الجزء الثالث:يوحنا والأفسسيُّون في هيكل أرطاميس

الجزء الثالث (ف 37-67)

يوحنا والأفسسيُّون في هيكل أرطاميس

الحدث المذكور هنا (ف 37-45) يتواصل في إقامة كاهن أرطاميس من الموت (ف 46-47). فالمشهدان يتقابلان. الأوَّل يرينا يوحنّا وجمهور الأفسسيِّين في هيكل أرطاميس. والثاني يُدخلنا إلى بيت أندرونيك ويصوِّر لقاء الرسول مع شخصين. أمّا ف 37 فيبدو بشكل مقدِّمة: يوحنّا يُعلن أنَّه عزم أن يمضي إلى هيكل أرطاميس. أمّا جوهر النصّ فيتكوَّن من خطب يَربطُ بينها مقاطعُ سرديَّة.

-    38: 1-5. حرَّك يوحنّا الجمهور حين صعد إلى الهيكل في لباس أسود. جاءت ردَّة الفعل عنيفة، فأوقفها الرسول بكلمة قصيرة.

-    38: 5-40: 3. ألقى يوحنّا خطبة فيها يتحدَّى أرطاميس وكفْرَ الأفسسيِّين. ارتعب الجمهورُ فطلبوا الرحمة.

- 40: 3-42: 12. ألقى يوحنّا خطبة ثانية يحضُّ فيها الأفسسيِّين على التوبة: صلَّى إلى الربِّ لكي يطرد أرطاميس. وما إن أنهى صلاته حتّى تدمَّر نصفُ الهيكل، فهتف الناس لإله يوحنّا وخرُّوا ساجدين.

- 43: 1-44: 4. بعد المجدلة ألقى يوحنّا خطبة ثالثة، ودعا الأفسسيِّين لكي يقفوا ويصلُّوا إلى الله. ولمّا وقف الناس، أنهوا دمار الهيكل وأعلنوا ارتباطهم بإله يوحنّا.

- 44: 4-46: 2. ونزل يوحنّا من الهيكل، فتعلَّق به الجمهور وتضرَّعوا إليه لكي يقبل ضيافتهم. قبل يوحنّا وأقام مع الأفسسيِّين. ونجد مقابلات.

- بين إله يوحنّا والآلهة الوثنيَّة. عمِلَ يوحنّا فدلَّ على تفوُّق إلهه بحيث انتقل الناس من الضلال إلى الحقيقة.

- بين فوق وتحت. صعد يوحنّا إلى الهيكل. صعد على منبر. هيكل أرطاميس سقط. الناس سجدوا. عندئذٍ رفع يوحنّا يديه ومجَّد الله.

- بين الواحد والكثرة. يوحنّا وحدهμονος والأفسسيُّون كلُّهم παντες. أنتم كلُّكم... أنا وحدي (ف 139). ثمَّ الإله الواحد تجاه الآلهة الكثيرة.

- بين الموت والحياة. موت الجسد. لا تستطيع الإلاهة ولا عبّادها أن يفعلوا له شيئًا. ولكنَّ الخطر يهدِّد الجمهور.

-  ف 46-47 موت كاهن أرطاميس يدلُّ على هزيمة الإلاهة.

46: 2-8 المقدِّمة: الأشخاص

46: 8-22 العرض: طيف الشخص ولقاؤه بيوحنّا

47: 1-9 المعجزة بحصر المعنى: اللمس والكلمة الفاعلة.

47: 9-14 الخاتمة

- 48-54. قسمان. الأوَّل (ف 48-52) يتركَّز على قتل الأب وإقامته من الموت. الثاني (ف 53-54): خصى الابنُ نفسه، فشجب يوحنّا عملَه خلال التعليم. فالشرُّ الأساسيّ ليس في الجسد، بل في النفس.

- 56-57. انتقال إلى سميرنة. شفاء ولدَي أنتيباترس. يوحنّا هو خادم طبيب النفوس الذي يشفي بمجّانيَّة مطلقة.

في هيكل أرطاميس

37 قال الإخوة في ميليتس ليوحنّا: «لبثنا طويلاً في أفسس([1]). فإذا كنتَ موافقًا، لنذهب أيضًا إلى إزمير. فنحن نعرف الآن أنَّ خبر معجزات الله انتشر أيضًا في هذه المدينة». فقال لهم أندرونيك: «حين يريد المعلِّم، عند ذاك نذهب». فأعلن يوحنّا: «لنذهب أوَّلاً إلى هيكل أرطاميس، لا شكَّ في أنَّنا حين نظهر في هذا الموضع أيضًا، سيطلُّ عبيد الربّ».

38 بعد يومين، كانت الذكرى السنويّة لهيكل الصنم. فصعد يوحنّا إلى الهيكل، وإذ كانوا كلُّهم يرتدون ثيابًا بيضاء، لبس يوحنّا وحده السواد وصعد هو أيضًا إلى الهيكل. فوضعوا يدهم عليه وحاولوا قتله. ولكنَّ يوحنّا صاح: «أيُّها الرجال، أنتم مجانين حين تقبضون عليَّ، أنا خادم الإله الواحد». ثمَّ صعد على موطئ قدم مرتفع وتوجَّه إليهم بكلامه:

39 «أيُّها الأفسسيُّون، ستؤول بكم الأمور كما تؤول بالبحر: فجميع الأنهار وجميع الينابيع التي تنزل على المنحدرات، وأمطار العواصف، والأمواج التي تتلاحق، والسيول المحمَّلة بالحجارة، تصبح مياهًا مالحة، نتيجة قدرة الملوحة التي في البحر. وكذلك أنتم أيضًا. إن لم تبدِّلوا موقفكم حتّى اليوم من الديانة الحقيقيَّة، فسوف تُفسَدون بممارساتكم الدينيَّة القديمة. كم من المعجزات رأيتُم بواسطتي! كم من الأشفية! ومع ذلك، ظلَّت قلوبكم عمياء وما استطعتم أن تستعيدوا النظر. فماذا، أيُّها الأفسسيُّون! تجرَّأتُ وصعدتُ في هذه الساعة إلى هيكل الصنم الذي هو هيكلكم. وسأبيِّن لكم أنَّكم أشرار إلى أرفع حدود الشرّ، وأنَّكم موتى على مستوى العقل البشريّ. أُنظروني واقفًا في هذا الموضع. وأنتم تقولون جميعًا إنَّكم تعتبرون أرطاميس إلاهة: فصلُّوا

إليها لكي أموت أنا وحدي. وإلاَّ، إن لم تقدروا أن تصِلُوا إلى هذه النتيجة، فأنا وحدي سأتوسَّل إلى الله الذي هو إلهي لكي يميتكم جميعًا بسبب لاإيمانكم».

40 أمّا هم، فكانوا عرفوه سابقًا واختبروه ورأوه يقيم الموتى([2])، فصاحوا: «نتوسَّل إليك، يا يوحنّا بأن لا تهلكنا هكذا. نحن نعرف أنَّك تستطيع». فأجابهم يوحنّا: «إذا كنتم حقًّا لا تريدون أن تموتوا، يجب أن تخزى عبادتكم. ولماذا يجب أن تخزى؟ لكي تتجرَّدوا أنتم أيضًا من ضلالكم([3]) القديم. فهذا هو الوقت: إمّا أن تتوبوا أنتم بعمل إلهي، وإمّا أن أموت أنا بعمل إلاهتكم. فأنا سأصلِّي أمامكم وأدعو إلهي لكي تنالوا الرحمة».

41 وبعد أن تكلَّم يوحنّا هكذا، تلا هذه الصلاة: «يا الله، أنت تقف فوق جميع الآلهة المزعومة. أنت حتّى الآن مرذول في مدينة أفسس. أنت جعلتَ في فكري أن آتي إلى هذا الموضع الذي ما فكَّرتُ أبدًا أن آتي إليه. أنت أخزيتَ كلَّ أنواع العبادات بالاهتداءات التي تجريها([4]). أنت يا من اسمك يجعل كلَّ صنم يهرب، وكلَّ شيطان وكلَّ قوَّة وكلَّ طبيعة، نجسة. والآن أيضًا، حين تجعل باسمك، الشيطان([5])، الذي هو هنا والذي يُضلُّ جمعًا كبيرًا جدًا، يهرب، تظهر رحمتُك في هذا الموضع لأنَّهم ضلُّوا».

42 وفي اللحظة التي فيها تلفَّظ يوحنّا بهذه الكلمات، تحطَّم هيكل أرطاميس فجأة قطعًا عديدة، والتقادمُ التي كانت في المعبد، سقطت كلُّها فجأة على الأرض، وتحطَّم قوسها([6]). وحدث الشيء عينه لأكثر من سبعة تماثيل. وهوى نصفُ المعبد بحيث قُتل الكاهن حالاً إذ سقط عليه الجسر الرئيسيّ. حينئذٍ صاح جمهور الأفسسيِّين: «فريد هو إله يوحنّا([7])! فريد هو الإله الذي يرحمنا! أنت وحدك الله. والآن اهتدينا لأنَّنا رأينا معجزاتك. فارحمنا بحسب مشيئتك، يا الله، ونجِّنا من ضلالنا العظيم!» وبعضُ الذين كانوا في الجمع، جعلوا جباههم على الأرض([8]) ووجَّهوا التوسُّلات. وآخرون أحنَوا الركب وصلُّوا. وآخرون بكوا وهم يمزِّقون ثيابهم. وآخرون حاولوا الهرب.

43 فبسط يوحنّا يديه وتوجَّه إلى الربِّ([9]) بنفس مبتهجة: «المجد لك، يا يسوعي، أنتَ وحدك الإله الحقيقيّ. أنتَ ربحتَ عبيدك بوسائل متنوِّعة». وبعد أن قال هذا، توجَّه إلى الجمع: «قوموا([10]) عن الأرض، أيُّها الأفسسيُّون، وصلُّوا إلى إلهي، واعترفوا بقدرته اللامنظورة التي ظهرت في وضح النهار، وبأعمال معجزاته التي تمَّت أمام نظركم. كان على أرطاميس أن تُعين ذاتها([11])! وكان عليها أن تعين خادمها بحيث لا يموت! أين قدرة الشيطانة؟ أين الذبائح؟ أين الاحتفالات في الذكرى السنويَّة؟ أين الأعياد؟ أين الأكاليل؟ أين السحر القدير وأخته الشعوذة»؟

44 وبعدَ أن نهض الجمع عن الأرضِ، أسرعَ يدمِّرُ ما بقي من هيكل الصنم، وكان يصيح: «نحن نعرف أنَّ إله يوحنّا وحده موجود، وهو وحده الذي نعبد منذ الآن، لأنَّنا كنّا موضوع رحمته»([12])! وإذ كان يوحنّا ينزل من هناك، كان الجمع الغفير يلمسه قائلاً: «تعال إلى معونتنا، يا يوحنّا، ساعدْنا نحن الذين نهلك كالجهّال. أنت ترى استعدادنا، وترى هذا الجمع الذي يرافقك وهو متعلِّق بالرجاء في إلهك. نحن رأينا أنَّ الطريق الذي ضللنا فيه، يقود إلى الموت([13]). رأينا أنَّ آلهتنا أقيمت باطلاً. رأينا الخزي الكبير والمعيب الذي يلتصق بهم. نرجوك بأن تسمح لنا أن نذهب إلى بيتك فنجد فيه العون دون عائق. تقبَّلْنا، فنحن في وضع لا مخرج لنا منه».

45 فأجابهم يوحنّا: «صدِّقوني، أيُّها الرجال، فبسببكم بقيتُ في أفسس، لأنَّ اندفاعي كان يحملني إلى إزمير وسائر المدن، لكي يهتدي خدَّامُ المسيح هم أيضًا إليه، في تلك المواضع. ولكن (لو مضيتُ لـ) كنتُ مضيتُ دون أن أجد بعدُ ملءَ الراحة([14]) فيكم. لهذا بقيتُ، وصلَّيتُ إلى إلهي، وطلبتُ منه أن لا أترك أفسس إلاَّ حين أثبِّتكم. وإذ رأيت أنَّ هذا بدأ يحصل، لن أترككم([15]) قبل أن أفطمكم، كأطفال([16])، من حليب المرضع، وأجعلكم على صخر صلب».

إقامة كاهن أرطاميس

46 إذن، ظلَّ يوحنّا لديهم، واستقبلهم في بيت أندرونيك. وهناك، وسط الناس المجتمعين، وُجد رجلٌ وَضع أمام الباب([17])، جثَّةَ كاهن أرطاميس. ثمَّ إنَّ هذا الرجل، الذي كان قريب الكاهن، أسرع إلى الداخل مع الآخرين ولم يقل لأحد شيئًا. بعد العظة للإخوة والصلاة والإفخارستيّا ووضْعِ اليد على كلٍّ من الأشخاص المجتمعين، قال يوحنّا بفعل الروح([18]): «وسط الناس الذين هم هنا، يوجد شخص قاده إيمانه بالله إلى هذا البيت، فوضع أمام الباب كاهن أرطاميس ثمَّ دخل. فحبًّا بنفسه، فضَّل الاهتمام بذاته لأنَّه فكَّر في داخله: «الاهتمام بإنسان حيٍّ خير لي من الاهتمام بقريبي الميت. فأنا أعلم أنِّي حين اهتدي إلى الربِّ وأخلِّص نفسي، لن يرفض يوحنّا أن يقيم الميت أيضًا». حينئذٍ قام يوحنّا من موضعه، وتوجَّه إلى المكان الذي فيه وقف قريبُ الكاهن الذي فكَّر هذه الفكرة. فأخذه بيده وقال: «أهذا حقًّا ما فكَّرتَ فيه، يا ابني، حين جئتَ عندي»؟ فأمسكته الرجفةُ والرعشة، وأجاب: «نعم، يا ربّ». وارتمى عند قدميه([19]). فقال يوحنّا: «ربُّنا هو يسوع المسيح، وهو يُظهر قدرتَه في قريبك الميت ويقيمه».

47 وأنهض الشابَّ وأخذ بيده وقال: «ليس بصعب على إنسان يسيطر على أسرار كبرى أن يعمل أيضًا في الصغرى([20]). فأين الصعوبة في أن نتغلَّب على أمراض الجسد؟» وظلَّ يمسك الشابَّ بيده وهو يقول: «يا ابني، أقول لك، اذهبْ أنتَ بنفسك وأقمِ الميت وقلْ فقط هذه الكلمات: إنَّ يوحنّا، خادم الله، يقول لك: قمْ». فذهب الشابُّ إلى قريبه وتلفَّظ فقط بهذه الكلمات، ساعة كان جمهور كبير يقف بجانبه. ثمَّ عاد إلى الداخل، إلى يوحنّا، مع قريبه الحيّ. فلمّا رأى يوحنّا القائمَ من الموت، قال: «الآن وقد أُقمتَ، فأنت لا تحيا الآن حقًّا. لستَ مشاركًا في الحياة الحقيقيَّة ولا وارثًا لها. أتريد أن تنتمي إلى ذلك الذي باسمه وبقدرته أُقمتَ من الموت؟ آمِن الآن فتحيا إلى جميع الأجيال». فآمن (الكاهن) حالاً بالربِّ يسوع، وظلَّ منذ ذلك الوقت متعلِّقًا تعلُّق الأمانة بيوحنّا.

في الغد، رأى يوحنّا (نفسه) في الحلم أنَّه يَخرج من المدينة ويسير ثلاثة أميال([21])، فما أهمل هذا الحلم. فقام سحرًا وانطلق مع الإخوة. وكان هناك قرويّ وبَّخه أبوه (محذِّرًا إيّاه) لكي لا يأخذ امرأة رفيقه في العمل، بعد أن هدَّده هذا الرفيق بالقتل([22]). غير أنَّ الشابَّ لم يتحمَّل توبيخ أبيه: رفسه برجله وجعله أخرس بشكل نهائيّ. فلمّا رأى([23]) يوحنّا ما حصل، توجَّه إلى الربّ: «يا ربّ، أمن أجل هذا أمرتَني اليوم أن أخرج إلى هنا»؟

49 حين رأى الشابُّ هذا الموت ذا الطابع الفجائيّ، انتظر أن يُقبَض عليه. فأخذ منجلاً كان يحملها على خصره وانطلق مسرعًا إلى المزرعة. حينئذٍ جاء يوحنّا أمامه وقال له: «توقَّفْ هنا، يا شيطانًا امتلأ وقاحة([24])، وقل لي إلى أين تسرع مع هذه المنجل المتعطِّشة إلى الدم»؟ فاضطرب الشابُّ ورمى منجله على الأرض وأجاب: «قمت بعمل تعيس ووحشيّ، فعرفت أنِّي سأكون في السجن. لهذا قرَّرتُ أن أفعل لنفسي هذا الشرَّ الذي هو الأعنف والأقسى، أن أقتل نفسي بضربة. فوالدي كان يحثُّني دومًا على أن أسلك حياة كريمة لا زنى فيها. فما تحمَّلتُ توبيخاته، بل ضربتُه رفسًا برجلي فقتلتُه. وحين رأيتُ ما حصل، أسرعتُ إلى المرأة التي بسببها صرت قاتلاً لأبي، لأعمل على قتلها هي وزوجها، وفي النهاية أقتل نفسي، لأنِّي ما كنت أقدر أن أحتمل أن يراني زوجُ تلك المرأة أقاسي الإعدام».

50 فقال له يوحنّا: «كدت أعتزل وأهملك، وأنت في خطر، فأتجنَّب (الخطر) وأترك الساحة حرَّة لذاك الذي يريد، بك، أن يضحك ويهزأ. فتعال معي وأرني حيث يرقد والدك. إن أقمتُه لك، فهل تتخلَّى عن المرأة التي كانت سبب سقوطك»؟ فأجـاب الشـابّ: «إن أعـدتَ لي أبي حيًّا فأراه معافى متكلِّمًا([25]) في هذا العالم، أتخلَّى عن الباقي».

51 ولمّا قال هذا الكلام، مضيا إلى الموضع الذي فيه يرقد الشيخ ميتًا. ووُجد مارُّون عديدون في المكان. فقال يوحنّا للشابّ: «أيُّها الشقيّ، أنتَ لم تحترم حتّى شيخوخة أبيك»! أمّا هو فبكى ونتف شعره، وأعلن أنَّه يتوب عمّا فعل. حينئذٍ قال يوحنّا، خادم الربّ: «أنت الذي أريتَني أنَّ عليَّ أن أمضي اليوم إلى هذا المكان، أنت الذي عرفت أنَّ هذا سيحصل، أنت الذي لا يفلت منه عمل يتمُّ في هذا العالم، أنت الذي تمنحني بمشيئتك كلَّ اعتناء وكلَّ شفاء، إمنحْني الآن أيضًا حياة هذا الشيخ لأنَّك ترى أنَّ القاتل دان نفسه([26]). ووفِّرْ يا ربّ، من وحده يستطيع، ذاك الذي لم يعفُ عن أب نصحه بالخير»!

52 وبعد أن قال هذه الكلمات، تقدَّم إلى الشيخ وقال: «ليس ربِّي بضعيف بحيث لا يقدر أن يوصل إليك رحمته الخيِّرة وشفقته المتواضعة. فقُمْ ومجِّد الله من أجل هذا العمل الخيِّر»([27]). فقال الشيخ: «ها أنا أقوم، يا ربّ». وقام. ولمّا قعد قال: «أنا الذي نجوت من حياة هائلة، وتحمَّلتُ إهانات فظيعة وغياب حبٍّ من ابن، ها أنت تعيدني إلى الحياة، يا رجل الله الحيّ! أيُّ خير في ذلك!» فأجابه يوحنّا: «إن كنتَ قمتَ لكي تستعيد الواقع عينه، فأفضل لك أن تبقى ميتًا»! حينئذٍ أخذه يوحنّا معه، وجاء به إلى المدينة، وحدَّثه عن نعمة الله. وهكذا قبْل أن يصلا إلى المدينة، صار الشيخُ مؤمنًا.

53 فلمّا رأى الشابُّ أنَّ أباه قام، وهذا ما لم يتوقَّعهْ أحد، وأنَّه نجا هو بحياته، أخذ الفأس وقطع أعضاءه التناسليَّة. ثمَّ أسرع إلى البيت الذي تقيم فيه المرأة الزانية، فرماها أمام نظرها قائلاً: «بسببك صرت قاتلاً لأبي وقاتلاً لكما وقاتلاً لنفسي. هذه الأعضاء هي لك، وهي سبب ما حصل. أمّا أنا، فالله رحمني وعرَّفني قدرته».

54 ثمَّ عاد يخبر يوحنّا، بحضور إخوته، بالعمل الذي قام به. ولكنَّ يوحنّا قال له: «أيُّها الشابّ، ذاك الذي جعلك تفكِّر في قتل أبيك وفي أن تصير عشيق امرأة الغير، هو أيضًا صوَّر لك أنَّ قطع الأعضاء المزعجة([28]) عملٌ بارّ. بل كان عليك أن تلقي لا أعضاء من الطبيعة، بل الفكرة التي كشفَتْ عن شرِّها بواسطة هذه الأعضاء. فليست الأعضاء هي التي تسيء إلى الإنسان، بل الينابيع الخفيَّة التي تعمل فتحرِّك كلَّ اندفاع مشين، وتَظهر في وضح النهار. فإن كنت، يا ابني، تُبتَ عن خطيئتك وتعلَّمتَ أن تعرف حيل إبليس، فستجد الله الذي يأتي إلى عونك في كلِّ حاجات نفسك». فاجتهدَ الشابُّ في أن يحيا حياة هادئة، وتاب عن خطاياه السابقة، بحيث نال الغفران([29]) برحمة الله، وما عاد يفترق عن يوحنّا.

55 حين كان يوحنّا يفعل كلَّ هذا في أفسس، بعث إليه الإزميريُّون برسل يعلنون: «سمعنا من يقول إنَّ الله الذي تبشِّر به لا يراعي الوجوه، وهو من أمرك أن لا تدلَّ أنَّك تفضِّل مكانًا واحدًا. وهكذا، بما أنَّك المنادي بمثل هذا الإله، فتعال إلى إزمير وإلى سائر المدن، لكي نتعلَّم أن نعرف إلهك. وحين نتعلَّم أن نعرفه، نجد فيه الرجاء...

56 إذن، انطلقنا من أفسس([30]) فذهبنا إلى إزمير. فاجتمعت المدينة كلُّها حين علمت بحضور يوحنّا. فتقدَّم من يوحنّا رجلٌ وجيه في أهل إزمير، اسمه أنتيباتروس، وقال: «يا خادم الله، سمعتُ من يقول إنَّك أجريت كثيرًا من المبرّات والمعجزات العظيمة في أفسس. ها أنا أقدِّم لك مئة ألف قطعة ذهب. لي ابنان توأمان. ضربهما شيطان منذ ولادتهما وهما ما زالا يتألَّمان حتّى اليوم بشكل هائل. عمرهما 34 سنة. ففي برهة من الزمن، يسقطان كلاهما معًا في إغماء. تارة يمتلكهما في الحمّام، وطورًا في نزهة، ومرَّات على المائدة، وتارة أخرى في جلسة علنيَّة في المدينة. سترى بنفسك أنَّهما رجلان ذات هيئة جميلة، ولكنَّ المرض أنهكهما لأنَّه يُمسك بهما كلَّ يوم. أرجوك، أعِنْ شيخوختي. كنت أستعدُّ لأن آخذ قرارًا مشؤومًا، لأنَّهما حين كانا طفلين كانا يتألَّمان ألمًا معتدلاً. ولكن الآن بعد أن صارا رجلين، اجتذبا إلى نفسَيهما شيطانين بالغين هما أيضًأ. فارحمني وارحمهما». فقال له يوحنّا: «إنَّ طبيبي لا يتسلَّم الفضَّة أجرًا، بل يشفي مجّانًا، ولقاء الأمراض يتقبَّل نفوس الذين شُفوا. فما أنت مستعد، يا أنتيباتروس، أن تعطيه لقاء ولديك؟ قدِّمْ نفسك لله، فتجدهما في صحَّة تامَّة بقدرة المسيح». فقال أنتيباتروس: «حتّى الآن، أنتَ ما أهملتَ أحدًا. إذن، لا تُهمل ولديَّ. فأنا استعددت مع جميع أقاربي أن أهلكهما بالسمّ، تفاديًا للهزء. أمّا أنت يا من أتيتَ كطبيب أمين أولاك الله (قدرتَه) لأجلهما، فأنرْهُما وأعنْهُما».

57 أمّا يوحنّا الذي دُعي إلى المساعدة، فتوجَّه إلى الربّ: «أنت دومًا تعزِّي المتواضعين وتُعين من يدعوك. أنت ما انتظرت أبدًا أن تُدعى لتحمل العون، لأنَّك حاضر قبل أن تطلب عونك، مُر أن يُطرد الروحان النجسان من ابنَي أنتيباتروس». وفي الحال خرجا منهما. فأمر يوحنّا الولدين أن يأتيا. فلمّا رآهما والدهما في صحَّة جيِّدة، سقط إلى الأرض وسجد أمام يوحنّا. وبعد أن علَّمهم يوحنّا حول الآب والابن والروح القدس، عمَّدهم([31]). وأمر أنتيباتروس أن يعطي فضَّته للمحتاجين، وأطلقهما وهما يمدحان الله ويباركانه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM