتكم المشي، أنا حملتكم على ذراعي. هذه كانت واجبات الأم، لا الأب. في الكنيسة، في المجتمع. في حياتنا اليومية. هذه كانت واجبات الأم. ويقول: جذبتكم بحبال الرحمة. من له رحم الرجل أم المرأة؟ المرأة. إذاً الربّ عندما نقول هو رحيم فذلك لأنه له رحم كرحم المرأة. كأنّه يلدنا في أحشائه قبل أن نُولَد في أحشاء أمهاتنا. إذا رفضنا أن يكون اللّه أبًا وأن يكون له ابن، فلأننا نعتبر في مفهومنا الوثني، أن الأب لا يمكن أن يكون أباً الا إذا اجتمع مع امرأة: شخصان يجتمعان في واحد. أما في اللّه، فالصفتان، صفة الأبوة وصفة الأمومة مجموعتان في اللّه الآب.
اللّه أب وأم، ووَلَدَ ابناً سيصير بالنسبة الينا يسوع المسيح. والروح القدس هو الحبّ الجامع بين الآب والابن. فإذا أردنا أن ندخل في هذه العائلة، العائلة الثالوثية، حيث الآب والإبن والروح القدس، فالروح القدس هو الذي يدخلنا. بواسطة المعمودية، نُولَد خليقة جديدة، نصبح أبناء وبنات اللّه.
الثالوث الأقدس، اللّه، الآب والإبن والروح القدس هم عائلة، ولا يحتاجون أبداً الى شيء خارجٍ عنهم لكي يكونوا سعداء. ومع ذلك، أراد الآب أن يُطلق أي مشروع. هو مشروع لا نستطيع أن نتصوره لا يمكن إطلاقاً. خلقُ السماء والأرض على المستوى البشري لا نستطيع أن نتصوره. ولا نستطيع أن نتصوّر خلق الكواكب والأفلاك والشمس والقمر والنجوم. من أنا الإنسان تجاه الشمس، تجاه القمر، تجاه البحر؟ لست بشيء. شبّهنا أحد الفلاسفة، باسكال، بقصبة تهزّها الريح. مع ذلك، فأنا بإمكانياتي، لأني على صورة اللّه، أستطيع أن أعرف شيئاً فشيئاً عظمة هذه المخلوقات.
مشروعُ اللّه كبير هائل. هل نتصور أن تجامُعَ الرجل والمرأة يخلق إنساناً جديداً. هل نتصور هذه البشرية تنمو وتنمو: ستة مليارات. كيف يمكن اللّه أن يحوشهم؟ إذا كانت الأم تحوش أولادها مهما كثروا، فماذا نقول عن اللّه؟ مشروع هائل. بواسطة من يقوم هذا المشروع؟ بوساطة الابن. الكاهن الأعظم هو الذي أرسله الأب لكي يسود هذه البشرية، لكي يملك عليها. هو الملك الأساسي. ولكن حصل أمر هائل. فهذا الابن الذي جاء ليكون صورة اللّه على الأرض.
هذا الإبن وجد البشرية مفككة، مزعزعة، نجسة، خاطئة، لا تستحق هذا المشروع، الذي تطلع اليه اللّه الأب، ووجب على المسيح أن يُصلح ما أفسده البشر. لهذا، أحبائي، في قراءتنا الرسالة الى العبرانيين، نصل الى مقطع هام، الى محطة هامة في تاريخ البشر، في مشروع اللّه، وهو عنوان كلامنا اليوم: طهرنا من خطايانا.
نعم هذا الإبن طهّرنا من خطايانا حين أُرسل ليكون الكون مع اللّه الآب. حين كان بكر الخليقة، كان عليه فقط أن يقود هذه الخليقة الى اللّه الأب. تقول الرسالة الى العبرانيين: هو مبدي إيماننا ومكمّله. هو القائد الذي يسير أمام البشريّة، بل أمام العالم كلّه، ليقوده الى اللّه الأب. ذاك هو الكاهن في المفهوم اللاهوتي. ولكن حصل أن أتت الخطيئة، فانقطعت الصلة بين اللّه والبشر. أراد الإنسان أن يكون اللّه، وبدلاً من أن يسمع من اللّه، من أن يحفظ وصية اللّه، سمع من ابليس، سمع من الشيطان، سمع من الحيّة.
من هو إبليس؟ إبليس كلمة آتية من اليوناني. ديا بولوس Diable الذي يجعل العوائق بين اللّه والإنسان، فيمنع الإنسان من الذهاب الى اللّه.
والشيطان كلمة عبرية. الشيطان أيضاً هو الذي يمنع الإنسان من الوصول الى اللّه. هذا ما فعل مع الإنسان الذي يمثّله الرجل المأخوذ من التراب. لهذا إسمه آدم. والمرأة هي أمّ الحياة التي تلد البشر. ولهذا تسمّت حواء. أراد الإنسان أن يصير اللّه، فإذا هو ينقطع عن اللّه. يضيع هذا الإنسان الجميل، الذي صار بشعاً جدًّا، صار نتناً. واتصاله بالحية هو اتصاله بالموت، والحية في البرية ترمز الى السمّ، ترمز الى المرارة، ترمز الى الموت.
الخطيئة أتت. فهل أوقفت مشروع اللّه؟ كلاّ. فاللّه مشروعه أزلي، ولا يمكن لشيء أن يوقفه، لا على مستوى البشرية، ولا على مستوى كلّ فرد من أفرادها. أنريد اللّه أن يحتاج الى إنسان من الناس حتى يقوم مشروعه؟ كلا ولكنه يحتاج الى كلّ واحد منا، لأنه هو الذي أراد أن يحتاج الينا. واحتاج الى الإنسان، الى أعظم انسان في البشرية، يسوع المسيح. أرسله الى العالم لكي يخلص العالم. مِمَّ يخلّص العالم؟ من الخطيئة. فلولا الابن لهلك العالم. لهذا تقول لنا الرسالة الى العبرانيين عن الإبن: طهرنا من خطايانا. بدأ فعمل "عملية التنظيف". بدأ يبني ما تهدّم، يعيد بناء ما تهدّم. صرنا عبيداً فلا بدّ أن يحرّرنا. صرنا عبيداً للخطيئة، على ما قال يسوع لليهود في إنجيل يوحنا: من يصنع الخطيئة يصبح عبداً للخطيئة. وجاءت الصورة: الفداء. ما هو الفداء؟ هي صورة بشرية لا يمكن أن نأخذها بكلّ علاتها، ولكن نأخذ معناها الأساسي: إفتدى. ما معنى افتدى؟ هناك شخص في الأسر صار عبداً لشعب آخر، ندفع الثمن فنفتديه. بالفضة والذهب نفتديه.
وفي تاريخ الكنيسة، هناك أشخاص افتدوا آخرين حين صاروا عبيداً مكانهم. وهذا ما كان بالامكان أن يكون لولا وجود الابن الذي كان الفادي الأول. منصور دي بول أخذ مكان أحد السجناء الذي فُرض عليهم أن يعملوا بالمقذاف. بالفرنسي Galère بدون أجر. أخذ منصور دي بول مكان أحدهم. أراد أن يكون عبداً مكان هذا العبد، عاملاً حقيراً مكان هذا العامل الحقير. هذا لم يكن بالإمكان لو لم يكن هناك شخص أمامنا إسمه يسوع المسيح.
ويقول بولس الرسول في الرسالة الى رومة: من منكم يستعد أن يموت عن رجل بار؟ ومع ذلك مات المسيح عنا ونحن خطأة. أما هكذا كان مكسيمليان كولبي، ذاك الكاهن الفرنسيسكاني الذي أخذ محلّ أحد المحكومين بالموت: كانوا يعدون عشرة. وصلوا الى رجل عنده عائلة كبيرة، فصرخ: كيف أموت ومن يهتمّ بعائلتي. وبلمحة بصر، أخذ الأب مكسيمليان كولبي مكانه، ولم يعرف أحد بذلك. ومات مكسيمليان كولبي رمياً بالرصاص، مع أنه لم يكن محكوماً عليه بل على الآخر، هذا أيضاً صار الفادي، مات عن أخيه، حتى تبقى حياته من أجل أسرته.
الفادي يسوع. افتدانا، نعم فدانا. ويقول بطرس الرسول: لا بالشيء الفاني، لا بالذهب، لا بالفضة. افتدانا بحياته. صار الحمل الذي يُذبَح عنا. هكذا دعاه يوحنا المعمدان: هذا هو حمل اللّه الذي يَرفع خطيئة العالم. نعم المسيح افتدانا، دفع الثمن. والثمن، كما قلت، ليس المال الذي يمضي ويأتي، وليس الفضة والذهب. دفع حياته من أجلنا، ومن أجل خطايانا نحن البشر. نعم، المسيح طهرنا من خطايانا.
وما معنى كلمة طهّرنا؟ هي تعود الى العهد القديم. حين يكون الإنسان خاطئًا، يسأل: كيف تعود إليه نقاوته وطهارته كان يقدم ذبيحة صغيرة. إذا كان فقيراً يقدّم يمامة حمامة وإذا كان غنيًا، يقدّم حملاً أو عجلاً وهكذا ينال التطهير. كما أن رئيس الكهنة كان يحمل التطهير مرة في السنة الى كلّ شعبه. يرسل التيس من الماعز، يحمِّله الخطايا الى البرية. وحين يموت رئبس الكهنة، كانت خطايا عديدة تغفر ولا سيما خطيئة القتل سهواً، فيعود كلّ إنسان الى بيته، وكأنه ما فعل شرا.
ولكن تلك الذبائح لم تكن كافية. فلو كانت كافية، لما احتاج رئيس الكهنة في كلّ سنة في يوم كيبور، في يوم التكفير، أن يعيد المراسيم ذاتها، لكي تُغفَر خطايا الشعب. أما المسيح فطهّرنا مرة واحدة، لا بذبائح خارجية
كما قال يعقوب السروجي، كما قال ذاك الشاعر القديس في العالم السرياني.
ذبيحة هابيل لا بأس بها، ولكنها بعيدة عن ذبيحة يسوع المسيح، مع أن الآباء اعتبروا هابيل صورة بعيدة عن يسوع المسيح.
ذبيحة نوح بعد الطوفان لم تكن كافية، لأن نوحًا نفسه سوف يقع في الخطيئة، حين يكون عرياناً، ويحمل اللعنة الى ابنه وابن ابنه كنعان. حتى ابراهيم لم تكن ذبيحته كافية. هو قدّم ابنه وما قدّم ذاته. أما المسيح فقدّم ذاته ذبيحة عنّا، فطهّرنا من خطايانا، خطايانا قبل الخطيئة الأصلية، يعني أصل كل الخطايا لا الخطيئة الأولى. فآدم في الكتاب المقدس وحواء، لم يظهرا في بداية البشرية. فالكتاب الذي تكلّم عنهما دُوِّن حوالي 500 سنة ق م فقط، لما كانت البشرية تصدّ 50 مليونًا.
ولكن آدم هو صورة عن كلّ رجل، وحوّاء صورة عن كلّ إمرأة. فكأن الكتاب يقول: البشرية كلّها خاطئة، خاطئة في الرجل، وخاطئة في المرأة، في كلّ رجل وفي كل مرأة. لهذا قال بولس الرسول: بإنسان واحد أو بالإنسان دخلت الخطيئة الى العالم، وبالخطيئة الموت، وهكذا عمّ الموت جميع الناس، لأنهم جميعاً خطئوا. لا لأن واحدًا خطئ، ولا لأنهم خطئوا بواحد، بل جميعهم خطئوا. إذاً جميعهم يحتاجون الى الطهارة، جميعهم يحتاجون الى الخلاص، جميعهم يحتاجون الى الفداء. لا الخطيئة، كما قالوا، أول خطيئة. ففي حياة كلّ إنسان، هناك خطيئة، خطيئة بالأساس هي الكبرياء: أريد أن أكون اللّه.
هذا ما قالته الحية لآدم، للإنسان، ولحواء: تصيران مثل آلهة تعرفان الخير والشرّ. يعني تقرّران ما هو خير وما هو شرّ. هذا ما يفعله الأقوياء حين يَظلمون الآخرين، حين يقتلون، حين يَسلبون، حين يَزنون حين يشتهون. ماذا يفعلون؟ يرمون جانباً وصايا اللّه ويقولون: لنا وصايانا، نحن آلهة على الأرض. ولهذا سيقول الله لهم، للقضاة مثلاً في المزمور: تحسبون نفوسكم آلهة، وأنتم مثل سائر البشر تموتون.
فالإنسان بعض المرات، في سلطته القوية، يحسب نفسه الهاً، يستطيع أن يميت ويحي. أما هذا الذي يفعله القاضي حين يحكم بالإعدام؟ أما هذا الذي يفعله الحاكم؟ وحده اللّه يميت ويحيي، واللّه لا يميت لكي يميت، لا يميت لكي يزيل الإنسان. اللّه إذا قلنا يميت فلكي يعطي الحياة، والحياة الكاملة، فلكي ينقل الإنسان، كما يقول يوحنا، من الموت الى الحياة. نعم، الإنسان يريد أن يكون اللّه: هي الخطيئة الكبرى التي تعرفها البشرية. ولهذا جاء ابن اللّه ليطهّرنا من خطايانا. والخطايا عديدة، أمّا جذرها فواحد، أمّا أصلها فواحد، أمّا ينبوعها فواحد: الإنسان يريد أن يكون اللّه.
وفي تاريخنا البشري، أما حسبَ هتلر نفسه اللّه، وستالين الذي ترك وراءه عشرين مليون قتيل؟ الحرب التي أصلاهما هتلر تركت ستين مليون قتيل فالإنسان حين يتصرّف مثل اللّه، لا يحيي بل يميت، لا يخلّص بل يُهلك، لا يبني بل يدمّر. يكفي أن ننظر حولنا هذه المدن التي دمِّرت بآلات الحرب، واليوم الطيارات القنابل بكلّ أنواعها. تلك هي الخطيئة التي أراد يسوع أن يطهّرنا منها: مات على الصليب لكي يطهّرنا منها. ولكن نحن نحتاج بعد وهو يحتاج بعد، الى سنوات، الى أجيال وأجيال لكي نطهُر من خطايانا.
أيها الربّ يسوع، جئت تطهّرنا من خطايانا. علّمنا شيئاً فشيئاً أن ننزع البغض، أن ننزع الحقد، ونعرف أننا بشر، نحتاج الى خلاصك، ونحتاج أن نعيش عيش الإخوة، فنبعد الخطيئة ونعيش النعمة، لأنه إذا كان بإنسان دخلت الخطيئة، فبك يا يسوع دخلت النعمة، دخل الخلاص. شكراً لك شكراً لك يا رب. آمين.