الفصل الثامن عشر: تصمت النساء في الكنائس

الفصل الثامن عشر

تصمت النساء في الكنائس

ما هذه الهرطقة وما معنى هذا الكلام في رسالة وصلت إلى كورنتوس من قِبَل رسولها بولس؟ أن تصمت المرأة في الكنيسة! وإذا صمتت هي، من يرتِّل، من ينشد اليوم في كنائسنا؟ ويهتف المجتمع النسائيّ: وبعد ذلك، لماذا يقولون لنا إنَّ بولس يحترم المرأة؟ بل هو يحطُّ من كرامتها. ونقول نحن: ما هذا التضارب في فكر بولس وهو الذي قال: لا رجل ولا امرأة. الاثنان هما واحد تجاه الربّ. نحن هنا أمام مسألة صعبة جدٌّا بحيث يجب أن نتساءل: لماذا هذا التراجع في الفكر البولسيّ المتحرِّر الذي قلبَ جميع الموازين، فجعل العبد إزاء السيِّد؟ العبد الذي كان يُشرى ويباع مثل كلِّ سلعة، صار على مستوى السيِّد الذي يملك عشرات العبيد بل المئات. قال لفيلمون السيِّد الغنيّ الذي تلتئم الجماعة في بيته: أونسيمس هو العبد الذي هرب من عندك ويستحقُّ كلَّ عقاب بحسب الشرع الرومانيّ، ولكنّه يكون لك بعد اليوم »أخًا حبيباً في المسيح، وهو أخٌ حبيب لي« (فلم 16). ما جاء أحدُ يحوِّر بعض الشيء تعليم بولس في ما يخصُّ العبيد والأسياد، ولكن جاء من يحوَّر تعليمه في ما يتعلَّق بالمرأة ويعيد قراءة الرسالة الأولى إلى كورنتوس قبل أن تُجمع الرسائل في مجموعة عرفتها رسالة بطرس الثانية، حيث قيل: »كما كتب إليكم أخونا الحبيب بولس... في جميع رسائله...« (2 بط 3: 15-16). ونبدأ بقراءة هذا المقطع الذي لا نجد مثله في أيِّ مقطع من مقاطع العهد الجديد (1 كو 14: 33ب- 35):

33    كما في جميع كنائس القدّيسين،

34    لتصمت نساؤكم في الكنائس، لأنَّه ليس مأذونًا لهنَّ أن يتكلَّمن، بل يخضعن كما يقول الناموس أيضًا.

35    ولكن إن رغبن أن يتعلَّمن شيئًا، فليسألن رجالهنَّ في البيت. لأنَّه عيب (قبيح) على المرأة أن تتكلَّم في الكنيسة.

1-  موقع المقطع في الرسالة

منذ البداية نحسُّ أنَّ هذا المقطع القصير جاء من خارج الكتابات البولسيَّة وجُعل هنا، بسبب ما برز من تجاوزات في الكنائس. ومن أين جاء هذا المقطع؟ من كنائس القدّيسين، التي كانت في أورشليم وفي اليهوديَّة، التي ورثناها في الشرق المسيحيّ وما زلنا متمسِّكين بها كأنَّ هذا هو الإيمان كلُّه. مثل هذا الكلام لا يوافق ما نعرف عن المجتمع اليونانيّ حيث للمرأة دور كبير.

ويمكننا هنا أن نقرأ نصَّ الرسالة بعد أن نجعل هذه الآيات الثلاث »خارجًا.«

33    فما الله إله فوضى، بل إله سلام

36    هل صدرت عنكم كلمة الله، أم انتهت إليكم وحدكم ؟

37    إن حسب أحد نفسه نبيٌّا أو صاحب موهبة روحيَّة أخرى، فليعلم أنَّ ما أكتبه إليكم هو وصيَّة من الربّ.

39    فارغبوا إذًا، يا إخوتي، في موهبة النبوءة ولا تمنعوا أحدًا أن يتكلَّم بألسنة.

40    وليكن كلُّ شيء بلياقة ونظام.

ماذا نقرأ هنا؟ »لا تمنعوا أحدًا.« ما ميَّز الرسول هنا. هذا يعني أنَّ للجميع موهبة النبوءة، وللجميع موهبة التكلُّم بألسنة. من الرجال والنساء، من الشيوخ والشبّان، من العبيد والأسياد (أع 2: 17-18). والنبوءة تعني الكلام باسم الله في وضع من الأوضاع تعرفه الكنيسة. والتكلُّمُ بألسن عادةٌ أخذت بها كنيسة كورنتوس، ولا ندري إذا كانت كنيسة أخرى أخذت بها. والجميع يشاركون في احتفالات الكنيسة.

26    عندما تجتمعون ولكلِّ واحد منكم ترنيمة أو تعليم أو وحي أو رسالة بلسان أو ترجمة، فليكن كلُّ شيء للبنيان.

27    وإذا تكلَّمتم بألسن، فليتكلَّم منكم اثنان أو ثلاثة على الأكثر، واحدٌ بعد الآخر، وليكن فيكم من يترجم.

ما هو فكر بولس؟ التشديد على النظام في الكنيسة بعد أن عمَّت الفوضى. إن تكلَّم أحدٌ »يصمت« الآخر (آ28). فالله ليس إله فوضى. ويواصل الرسول: إن دخل إنسان إلى اجتماعكم ورآكم تفعلون ما تفعلون، قال عنكم إنَّكم »مجانين« (آ23).

في مثل هذا الإطار جاء الكلام عن صمت النساء في الكنيسة، لا فرضًا على المرأة أن تصمت، بل طلبًا للنظام والترتيب، ممّا يعني أنَّ النساء اللواتي يؤخذن بالعاطفة تجاوزن الحدَّ، فجاء من يعود بالنصِّ الكتابيّ إلى إطار العالم اليهوديّ لكي يحافظ على الهدوء في الكنيسة. ولكن ما هذا الموقف الذي اتخذه؟

2-  البراهين المعطاة

نبدأ فنقول إنَّ الجميع يتكلَّمون، ولا يُمنَع أحدٌ من ذلك. »كلُّهم يتنبَّأون« (آ24). كلُّ واحد يكون له »ترنيمة، تعليم، لسان« (آ26). ولكن لا يتكلَّم الكثيرون، بل اثنان أو ثلاثة. والخلاصة: »بإمكانكم كلِّكم أن تتنبَّأوا، واحدًا بعد الآخر، ليتعلَّم جميع الحاضرين ويتشجَّعوا« (آ31).

ولكن جاءت العبارة القاسية: »تصمت النساء«. فما هي البراهين؟

البرهان الأوَّل: الاقتداء »بكنائس القدّيسين.« هي كنائس أورشليم والمناطق المحيطة بها. أي، الكنيسة الأولى والخارجة من العالم اليهوديّ. هي تبقى المثال ومن أجلها اهتمَّ بولس بأن يجمع الإعانات. هم شاركوا الكنائس الآتية من الأمم بالخيرات الروحيَّة، فعلى الأمم أن يشاركوهم في الخيرات المادِّيَّة. ولكنَّ بولس ترك أورشليم باكرًا، فصارت أنطاكية مركز انطلاق الرسالة وسط الأمم الوثنيَّة. من أنطاكية ينطلق الفريق الرسوليّ، وإلى أنطاكية يعود. أمّا أورشليم فصارت بعيدة. وكما كانت نهاية يسوع في أورشليم، كذلك بدأت نهاية بولس في أورشليم ولكنَّها انتهت في رومة.

والبرهان الثاني: كما يقول الناموس اليهوديّ، كما تقول الشريعة. وتساءل الشرّاح: أين تقول الشريعة إنَّ على النساء أن يصمتن؟ وجاء التفسير مرتبطًا بالخضوع كما في سفر التكوين: »إلى زوجك يكون اشتياقك وهو عليك يسود« (تك 3: 16). أمّا الشريعة هنا فهي العادات اليهوديَّة التي انتقلت إلى المسيحيَّة. أتُرى بولس الرسول عاد إلى الشريعة ليقدِّم برهانه وهو الذي طلب التحرُّر من الشريعة؟ قال: »فحين كنّا نحيا في اللحم (والدم، العنصر البشريّ)، كانت الأهواء الشرّيرة التي أثارتها الشريعة تعمل في أعضائنا لتثمر للموت. ولكنَّنا الآن تحرَّرنا من الشريعة« (رو 7: 5-6). ويطرح بولس السؤال: »فماذا نقول؟ أتكون الشريعة خطيئة؟ ولكنّي ما عرفتُ الخطيئة إلاّ بالشريعة« (آ7).

برهان أوَّل استند إلى أورشليم التي خرج منها بولس بعد أن قال له الربّ: »أسرعْ في الخروج من أورشليم، لأنَّ الشعب هنا لا يقبلون شهادتك لي« (أع 22: 18). برهان ثانٍ استند إلى الشريعة اليهوديَّة التي قيَّدت الرسول، فتخلَّص منها ليستطيع القول: حياتي هي المسيح. أمّا البرهان الثالث فهو مستند إلى السلطة التي تلقَّاها الرسول من الربّ: »ما أكتبه إليكم هو وصيَّة الربّ.« ومنطق الوصيَّة تهديد نقرأه في أكثر من صورة: من يجهل ليبقَ جاهلاً. أو: من يجهل يجهله الربّ. أو: من تجاهل، فأنتم تجاهَلوه.

لا. لا تصمتِ النساء في الكنيسة. والتدبير الذي وُضع هنا إنَّما كان لوقت محدود، يوم غاب الرسول فلم تعد الجماعة تعرف الهدوء. بدأت على مستوى الجميع: حين تدبُّ الفوضى، »ليصمت من يتكلَّم«. والمرأة لا تتكلَّم، بل تصمتُ لا في وقت محدَّد بل في كل وقت كما هو الأمر في العالم اليهوديّ، حتّى اليوم، حيثُ لا تكون النساء مع الرجال في المجمع، بل في موضع خاصٍّ بهنَّ، ولا يحقّ للمرأة أن تتلو قراءة من الكتب المقدّسة. هي تسمع فقط. وهكذا نفهم كلام الرسالة الذي لا يمكن أن يكون من بولس: »إذا أردْنَ أن يتعلّمن شيئًا، فليسألن أزواجهنّ في البيت« (1كو 14: 34). هكذا يكون في المجمع، وهذا يكون في الكنائس؟ أمرٌ غريب! هل عاد رسول لأمم بالمؤمنين إلى المجمع؟ أمرٌ غير معقول.

أجل، »لا يُمنع« أحدٌ من الكلام. وإن تكلَّم أحدٌ بألسنة، يجب أن يكون له من يترجم. وإذا »لا يوجَد مترجم، فليصمت المتكلِّم بألسنة في الكنيسة ويحدِّث نفسه والله« (آ28). ويقول الرسول أيضًا إنَّه يتكلَّم بألسنة »أكثر ممّا تتكلَّمون كلُّكم« (آ18). ولكنَّه قال حالاً: »أفضِّل أن أقول خمس كلمات مفهومة أعلِّم بها الآخرين على أن أقول بألسن عشرة آلاف كلمة« (آ19).

خاتمة

أطلق بولس المبدأ الأساسيّ حول المساواة بين الرجل والمرأة، كما بين العبد والسيِّد، وبين اليهوديّ واليونانيّ. كلُّنا واحد في المسيح. قيل: لا يُؤذَن للمرأة بأن تتكلَّم. أهي طفلٌ في المدرسة نأذنُ لها أو لا نأذن؟ إذا كانت لديها موهبة، تجعل هذه الموهبة في خدمة الكنيسة. وإذا يحقُّ للرجل أن يتكلَّم في الجماعة، فلماذا لا يحقُّ للمرأة أن تفعل مثله؟ هنا بولس تحدَّث عن »الجميع« عن »كلِّ واحد«، وما استثنى أحدًا.

ولكن لماذا هذا التراجع؟ تحاشيًا للشكوك والفوضى. اتَّخذت الرسالةُ هنا وجهًا رعائيٌّا، على مثال ما نعرف مثلاً في الرسالة إلى رومة: الأقوياء يأخذون الضعفاء بعين الاعتبار. قال الرسول: »اقبلوا بينكم ضعيف الإيمان« (رو 14: 1). وفي الرسالة الأولى إلى كورنتوس قال الرسول عن نفسه: »مع أنّي حرٌّ صرتُ عبدًا« (1 كو 9: 19) لأربح الجميع. تراجع عن حقوقه، لأنَّه لا يطلب منفعته بل منفعة المؤمنين.

تدبير موقَّت في جماعة خاصَّة مع مشاكل عرفتها كورنتوس. وما نقوله عن دور المرأة في هذه الكنيسة، نقوله أيضًا عن التكلُّم بألسن، عن أكل لحم الذبائح المقدَّمة للآلهة. الإطار التاريخيّ يجعلنا نضع كلَّ شيء مكانه بحيث نأخذ المبدأ ونفهم التطبيق ونعرف كيف نعيشه اليوم، مع العبارة التي أطلقها الرسول: »أريد أن تتكلَّموا كلُّكم« (آ5).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM