القصيدة الثانية: قميص يوسف

القصيدة الثانية

حين أدخل الإخوة قميص يوسف إلى أبيه

عنوان القصيدة الثانية، قميض يوسف. حوله يدور الموضوع كلُّه، بعد أن حلَّ محلَّ «الجثَّة» التي لم «يجدها» إخوة يوسف مع أنَّهم تعبوا في البحث عنها. في البداية، جاء رأوبين وهو لم يعلم ما فعل إخوته، فخاف من العواقب. ولكنَّهم هدَّأوا من روعه. ثمَّ ذبحوا جديًا غمسوا فيه قميص يوسف وحملوه إلى الوالد، الذي ما اقتنع كثيرًا بالحيلة: إذا الوحش افترس يوسف، لماذا لم يمزِّق قميصه؟ وإذا إنسان قتل يوسف، لماذا لم يسرق قميصه؟ وطالت المناحة من قِبَل يعقوب وبنيامين، من أهل البيت ومن الغرباء. وانتهت القصيدة باستخلاص العبرة حول أهمِّيَّة الجهاد والصبر وانتظار الأجر الصالح. كما بفحص ضمير بحيث لا نرى القشَّة في عين القريب ولا نرى الجذع في عيننا: فلا نحكم بسرعة على الحسد والحسَّاد.

وسأل رأوبين

ما إن أخذ إخوةُ يوسف الثمن من يد العربان،

حتّى فكَّروا وأخذوا نصيحة بها يُضلُّون يعقوب الشيخ.

ورأوبين الأخ الأكبر ما درى به أنَّه بيعَ،

فتوجَّه إلى البئر حيث ظنَّ أنَّه يستطيع أن يجد فيه أخاه يوسف.

5          ولمّا دعاه وما أجابه، رفع صوته بالبكاء،

فتوجَّهت جوقة الوقحين على صوت بكائه المرعد.

قال: «أين يوسف الذي تركتُه عندكم ومضيت؟

وكيف أَعتذر إلى يعقوب الذي سيطلبه من يدي؟»

وبكى بكاء الألم وجرَت الدموعُ في بكائه.

10        فألبس الجبال الحسرات التي أراقها من دموعه.

وقال لإخوته بصوت (عالٍ): «قولوا لي، ماذا فعلتم به؟

إن هو مات بين أيديكم فأروني أين هو قبره،

وإن كان جسمُه تهشَّم، أنقل أنا جثَّتَه.

لأنَّ أبانا ينتظر أن يراه فيُطفئ موتُه عينيه.

15        فإذا رأى جوقنا المجتمع فهو يطلب يوسف من الجوق كلِّه.

وأيُّ شرِّ يكون ساعة دخولنا وابن راحيل لا يدخل إليه؟

أفضِّلُ أن أبقى في البرِّيَّة وأطلب الموت في الجبال،

لأنِّي إذا ذهبتُ بلبلت يعقوب الشيخ بالبكاء.

الآن أبكي على واحد فلا أمضي لأبكي على اثنين.

20        وجعٌ واحد سحقَني، فمن يحمل (وجع) أبي وأخي!»

 

فأجابه الإخوة

«لا تسحقْ نفسك يا رأوبين! كرامةً لك ما قتلناه،

أبقيناه حيًّا لأنَّنا خفنا منك، وأخذنا ثمنه كما قلنا لك.

فصلناه فصلاً عنّا، ووهبناه عبدًا للتجّار،

لأنَّه تعالى واحتقرَنا واستعبدَنا بوقاحته.

25        واصلٌ لك ديناران اثنان من ثمنه، حفظناهما لك.

إذا كان له ما كان، فلا تبكِ ولا تمرمرنا.

إن كنتَ تخاف من يعقوب، فليسَتْ مخافتك لك وحدك.

عنقُ كلٍّ منّا نحمله مع عنقك معك إلى يعقوب.

فمن تفنَّن في المكر لا تنقصه الحيلة.

30        نُخفي شرَّنا ونزيِّن بزيفنا ما يُضلُّ (القلوب) السليمة.

أخذنا القميص منه، نفرشه ونرميه على الأرض،

وننحر فوقه جديًا فيظنُّ أبوه أنَّه قُتل.

وحين ترى عيناه الدم يفكِّر قلبُه بالقتل.

وحاشا له من أجل برارته أن يفكِّر أنَّنا نحن ضربناه.

35        لا نتراخَ في هذا الأمر، ولنجلسْ لنقنعك بالباطل.

احفظ بكاءك لدى والدك، وحين تصل إليه تسكت.

لا تكن فيك الشكوك، التي منها تجري الأضرار.

إن ارتابَ الواحد بالآخر تُكشَف (حيلتنا) عاجلاً،

فلا يأتِ إنسان إلى هذا الأمر، فإذا اكتُشف نُسحَق كلُّنا.

40        لتكُنْ، ضمائرنا قبورًا فلا ينبعث من داخلها شيء».

 

ورجع أبناء يعقوب

أتوا بجدي من القطيع ونحروه على القميص(1) ،

لطَّخوه بالدم في عنقه ليُضِلُّوا روح أبيهم.

واقتادوا الغنم وأتوا، ودخلوا لدى يعقوب الشيخ.

وصلوا، بلغوا إلى المكان الذي فيه يقيم أبوهم.

45        طار الخبر ودخلت البشرى أنَّ الرجال والغنم وصلوا.

وبلغ النبأ إلى الشيخ الذي سقطَتْ نفسه وسحقته المضايق

سمعت ليئة أكبر (النساء)، وفرحت بأنَّ أحباءها عادوا.

وابتهجت زلفة وبلهة بأبنائهما الذين وصلوا.

أتوا من عند القطيع واتَّخذوا فيما بينهم مشورة واحدة:

50        «لا تبتهجْ وجوهُنا حين ندخل إلى بيت أبينا،

فنشبه الرجال الذين يحملون المفقود على أيديهم.

ننسج في الحزن ثوبًا ونكسو (بالزفرات) أعضاءنا،

لا ننفض الرملَ (الغبار) عنّا فيعرِّف وسخُنا إلى كآبتنا،

والهزال على أعضائنا يبيِّن كآبتنا.

55        فإذا ما دخَلْنا ورآنا، يقول لنا: أين يوسف؟

في ذلك الوقت نُدخل كلُّنا الحسرات في البكاء».

غطَّى الرجال رؤوسهم وفاضت عيونهم بالدموع.

حملوا الثوب على أيديهم حتّى إذا فرشوه يُكثر الحزن.

«على من تبكون هكذا»، سأل بعض من رآهم؟

60        «قولوا لنا: من فقدتم، فنحمل معكم (الحزن) ومعكم نتعزَّى؟

وجوهكم كاسفة وأحبّاؤكم مضايقون،

فتشبهون أناسًا أتوا وهم يحملون المقتول.

لو باد الغنم كلُّه لما تأسَّفنا على ذلك،

ولكن بما أنَّكم قائمون (أحياء) نتعقَّبها وإن هلكت».

 

ودخلوا لدى أبيهم

65        أمرَ يعقوبُ الشيخ أبناءه: «ادخلوا عليَّ، يا أحبّائي،

رفعتُ عينيَّ لأروِّحَ عن نفسي فيما أرى أبناء ربَّيتُهم.

أراك يا ابني شمعون، وأفرح، وبكم كلِّكم ينمو فرحي.

تألَّمتُ كثيرًا لأنَّكم تأخَّرتم فأفرح بكم بعد أن رجعتم».

ورفع يعقوب الشيخ عينيه وتأمَّل في جوق أبنائه.

70        تحسَّر وسالت دموعه، وسأل: «أين هو يوسف؟

أين هو حبيبي لأختتم فرحتي بكم حين أراه؟

إن أوقفتموه لدى الغنم فلا ينبغي أن يبقى.

يجب أن يدخل معكم فأنا انتظرتُه أكثر منكم».

 

«ما بقي مع الغنم بدوننا، قال أبناءُ يعقوب لأبيهم.

75        يا أبانا، إصبرْ وأمهلنا فنكشفَ لك ما حصل.

نحن قائمون في الخجل أمامك، مثل أناس عملوا القبيح.

فمنا مُغلَق وكأنَّنا نحن أذنبنا إلى حبيبك.

ففي دخولنا شابَهْنا أناسًا عملوا القبائح،

ومثل قتلة ولصوص يُقبَض علينا أمامك.

80        لنقتنِ قلبَ الوحوش ونتجاسرْ فنرويَ قباحتنا.

فلك أن تحزن من أجلنا، كم تحمَّلنا من عذابات.

ما عرفنا أنَّ يوسف أُرسل من لدنْك إلى الغنمات.

تاه في الجبل وضلَّ الطريق وما عرف موضع الغنم.

فحصل ونحن نرعى (القطيع) على الجبال وعلى الآكام،

85        أن (رأينا) قميص يوسف مغمَّسًا بالدم ومُلقًى قدَّامنا.

شاهدنا، يا أبانا، القميصَ فظننَّا نحن أنَّ هذه جثة.

في تلك الساعة ما بقي على واحد منّا لونُ وجهه.

حلَّت بنا رعدةٌ شديدة وتصدَّعت قفار ظهرنا،

من الخوف ومن الأتعاب، ومثل سفينة تزعزعت أعضاؤنا.

90        ومادت قاماتنا مثل أشجار بسبب الرياح:

من الذي قَتل القتيل، فها هو ملطَّخ بالدم ومُلقى.

ثارت في اليابسة عاصفة واقتادت نفوسَنا وأضعفتها.

تفجَّرَتْ أمواجٌ من العاصفة فأخفت قاماتنا.

آخرون قتلوا الفتى ونحن يُقبَض علينا.

 

وأخبروه بما رأوا

95        «هرب قاتلوه (وابتعدوا) عنه، وقُبض على الذين لم يقتلوه.

تذكَّرْنا صلواتك وتجرَّأنا فاقتربنا.

رأينا القميص ملقًى والجثَّة مأخوذة منه.

ظننَّا أنَّها تحت الثوب، والجسدُ مطمورٌ في اللباس.

كذبَ ظنُّنا وما وجدنا كما تخيَّلنا.

قلَبْنا القميص في البرِّيَّة فدلَّت أكمامه على صاحبه.

رأت عينُنا وصاح فمُنا لأنَّها قميص أخينا يوسف.

فتضاعفت مضايقنا وتزايدت، وكثُرت الأوجاع في قلبنا،

لأنَّنا عرفنا القميص الذي نُسج لابنك.

فالوحوش التي لا تتألَّم أبدًا امتلكها معنا ألمٌ كبير.

رأت في البرِّيَّة حزنًا كبيرًا فتمرمرت قبالته.

عظيمًا كان التفجُّع الذي تفجَّعناه، فشعرَتْ به الوحوشُ نفسُها.

وسيكون حديثَ الأجيال التفجُّع الذي تفجَّعناه والألم».

«قصف رعدُه الصخور وألبس الجبالَ ألمًا،

بصلواتك خُلِّصنا من الوحوش التي أحاطت بنا.

ومثل جبل عظيم هكذا وُضع القميصُ علينا.

كان عددُنا عشرة وتعذَّبنا من ثقله،

فلو حصل مع قميص آخر حقير لكنّا حملناه (بسهولة).

فحصل مع عشرة رجال فجعلَنا مرضى،

ما كان ثقلاً عظيمًا لنا القميصُ قاتلنا،

كالحزن على الرجل صاحبه الذي أضعف قوَّتنا كلِّنا.

وما كفى القميص، مع هذا كلِّه، لكي يُثيرَ أشجانَنا،

ولأنَّنا ما وجدنا الجثَّة أنهكت الحُمّى قوَّتَنا».

«فلا السجف ولا العُرى ولا الصوف قتلنا بثقله مثل الجبل.

فالأجساد والعظام والعروق قتلت بثقلها أعناقنا.

لا نقول إنَّه هلك ولا نصرخ إنَّه موجود.

ولكنَّ القميص قطع رجاءنا، وطلبتُك جبرت قلبَنا.

على القميص تكلَّمنا: كم حمَّلنا من تعب!

أهو حيٌّ أم لا، الله وحده يعرف.

الأرض تزلزلت تحتنا؛ وظننَّا أنَّها انشقَّتْ له.

125      كادت الجبال تخفينا ولكنَّ صلواتِك أعانتْنا.

كنّا في البرِّيَّة أيّامًا، وطعامًا ما ذُقنا.

وملأتِ الحسراتُ بؤبؤ عيوننا حين رأت القميص.

اتَّكلنا على الله بأن يكون لنا أجرُ عملنا.

وسيكشف لك الزمن بعد ذلك من قتل ابنك يوسف.

130      لا تقدر إلاَّ أن تحزن لأنَّك ما وجدته، فتحمَّلِ الحزن قدر                                                                                               استطاعتك.

وقبالة قوَّة شيخوختك، وُضع ثقلٌ على أعضائك».

 

وسمع يعقوب

حين سمع يعقوب هذه (الأخبار) لم يتحمَّل حتّى تنتهي.

دخلت الأقوال مثل السهام ووخزت القلبَ أشواكُها.

وإذ بكى صاح: هاتوا القميص الذي بقيَ.

أهكذا تعودون إليَّ؟ كنت أرجو ألاَّ تأتوا إليَّ.

هبوا لي القميص لأرى إذا شابه (قميص) يوسف ابني.

لا أقدر أن أشكَّ أنَّه كما راحيل كذلك أولادها».

اقترب، شمَّ القميص، ألصقه على عينيه،

فاختلطت الدموعُ بالدم، وحرَّك القميص الألم:

140      «يا ابني! ويل لي! ماذا حصل لك على الجبال وفي موضع الخراب.

هذه الساعة هي أسوأ لي من يومَ قَبرتُ أمَّك.

ما طلبتُ، يا ابني، أن أرى القميص بعد موتك،

فكان خيرًا لي لو مضى قميصك معك.

بدل القميص طلبتُ أن توضَع جثَّتُك قدَّامي،

145      وأن يصطبغ جسمك بدموعي بدل القميص الذي (التصق) بجسدك».

 

«تقدَّمتُ، تمدَّدتُ على فاجعة قتل حبيبي،

وبكَتْ شيخوختي فتوَّةَ صبيٍّ طارت أيّامُه.

انتظرتُ اليوم أبنائي، أتوا فأفرحوني،

وبدلَ يوسف أتوا بثوبه لكي تتمرمر حياتي بمنظره.

150      تراخَوا فما طلبوا الجثَّة، وأتوا بدلها بالقميص.

تركوا ما هو حبيب، وأتوا بما هو حقير.

وحوش شرسة أكلت يوسف داخل البرِّيَّة.

وهناك فتح فمه وطلبني، وفي وقت موته افتقدني.

أنا الآن أبكي المظلوم الذي ما (قدرتُ) أن أعينه في البرِّيَّة.

155      فكَّرتُ أن أزوره فملأني البحثُ انذهالاً».

 

«إن كان الذين قتلوه في البرِّيَّة بشرًا فلماذا تركوا القميص؟

وإن كانت الوحوش افترسته فكيف حفظت لباسَه (سالمًا)؟

القميص مُلقًى في البرِّيَّة، ولابسه أُبيدَ منه.

أن لا يضيع (القميص) ولا يتمزَّق، زرعَ في وجداني الشكوك.

160      ماذا استفاد الناس الذين قتلوه إذ تركوا القميص الجميل؟

وإلى من أذنب في البرِّيَّة بحيث كمنَ له القاتل.

إن هاجمته الوحوش، كيف أفلتَ القميص؟

لا يُرى في لباسه ظِفرٌ صنع ضررًا.

من وهب للأسد التمييز فنزع الثوب وحفظه (سالمًا)؟

165      ولماذا يطوي الثوب ويضعه (جانبًا) ويأكل الجسدَ بعظامه؟

كنت فكَّرتُ أنَّ الناس قتلوك لو كان القميص مفقودًا.

وكنتُ تثبَّتُّ من الوحوش لو مُزِّق لباسك.

لو كان الناس قتلوك، فجليٌّ أنَّهم لا يتركون اللباس،

وإن كانت الوحوش، فمن المعروف أنَّها كانت مزَّقت ثوبك».

 

170      «يتصوَّر فكري قتلَكَ مثل سفينة تطوف في البحر.

لا أسد افترسك ولا جانٍ قتلك،

ففي موتك عجب وهو لا يشبه (موت) البشر.

غابَ جسمك عن عينيَّ وأتى قميصُك فحطَّمني.

لأنِّي أحببتُك، يا حبيبي، حصل هذا لعذابي.

175      لكلِّ إنسان موتك فاضلٌ، وكآبتي عليك هيَّج أمعائي.

أحببتُ أمَّك راحيل فألبسَتني في الطريق (لباس) الحزن(2) .

ظننتُ أنِّي أتعزّى بولدها(3)وها الآلام تحيطني ببكرها (يوسف).

ما حزنتُ على راحيل، فأنا دفنتُها في الطريق،

أمّا بسببك فتضايقتُ، لأنَّ وفاتك كانت في البرِّيَّة.

180      ما كنتُ في البرِّيَّة حاضرًا، لكنَّ الذي تعبَّدتُ له كان بقربك،

وهو يقدر أن يأخذ مكان راحيل ويعقوب».

 

«حفظتُ أحلامك ووثقتُ أنَّك عائد إلينا بالسلامة.

وها قميصك يصرخ بدمك: أحلام يوسف كاذبة.

وحتّى الآن ما قطعتُ (الأمل) لأنِّي جرَّبتُ قوَّة الأحلام.

185      ففي الشيول جسمك إن وضعوه، بعثتْه تفاسيرُهم.

عرَّوك ثمَّ قتلوك، أو قتلوك ثمَّ عرَّوك؟

بانذهال حسبتُ ما رأيتُ لئلاَّ يعدُّوني بليدًا.

إن كانوا عرَّوه ثمَّ قتلوه، فلماذا تلطَّخ ثوبه بالدم؟

وإن كانوا قتلوه ثمَّ عرَّوه، ما الذي استفادوا من قميصه؟

190      والجثَّة التي سكنتْ حركاتُها، لا يقربُ العريُ إليها.

يبدو لي أنَّ يد الإنسان التي عرَّتها (= الجثَّة) كانت قريبة.

وبما أنَّ الجثَّة ما وُجدت ظننتُ أنَّ الوحوش افترستها.

ولكن لماذا أخذوا هذا العناء فلطَّخوا لباسه بالدم؟

ليكشف الله لعبده هذا العمل الذي يحيِّره».

 

رثاء يعقوب وبنيامين

195      والإخوة الذي عرَّوا (يوسف)، بُهتوا بما قاله يعقوب من كلام.

هم كذبوا، وفم الشيخ أعلن الحقيقة.

وبَّخَتهم ضمائرُهم لأنَّ الشكاوى عليهم تكرَّرت.

فالشيخ فسَّر في داخل البيت كلَّ ما فعلوه بجانب القطيع.

على صوت يعقوب الشيخ تضاعفت المراثي وتزايدت.

200      القميص مُرمى لديهم، وهم يبكونه كما (يبكون) جثَّة.

«يا عفيفًا في داخل البيت، ربَّما عُرِّيْتَ في البرِّيَّة.

يا مصبوغًا بالحبِّ، مَن الذي صبغك بالدم؟

يا نسرًا خفيف الأجنحة من تواقح وقصَّ جناحيك؟

اتَّكلتُ على أحلامٍ تكلَّمتَ عنها، فأرسلتُك إلى القطيع.

205      النساء ولدن بنين ومثل أمِّكَ ما ولدن إنسانًا.

لك القلب ولك الجمال، وفي البرِّيَّة بطلَتْ حكمتُك.

على كلِّ هذه الجمالات أنا أنوح.

متضايقٌ أنا لأنِّي خسرتُ غنى العقل الذي امتلكت».

وقام هناك بنيامين وبصوت يشقُّ الصخور:

«يا أخي يوسف، ماذا أعمل وإلى من أوصيتَ بي؟

210      يا أخي يوسف، ماذا أعمل فأُقيم أمَّنا من القبر،

لكي ترى هذا المصاب؟ ها (القميص) ملطَّخ ومرميُّ قدَّامنا.

يحقُّ لها هي أن تبكيك بمراثٍ صاعقة.

لكان البكاء عليك شديدًا لو أنَّ أمَّنا قائمة (هنا).

215      إذن بقيتُ وحدي وتركتَني أنا وحيدًا.

من أمِّي حُرمتُ وبسرعةٍ من أخي».

 

مناحة بيت يعقوب

بالقميص وببنيامين تحوَّلت نفسُ يعقوب:

بنيامين معجون بدموعه، والقميصُ موضوعٌ هناك.

بكى العبيدُ والأولاد، وأهلُ البيت مع الغرباء.

220      القميص موضوع هناك، والبكاء مثل السحاب.

من يطلب أن لا يبكي، يبكي تجاه منظر القميص.

الثوب مفروش وكلُّ إنسان يولول مع بنيامين.

«كما اعتدتَ يا ربُّ أن تُنصف عار أحبّائك،

لا تهملْ يا ربّ إلاَّ وتنصف دمَ يوسف الذي في القميص.

225      إن كانت الحيوانات افترسته، لتكن مشيئتك إن هذا حصل،

وإن كان البشر قتلوه، يا ربّ، فلا يكونوا بريئين من عدالتك.

فعدالتك يا ربُّ ما ظلمت دم هابيل حبيبك،

فلا ينسَ لاهوتُك الدمَ المرشوشَ على القميص».

أحلام يعقوب وأحلام يوسف

تكلَّم الرعدُ(4) في السحاب فولَّد فيه قطرات المطر،

230      وصوتُ يعقوب ولَّد دموعًا غزيرة من عينيه.

«أحلامي ما كذبت عليَّ، فكما رأيت هكذا حصل.

ولماذا لم تتحقَّق أحلام يوسف كما قال؟

لي تمَّت بالحقيقة قصَّةُ الأحلام التي رأيتُ،

وليوسف حصل خلافَ ما رأى فكذبت الأحلام.

235      فإن ثبت وتحقَّق أنَّ أحلام يوسف كذبَتْ،

فلن يبقى بعدُ أحلامٌ عند يعقوب ولا مفسِّرون في إسرائيل».

 

أولاد يعقوب يعزُّون أباهم

طال الحزنُ شهرًا وشهرين، والألم لا يريد أن يعبر.

فاجتمع أولادُه ليقنعوه: «يكفينا حزنٌ يا أبانا!

اهترأ قلبُنا في داخلنا من حسرات حزنك.

240      أما تكفينا آلامُ الجبال؟ صوتُك قتلنا في دارنا.

أنت اليوم رجل شيخ ولا تقدر أن تحمل ثقل (الحزن).

فنحن بقاماتنا الشابَّة رمى الحزن قوَّتَنا (أرضًا).

وأنت أيضًا يا، أبانا، تعرف كيف كان جمالنا مشعًّا.

فتطلَّع الآن وانظر إلينا، فالرمادُ أنحلَ وجوهَنا.

245      ألا يكفينا أنَّنا حُرمنا من عِشرة يوسف أخينا؟

لا تتغلَّبْ عليك الكآبة ونُحرَم أيضًا منك.

إن كان ألم واحد هكذا حطَّمَنا، فمن يقدر على اثنين؟

فأَسندْ شيخوختك لتعوِّض خسارة أخينا الذي تُوفِّي.

في البرِّيَّة كان وجعُنا كبيرًا حين وجدنا القميص،

250      وتعذَّبنا بالبكاء حين بكينا القميص.

صلاتك هي التي حفظت حياتنا، من الوحوش، بين الجبال.

كلُّ واحد منّا تاه ومن أجلك كان اهتمامنا.

صلِّ ليعطينا الله أجرًا على التعب الذي تعبناه.

وليهدئ الجهادَ الذي لبسناه من أجله (= يوسف).

255      صلواتك إلى الله غنيَّة أيُّها الصدِّيق،

فعزِّ الآن وجدانك، خصوصًا من أجل بنيامين.

خنقَه ثوبُ ألمك، فاكشف في وجهه سلواك».

 

فصلّى يعقوب

صلَّى يعقوب وهو كئيب، وتضرَّع وهو مُضايَق.

«يا إله سيِّدي إبراهيم احفظ السرَّ (= العهد) لدى حبيبك

260      إن كان ابني يوسفُ مات، فاذكرْه يا الله،

وإن هو حيٌّ بعدُ، فهبْ لي خبرًا فأراه وأنسى ضيقاتي».

ما أراد يعقوب أن يتعزَّى بكلام تكلَّم به بنوه،

فقال: «أنزل بحسرة إلى ابني يوسف، في الشيول»(5).

الجهاد والأجر الذي ينتظرنا

يكفي الآن خبرُنا على حزن يعقوب الشيخ.

265      ليعبر الخبر الذي في آخره اشتهرَ ذاك الذي بيع.

من سمع اندهش، ومن احتمل انتصر.

فهذا الألم القصير الأمد يصنع نصرًا إلى الأبد.

لا تعكِّر المَضايقُ الغنيَّ في مسيرته،

ولا الشرِّير يُسلَب غناه لأنَّه خضع وما تذمَّر.

270      قام الجبّارُ في الجهاد فكان في مسيرته سريعًا.

احتمل لدى قساة القلوب، فكتبه ربُّه بين الظافرين.

العدالة التي لا تُظلَم، ما ظلمت من عمل لها.

فإن أخذت منَّة صغيرة، وهبت واحدة بدل مئة.

تركْنا مثالاً للصالحين، وكتبْنا مآثر الأبرار،

275      ليكون الجميلون فرحين حين تكثر مضايقاتهم(6).

مقابل غنى أتعابهم، يأخذون أجر مساعيهم.

كما كان العمل كثيرًا هكذا ينمو الجزاء.

 

سمعتم مكر الحسّاد والبليَّة التي صنعوها تجاه أخيهم،

أيُّها السامعون ابتعدوا عن (الحسد) ولا يَبِعْ به الواحدُ الاخر.

280      فالحسد بدَّل الأسماء فانقلبت من أماكنها.

ابن الأحرار بيع، والعبدُ أخذ الثمن.

تعبَ القلم من الكتابة والحسد لا حدود له.

يا من يلوم إخوةَ يوسف، أَبعدْ عنك الملامة.

لا ترمِ فيها وجدانك لئلاَّ تُطمَر الرخاوة  فيك.

285      هم يُلامون لأنَّهم أبغضوا، فلا تُبغض أنتَ لئلاَّ يُشتكى عليك.

احتملَ يوسفُ فعُظِّم، فاحتملْ أنت أيضًا فتُكلَّل.

إن حسدك إنسان يضايقك كثيرًا ضميره.

أنت تحسد من يحسدك، أنت تحسد الآخرين.

وإن قلتَ: لأنَّه حسدني وأبغضني فأنا أبغضه،

290      رميتَ (جانبًا) الخبر كلَّه وما نال وجدانك حكمة.

وإن شئتَ أن تتعلَّم الخبر كلَّه بكلمتين، فتعلَّمْه.

أنا أعرف أنَّك إنسان وها كتبتُ فأكثرتُ.

ركضَتْ حقارتي تمسَّكَتْ بخبر يوسف الغنيّ

لكي تقتات من مسكنتي العاجزة.

295      سألتك يا الله أن تُتمَّ طلبتي،

لكي تكون حياتي قريبة من معاشرة رفاقك.

 

أقدِّمُ المجد لله الذي يقوِّي ويهب الأجر،

الذي بقوَّته انتصر عبيده ولبس خدَّامُه مجدَه.

وأُصعدُ للآب قربانًا، الصلاةَ من أجل إكرامه.

300      ها هو المجد الذي به يمجَّد: تعبُ عبيده المجدِّين.

للروح القدس أبسطُ ذبيحةَ المجد بالقلب والفم،

وجداني أحبَّ المختارين الذين بهم ترتاح مشيئته.

هو يكون لي الثالث، الطبيب لوجداني ولعقلي.

ولساني يُخرج كالنهر أخبار أبناء الحقِّ.

305      الآذان التي تسمع تحرص فتؤدِّي الصوت عنها.

المديح للآب وللابن وللروح القدس نعم، آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM