الفصل الثامن عشر مملكة الجنوب: لمحة تاريخية

الفصل الثامن عشر

مملكة الجنوب: لمحة تاريخية

بعد مملكة الشمال نتعرّف إلى مملكة الجنوب التي امتدت من سنة 933 (موت سليمان وانفصال المملكتين) إلى سنة 587 (سقوط أورشليم بيد البابليين). نتوقّف أولاً عند الإطار التاريخي، ثم ندرس في فصول لاحقة الأدب الذي تركته لنا هذه الحقبة التاريخية.
بعد موت سليمان، ما استطاع ابنه رحبعام أن يحافظ على وحدة المملكة التي شيّدها داود. فاكتفى هو وخلفاؤه بمملكة يهوذا بعد أن خسروا مملكة إسرائيل. قاموا ببعض المحاولات ليستعيدوا مملكة الشمال، ولكنهم لم يردّوا إلى مملكة الجنوب إلا جزءاً من أرض بنيامين، يقع شمالي أورشليم.

أ- مملكة يهوذا
كانت مملكة يهوذا أصغر وأفقر من مملكة إسرائيل. عدّت 300000 نسمة ساعة عدّت مملكة الشمال 800000 نسمة. أما تعداد أورشليم العاصمة فكان 30000 نسمة. كانت "المدن" قرى. وكان قلب البلاد جبال يهوذا. في الشرق وباتجاه البحر الميت تمتدّ برية يهوذا، وفي الجنوب برية النقب. أما المناطق الخصبة فهي التلال المنحدرة إلى الغررب.
ولكن مملكة يهوذا كانت تتمتع "بخيرات" هامة. كانت أكثر انعزالاً من الشمال وبالتالي بمنأى من التهديدات الخارجية التي جاءت من الشمال خلال تلك الحقبة. ثم إن مملكة يهوذا ورثت إدارة وتنظيماً جاءاها من أيام داود وسليمان فأستفادت منهما وحسّنتهما. وبُنيت قلاع جديدة للدفاع عن شمال البلاد وجنوبه.
وانقسمت أرض يهوذا إثنتي عشرة مقاطعة إدارية. وكان لكل مقاطعة مركزٌ يقيم فيه حاكم. وصلت إلينا هذه المعلومات من يش 15 الذي دوّن في أيام يوشافاط. فهذا الملك حسّن ممارسة العدالة، فخلق ثلاثة أنواع من المحاكم: محكمة في كل مدينة من أجل الأمور العادية. ومحكمتان في أورشليم من أجل الأمور الخطيرة، محكمة مدنيّة ومحكمة دينية.
لن تعرف مملكة يهوذا منازعات على الحكم مثل مملكة إسرائيل. فإذا جعلنا جانباً حادثة المملكة عثلياً زوجة الملك يورام، وابنة إيزابيل الفينيقية، التي فرضت نفسها بالقوة ملكة من سنة 841 إلى سنة 835، نلاحظ أن أبناء داود حافظوا على العرش حتى سنة 587. لا شك في أن نبوءة ناتان لعبت دوراً كبيراً في هذا الإستقرار السياسي.
ولكن جاء الخطر من الخارج. فخلال أزمة سنة 734 تلقّى الملك أحاز تهديداً بعزله وإحلال غريب محلّه. وكان الشعب متعلّقاً بالسلالة الداودية تعلّقاً قوياً. وسيتدخّل مراراً ليطرد مغتصباً مثل عثليا، أو ليفرض مرشحاً إختاره هو بنفسه.
ولم يكن خلاف حول العاصمة. فهي أورشليم وستبقى أورشليم. ثم إن الهيكل الذي بناه سليمان صار المعبد الأهم، لأنه يحفظ في داخله تابوت العهد. ولقد ظلّ أهل الشمال يؤموّن الهيكل عندما تسمح لهم الظروف بذلك.
دامت مملكة يهوذا أكثر من مملكة إسرائيل. ولكنها سقطت سنة 587. سقطت أختها سنة 721، فعرفت هي الضعف شيئاً فشيئاً إلى أن اضمحلت وذهبت نخبتها إلى المنفى.

ب- الوضع الإقتصادي والسياسي
لا نملك معلومات كثيرة عن الوضع الداخلي في يهوذا قبل الأنبياء الكبار في القرن الثامن. فقد حاول الملك يوشافاط (870- 848) أن يعود إلى ما عمله سليمان على مستوى التجارة، ولكن عبثاً (1 مل 22: 49). نظنّ أن المعاهدة الفينيقية التي صارت أمراً ملموساً بزواج ابنه يورام من عثليا، ساعد على نمّو التجارة مع صور وصيدون. ولكن نتج عن هذا تجاوزات إجتماعية كتلك التي ندّد بها إيليا النبي في الشمال خلال الحقبة عينها. وقد كانت الثورة على عثليا (2 مل 11: 4- 20) نتيجة تململ الفلاّحين في يهوذا.
نعرف بعض الشيء عن حكم عزريا (سمي أيضاً: عزيا) في منتصف القرن الثامن (781- 780). كان عهده عهد سلام وازدهار (ملك في إسرائيل في ذلك الوقت يربعام الثاني الذي عرف عهده الإزدهار أيضاً). وقيل أن عزّيا إهتم شخصيا بالزراعة (2 أخ 26- 20). فاستخدم في أراضيه عدداً كبيرأ من الفلاّحين والكرّامين والرعاة. وقد كان عاموس أحد رعاته. قال عن نفسه إن الله أخذه "من وراء القطيع" (عا 7: 15).
في تلك الحقبة عاش أشعيا في أورشليم. ونحن بفضله وبفضل سائر الأنبياء، نعرف حياة الشعب معرفة أعمق. فحين نقرأ أشعيا، نكتشف أن عدداً قليلاً من الناس نَعِم بالإزدهار في أيام عزيا، وأن هذه القلة إغتنت على حساب الشعب بشكل فاضح. وهاجم معاصره ميخا مسؤولي الأمة. وبعد قرن من الزمن، في نهاية المملكة، سنسمع من فم إرميا تنديداً بشرور المجتمع. وتدخّلُه من أجل تحرير العبيد يذكرّنا أنه كانت هناك فئة من الناس أفلسوا فباعوا نفوسهم علّهم يفوا ما عليهم من ديون.
واشتهر بعض الملوك بالإستبداد والتسلّط. فقد قيل عن منسّى (687- 642) أنه أراق الدم الزكي حتى ملأ أورشليم كلها (2 مل 21: 16). لقد حكم بالموت على عدد كبير من الأبرياء. واتهم الملك يوياقيم (عاش قبل دمار الدولة بقليل) الإتهام عينه (2 مل 24: 4). وسيقول عليه إرميا هذا القول القاسي: "ويل لمن يبني بيته بالظلم ويعليّ غرفه بغير حق! يستخدم الآخرين بغير أجرة ولا يوفي أحداً عن عمله" (إر 22: 13).
ولكن الكتاب سيمتدح ملوكاً آخرين لاهتمامهم بالعدالة ولقيامهم بالإصلاح. فيوشيا مثلاً (640- 690) قام سنة 622 بإصلاح كبير (2 مل 22- 23). جاء برنامجه الديني والإجتماعي موافقاً لفرائض سفر التثنية. غير أن هذه المحاولة الأخيرة لم تستطع أن تخلّص المملكة من الدمار، لأن الصعوبات لم تكن مادية فحسب. فالعدوّ الخارجي بدأ يطلّ من الشمال.

ج- سياسة يهوذا الخارجية
إحدى معطيات سياسة يهوذا الخارجية حتى سقوط السامرة سنة 721، كانت عداوة شبه مستمرة بين المملكتين. فإذ أراد آسا الملك (912- 871) أن يحمي نفسه من إسرائيل، تحالف مع الأراميين ولم يتردّد (1 مل 15: 18- 19). توقفت الحروب بين الإخوة بعض الوقت، وذلك على أثر إعتلاء عمري عرش إسرائيل وبفضل وساطة فينيقية. حينئذ جمعت المملكتان قواهما ضد الأراميين. وبعد سقوط عثليا، ستحتدّ الأمور من جديد بين إسرائيل ويهوذا، فنرى ملك إسرائيل يقود أمصيا ملك يهوذا أسيراً إلى السامرة بعد أن تغلّب عليه في بيت شمس ونهب أورشليم (2 مل 14).
بعد سنة 745، صار تجلت فلاسر الثالث ملكَ أشورية، فسيطرت "الامبريالية" الأشورية على سياسة الممالك الصغيرة. فوجد كل ملك نفسه أمام حلّين لا ثالث لهما: إما الخضوع لأشورية ودفع جزية ثقيلة، وإما التمرّد مع كل المخاطر الذي قد ينتج عن ذلك. تردّدت مملكة إسرائيل. وفي النهاية إختارت سياسة التمرد، فزالت من الوجود. أما ملك يهوذا فاختار الخضوع مهما كان أليماً. ففي سنة 734، رفض أحاز أن يدخل في تحالف معارض للأشوريين. بل هو دعا تجلت فلاسر ليفكّ الحصار عنه. شارك حزقيا (خلف أحاز) في حلف تسنده مصر. فاجتاح الملك الأشوري سنحاريب بلاده سنة 701. أفلت بصعوبة من الكارثة ودفع الجزية من جديد.
في منتصف القرن السابع عرفت الامبراطورية الأشورية إنحطاطاً سريعاً. فأجبرت أشورية على التحالف مع عدوها التقليدي مصر لكي تواجه الخطر. غير أن البابليين وحلفاءهم إحتلوا سنة 612 نينوى عاصمة الأشوريين. واستفاد الملك يوشيا (640- 609) من انحطاط الأشوريين ودمار إمبراطوريتهم، فاستعاد استقلاله، بل احتل جزءاً من مملكة إسرائيل القديمة. غير أن عمل البناء الوطني والديني الذي بدأ به، توقّف فجأة سنة 609. أراد أن يعارض التحام الجيوش المصرية مع الجيوش الأشورية فقُتل في مجدو.
وبعد الأمبراطورية الأشمورية جاءت الأمبراطورية البابلية (أو الكلدائية). فبعد سنة 605 واعتلاء نبوكد نصر عرش بابل، وجدت مملكة يهوذا نفسها أمام الخيار عينه: إمّا الخضوع وإمّا التمرّد. ظنّ ملوك يهوذا، رغم تنبيهات إرميا، أنهم يستطيعون أن يقاوموا عدوّاً يتفوّق عليهم عدّة وعدداً. دخلوا في تحالف معارض للبابليين واستندوا إلى مصر.
وجاء الرد من نبوكد نصر على دفعتين. سنة 597، إحتل أورشليم. لماذ أراد الملك يوياكين أن يجنّب المدينة الدمار، سلّم نفسه أسيراً فاقتيد إلى بابل مع كل عائلته. وذهب معه في هذا الإجلاء الأول الموظفون الكبار، قواد الجيش، الأخصّائيون في صناعة الأسلحة (2 مل 24: 8- 17). وحلّ محلّ يوياكين عمُّه صدقيا الذي فرضه نبوكد نصر ملكاً.
تردّد الملك الجديد، وفي النهاية اختار التمرّد. فاجتاح الكلدانيون البلاد مرة ثانية ليحطمّوا كل مقاومة. حاصروا أورشليم سنة ونصف سنة، فسقطت سنة 587 وأُسلمت إلى النهب والنار. وكانت تلك المعركة نهاية يهوذا (2 مل 25).
نحتفظ في خضمّ هذه الأحداث المؤلمة بحدثين. الأول، سقوط السلالة الداودية. والثاني، دمار الهيكل. وطرح الحدثان سؤالاً إيمانياً خطيراً: هل هُزم الرب أمام آلهة أقوى منه؟ هل من مستقبل للشعب بعد هذه الكارثة؟

د- الحياة الدينية في مملكة يهوذا
دوّنت النصوص التي تصوّر الحياة الدينية في تلك الحقبة بعد سنة 587، فتأثّرت تأثراً عميقاً بذكرى الكارثة، ورأت فيها دينونة الله لمملكته الخائنة.
ظلّ الإيمان بإله الآباء موجوداً في يهوذا كما في السامرة. وحين يكلّم الأنبياء الشعب أو المسؤولين، فهم يعودون إلى هذه المعطية التي لا خلاف عليها. في يهوذا، إرتبط هذا الإيمان بسلالة داود والهيكل. أما في إسرائيل فعاش من تذكّر أحداث الخروج. ولكن أصالة هذا الإيمان تشوّهت بما دخل إليه من المحيط الذي عاش فيه.
إمتد تأثير الديانة الكنعانية في كل تلك الحقبة. ففي زمن المعاهدة مع فينيقية، وُجد في أورشليم هيكل لبعل يخدمه كاهن إسمه متان (2 مل 11: 8). وظلّ المؤمنون يؤمّون المشارف أي المذابح على تلال البلاد. كانت في الأساس معابد وثنية، فصارت أمكنة يطلب فيها اليهوذاويون الرب وكأنه بعل. كانوا يتجامعون مع بغايا هذه المعابد فيؤمّنون لنفوسهم بصورة سحرية الخصب والإزدهار. ومارسوا في بعض الأحوال ذبائح الأطفال، وكانت تلك عادة ذميمة شجبها الأنبياء (إر 7: 31).
وقد أشار الأنبياء إلى تجاوزات تهدّد العبادة والديانة بشكل عام: الطقوس عديدة والأعياد كثيرة، والمؤمنون يذهبون إلى الحج، ولكن كم من الشكليات، كم من الرياء، وغياب البحث الحقيقي عن الله!
ويتوّزع تاريخ مملكة يهوذا عددٌ من الإصلاحات أو محاولات الإصلاح التي استلهمت أول ما استلهمت شعائر العبادة. ففي أيام حزقيا (716- 687) كانت يقظة وطنية ودينية شجّعها أشعيا وميخا. قرّر الملك إلغاء المعابد المشرفة والواقعة خارج أورشليم، لكي تتركز كل شعائر العبادة في الهيكل (2 مل 18: 4). ولكنَّ خلفَه منسىّ (687- 642) أعادها. أما أشهر إصلاح فهو إصلاح يوشيا (640- 609). إستند إلى الفرائض الدينية في سفر التثنية فأزال المعابد المحلية وجمع الكهنة كلهم حول الهيكل. وصار الإحتفال بالفصح يتمّ في أورشليم (2 مل 22- 23) بعد أن كان عيداً عائلياً قديماً. غير أن موت يوشيا سنة 609 وضع حداً لهذا الإختبار الذي ظلت آثاره عميقة في الشعب.
في تلك الحقبة، وجد شعب الله نفسه للمرة الأولى أمام إمبراطوريات تحاول أن تسيطر على الكون كله. في الماضي تعامل يهوذا (أو: إسرائيل) مع أمم "عادية" (صغيرة) ومع آلهتها، فلم تكن سيادة الرب موضع جدال. ولكن حين أزالت أشورية وبابلونية السامرة وأورشليم، برهنتا على أن أشور وعشتار ومردوك هم أقوى من الرب الإله. وبدا انهزام يهوذا في هذه العقلية وكأنه انهزام لإله صار ضعيفاً فما استطاع أن يخلّص شعبه. إذن، لماذا لا يطلب يهوذا حماية هذه الآلهة؟! وهكذا تكاثر في وقت من الأوقات عبّاد "جيش السماء" (2 مل 21: 5).
ولكن الأنبياء هم هنا. فقد حفظوا الإيمان من الضياع زمن الملوك. وساعة استسلم المسؤولون من ملوك وكهنة وحكماء إلى عدد من المساومات التي تشوّه الإيمان، تجزأ رجال مثل أشعيا وميخا وأرميا فشهدوا لله الحي في عالم يعيش أخطر أزماته

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM