8- الابن هو صورة جوهر الآب 1: 3

8- الابن هو صورة جوهر الآب

1: 3

الرسالة إلى العبرانيين أو رسالة القديس بولس إلى العبرانيين، التي شرحها القديس يوحنا الذهبي الفم، هي رسالة كهنوتية بامتياز. تحدثنا عن يسوع الكاهن، الكاهن الأعظم، الكاهن الوحيد. بعد موته على الصليب، كهنوتُ العهد القديم زال، لم يعد له موجود منذ دُمّر هيكل أورشليم سنة 70 بعد المسيح.

كانوا كهنة عديدين. أربعة وعشرون ألف كاهن، يقدمون الذبائح. ولكن هذه الذبائح لم تكن تفي بالمراد، لأنها لو وفت بالمراد لما كانت الحاجة إلى تقديم الذبائح سنة بعد سنة. أمّا المسيح فقدّم نفسه مرة واحدة ذبيحة على الصليب، وهذه المرة كانت كافية لكي تغفر خطايا البشرية منذ بدايتها حتى نهايتها ومجيء المسيح الثاني. هي ذبيحة واحدة لا تتكرّر.

وإذ الكاهن يقدم الذبيحة، يقدم القدّاس، العشاء الرباني، العشاء السري، فهو لا يخلق ذبيحة ثانية، بل كل ذبيحة، كل قداس، يأخذ نعمته، يأخذ عظمته من القداس الأول الذي أقامه المسيح على الصليب، عندما تمَّ خلاص البشرية، وهو الذي قال من على الصليب: تمَّ كلُّ شيء.

نعم تمّ كل شيء فلا حاجة إلى ذبيحة أخرى. ونحن حين نعيش القداس ندخل في جو الصليب، نكون بجانب الصليب، مع مريم أم يسوع والتلميذ الحبيب.

التلميذ الحبيب هو كل واحد منا. أنا التلميذ الحبيب إذا أردتُ أن أحبَّ يسوع. أنتِ، أنتَ، كل واحد منا هو التلميذ الحبيب، وهو بجانب مريم العذراء أم يسوع بجانب الصليب. التلميذ الحبيب هو هنا. ونحن في قداسنا، إما أن نكون تلاميذ أحباء ليسوع المسيح، وإما لا فائدة من قداسنا. هو عمل عاديّ، عمل روتينيّ، لا يبدل شيئاً في حياتنا.

أما مريم فحين كانت عند الصليب، يقول الانجيل، كانت واقفة. آمنت بالقيامة قبل القيامة. والتلميذ الحبيب أخذها إلى بيته. فأي مسيحي لا يأخذ مريم إلى بيته، لا يكون ذاك التلميذ الحبيب، ولو دعا نفسه معمَّداً، ولو اعتبر نفسه أنه وحده من المؤمنين، لأنه لا يؤمن إلا بشفاعة الابن وحده. الابن هو الشفيع والشفيع الوحيد، ولكنه جعلنا شفعاء معه. وأول شفيع وأول شفيعة هي مريم العذراء، لا لأنها تأخذ من درب ابنها شيئاً، بل هو الابن يشركها مع ذبيحته، كما يشرك كل واحد منا. وإلاّ لماذا نقول لهذا أو لهذه أن يصلي من أجلنا. لماذا يصلون من أجلنا، إذا كانت صلاتنا لا تنفع. كلنا شفعاء بعضنا البعض، كلنا نساعد بعضنا بعضاً، كلنا نصلي بعضنا مع بعض. هذه هي الرسالة إلى العبرانيين، رسالة كهنوت المسيح. هو الكاهن، والكاهن يصل السماء بالأرض. الكاهن هو من السماء ومن الأرض، وكذلك كان يسوع. يسوع الإله جاء من عند الآب وأتى إلينا، وفي الصعود عاد إلى الآب ولكنه بقي معنا، وهو الذي قال: "أنا معكم كل الأيام حتى انتهاء العالم".

والرسالة إلى العبرانيين هذه الرسالة بدأت تحدّثنا عن الابن الذي هو الله، هو ابن الله، وأعطته كل الصفات. كل الذين سبقوه، هيَّأوا مجيئه. كل الكلمات التي قيلت من قبل، يجب أن تنتهي في من هو الكلمة يسوع المسيح، مثل الأنهر التي تصب في البحر. فإذا كانت لا تصب في البحر، تنتهي في مستنقعات، لا قيمة لها. أمّا إذا النهر صبّ في البحر فيصبح وسعه وسع البحر. والبحار كما نعرف هي ثلاثة أرباع الكرة الأرضية. والأنبياء كل اقوالهم صبّت في البحر، في بحر يسوع المسيح.

ويسوع قلنا عنه هو بهاء مجد الله، هو النور. فالمجد هو ظهور الرب على الأرض. الله لا يُرى، فكيف نستطيع أن نتكلّم عنه؟ لا شك هو لا يُرَى في ذاته، لأنه فوق العيون وفوق الآذان. هو فوق البشر بما لا يُحَدّ، ولكنه يرى من خلال أعمالي. ثمَّ الطبيعة تدلّ على مجد الله.

تقول الحكمة في سفر الحكمة: إذا كنت أيها الإنسان تعبد الشمس، لأنها جميلة، فاعبد الله الذي هو أجمل منها. إذا تعلقت بالبحر لأنه عظيم، فتطلّع بالله الذي هو سيّد البحر، الذي خلق البحر.

مجد الله حاضر في الطبيعة، مجد الله حاضر في كل واحد منا، خصوصاً في حياتنا. حياتنا هي مجد الله. والرسول بولس قال لنا: "إن أكلتم أو شربتم أو مهما عملتم، فاعملوا ذلك لمجد الله". طعامنا مجد الله، صلاتنا مجد لله، تسلياتنا مجد لله. نعم، الله مجده حاضر بل هو حاضر من خلال مجده.

والرب يسوع قال لنا: أنتم نور العالم، أعمالكم الحسنة تمجّد الآب الذي في السماء. نعم نحن مجد الله.

وقال القديس إيرينيه، أسقف ليون في فرنسا: مجد الله الإنسان الحي، الإنسان العائش يوماً بعد يوم. إذا كنا صورة الله، فنحن ندلّ على صورة الله. كيف أنا أحتقر صورة الله؟ هذا مريض؟ هذا معاق، ومع ذلك هو صورة الله على الأرض، هو مجد الله على الأرض. ولكن من أين لنا هذا المجد؟ من يسوع المسيح الذي هو وحده الصورة الكاملة للآب. نحن لسنا صورة، ولكننا نشبه صورة الله.

كل هذا يصل بنا إلى موضوع تأملنا اليوم. هذا الابن هو صورة جوهره، صورة جوهر الآب. هذا هو عنوان تأملنا اليوم بدأنا بعيداً حتى نصل إلى جوهر الآب، لا يحقّ لنا حالاً أن ندخل في هذا الجوهر. في الماضي، كانوا يجعلون الملاك بين الله وبين الإنسان. فالإنسان لا يتصل حالاً بالله، بل يكون هناك نوع من عازل. إذا قرأنا سفر الخروج الفصل 3، نفهم أن موسى أمام العليقة الملتهبة، كلّمه أولاً ملاك الرب. والملاك هو رسول من عند الله. وفي أي حال الرسول لا يحل محل الله. الرسول لا يحلّ محّ من أرسله. لكن تلك تعابير نقول فيها بأننا لا نصل حالاً إلى الله. هناك مسافة بيننا وبين الله. وتقولون: إذا كان الله أبانا، هل من حاجة إلى مسافة بعض المرات؟ نعم. لأن يسوع هذا الإنسان الذي كان شبيهاً بنا بكل شيء، هو ابن الله، هو العظمة بالذات، هو من يخافه الساروفيم، والكاروبيم يخافون منه. في الماضي. ما كانوا يتصلون بالله حالاً، فيقولون كلمة الله. بالسرياني ميمرة أو بالعبراني أو بالأرامي ميمرة، كلمة الله فعلت هذا. كأنهم يريدون أن ينزّهوا الله عن الأعمال البشرية، وذلك بالرغم ممّا نقرأ في الكتاب المقدس. مثلاً مع آدم كان الله يتمشى في الجنة، ونزيد مع آدم، كأني بالله إنسان من البشر.

وفي خبر برج بابل يقولون: نزل الله ليرى ماذا يفعل البشر. فعقلهم صغير جداً. يريدون أن يبنوا برجاً يصلون به إلى السماء، ويتحدّون الله في أعلى سمائه. هي طرق تشبيهية، ولكن الله يبقى فوق كل هذه التشابيه. ونعرف من هوشع: حين يطلبون من الله أن يتصرف كما يتصرفون، قال: أنا إله، أنا الله، لا إنسان. أنا القدوس بينكم. لا تستطيعون أن تتعاملوا معي وكأني إنسان من الناس تجعلون فيّ الغضب ولا غضب عندي، فأنا طويل االروح، طويل الأناة، صبور، أنتظر عودة الخاطئ. لا تستطيعون أن تجعلوا الله مع الإنسان. ولكن كيف نقترب من الله، كيف نعرف الله؟ من يسوع المسيح، وموضوعنا اليوم المسيح صورة جوهره.

ونقرأ أحبائي الرسالة إلى العبرانيين، الفصل الأول آ 2 – 3. آ2: ولكنه في هذه الأيام الأخيرة كلمنا بابنه إله المجد في العلى".

آ 3: هو بهاء مجد الله. ذاك كان حديثنا في المرة الماضية، واليوم هو صورة جوهره.

ما هو الجوهر؟ الجوهر هو عمق الشخص، الشخص البشريّ الذي لا يستطيع أحد أن يدخل إليه. هو الإنسان في عمق أعماقه الذي لا يعرفه الا الله. فالرجل لا يستطيع أن يعرف إمرأته في العمق، والمرأة لا تستطيع أن تعرف زوجها في العمق. فالعمق جوهر الإنسان. وأبعد من كل إنسان، يقول يوحنا عن يسوع المسيح: هو الذي يعرف ما في الإنسان. نعم، وحده الله يعرف ما في الإنسان. أما الإنسان فلا يعرف ما في الإنسان. تبقى معرفته في الخارج، ولا تصل الى الداخل. أما يسوع فيعرف جوهرنا، يعرفنا في الأعماق.

فإذا كان جوهر الإنسان يصعب أن نعرفه، فماذا يكون جوهر الله؟ لهذا شدّد الكتاب وبقساوة: لا تصنعوا لي صورة، لا تصنعوا لي تمثالاً تريدون أن تجعلوا جوهري الإلهي في بعض الخشب، في بعض القصدير، في بعض النحاس. تريدون أن تحصروني في بعض الذهب، وتحملوني على أكتافكم، أو تجعلوني في جيابكم تمثالاً صغيراً. كلا. لهذا جاءت ردة فعل موسى قاسية حين صنع أخوه هارون ذلك العجل الذهبي: حطّم لوحَيْ الوصايا. ولو يا موسى! تحطّم لوحَيْ الوصايا اللذين قيل فيهما: كتبهما الله بإصبعه. كيف تفعل هذا يا موسى؟

ويأتي الجواب: من يجسر أن يجعل جوهر الله في بعض الذهب، أو في بعض المعادن؟ أتعرفون يا شعبي الخطيئة الكبيرة التي صنعتموها؟ تريدون أن تصوّروا جوهر الله الآب. أية خطيئة كبيرة! أية جريمة! الله لا يُصوَّر. الله، يقول يوحنا، لم يره أحد قط ولا يمكن لأحد أن يراه. شبّهوه بالنار التي تحرق، فمن يجسر أن يقترب من الله.

قالوا: الله نور محرقة. خاف جدعون، خاف موسى. وقال له الله بكل بساطة: لا تستطيع أن ترى وجهي. وكذا قال لإيليا. ماذا رأى هذا النبي؟ رأى الرب بعد أن مرّ أمامه. مؤكَّد مرورٌ روحي. مرّ الله، يعني ترك أثره، ترك للإنسان صورته ومثاله، ترك عمله في قلب كل واحد منا، في حركات كل واحد منا. هذا هو حضور الله. ولكن مع يسوع المسيح، حضور الله لم يعد مستحيلاً، بل صار أمراً بسيطاً. يقول يوحنا: الله لم يره أحد قط، ولكن الابن أخبرنا عنه نعم جاء من عند الآب ويعرف ما عند الآب. لهذا يستطيع أن يخبرنا عن الآب.

ولما سأله التلاميذ بعد العشاء السري، ارنا الآب وهذا يكفينا. ماذا أجاب يسوع؟ يا فيليبا من رآني رأى الآب. أنت تراني، تسير معي، تأكل معي، تشهد أعمالي، وتسأل عن الآب. من رآني رأى الآب. أنظر أعمالي، هي أعمال الآب. إسمع أقوالي، هي أقوال الآب. تعرَّف إلى محبتي، فهي محبة الآب حين أخبرتك يا فيليبا، حين أخبرتكم أيها الرسل عن ذلك الآب المحب الذي استقبل ابنه الضال، ماذا اكتشفتم؟ أن الله هو أب وأم تحرّكت أحشاءه، حين جاء ابنه. تريدون أن تروا الآب، ها هي صورة الآب. الابن هو صورة الآب. الابن هو صورة جوهر الآب. لا نستطيع أن نعرف الآب الا من خلال الإبن.

وهنا دور المؤمن الذي يقرأ الأناجيل، يكتشف شخص يسوع، يكتشف شخص ابن الله، وبالتالي يكتشف الله.

نعم، الابن وحده هو الصورة الكاملة لله. نحن مخلوقون فقط على صورة الله ومثاله. ما هي صورة الله؟ هو الابن. الابن تجسد، صار أمام الرب المثال النموذج، واستطاع أن يخلق الإنسان. وتقولون: ولكن الابن تجسّد منذ ألفي سنة. هذا في التاريخ. أما في اللاهوت، كما يقول بولس الرسول، الابن هو بكر الخليقة كلها، هو الصورة التي جعلها الأب أمامه لكي يخلق الكون. يقولون اليوم: عشرة مليارات سنة. ويمكن أن يقولوا: عشرين مليارًا وخمسين مليارًا. لا همّ. الابن هو البكر. الابن هو الأول. جعله الآب مثاله، وعلى هذه الصورة الكاملة التي أمامه خلق العالم. وقال إنه حسن. وخصوصاً حين خلق الانسان رجلاً وامرأة، قال هو حسن جداً.

هذا هو الابن صورة جوهر الآب. هو الصورة الكاملة التي تدلنا على الآب. ولهذا قال لنا يسوع في الإنجيل: كونوا كاملين كما أن الآب كامل. ونسأله: أين هو الآب ونحن لم نراه؟ ويجيب: من رآني رأى الآب. ويقول لنا الرسول: تشبّهوا بالله كالأبناء الأحباء. كيف نتشبه بالله، ونحن لا نراه ونحن لا نعرفه بمعرفتنا البشرية؟ ويأتي الجواب: المسيح عرفنا إلى الآب. من خلال أعمال يسوع، تعرفنا إلى أعمال الله. غفر لصاليبه من أعلى الصليب، فعلمنا الغفران ليغفر بعضكم لبعض، ولا تغيب الشمس على غضبكم.

الآب يعطي، ولا يطلب أن نرد له ما أعطانا. ونحن نعطي مثل الآب. حين نعطي نتشبّه بالآب، حين نغفر نتشبه بالآب، حين نحب نتشبّه بالله. نعم تشبهوا بالله كالأبناء الأحباء. أين هو الله؟ هو حاضر في يسوع المسيح، صورة جوهره، وهذه الصورة تبقى حاضرة حتى نهاية العالم إلى أن نرى الله وجهاً لوجه. شكراً لك يا الله، شكراً لك يا يسوع. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM