9- يحفظ الكون بقوة كلمته 1: 3

9- يحفظ الكون بقوة كلمته

1: 3

أحبائي، نحن نقرأ الرسالة الى العبرانيين، الرسالة الكهنوتية بإمتياز، ونتعرّف الى يسوع المسيح ابن اللّه. لو أنه لم يأتِ من السماء، لِمَا كان بالإمكان أن يكون كاهن للرّب على الأرض. كهنة العالم الوثني يختارهم الملك، وكذلك كهنة الشعب العبراني. كان الملك منذ داود وسليمان يختار عظيمَ الكهنة، وعظيمُ الكهنة يختار الكهنة الذين يخدمون معه، وبعد ذلك صار الكهنوت قضية وراثية.

أما يسوع المسيح الكاهن الأزلي، فاختاره اللّه الأب. نعم اختاره اللّه الآب، وهو أرسله: هكذا أحبّ اللّه العالم حتى أرسل ابنه الوحيد لكي لا يهلك أحد بل تكون لنا الحياة الأبدية. هذا هو الكاهن الذي أرسله الآب. وأعلن هذا الإرسال يوم العماد على نهر الأردن، ويوم التجلّي: بطرس ويعقوب ويوحنا هم هنا على الجبل المقدّس. سمعوا الصوت السماوي: هذا هو ابني الحبيب فله اسمعوا. هذا الابن ارسله الآب، لا ليُهلك العالم بل ليخلّص العالم وهنا نفهم ما قالته الرسالة الى العبرانيين في الفصل الأول آ 3: وهذا عنوان كلامنا اليوم يحفظ الكون بقوة كلمته.

نعم الابن هو الكاهن، لأنه يحفظ الكون بقوة كلمته. اللّه الآب، كدت أقول، يحتاج الى كلمته، يحتاج الى الكلمة، الى يسوع المسيح، الذي قيل فيه: في البدء كان الكلمة. فالكلمة حاضر بقرب الآب منذ الأزل، وهو مساوٍ للأب في الجوهر، كما نقول في قانون الإيمان.

الكون، العالم، ما يُرَى وما لا يُرَى، كما دعاه بولس الرسول في الرسالة الى كولوسي: به خُلق كلّ ما يُرَى وكلّ ما لا يُرَى. الكون كلّه الربّ خلقه. قالوا: خلقه في الماضي. كلا. فاللّه ليس من الماضي. خلقه اليوم، وهو يخلقه كلّ يوم، وسوف يخلقه ويعيد خلقه يوماً بعد يوم، ويجمِّله يوماً بعد يوم حتى النهاية، عندما يصبح الكون أرضاً جديدة وسماء جديدة، كما يقول سفر الرؤيا. هناك يقيم البرّ، والبرّ هو العمل الكامل بمشيئة اللّه.

وكما يقول بولس الرسول. حينئذ يكون اللّه الكلّ في الكلّ، يعني يتحوّل كلّ شيء الى صورة الله من خلال صورة المسيح. الكون الذي خلقه الله، لم يتركه. هناك بعض الناس يقولون: الله خلق الكون وتركه يسير وحده! مساكين، مساكين هؤلاء الناس، لأنهم تعلّقوا بالأرض، وحسبوا الأرض نهاية حياتهم. هذا إذا كان لا إيمان عندهم. أجل، الأرض هي نهاية حياتهم. يُوضَعون تحت التراب ويمكثون تحت التراب.

كلا ثم كلا. الكون نعرفه عندما نخرج من الكون، عندما نعرف العبارة الأولى في الكتاب المقدس، التي تعلن إيمان المؤمنين تجاه أزلية الكون. كان الفلاسفة يقولون: الله أزلي والكون أزلي. يعني الكون هو صفو الله، هو مساوٍ لله. مساكين! كلا. الكون هو في الزمن، كما يعلن الكتاب المقدس في أول جملة فيه. في البدء خلق الله السماوات والأرض. خُلق. ما قالوا. صَدَر من الله. كلا. وحده الابن يصدر عن الآب، وحده الروح يصدر عن الآب ولهذا نقول الاب والابن. الابن بما أنه كلمة الله، يصدر عن الله. والروح القدس، نقول بكلمة ثانية: يخرج من الآب. من الله! هو ينبثق من الله، ويرسله الابن.

لا، الكون لا يمكن أن يكون أزلياً تجاه الله. ويقول العلماء: إن تحوّل كوكبٌ واحد أو نجمةٌ واحدة من المكان المعدّ لهما، تتدمَّر الخليقة كلها. ويقول العلماء: هذه النجوم، التي تتعدى بعظمتها الشمس بالآلاف وآلاف المرات، تعيش في توازن تام. من يعطيها هذا التوازن؟ هل جاء من عندنا أم جاء من عند الله؟ فلو كان التوازن من عندنا، لكنّا نتوازن في شخصيتنا، توازن في مشيتنا، ولا نسقط هنا وهناك. من هو الذي يجعل الكون حاضرًا يجعل البشرية تتطوّر؟ الله. من هنا الكلام: يحفظ الكون. نعم، اللّه هو من يحفظ الكون. خلقه ويحافظ عليه يوماً بعد يوم. إذا كان الله خلق الكون، فمن يخلق شيئاً ليدمّره! واللّه لا يريد أن يفعل شيئًا بذاته، بجوهره. فهو لا يُرى، فهو فوق الكون بما لا يُحدّ. إذًا ماذا فعل؟ أرسل كلمته، أرسل ابنه.

ابن الله صار في الكون، صار مسؤولاً عن الكون. هو المسؤول باسم الآب، كما نقول في العالم العبراني: الملك لا يمكن أن يكون السيد في أرضه. كلا. داود ليس السيد، ولهذا لما أراد إحصاء شعبه، لم يرضَ النبيُّ، باسم الله، عن مثل هذا العمل. أنت تحصي الشعب كأنّ الشعب شعبك. لا، الشعب هو شعب الله، وأنت الوكيل باسم الله. لهذا فالملك يُطلَب منه أن يقيم العدالة، أن يجعل الحكم مستقيماً، وإلاّ فاللّه يحكم عليه، يدينه. هذا ما حصل لداود. حين زنى مع بتشابع امرأة أوريا، ثمّ قتل زوجها. اعتبر نفسه صاحب الأرض وصاحب الشعب، يتصرف بالناس كما يريد، مع أن هؤلاء الناس ليسوا على صورته بل على صورة الله. لهذا جاء اليه النبي ناتان يوبّخه: أنت هو هذا الرجل. من أين جاء بك الله؟ من وراء الغنم. جاء بك لتكون وكيله على الأرض، فهل تكون الوكيل الشرير الخائن؟ وبدلاً من أن تعطي الحياة تعطي الموت، بدلاً من أن تمارس الوصايا وتعلّم الشعب أن يمارسها، تتعدّى الوصايا بهذه السهولة. تسرق للرجل امرأته وتزني معها، تقتل زوجها. الوصايا الثلاث الكبرى تعدَّيتها، وحسبت نفسك فوق الوصايا، حسبت نفسك اللّه. وكان العقاب قاسياً بالنسبة لداود وبالنسبة لشاول أيضًا، فشاول أضاع اختيار اللّه، حسب نفسه مكان اللّه. هو الذي يريد أن يفعل ما يشاء. كلا أيها الملك، أنت لست الله، أنت وكيل الله.

وأخاب الملك في مملكة اسرائيل، زوج ايزابيل التي تطلعت الى الصعود لكي تظهر كأنّها الإلهة، مع كهنة يخدمونها قبل أن يخدموا بعل. ماذا فعل أخاب وامرأته ايزابيل؟ قتلا نابوت اليزراعيلي مع أن الوصية تقول: لا تقتل، وأخذا أرضه لكي تتوسّع ساحات القصر. مع أن الوصية تقول: لا تسرق. إعتبر أخاب أنه الملك، على ما قالت له إمرأته. ما هذا الملك الذي لا يملك القوّة ليفعل ما يشاء. ومضى ليأخذ أرض نابوت اليزراعيلي. ولكنّ إيليا النبي كان حاضراً هناك. قال له: أنت عدو نفسك. سلَّمت نفسك لإبليس، لم تعد الملك وكيل اللّه، بل صرت وكيل إبليس.

هكذا الملك هو نوع من الكاهن. ولكن كلّ هؤلاء الملوك الذين سبقوا يسوع المسيح، لم يعيشوا الوصية، لم يعيشوا المهمة التي أوكلهم اللّه. بها طلب منهم اللّه أن يحفظوا الكون، أن يُقيموا العدالة، أن يُقيموا المحبة، فكانت النتيجة الموت بدل الحياة، والدمار بدل البناء. ويكفي أن نظهر، ويكفي أن نعدّ الحروب التي عرفتها البشرية. آلاف الحروب. ومن يقوم بهذه الحروب؟ الملك والرئيس والمسؤول. وحده يسوع المسيح يتميّز عنهم. هو الملك لأنه الكاهن، على ما قال المزمور 110. قال الرب لربّي إجلس عن يميني حتى اجعل أعداءك موطئاً لقدميك. من هم أعداء يسوع المسيح؟ يقول لنا مار بولس: الخطيئة والشرّ والموت. هؤلاء هم أعداء يسوع المسيح الذين يدوسهم برجليه.

هذا الملك هو ابن الله. أنت كاهن الى الأبد على رتبة ملكيصادق. هكذا يكون الملك. هو الكاهن في الوقت عينه، الذي لا يأتي لكي يُهلك بل لكي يُحيي الذي لا يأتي ليميت الناس من أجل حياته، بل ليموت من أجل البشر. من أجلنا ومن أجل خلاصنا، تألّم ومات وقُبر، ولكنه قام. نعم، الملك يحيا حين يموت جنوده من أجله، أما المسيح فيحيا في موته ويُحيّي البشرية كلها. ما جاء الابن لكي يُهلك العالم بل ليخلّص العالم.

جاءهم بالمحبة، حين قال: ما من حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه عن أحباءه. هكذا يحفظ اللّه الكون. بأي قوّة؟ بقوّة كلمته. فالكلمة الابن الذي أتى الى الأرض، هو حاضر معنا. في الماضي كانوا يقولون: إنّ الله مع موسى اللّه، مع يوسف ابن يعقوب. هو اللّه مع داود، اللّه هو مع ايليا النبي. مع أشخاص وأفراد. وقالوا أيضاً: إن الربّ رافق شعبه في البرية، في رمز النار خلال الليل لكي يعرفوا الطريق ولا يتيهوا، وفي رمز النهار من خلال السحاب، من خلال الغيم، الذي يكون بمثابة مظلَّة تقيهم من الشمس.

هم أفراد شعب واحد. ولكن مع الابن صار الإسم عمانوئيل. هو اللّه معنا صار اسم الابن: اللّه معنا كلّنا كلّ إنسان في البشرية مهما كان عرقه أو لونه أو دينه يستطيع أن يقول: اللّه معنا. هي الكلمة الرائعة: عمانوئيل، اللّه معنا، الكلمة حاضر، حاضر في الكون، حاضر في كلّ إنسان، يحفظ الكون الذي خُلق به وخلق من أجله، ليجمعه، ليجمع البشرية كلّها في واحد.

هذا ما يقول بولس الرسول في الرسالة الى أفسس 1: 10: يجمع كل شيء في الابن. نعم في الابن، تجتمع البشريةُ كلها، ولا تتفرق، ولا تتشتت، لا مجال للبغض، لا مجال للحقد، لا مجال للحرب، بل للحبّ والتفاهم والسلام. هكذا يكون يسوع المسيح الكاهن على الأرض: أُرسِل ليخلّص العالم، لا ليُهلك العالم.

يحفظ الكون بقوة كلمته. نعم، كلمة الله قديرة. نعم الإبن هو قويّ وقويّ جداً، لا من أجل الشرّ مثل الناس على الأرض. هو قويّ من أجل الخير، هو قويّ من أجل الحياة. قويّ أولاً على نفسه حين مضى الى الصليب. ماذا قال؟ لكي تعرفوا أني أحبّ الأب. هو لا يمضي الى الموت مجبراً، مكرهاً، مثل مجرمٍ من المجرمين. كلا ثم كلا. قال: أنا أعطي حياتي وأنا استردها. أنا أعطيها حين أمضي الى الجلجلة، أمضي الى الموت على الصليب. وأنا أستردّها في القيامة. وقوّة يسوع ظهرت بشكل خاص في بستان الزيتون. أراد بطرس، سمعان بطرس، أن يبيّن قوته، فأخذ السيف وضرب. وماذا كانت الضربة؟ قطعَتْ أذنَ أحد عبيد رئيس الكهنة واسمه ملخوس.

هذه قوة الإنسان. ماذا يستطيع أن يفعل؟ قطعَ أذنَ خادم بسيط، وانتهت المعركة البشرية. قال له يسوع: استطيع أن آتي بفيالق من الملائكة، على مثال ما نعرف في سيرة اليشاع النبي. ولكن كلا. أنا أعرف إرادة الأب، وإرادةُ الأب هي إرادتي أنا، لأنني ابن الأب. وقوة يسوع ظهرت أيضاً في إنجيل يوحنا أتوا إلى الرب. من تطلبون؟ قالوا: يسوع الناصري. قال يسوع: أنا هو. هذه الكلمة كانت كافية لكي يسقط الجميع على الأرض، وأوّلهم يهوذا. وكان بإمكان يسوع أن يبقيهم على الأرض، ويمضي هو ورسله وكأنّ لا شيء كان، بحيث لا يستطيع أحد أن يقبض عليه. ولكن كلا. قوّته أولاً تظهر في شخصه. مضى ليخلّص العالم، مضى الى الموت بملء إرادته. لكي يقتل الموت. يقول بولس الرسول: بإنسان واحد دخلت الخطيئة الى العالم، وبالخطيئة الموت، وهكذا عمّ الموت جميع الناس لأنهم جميعهم خطئوا.

فوجب على المسيح أن يأخذ الطريق المعاكس. الخطيئة جلبت الموت فأخذ يسوع الموت وعاد الى الوراء. ما كان سبب الموت؟ الخطيئة. الخطيئة حملت الموت، وبالموت اقتلع يسوع الخطيئة. بإنسن واحد دخلت الخطيئة الى العالم، وبالخطيئة الموت، وهكذا عمّ الموت جميع الناس لأنهم جميعهم خطئوا. لكن بإنسان واحد هو يسوع المسيح، تبدّلت الأمور، انقلبت الأمور: مات الموتُ على الصليب، ومعه ماتت الخطيئة.

هكذا يحفظ اللّه الكون بقوة كلمته، لا حفظاً مادياً فقط، بل حفظاً روحياً. البشرية مشتّتة منذ برج بابل، راح كلّ واحد في طريقه، وتنوّعت اللغات واللهجات 2400 – 2500 – 3000 لغة ولهجة. فكيف نعيد البشر إلى بعضهم لكي يتفاهموا إذا كان بعضهم لا يفهمون من بعض؟ ولكن الربّ يسوع أتى. هو الكاهن، هو الوسيط بين اللّه والبشر، هو والآب واحد. أراد أن يجعل البشرية واحدة، الكون واحدًا وهكذا يحفظ الكون. قال في صلاته الأخيرة: ليكونوا واحداً كما نحن واحد. نعم بالكلمة، بكلمة الآب، بقدرة الكلمة، يحفظ اللّه الآب الكون، ويجمع البشرية كلها في واحد.

يبقى علينا أن نتجاوب معه حتى نعمل معه. هو الكاهن الأول والوسيط بين اللّه والبشر، ونحن نعمل معه، كلٌّ في موقعه، حتى نحفظ الكون وننمّيه، ونقدّمه أجمل تقدمة في كل قداس من قداساتنا، فيكون ذبيحةً مع ذبيحة المسيح التي ستبقى حاضرة حتى نهاية العالم آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM