الفصل الثاني عشر: المسيح سلامنا

الفصل الثاني عشر

المسيح سلامنا، جعلَنا شعبًا واحدًا

حين أراد الرسول أن يكلِّم الناس في أفسس، بل في مدن عديدة مثل كولوسّي ولاودكيَّة، جعل أمامهم صورة المسيح. فالحروب متواصلة من كلِّ جهة، سواء من رومة أو من الفراتيّين الآتين من الشرق. أين هو السلام الذي وعد به الشعراء حين بدأ أوغسطس حكمه كإمبراطور رومانيّ؟ بل كان الرومان يقولون: »إذا شئت السلام فاستعدَّ للحرب«. وكان الشعار معروفًا: »فرِّق تسد«. إذا شئت أن تحكم البلاد الواسعة فازرعْ الخلافات بين المجموعات المختلفة. إذا شئت السيطرة، فضِّلْ مدينةً على مدينة وامنحها بعض الامتيازات على حساب مدينة أخرى. وهكذا حكم الرومان حوض البحر الأبيض المتوسِّط من سواحل أوروبّا إلى الشرق الأوسط إلى سواحل أفريقيا، قرونًا من الزمن. ولكن في النهاية سقطت الإمبراطوريَّة بعد أن انقسمت شرقًا وغربًا. فأين نجد السلام؟ لا سلام في هذا العالم، حيث المنافع الشخصيَّة والنظرات الفئويَّة هي السائدة. لا سلام في هذا العالم منذ أيّام قايين وهابيل. لهذا هتف لنا الرسول: »المسيح هو سلامنا. جعل اليهود والأمم شعبًا وحدًا، وهدم الحاجز الذي يفصل بينهما، أي العداوة« (أف 2: 14-15).

عداوة بين اليهود والأمم التي »اعتبرت« أنها لا تعبد الإله الواحد. عداوة بين اليونان والبربر. أي أولئك الذين لا يتكلَّمون اللغة اليونانيَّة. والبربر المذكورون هنا هم الإسكوتيّون، وهم أكثر الناس تخلُّفًا (كو 3: 11). ولا ننسى العداوة بين العبيد والأحرار. فالثورة التي قام بها سبارتكوس في القرن الأوَّل ق.م. تركت وراءها مئات الألوف من القتلى. وأخيرًا، نذكر الخلافات في الكنائس.

1. بين اليهود والأمم

قسم اليهود البشر فئتين: أهل الختان والآخرون، مع أنَّ الختان وُجد في الشرق كلِّه، لا في شعب من الشعوب أو في بلد من البلدان. غير أنَّ هذا »الطقس« كان في الأساس استعدادًا للزواج، على مثال ما حصل لإسماعيل الذي كان ابن الثالثة عشرة من عمره حين خُتن (تك 17: 25). ولكنَّ الشعب اليهوديّ حوَّل هذا المعنى الأوَّل للختان، فجعله تعبيرًا عن انتماء روحيّ إلى الله. لهذا يُختن الولد وهو ابن ثمانية أيّام (تك 21: 4). بهذا تميَّز اليهود خارجيٌّا عن اليونانيّين مثلاً، وما كانوا يشاركونهم في الطعام وفي أمور كثيرة. واعتبروهم »بلا إله في هذا العالم« (أف 2: 12). وبالتالي »هم بعيدون« جدٌّا عن الخلاص، ولا يمكن أن يكونوا قريبين إلاَّ إذا انتموا إلى الشعب اليهوديّ. وكان الخلاف كبيرًا حتّى في قلب الجماعات المسيحيَّة. فحادث أنطاكية واحدٌ من أحداث. المؤمنون يأكلون عشاء المحبَّة بانتظار عشاء الربّ. لا فرق. بطرس وبولس وبرنابا، ويهود وغير يهود. »جاء قوم من عند يعقوب« (غل 2: 12). خاف بطرس والذين معه، فتركوا المائدة فبانوا أنَّهم »لا يسيرون سيرة مستقيمة مع حقيقة الإنجيل« (آ14). هذا حصل في أنطاكية حيث جاء »جماعة من اليهوديَّة، فأخذوا يعلِّمون الإخوة: لا خلاص لكم إلاَّ إذا اختتنتم على شريعة موسى« (أع 15: 1). وماذا كانت النتيجة بالنسبة لليونانيّين الآتين جددًا إلى الكنيسة؟ »وقع بينهم وبين بولس خلاف وجدال شديد« (آ2).

نسَوا أنَّ المسيح هو سلامنا. لم يعد هناك يهوديّ ويونانيّ، عبد أو حرّ، رجل أو امرأة. »فأنتم كلُّكم واحد في المسيح يسوع. فإذا كنتم للمسيح، فأنتم إذًا نسل إبراهيم ولكم الميراث حسب الوعد« (غل 3: 28-29). ما يجمعنا هو الإيمان بالإله الواحد. كلُّنا أبناء الله وبنات الله. فلماذا الخلاف؟ ولماذا فئة تريد أن تسيطر على فئة؟ ربَّما طلبًا للمنافع. وخصوصًا هي الكبرياء التي نموذجها الأوَّل الفرّيسيّ: »شكرًا لك يا الله، فما أنا مثل سائر الناس الطامعين، الظالمين، الزناة. ولا مثل هذا العشّار« (لو 18: 11)، هذا الموظَّف الذي يجبي الضرائب فيسرق الضعفاء لكي يُرضي الحاكم الرومانيّ دون أن ينسى جيبه.

هذا التشاوف، هذه الكبرياء أساس الخلاف في الجماعات. نحن أفضل من الآخرين مع أنَّ الرسول قال لنا: »نحسب الآخرين أفضل منّا« (فل 2: 3). هذا يعني التواضع. ونبحث »لا عن منفعتنا، بل عن منفعة القريب« (آ4). هذا يعني التجرُّد. هكذا يكون فكرنا مثل فكر المسيح (آ5). هكذا يكون فينا من العواطف ما هو في المسيح يسوع.

البحث عن الوسائل البشريَّة يبقى معقولاً. لا بأس. ولكنَّ السلام الحقيقيّ لا يمكن أن ينبع إلاَّ من الله. ولا يمكن أن يكون إلاَّ إذا استند إلى الله، بحيث لا نعمل مشيئتنا بل مشيئة الآب الذي أرسلنا (يو 5: 30). ويسوع قال لنا: »سلامًا أترك لكم، سلامي أعطيكم، لا كما يعطيه العالم أعطيكم أنا. فلا تضطرب قلوبكم ولا تفزع« (يو 14: 27).

اختلف اليهود واليونان. وما كان السبب؟ الشريعة. وما كان الحاجز؟ الشريعة الموسويَّة التي اعتبرت اليهوديّ مميَّزًا عن غير اليهوديّ. هم وحدهم الأبرار والآخرون خطأة، ظالمون. وراح التقليد يعتبر أنَّ موسى سبق أفلاطون في علم الفلسفة والفكر. فماذا فعل الربّ؟ قال الرسول: بما أنَّ الشريعة هي حاجز، فيجب أن تُلغى ولا يبقى لنا شريعة سوى شريعة المسيح التي هي المحبَّة. أجل، »جاء المسيح وهدم الحاجز«. وكيف ذلك؟ »ألغى في جسده البشريّ شريعة موسى بأحكامها ووصاياها ليخلق في شخصه من هاتين الجماعتين، بعدما أحلَّ السلام بينهما، إنسانًا واحدًا جديدًا«.

الشريعة، الختان، الأطعمة الطاهرة واللاطاهرة، حتّى الوصايا، ما هذه كلُّها؟ قال الرسول: الوصايا كلُّها تتلخَّص في المحبَّة. »لا يكن عليكم لأحد دين إلاَّ محبَّة بعضكم بعضًا. فمن أحبَّ غيره أتمَّ العمل بالشريعة. فالوصايا التي تقول ''لا تزنِ، لا تقتل، لا تسرق، لا تشته'' وسواها من الوصايا، تتلخَّص في هذه الوصيَّة: ''أحبَّ قريبك مثلما تحبُّ نفسك''. فمن أحبَّ قريبه لا يسيء إلى أحد. فالمحبَّة تمام العمل بالشريعة« (رو 12: 18-20).

2. بين اليونان والبربر

كانت الشريعة حاجزًا فألغاها المسيح. فأصلح بين اليهوديّ وغير اليهوديّ. أصلح الفئتين مع الله »بصليبه، فقضى على العداوة وجعلهما جسدًا واحدًا« (أف 2: 16). إذا كنتُ على خلاف مع أخي، فهل أنا عائش المصالحة مع الله؟ إذا كانت فئة تحارب فئة أخرى، فأيُّ فئة تستطيع القول إنَّها تحارب باسم الله؟ نحن نعيش عالمًا من الكذب لا يمكن إلاَّ أن يهدم الفئتين معًا، على ما قال أحدهم: أو نحيا معًا أو نموت معًا. ولكن بما أنَّ الحروب لا تتركنا، فأمامنا الموت السريع أو البطيء، لا فرق.

لمن السلام، لنا أم لغيرنا؟ إذا ملكنا على الآخرين، هل يعني أنَّنا ننال السلام؟ كلاّ. فمن سلام ظالم لا يمكن إلاَّ أن يأتي العنف، وفي النهاية يصبح »المنتصر« ذاك الخائف دومًا. في هذا قال الرسول: »جاء المسيح فبشَّركم بالسلام أنتم الذين كنتم بعيدين. كما بشَّر بالسلام الذين كانوا قريبين، لأنَّ لنا به جميعًا سبيل الوصول إلى الآب في الروح الواحد« (أف 2: 17-18).

نلاحظ »جميعًا«. لا فئة من دون فئة. ولا فئة على حساب فئة. والسبيل واحد، هو الله. بالمسيح نصل إلى الآب بفعل الروح. الروح واحد، فكيف يكون البشر كثيرين؟ إن كانوا كذلك، فهم لا يصلون إلى الإله الواحد، بل يصل كلُّ واحد إلى منفعته، مصلحته. عنهم قال الرسول: »يسلكون سلوك أعداء صليب المسيح، هؤلاء عاقبتهم الهلاك، وإلههم بطنهم، ومجدُهم عارهم، وهمُّهم أمور الدنيا« (فل 3: 19).

لا بعيد ولا قريب، لا يونانيّ ولا بربريّ ولا إسكوتيّ. ومع ذلك، اعتبر اليونان أنَّهم غير سائر الشعوب.

كانوا يحتقرون اليهوديّ لأنَّه مختون، ولهذا حاول بعض اليهود أن يخفي ختانه لئلاّ يبدو إنسانًا منقوصًا (1 مك 1: 61). ثمَّ هم يأكلون من هذه الأطعمة ولا يأكلون من غيرها، فأُجبر بولس على تنبيه الجماعة: »فمن الناس من يرى أن يأكل من كلِّ شيء، ومنهم من هو ضعيف الإيمان فلا يأكل إلاَّ البقول. فعلى من يأكل من كلِّ شيء أن لا يحتقر من لا يأكل مثله، وعلى من لا يأكل من كلِّ شيء أن لا يدين من يأكل من كلِّ شيء« (رو 14: 2-3).

هذا مقبول عند الله. وذاك مقبول عند الله. اليونانيّ يحتقر اليهوديّ، واليهوديّ يدين اليونانيّ. أهنا يكون السلام بين الجماعات، على مستوى عادات لا ترتبط بالله، بل بأمور تعلَّق بها الإنسان منذ أقدم العصور وحسبَها وصايا سماويَّة؟ لهذا يقول الرسول أيضًا: »لا تُهلك بطعامك ذاك الذي مات المسيح من أجله« (1 كو 8: 11). والموقف: »إذا كان بعض الطعام سببًا لسقوط أخي، فلن آكل اللحم أبدًا لئلاّ أكون سببًا لسقوط أخي« (آ13).

اختلاف على العادات. اختلاف على اللغة. لماذا يسمّي اليونان الآخرين »برابرة«؟ لأنَّهم »يبربرون«. يقولون: بر-بر. هم يستخفُّون بهم لأنَّهم لا يتكلَّمون اليونانيَّة، أو هم يتعثَّرون بها. ما ليس بيونانيّ هو نموذج معاكس لليونانيّ ولاسيَّما ما حملته حروب الفرس إلى اليونان في القرن الخامس ق.م. وهكذا حين تحدَّث أرسطو الفيلسوف عن هؤلاء »البرارة« نعتهم بالفوضى والعبوديَّة والطغيان والفلتان وانعدام المنطق والوحشيَّة. وهكذا قُسم العالم قسمين: اليونان والبرابرة. فهل يمكن أن يلتقيا؟ في المسيح فقط. وفي شريعة المحبَّة.

ومع ذلك يمكن أن تكون علاقات مع »البرابرة« ولاسيَّما أهل الشرق. ولكن مع »الإسكوتيّين« Scythes. فالأمر صعب جدٌّا إن لم يكن مستحيلاً.

فالإسكوتيّون جماعة من البدو يعيشون في الفيافي البعيدة، إلى الشمال من البحر الأسود، ويُعتبرون أكثر الناس تخلُّفًا. فكيف التعامل معهم؟ وفي امتداد هذا الوضع، نتذكَّر تلك القبائل التي اجتاحت أوروبّا في القرن الخامس المسيحيّ ودُعوا »البرابرة«. ولكنَّهم في النهاية لم يكونوا »بعيدين« عن الحضارة، كما ظنَّ أهل أثينة ورومة. بل هم حملوا الحضارة وطوَّروها كما سمّوا البلدان بأسمائهم. وما نقوله عن »البرابرة« نقول عمّا دُعيَ »الجاهليَّة« أي الحقبة السابقة للإسلام. فهي التي حملت الحضارة التي استفاد منها الآتون من الجزيرة العربيَّة. وأوروبّا القرن 16-17، اعتبرت زمن الهندسة الروميَّة والغوطيَّة زمن التخلُّف. ولكنَّها عادت في القرن التاسع عشر إلى هذا الفكر الرائع الذي تسلَّم الحضارة العربيَّة عبر إسبانيا والأندلس وأوصلها إلى أوروبّا.

في الماضي، كانت الشريعة حاجزًا، وما زالت إلى الآن. واليوم، بين الشعوب، هي اللغة ومختلف العادات البشريَّة، وكأنَّ الناس يجهلون أنَّهم من أب واحد وأمٍّ واحدة. قيل: آدم المأخوذ من أدمة، أو من تراب الأرض. وحوّاء التي هي أمُّ الأحياء.

على مستوى اللغة. مجَّد اليونان لغتهم، وفي هذه اللغة وصل إلينا العهد الجديد، كما ترجم العهد القديم إلى اليونانيَّة، في الإسكندريَّة، وأضيف عليه عددٌ من الكتب. أمّا العبرانيّون فاعتبروا أنَّ العبريَّة لغة الله، وكأنَّ لله فمًا بشريٌّا به يتكلَّم. لهذا رفضوا الأسفار التي ضاعت في العبريَّة ووصلت فقط في اليونانيَّة. والسريان اعتبروا أنَّ لغة آدم وحوّاء في الفردوس كانت السريانيَّة. ولا نقول شيئًا عن شعوب أوروبّا حيث كلُّ واحد ينغلق على لغته وكأنَّها اللغة التي يجب أن تفرض نفسها في العالم. ولكن الحمد لله. فقد أخذ الناس يتعلَّمون أكثر من لغة وهم العارفون أنَّ »كلَّ لسان بإنسان«. أنت تعرف لغة واحدة. إذًا أنت إنسان واحد، محدود، لا تستطيع أن تخرج من زاويتك ولا يمكنك التعامل مع الآخرين. هم بعيدون بالنسبة إليك. وبالتالي »أعداء«، لأنَّ القدماء كانوا يقولون: من ليس قريبي هو عدوِّي. يجب أن أتحاشاه، وفي أيَّ حال أنا أستعدَّ لأحاربه، لأنَّه ربَّما يطردني من أرضي.

ولكنَّنا ننسى أنَّ اللغة اليونانيَّة لغة هندوأوروبيَّة. لا شكَّ في أنَّها تطوَّرت، ولكنَّها لا تستطيع أن تتنكَّر لجذورها. واللغة السريانيَّة هي بنت الآراميَّة التي كانت لغة الدواوين بشكل خاصّ في زمن الفرس. هي آراميَّة من الآراميّات التي عرفها الشرق، ومنها آراميَّة فلسطين التي تكلَّم بها الربُّ يسوع. والعربيَّة لغة ساميَّة بين اللغات: وكانت في الماضي جنوبيَّة وشماليَّة قبل أن تسيطر لغة قحطان على لغة عدنان.

وفي أيِّ حال، عندما بدأت المسيحيَّة، يوم العنصرة، وكان هناك الشعوب العديدة، فهمَ الجميعُ بعضهم على بعض. اللغة هي لغة »الجليل«. أي لغة الربّ يسوع، لغة المحبَّة. زالت الحواجز، فهتف الناس: »يسمعهم كلُّ واحد بلغة بلده« (أع 2: 8). فمن أراد أن يسمع باسم المحبَّة يستطيع أن يفهم الآخر ولو تباينت اللغة. فالأصمّ هو الذي لا يريد أن يسمع. هذا ما يقوله المثل. وأوضح مثال على ذلك ما حصل في برج بابل. كانوا كلُّهم »لغة واحدة وكلامًا واحدًا« (تك 11: 1). ماذا حصل لكي لا يعودوا يتفاهمون؟ أبعدوا الله من بينهم. بل أرادوا أن يتحدَّوه. قال الملك: أنا الله، بيدي الموت والحياة، بيدي الشقاء والسعادة. غاب الله فصار الإنسان »ذئبًا« لأخيه الإنسان، مع أنَّ إشعيا قال لنا: »يسكن الذئب مع الحمل، ويبيت النمر بجانب الجدي، ويرعى العجل والشبل معًا، وصبيٌّ صغير يقودهما« (إش 11: 6). غاب الله. قال الغرب: مات الله. وقال إيليّا النبيّ عن الله الذي تماهى عند بعض الشعوب مع »بعل«، السيِّد، الذي صنمه على مدخل المدينة: »إلهكم غارقٌ يتأمَّل، أو هو مشغول، أو في سفر، أو لعلَّه نائم فيفيق« (1 مل 18: 27).

أمّا الحاضرون يوم العنصرة فاندهشوا وقالوا: نحن كريتيّون وعرب، نحن من الغرب والشرق، »ومع ذلك نسمعهم (الرسل) يتكلَّمون بلغاتنا على أعمال الله العظيمة!« (أع 2: 11). أجل، أعمال الله، حضور الله.

3. عليكم النعمة والسلام

هكذا تبدأ رسائل القدّيس بولس (رو 1: 7). النعمة هي عطايا الله المجّانيَّة في العالم اليونانيّ. النعمة تتحدَّث عن الجمال الخارجيّ والجمال الداخليّ. فيوسف بن يعقوب كان حسن المنظر فاشتهته امرأة فوطيفار. ولكنَّ الجمال الداخليّ الذي منعه من أن يخطأ إلى الله، سيطر على الجمال الخارجيّ. والنعمة هي ينبوع الفرح والمحبَّة والعطاء. الربُّ أراد فأعطى. والمؤمن أخذ فأنشد عرفان الجميل. وماذا نقول حين تكون النعمة »يسوع المسيح نفسه«؟ قال لنا الرسول: »الله ما بخلَ بابنه، بل أسلمه إلى الموت من أجلنا، كيف لا يهب لنا معه كلَّ شيء؟« (رو 8: 32).

والسلام هو الطمأنينة والهدوء، هو الأمان وغياب كلِّ صراع وقتال. هكذا اعتدنا، نحن الشرقيّين، أن نحيّي بعضنا بعضًا. في اللغة العبريَّة: شلوم. في السريانيَّة: شلوما. وفي العربيَّة: السلام عليكم. السلام لكم. هكذا حيَّى يسوع تلاميذه حين ظهر لهم بعد قيامته. مرَّة أولى »وقف بينهم وقال: سلام عليكم« (يو 20: 21). ومرَّة ثانية، »جاءهم والأبواب مقفلة، ووقف بينهم وقال: سلام عليكم« (آ26). هذا السلام يرافق المؤمنين في ذبيحة القداس. يعلن المحتفل: »السلام لجميعكم«. ويجيب المؤمنون: »ومع روحك أيضًا«.

العيش بسلام يكون في التفاهم والتعايش وهو يرتبط بالله الآب. قال الرسول إلى أهل فيلبّي: »عليكم النعمة والسلام من الله أبينا ومن ربِّنا يسوع المسيح« (فل 1: 2). وإلى كنيسة تسالونيكي: »إله السلام نفسه يقدِّسكم في كلِّ شيء ويحفظكم منزَّهين عن اللوم، سالمين روحًا ونفسًا وجسدًا« (1 تس 5: 23). أي في كلِّ حياتكم اليوميَّة، على كلِّ المستويات من صحَّة ومعرفة وارتباط بالله. إله السلام لا يكون مع واحد على واحد، مع فئة على فئة، وكأنَّ الله هو لنا لا للآخرين. »فإله السلام يكون معنا أجمعين« (رو 5: 33). وإذا كانت عداوة فهو يزيلها. وإذا أطلَّ إبليس، زارع الشقاق والزؤان في الكنيسة، يقول الرسول: »إله السلام يسحق إبليس سريعًا تحت أقدامكم« (رو 16: 20أ). ويواصل الرسول: »ولتكن نعمة ربِّنا يسوع معكم« (آ20ب).

السلام مع العدالة، والنعمة مع المحبَّة. هكذا تكون الحياة في الجماعة، سواء كانت كبيرة أو صغيرة. هذا يعني أنَّنا نأخذ بعين الاعتبار القريب، لا كما يدعوه الناس والفئات، أي ابن العمّ وابن الخال وابن القبيلة، بل كلّ إنسان يكون بقربنا ويحتاج إلى مساعدتنا. هو التفاهم لأنَّ »الله دعانا لكي نعيش بسلام« (1 كو 7: 15). كما دعانا لكي نعمل من أجل السلام، فجاءت إحدى التطويبات تقول: »طوبى لصانعي السلام« (مت 5: 9). طوبى للعاملين من أجل السلام بين الأمم والشعوب. وفي هذه الروحيَّة تأسّست جائزة السلام العالميَّة كلَّ سنة. وعلَّمنا بولس: »باركوا مضطهديكم، باركوا ولا تلعنوا. افرحوا مع الفرحين، وابكوا مع الباكين. كونوا متَّفقين، لا تتكبَّروا بل اتَّضعوا. لا تحسبوا أنفسكم حكماء« (رو 12: 14-16) بحكمة هذا العالم. ويواصل الرسول: »لا تجازوا أحدًا شرٌّا بشرّ، واجتهدوا أن تعملوا الخير أمام جميع الناس. سالموا جميع الناس إن أمكن، على قدر طاقتكم. لا تنتقموا لأنفسكم أيُّها الأحبّاء، بل دعوا هذا لغضب الله« (آ17-19). وموجز الكلام: »لا تدعِ الشرَّ يغلبك، بل اغلب الشرَّ بالخير« (آ21) والنهاية: »فلنطلب ما فيه السلام والبنيان المشترك« (رو 14: 19). في السلام يُبنى الوطن، يُبنى الإنسان، ينمو كلُّ طفل من أطفالنا »في القامة والحكمة والنعمة« (لو 2: 52) على مثال يسوع في الناصرة. أمّا الحرب فيقول فيها إشعيا النبيّ: »شعب يسلك في الظلمة« (إش 9: 2). أناس »جالسون في أرض الموت وظلاله«. متى يُشرق النور عليهم؟ متى يعرفون البهجة والفرح؟ حين ينكسر نير العبوديَّة الذي يثقِّل على أكتاف الناس. حين تُحرَق نعال العدوِّ وكلُّ ثوب ملطَّخ بالدماء (آ4). ومتى يكون لنا ذلك؟ »حين يُولَد لنا ولد ويُعطى لنا ابن« (آ6)، هذا وحده تكون »مملكته في سلام دائم...«، لأنَّها مبنيَّة »على الحقِّ والعدل« (آ7).

الخاتمة

حين وُلد الطفل الإلهيّ، نزل الملائكة من السماء وهتفوا: »المجدُ لله في الأعالي وعلى الأرض السلام« (لو 2: 14). أجل، يتمجَّد الله حين يعمُّ السلام الأرض. إلى مثل هذا الموقف دعانا الرسول. والسلام يبتدئ في داخل الإنسان، وينطلق من القلب لكي يصل إلى الآخرين. والسلام يعني أنَّنا نسير بهدي الله. وإذا كانت البلبلة في قلوبنا والاضطراب، نصلّي. والرسول يصلّي من أجل الجماعة: »وربُّ السلام نفسه يمنحكم السلام في كلِّ وقت وفي كلِّ حال« (2 تس 3: 16). تلك هي صلاتنا في هذا الشرق الذي تملأه الحروب ويسيطر عليه العنف. فنهتف: »إلى متى يا ربّ؟«.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM