الفصل الرابع والعشرون: الرسالة الأولى إلى تيموتاوس في عظات يوحنا الذهبي الفم

الفصل الرابع والعشرون

الرسالة الأولى إلى تيموتاوس في عظات يوحنا الذهبي الفم

خطبة تمهيديَّة(1)

حكمة تيموتاوس

كان تيموتاوس في عداد تلاميذ الرسول. شهد عنه لوقا أنَّه شابٌّ مدهش بحسب شهادة المؤمنين في لسترة وإيقونية. ما ترك التلمذة حين صار طبيبًا. وامتلك حكمة كبيرة. ومع أنَّه سمع بولس يكرز تاركًا جانبًا الختان ومع أنَّه لم يجهل أنَّ معلِّمه (بولس) راح يقاوم بطرس لهذا السبب، فقد أراد بنفسه، لا أن يمتنع فقط عن الكرازة ضدَّ هذه المؤسَّسة(2) بل أن يخضع لها أيضًا. قَبِل بولس أن يختنه في تلك الحقبة من حياته، بحيث سلَّمه الخدمة التامَّة. وإذا أردنا أن نعرف أيَّ إنسان كان، يكفي أن نقول كم كان محبوبًا لدى بولس. وإليك بعض الشهادات التي يؤدِّيها له الرسول في رسائله:

»أنتم تعرفون عن خبرة أنَّه عاونني في عمل الإنجيل، بمحبَّة ابن لأبيه« (فل 2: 22). »أرسلتُ إليكم ابني العزيز تيموتاوس، الخادم الأمين في الربّ... اهتمُّوا بأن لا يستخفَّ به أحد، لأنَّه يعمل مثلي عملَ الربّ« (1 كو 4: 17؛ 16: 10، 11). »تعرَّفوا إلى أخينا تيموتاوس الذي أرسله إليكم« (عب 13: 22). ونحن نجد تعبيرًا عن هذا الحبِّ في أكثر من مقطع. ثمَّ إنَّ المعجزات التي تتمُّ تدلُّ بما فيه الكفاية على سلطان هذا التلميذ وعلى قداسته.

نستطيع أن نتساءل: لماذا لم يكتب الرسول إلاّ إلى تيطس وتيموتاوس، مع أنَّ سيلا ولوقا كانا شخصين فاضلين؟ فهو نفسه كتب عن هذا الأخير: »لوقا وحده معي« (2 تم 4: 11). كليمان كان أيضًا واحدًا من هؤلاء الرفاق المندفعين، كما نرى في هذه العبارة: »كليمان وسائر معاونيَّ« (فل 4: 3). إذًا، لماذا كتب إلى تيطس وتيموتاوس وحدهما؟ لكي يسلِّمهما كنيستين يتدبَّرانهما، ويثبِّتهما في مدينتين شهيرتين. وأخذ الآخرين معه.

فضيلة تيموتاوس

ففضيلة تيموتاوس كانت من سموٍّ بحيث نسينا فتوَّته. لهذا كتب بولس: »لا يستخفَّ أحد بحداثته« (1 تم 4: 12). ثمَّ: »عاملوا الأرامل الشابّات كأنَّهنَّ أخوات« (5: 2). حين نمتلك الفضيلة، يفيض كلُّ شيء بحيث لا يكون عائق يعيق. وحين تحدَّث عن الوظيفة الأسقفيَّة، لم يُشِرْ مرَّة إلى مسألة العمر. فإن أوضح هذه الشروط: »أولاده يطيعونه... تزوَّج امرأة واحدة« (3: 4، 2)، فهو لا يعني أنَّه من الضروريّ أن يكون له امرأة وأولاد. بل فرض على العلمانيّ الذي يُدعى إلى هذه المهمَّة، بين الذين يعرفون أن يتدبَّروا بيتهم وأسرتهم وكلَّ ما يرتبط بسلطتهم. فإن جاء من العالم وما بيَّن أنَّه على مستوى واجباته، فكيف نكلِّفه الاهتمام بالكنيسة.

وأيضًا، لماذا كتب بولس إلى تلميذ تكون مهمَّته منذ الآن، التعليم؟ أما وجب عليه أن يعلِّمه قبل أن يعطيه مثل هذه المهمَّة. ما توجَّب أن يُعطى دروسًا تُعطى للتلاميذ، بل تلك التي تليق بالمدرِّسين. وانظر أيضًا كيف نقل إليه، في الرسالة كلِّها، نوع الدرس الذي يأخذه المعلِّم وحده. ومنذ البداية، لم يقل له: كن حذرًا من الذين اختلفت تعاليمهم عن تعاليمنا. إذًا، ماذا قال له؟ »نبَّهْهم إلاَّ يعلِّموا تعاليم تخالف تعاليمنا.«

العظة الأولى(3)

من بولس رسول يسوع المسيح بأمر الله مخلِّصنا والمسيح يسوع رجائنا، إلى تيموتاوس ابني الحقيقيّ في الإيمان. عليك النعمة والرحمة والسلام من الله الآب ومن المسيح يسوع ربِّنا (1: 1-3).

عظمة سلطة الرسول

عظيمة كانت سلطة الرسول، عظيمة ومدهشة. لهذا نرى بولس، في كلِّ موضع، يقدِّم البراهين، لا ليأخذ لنفسه كرامة، بل لأنَّه نال تلك الكرامة فرأى من الضرورة أن يبيِّنها. وحين يعلن أنَّه مدعوّ، وحين يقول: »بمشيئة الله« (روم 1: 1). وفي موضع آخر: »الضرورة تدفعني« (1 كو 1: 1). وأيضًا: »فُرزتُ من أجل هذا« (1 كو 9: 16)، حين يقول هذا، لا نرى شيئًا في أقواله إلاّ ويستبعد الطموح والكبرياء. كما أنَّه، حين نستولي على كرامة يمنحها الله وحده، نُتَّهم أبشع الاتِّهامات، كذلك نستحقُّ أن يُحكم علينا لسبب آخر، حين نبعدها أو نستقيل عنها. والسبب هو العصيان والتمرُّد. هذا ما عبَّر عنه الرسول أيضًا هنا في بداية رسالته إلى تيموتاوس: بولس رسول يسوع المسيح، بحسب أمر الله، ما هي دعوة فقط، بل هو أمر، لئلاّ يشعر تيموتاوس بعاطفة بشريَّة فيظنُّ أنَّ المعلِّم يكلِّمه كما يكلِّم سائر التلاميذ. بدأ هكذا. ولكن أين أعطاه الله هذا الأمر؟ نجد الروح القدس يقول في سفر الأعمال: »افرزوا لي بولس وبرنابا« (أع 13: 2). في جميع الرسائل، يضمُّ بولس إلى اسمه لقب الرسول. وهكذا يعوِّد السامع على أن لا ينظر إلى كلامه على أنَّه كلام بشر. فالرسول والموفد لا يتكلَّم باسمه الخاصّ. رسول، هذا يكفي لكي يعود الإنسان العاقل إلى ذاك الذي سلَّم الرسالة. لهذا، تأتي دومًا الفاتحة نفسها لكي تعطي مصداقيَّة للتعليم الذي يلي. بولس رسول يسوع المسيح، بحسب أمر الله مخلِّصنا.

بولس وأوامر المسيح

ومع ذلك، لا نرى في أيِّ موضع، الآب يأمر الرسول. ففي كلِّ مكان، المسيح هو الذي يكلِّمه. ماذا يقول له؟ »امضِ، ها أنا أرسلك إلى الأمم البعيدة« (أع 22: 21). ثمَّ: »يجب أن تحضر أمام قيصر« (أع 27: 24). ولكنَّ كلَّ ما يأمر به الابن، يعلنه أنَّه أمرُ الآب. كما أوامر الروح هي أيضًا أوامر الابن. الروح أرسل الرسول... الروح أراد أن يُفرَز الرسول. والرسول يقول: هو أمر الله. أما هو نقصٌ من قدرة الابن أن يُرسَل رسوله بحسب أمر الآب؟ كلاّ ثمَّ كلاّ. فهذه القدرة مشتركة بينهما، وأنتم ترون ذلك. بحسب أمر الله مخلِّصنا. قال بولس، وأضاف حالاً: والربِّ يسوع المسيح رجائنا. نلاحظ هذا التفصيل في الأسماء، كما يفعل معلِّم كبير. فالمرتِّل سبق أيضًا وقال عن الآب: »رجاء كلِّ أقاصي الأرض« (مز 45: 6). والرسول الطوباويّ عينه قال في موضع آخر: »فإذا كنّا نتعب ونجاهد، فلأنَّنا وضعنا رجاءنا في الله الحيِّ الذي هو مخلِّص الناس جميعًا« (4: 10). فمن الضروريّ أن يتحمَّل المعلِّم الأخطار، وأكثر من التلاميذ. كُتب: »أضرب الراعي فتتبدَّد الخراف« (زك 13: 7؛ مت 26: 31). من هنا، ينكبُّ إبليس بشكل خاصّ، لكي يُهلك الراعي. لأنَّ هذا الهلاك يجتذب هلاك القطيع. فإن أفنى بعض النعاج، ينقص القطيع بلا شكّ. ولكن حين يسقط الراعي، يفنى القطيع كلُّه. فحين يعرف أنَّه يعمل أكثر بجهد أقلّ، وأنَّه يدمِّر الكلَّ في نفس واحدة، فهو يفضِّل أن يهاجم المعلِّمين. لهذا رفع الرسول منذ البداية عزيمة تلميذه، وقال له: الله مخلِّصنا، والمسيح رجاؤنا. كثيرة هي المضايقات، وجميلة هي الآمال. تحيط بنا الأخطار والفخاخ، ولكن لنا الله مخلِّصنا، لا إنسان من البشر. إذًا، لا تخاذل مع مخلِّصنا، لأنَّه الله. ومهما يمكن أن تكون مخاطرنا كبيرة، لن نسقط فيها، ولا يمكن أن يخزى رجاؤنا، لأنَّه المسيح ذاته. مع هذا الاستناد المضاعف، نتحدّى الأخطار أو لا نتأخَّر من أن نخرج منها. فالرجاء المقدَّس هو غذاؤنا.

بولس، اسمه رسول المسيح

لما لا يدعو بولس أبدًا نفسه رسول الآب، بل دومًا رسول المسيح؟ إنَّه يجعل كلَّ شيء مشتركًا، والإنجيل يدعوه إنجيل الله. قال: »مهما تألَّمنا، فأمور الأرض ليست بشيء«. إلى ابني الحقيقيّ في الإيمان. وها هي بعدُ تعزية. فإن كان التلميذ بيَّن مثل هذا الإيمان، بحيث اعتبره بولس ابنه، وابنه الحقيقيّ، فما الذي لا يأمله في المستقبل؟ خصوصيَّة الإيمان أنَّنا لا نتراخى ولا نضطرب، حيث تبدو الأحداث وكأنَّها تكذِّب المواعيد. إذًا، ها هو ابن، وابن حقيقيّ، مع أنَّه ليس من ذات »الجوهر«. ماذا إذًا، أتراه كائنًا لا عاقلاً؟ كلاّ. هو ما وُلد من بولس. لهذا، ما أراد أن يتكلَّم عن هذه البنوَّة المادِّيَّة، لا بالنسبة إليه ولا بالنسبة إلى آخرين. لأنَّه، ما إن دعاه ابنه حتّى أضاف حالاً: في الإيمان. هي بنوَّة أخرى، وليس أقلَّ وضوحًا، نقل حقيقيّ للحياة، لأنَّ الإيمان يُعطى نقيٌّا ولا مشوَّهًا. فلدى البشر، يتمُّ الشيء عينه على مستوى الجوهر، ولكن لا مع الكمال عينه كما في الألوهيَّة. فالشبه بين الآب والابن هنا، هو أكثر حميميَّة وأكثر عمقًا. أمّا عند البشر، ومع أنَّ الجوهر هو هو، فالاختلافات العديدة موجودة في أكثر من أمر: في اللون والشكل والأفكار والزمن والإرادة. في ملكات النفس وفي استعدادات الجسد. نختلف في كلِّ شيء بما نتشابه. ولكن لا وجود للاتشابه في الله. بحسب أمر. هو يقول أكثر، لفظ بسيط، »مدعو« يعلن عملاً ناجعًا، كما يمكن أن نرى في رسالة أخرى (روم 1: 1) إلى تيموتاوس ابني الحقيقيّ. هذا يذكِّرنا ما قاله الرسول للكورنثيّين: »ولدتُكم في المسيح يسوع« (1 كو 4: 15)، أي في الإيمان. غير أنَّ هذا النعت الذي يضيفه إلى لقب ابن، يدلُّ على شبه دقيق وسامٍ. بل على مودَّة حيَّة، حنونة من قبله. إلى ابني الحقيقيّ في الإيمان. أيُّ مديح! هو لا يكتفي بأن يدعوه ابنه، بل يضمُّ إلى هذا المديح شهادة إكرام وحنان.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM