الفصل التاسع عشر: ابن الله مولود من امرأة

الفصل التاسع عشر

ابن الله مولود من امرأة

حين أراد الغلاطيّون الذين نالوا العماد أن يعودوا إلى ممارسات العالم اليهوديّ، حين أراد الغلاطيّون أن يتوقَّفوا عند اللحم والدم وما يرتبط بهما من أخذ بالختان واهتمام بالأطعمة، حين أراد الغلاطيّون أن يتمسَّكوا بوصايا يقول التقليد إنَّ الملائكة حملوها إليهم، كتب إليهم بولس يذكِّرهم بأن صار لهم أبٌ واحدٌ هو »أبّا، أيُّها الآب«، هو الآب السماويّ، سواء كانوا يهودًا أو وثنيّين حين نالوا العماد، وسواء كانوا عبيدًا أو أحرارًا، وسواء كانوا رجالاً أو نساء. فلمّا اعتمدوا صاروا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع (غل 3: 26). كلُّ هؤلاء هم نسل إبراهيم، لا بحسب الجسد، بل بحسب الإيمان. كلُّهم نالوا الوعد. ولكنَّ ما كان وعدًا تحقَّق مع مريم العذراء. فقال الرسول: »ولمّا تمَّ ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الناموس ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة« (غل 4: 4).

1. فلمّا تمَّ الزمان

بدأت مسيرة المؤمنين في الكتاب المقدَّس مع إبراهيم. قال له الربّ: »انطلقْ من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك...« (تك 12: 1). فانطلق. هي انطلاقة بشريَّة من موضع إلى آخر، وكأنَّ ابراهيم يريد أن يطبع بالإيمان جميع المواضع التي يمرُّ فيها. كان في جنوب بلاد الرافدين، جنوب العراق الحديث، في أور، القريبة من بابل. منطقة غنيَّة. حضارة عريقة. وهناك أقام يهود سباهم البابليّون بعد سقوط أورشليم سنة 587 ق.م. ترك إبراهيم الجنوب ومضى إلى الشمال، إلى حرّان القريبة من نينوى حيث جاء السامريّون بعد سقوط العاصمة. أتى بهم الأشوريّون وأحلُّوا في أرضهم شعوبًا أتوا بهم من هنا وهناك.

قالوا: سار إبراهيم بمحازاة الأرض المزروعة يطلب الماء والكلأ. لا بأس. ذاك هو الجواب الخارجيّ. هو لا يستطيع أن يقيم في بلادِ نهرين كبيرين هما الفرات ودجلة، كما لم يكن في مقدور العبرانيّين أن يلبثوا في مصر بنيلها الذي يعطيَ الحياة فيعتبره المصريُّون إلهًا لهم ويقولون: لولاه لماتوا جوعًا وعطشوا.

ومرَّ إبراهيم في بادية سورية عبر البقاع اللبنانيّ فوصل إلى فلسطين الحاليَّة التي كانت جزءًا من كنعان، وهي بلاد تمتدُّ على ساحل البحر المتوسِّط من مصر إلى تركيّا، فيها المدن مثل صور وصيدا وجبيل وجزيرة أرواد وصولاً إلى أوغاريت أي راس شمرا، شمالي اللاذقيَّة الحاليَّة. أمّا إبراهيم فهو راعي غنم لا يقيم في المدن ولا يرتبط بمعابدها. فإلهه إله شخصيٌّ لا يقيم في مكان ثابت، بل يجول معه حيث يجول وينزل معه حيث ينزل، كما كان الأمر مع الشعب العبرانيِّ في برِّيَّة سيناء. ترتفع الغمامة فتُرفع الخيام وينطلق الشعب. تتوقَّف الغمامة فيتوقَّفون وينصبون خيامهم حتّى يأذن بالربُّ بالرحيل.

وصل إبراهيم إلى بلّوطة ممرا، في شكيم (تك 12: 6) حيث يقيم الكنعانيّون. تراءى له الربُّ هناك، فبنى له مذبحًا وقدَّم تقدماته. تلك علاقة حسيَّة بين الربِّ وعابده. وفي بيت إيل (آ8) التقى إبراهيم بالله، وبنى مذبحًا ودعا الموضع باسم الربّ: »بيت الله«. ضاع اسم المدينة القديمة الذي ارتبط باللوز. يقول الكتاب: »كان اسمها لوز« (تك 28: 19).

أمّا الشعار الذي رافق كلَّ هذه المسيرة فهو: »آمن إبراهيم بالله فحسب له إيمانه برٌّا« (تك 15: 6). آمن بالله. جعل يده بيد الربّ. مشى معه وما سأله إلى أين يقوده، فقاده الربُّ وجعله خاصته. وإبراهيم البارُّ صار ذاك الذي يتبع وصايا الله ويعلِّمها لأبنائه. جعل الكتاب كلامًا على فم الربّ: »أنا اخترته (= إبراهيم) ليوصي بنيه وأهل بيته من بعده أن يسلكوا طرقي ويعملوا بالعدل والإنصاف، حتّى أفي وعدي له« (تك 18: 19).

ذاك هو الوعد الذي ناله. أولئك تكاثروا وأقاموا في مناطق مختلفة في فلسطين. ما الذي جمعهم؟ الإيمان بالإله الواحد. وما كانت العلامة؟ الختان ذلك الجرح الخارجيُّ الذي يدلُّ على جرح داخليٍّ يجعل المؤمن يستعدُّ أن يشهد للربّ ولو وصلت به الشهادة إلى الاستشهاد والموت في سبيل الإله. ذاك ما يخبرنا به سفر المكابيّين الثاني، حول أم دعاها التقليد »شمونه« لأنَّها كانت الثامنة التي ماتت فكلَّلت جهاد أبنائها السبعة أمام الملك أنطيوخس، الذي أراد أن يجعل صنم الإله الوثنيّ في الهيكل بجانب الربِّ الإله! فإذا كانت الأصنام تدلُّ على الشياطين، كما قال الرسول (1 كو 10: 20)، يكون الله حاضرًا قرب الشيطان: فهذا لا يمكن أن يكون. فالمؤمنون بالإله الواحد يتميَّزون عن المؤمنين بآلهة يصوِّرونها في الحجر والخشب ويطلون أصنامها بالفضَّة والذهب.

2. أرسل الله ابنه

وسار الزمانُ مسيرتَه فوصل إلى تمامه. من أوصله؟ الإنسان؟ كلاّ. فالإنسان هو هو، يعيش بين الخير والشرّ، بين السعادة والشقاء، بين الحياة والموت. هو في صراع. ومَن يُنهي هذا الصراع؟ الله. كان إبراهيم محطَّة في مشروع الله. ولكنَّها لم تكن المحطَّة الأخيرة. فالمحطَّة الأخيرة والحاسمة هي »لمّا أرسل الله ابنه«. فبعده ما من رسل إلاَّ ويرتبطون به. على ما قال الربُّ لتلاميذه: »كما أرسلني الآب، هكذا أنا أرسلكم« (يو 20: 21).

أرسل الله ابنه. قبله أتى الآباء، كلُّ المؤمنين الذين تحدَّث عنهم صاحب الرسالة إلى العبرانيّين، منذ هابيل وذبيحته، إلى أخنوخ الذي رُفع إلى الله، وإلى نوح الذي بنى فلكًا لخلاص أهل بيته... وإبراهيم وسارة وموسى... ثمَّ جدعون ويفتاح وداود وصموئيل وصولاً إلى الأنبياء. ومع ذلك، لم يتمَّ الزمان. فتقول الرسالة إلى العبرانيّين في بدايتها: »بعد أن كلَّم الله آباءنا من قديم الزمان بلسان الأنبياء مرَّات كثيرة وبمختلف الوسائل، في هذه الأيّام الأخيرة كلَّمنا بابنه الذي جعله وارثًا لكلِّ شيء وبه خلق العالم« (1: 1).

أجل، أتت »الأيّام الأخيرة« مع الابن. فالله الآب قام بأكثر من محاولة في تاريخ البشريَّة، ولكنَّه لم يجد أيَّ تجاوب. طلب ثمرًا منّا فلم يجد. ذاك ما قاله المثل الذي أورده الإنجيل: »أرسل خدمه ليأخذوا ثمره« (مت 21: 34)، أي ثمر الكرم. ماذا نالوا؟ الضرب والقتل والرجم. هكذا عامل الناس الأنبياء. وفي أيِّ حال، لم يكن حظُّ الابن أفضل من حظِّهم: »قالوا فيما بينهم: هذا هو الوارث! تعالوا نقتله ونأخذ ميراثه! فأمسكوه ورموه في خارج الكرم وقتلوه« (آ38-39).

ولكن مع الابن تبدَّل الوضع. فالموت كان محطَّة إلى القيامة. بموت الابن مات الموت وتحطَّمت أغلال الخطيئة التي تستعبد البشر. مع الابن، أراد الربُّ أن يضع النقطة الفاصلة: هو المخلِّص وما بعده مخلِّص. هو الكلمة وما بعده كلمة. وكلُّ من يتكلَّم بعده يستقي من كلامه أو هو نبيٌّ كاذب انتحل صفة ليست له. وهو الكلمة الذي لم يلبث بعيدًا في علياء سمائه. بل نزل من السماء وتجسَّد من مريم العذراء وصار إنسانًا. صار شبيهًا بنا في كلِّ شيء ما عدا الخطيئة. ذاك الذي هو الكلمة، الذي هو لدى الله، الذي هو مساوٍ للآب في الألوهة، صار بشرًا، صار إنسانًا من لحم ودم. أخذ الضعف البشريّ، وعرف الألم والموت، كما امتُحن كما يُمتحن كلُّ إنسان وما أراد أن يتميَّز عنّا بشيء سوى بشيء واحد: لم يعرف الخطيئة. فإرادته البشريَّة لبثت ملتصقة بإرادته الإلهيَّة، فما عمل سوى مشيئة الآب، بل كان طعامه »العمل بمشيئة الآب« (يو 4: 34).

3. مولودًا من امرأة

ذاك هو تاريخ البشريَّة منذ بداياتها: ما من إنسان إلاَّ ووُلد من امرأة، لأنَّ حوَّاء التي ترمز إلى كلِّ امرأة، هي أمُّ الأحياء (تك 3: 20)، كما قال عنها الكتاب. حتّى في الأخبار القديمة، في الأساطير، وجود المرأة ضروريٌّ ولا بدَّ منه لكي يكون هناك إنسان. ففي التقليد الفينيقيِّ يُروى عن أوروبّا التي اتَّخذها رئيسُ الآلهة، جوبيتر أو زوش. فهذه الفكرة المرتكزة على خبرة البشر جاءت في صورة من الصور لكي تجعل الأمور قريبة من أذهان البشر.

وابن الله، الكلمة، يسوع المسيح، وُلد من امرأة. لم يَقُل بولس اسمها لأنَّها ربَّما كانت بعدُ حيَّة، حين دوِّنَت الرسالة إلى غلاطية. ثمَّ جاء كلامه ردٌّا على العالم الغنوصيِّ الذي اعتبر أنَّ الاتِّحاد بالمادَّة أمرٌ دنيء. فكيف يستطيع الله أن يأخذ جسدًا، أن يصبح إنسانًا؟ في هذا المجال نفهم دفاع الرسالة إلى العبرانيِّين في وجه الذين اعتبروا الابن أدنى من الملائكة. ولماذا؟ لأنَّه صار إنسانًا: »كان أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسمًا أعظم من أسمائهم« (1: 4). والبرهان الأوَّل أُخذ من المزامير، »لمَن من الملائكة قال الله يومًا: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك؟« (آ5؛ مز 2: 7). وأخذ برهانًا آخر من سفر التثنية (32: 43): »وعندما أرسل ابنه البكر إلى العالم، قال أيضًا: »لتسجد له كلُّ ملائكة الله« (آ6). وقرأت الرسالة إلى العبرانيّين، تلك الرسالة البولسيَّة، المزمور 104: »وفي الملائكة قال الله: جعل من ملائكته رياحًا ومن خدمه لهيب نار« (آ7). تذكَّر الكاتب الملهم إشعيا النبيَّ والسرافيم تلك الكائنات الناريَّة التي تحيط بالعرش الإلهيّ. فالملائكة هي مثل الرياح التي تعدُّ الطريق لمجيء الربِّ كما حدث في الرؤية التي حصلت لإيليّا النبيِّ على جبل حوريب (1 مل 19: 11). وواصلت الرسالة: »أمّا في الابن فقال (الكتاب): »عرشك يا الله ثابت إلى أبد الدهور، وصولجان العدل صولجان ملكك« (آ8).

وما خافت هذه الرسالة البولسيَّة من التشديد على ضعف الابن. فحين تكلَّمت عن المسيح الابن الذي هو كاهن إلى الأبد، أضافت: »وهو الذي في أيّام بشريَّته رفع الصلوات والتضرُّعات بصراخ شديد ودموع إلى الله القادر أن يخلِّصه من الموت، فاستجاب لتقواه. وتعلَّم الطاعة، وهو الابن، بما عاناه من الألم. ولمّا بلغ الكمال صار مصدر خلاص أبديٍّ لجميع الذين يطيعونه« (5: 7-9).

»بشريّته«. حين صار بشرًا، إنسانًا. فصار يطلب مثل كلِّ إنسان، ويصلِّي ويتضرَّع، لأنَّه لبس الضعف. ثمَّ هو »الصراخ والدموع«. نتخيَّل ابن الله يبكي، يصرخ لأنَّه يتألَّم. ولكن، هل الإله يتألَّم؟ هو يتألَّم إذا »لاشى ذاته واتَّخذ صورة العبد وصار شبيهًا بالبشر« (فل 2: 7). وماذا يطلب الابن الإلهيّ من أبيه؟ »أن يخلِّصه من الموت«. هل الإله يموت؟ نعم، فالابن 'أطاع حتّى الموت والموت على الصليب« (آ8). ما خلَّصه الله من الموت، فمات كما يموت كلُّ إنسان، ووُضع في »قبر جديد ما دُفن فيه أحد« (يو 19: 41). غير أنَّ النصَّ يقول: »استجاب له«. وكيف استجاب؟ لا كما طلب اليهود وتحدَّوا. فهو »لم ينزل عن الصليب فنؤمن به« (مت 27: 42). بل قام في اليوم الثالث (1 كو 15: 4)، كما قال التقليد الرسوليُّ »كما جاء في الكتب«.

مرَّ يسوع في الألم، مرَّ في الموت، أقام في القبر فكان »طائعًا« للآب السماويّ. بهذه الطريقة وبهذه الطريقة وحدها »بلغ الكمال«. تلك هي طريق كلِّ إنسان، فما أراد الابن أن يستثني نفسه منها. ولو أنَّه لم يتألَّم ويمت، لما »صار مصدر خلاص«. في هذا المعنى نفهم كلام يسوع لتلميذي عمّاوس: »كان يجب على المسيح أن يعاني هذه الآلام فيدخل في مجده« (لو 24: 26).

ابن الله صار إنسانًا وعاش كلَّ ما يعيشه الإنسان على هذه الأرض. ولكن كيف حصل له أن يكون مثلنا؟ احتاج إلى أمٍّ هي مريم العذراء. أخذ لحمًا من لحمها ودمًا من دمها. قلبه من قلبها ويداه من يديها. وبما أنَّه لم يكن له أبٌ بشريٌّ، أخذ كلَّ سماته من أمِّه. فإذا أردنا أن نعرف وجه يسوع، يكفي أن ننظر إلى وجه أمِّه. ذاك كان وضع المؤمنين بعد صعود الربِّ إلى السماء. لهذا تصوِّرها الإيقونة في وسط الرسل، كما كان يسوع في وسطهم. هم يصلُّون معها كما كانوا يصلُّون مع ابنها. هل صارت إلهًا كما قال بعض الهراطقة لكي يهاجموا تعليم الكنيسة؟ لا حاجة إلى مثل هذه النظريّات بعد أن اعترفت هي يوم بشَّرها الملاك: »ها أنا أمة الربّ، ها أنا خادمة الربّ« (لو 1: 38). هي خادمة مثل ابنها الذي جاء ليخدمنا، وما جاء يطلب منّا أن نخدمه. جاء يبذل حياتَه عنّا ولا يطلب منّا أن نبذل حياتنا عنه. ومثله مريم أمُّه التي قبلت صليب الألم منذ بداية رسالتها، على ما قال لها سمعان الشيخ: »وأمّا أنت، فسيف الأحزان ينفذ في قلبك« (لو 2: 35).

أنشدت مريم: »تعظِّم نفسي الربّ« (لو 1: 46). أعلنت أنَّ الربَّ عظيم، كبير. أمّا هي ففتاة وضيعة، متواضعة. لا أحد يعرفها. ولا أحد يعرف اسم قريتها، الناصرة التي »لا يخرج منها شيء صالح« (يو 1: 46). ولكن يكفي أن يكون خرج منها إنسان اسمه مريم. أن يكون خرج منها هذه المرأة »المباركة بين النساء« (لو 1: 42). جميع البشر يباركونها وينشدون فضائلها. ولماذا؟ يكفي أنَّها صارت أمَّ الله. امتدحتها إليصابات فقالت لها: »من أين لي أن تأتي إليَّ أمُّ ربِّي؟! (آ43).

أجل لولا مريم العذراء، لما كان ابن الله أتى إلى أرضنا. أرسل ملاكه يسألها. فأجابت جواب الطاعة. الربُّ قال وهي ستفعل كما قال لها الربّ. فهي الجميلة الجميلة التي ملأها الله من نعمه وجمالاته. طلب منها أن تكون بتولاً، لأنَّها ستكون أمَّ المسيح على ما قال النبيّ: »ها إنَّ العذراء تحبل وتلد ابنًا«. وهكذا حبلت مريم بفعل الروح القدس، الذي كوَّن جسد الابن في حشاها. كانت حُبلى حين أخذها يوسف إلى بيته بعد أن كان »خطبها«، أي كتب كتابه. وهو لم يعرفها. ذاك هو إيمان الكنيسة سنة 85 حين دوَّن متّى إنجيله. ولَدَت ابنها في التبوليَّة، أعطته هي اسمه. فهو مولود من الآب من دون أمٍّ، ومولود من مريم العذراء من دون أب. يا لعظمة هذه المرأة!

أنشدتها امرأة في الجمع وهي تمدح ابنها: »طوبى للبطن الذي حملك وللثديين اللذين أرضعاك!« (لو 11: 27). فيسوع أقام في حشاها كما كلِّ طفل في حشا أمِّه. ويسوع رضع من حليبها كما يرضع كلُّ طفل من ثدي أمِّه. قـال مار أفرام في هذا المجال: كان ملقى في حضن أمِّه يرضع حليب مريم، ومن خيره ترضع البرايا كلُّها، هو الثدي الحيّ... بينما كان يرضع حليب مريم كان يُرضع الحياة للجميع... كان حالاً في حضن أمِّه، والبرايا كلُّها في حضنه. كان صامتًا كما يصمت الطفل، وفي صمته كان يعطي الأوامر للبشريَّة كلِّها.

ومع كلِّ هذه الصور المحسوسة، جاء من يُنكر أن يكون المسيح تجسَّد. هو تظاهر فقط. فالإله لا يمكن أن يلتصق بالمادَّة التي هي شرِّيرة فتحدره إليها. لهذا هتف يوحنّا: »هذا الذي جاء هو يسوع المسيح، جاء بماء ودم« (1 يو 5: 6). وحين طُعن جنبه وهو معلَّق على الصليب، خرج من جنبه دم وماء (يو 19: 34). فهل يجري الماء من الروح، وهل يجري الدم من »الخيال«؟ وهل الذين شاهدوه على الصليب هم أغبياء إلى هذه الدرجة، بحيث ضَلُّوا وتاهوا فظنُّوا أنَّه إنسان فإذا هو ليس بإنسان، بل روح وخيال، كما شعروا به حين أتاهم ماشيًا على البحر؟ »ارتعبوا وقالوا: هذا شبح. وصرخوا من شدَّة الخوف« (مت 14: 26). وما هذا الشبح الذي يحدِّثه بطرس طالبًا أن يأتي إليه فيجيبه: »تعال« (آ29)؟ وحين يغرق بطرس، تمتدُّ يدٌ وتمسكه (آ31). بما أنَّ بعضًا يعتبرون أنَّ يسوع لم يتجسَّد حذَّرهم يوحنّا: »كلُّ روح يعترف بيسوع المسيح أنَّه جاء في الجسد، يكون من الله. وكلُّ روح لا يعترف بيسوع لا يكون من الله« (1 يو 4: 2-3). هو »أُنتي« يسوع، مناوئ ليسوع أو المسيح الدجّال. هو ضالّ ومضلِّل »لأنَّه لا يعترف بمجيء يسوع في جسم بشريّ« (2 يو 7).

حين ينكرون أنَّ المسيح لم يأخذ جسدًا، يعتبرون مريم العذراء غير موجودة، مع أنَّها هي في أساس حياته البشريَّة: »ولدته، لفَّته بأقمطة، أضجعته في مذود« (لو 2: 7). ويقول أفرام: »بأنغام جميلة اضطرمت مريم وناغته: من أعطى المعوزة، المحتاجة، أن تحبل (بابن) وتلد واحدًا (في الوقت عينه) كثيرًا (لأنَّه بكر إخوة كثيرين)؟ هو صغير وكثير، كلُّه لديَّ وكلُّه لدى كلِّ الناس وكلِّ الخلائق«. ويتواصل كلام مريم: »كيف أفتح ينبوع الحليب لك أيُّها الينبوع؟ وكيف أعطيك القوت يا من تقوت الجميع من مائدتك؟ وكيف أقترب من القمط (أو من قمطك) يا متوشِّحًا بالأضواء معطفًا؟«

وراح آخرون يعتبرون أنَّ مريم لم تعطِ ابنها شيئًا. هو مرَّ فيها كما المياه تمرُّ في الأنبوب، فلا تأخذ منه ولا يأخذ منها. كم كان السخفاء عديدين في زمن يسوع يقولون له: »ها أمُّه وإخوتك في الخارج يطلبونك!« (مر 3: 31). أين هي أمُّه؟ وما علاقتها بهذا الذي أتى فما رآه أحد ولا لمسه ولا سمعه؟ هكذا يقولون. أمّا يوحنّا فهتف في بداية رسالته: »الذي كان من البدء، الذي سمعناه ورأيناه بعيوننا، الذي تأمَّلناه ولمسته أيدينا من كلمة الحياة... (1 يو 1: 1)، اسمه يسوع المسيح ونحن »نبشِّركم به« (آ3).

من كان أوَّل من كتب لنا عن هذه الأمِّ؟ بولس الرسول. قال: »ولمّا تمَّ ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة« (غل 4: 4). أجل، تمَّ كلُّ شيء، وما من حاجة أن ننتظر شيئًا آخر. يا للعظمة! حين صار ابن الله إنسانًا، وصل التاريخ البشريُّ إلى نهايته. ومن أوصله؟ مريم أمُّ يسوع حين قالت: »ها أنا أمة الربِّ فليكن لي بحسب قولك« (لو 1: 38).

كان التقليد اليهوديُّ يشدِّد على دور الرجل. فهو صُنع من الله. أمّا المرأة فأُخذت منه (تك 2: 22). هذا رمز، قال الرسول، ليدلَّ على اتِّحاد الرجل بالمرأة منذ الابتداء: فكما خلق الله الرجل، كذلك خلق المرأة. إذا كان أخذ ترابًا من الأرض لكي يخلق الرجل، كذلك أخذ ترابًا من الأرض ليخلق امرأة، ولكلٍّ من الاثنين يقول: »اذكر يا إنسان أنَّك من التراب وإلى التراب تعود«. وإذا كان الربُّ خلق الرجل على صورته ومثاله ونفخ فيه نسمة الحياة، كذلك خلق المرأة على صورته ومثاله ونفخ فيها نسمة الحياة. فالرجل ليس وحده على صورة الله، ولا المرأة وحدها. الاثنان معًا قال الربُّ فيهما: »نصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا« (تك 1: 26)، وفعل: »فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلق البشر (أو خلقهما: آدم وحوّاء)، ذكرًا وأنثى خلقهم وباركهم« (آ27). في هذا المجال قال بولس الرسول: لا يكون الرجل بدون المرأة، ولا تكون المرأة بدون الرجل (1 كو 11: 11). وإن قالوا: »المرأة كانت (في التقليد) من الرجل«، يجيب الرسول: »فالرجل تلده المرأة« (آ12). ذاك هو الواقع. وفي النهاية: »الكلُّ من الله«، الرجل كما المرأة. وهكذا عادت إلى المرأة كرامتها، بعد أن ذُلَّت في الإطار اليهوديِّ الذي قال: »ما خلق الله الرجل من أجل المرأة، بل خلق المرأة من أجل الرجل« (آ9).

مسافة طويلة سارها الرسول ليصل إلى التي ولَدَت يسوع المسيح في ملء الزمن، أعطته جسمًا بشريٌّا يرتفع على الصليب من أجل خلاص البشر.

الخاتمة

تلك كانت مسيرتنا في كنيسة غلاطية، كما في كنائسنا اليوم. سرنا مع المؤمنين في إطار نسل إبراهيم. قال لنا الرسول: »أنتم نسل إبراهيم ولكم الميراث حسب الوعد« (غل 3: 29). ولكنَّ نسل الإيمان الذي ارتبط بإبراهيم هو أوسع من إبراهيم. إنَّه يصل إلى المسيح الذي به يخلِّص البشر جميعًا، سواء كانوا من اليهود أو الوثنيّين. فالمسيح ابن الله أخذ جسدًا من مريم العذراء، في ملء الزمان، فأراد أن يكون الله معنا، عمانوئيل، وها نحن نشكر مريم حين قالت نعم. رفعها الله ورفع معها نساء العالم كلِّه. فالمرأة هي أمُّ الأحياء، وفيها تمرُّ البشريَّة لكي يصبح كلُّ واحد ابنًا لله وابنة لله. فإذا كان البشر يرتبطون بحوّاء على مستوى الجسد، فهم يرتبطون بمريم على مستوى الروح لهذا استطاعت مريم أن تنشد: الله صنع بي عظائم واسمه قدُّوس.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM