الفصل السابع: الصليب على مشارف الكون

الفصل السابع

الصليب على مشارف الكون

حين نرى الحروب التي تملأ بلداننا العربيّة، بل أبعد منها. حين نرى آلام البشر الذين يحيطون بنا، بسبب الأمراض التي انتشرت وصارت مستعصية مع أنَّ الطبّ خطا خطوات واسعة. حين نرى اليتامى والأرامل بالآلاف هذا عدا الأولاد الذين يتركهم والدوهم أو يرسلونهم إلى المدينة لكي يتدبَّروا أمورهم. حين نرى صعوبات الفقر والجوع والخوف من الغد عند العدد الكبير من الشبّان، لا يسعنا إلاّ أن نتطلَّع إلى الصليب. هو هنا ننظر إليه فتُشفى بعض أوجاعنا إذا تركنا الإيمان يفعل فعله فينا. فالكتاب يروي كيف أنَّ الحيّات المحرقات هاجمت الشعب العبرانيّ في البرّيَّة، فصنع لهم موسى »حيَّة ورفعها على سارية، فكلُّ ملدوغ ينظر إليها يحيا...« (عد 2: 8). جاءت الحيَّة رمزًا بشكل صليب مرفوع. نتذكَّر هنا أنَّ الحيَّة التي كانت الدافع إلى الخطيئة في بداية مسيرة الإنسان نحو الله، والتالي إلى الموت، صارت بقدرة الربّ طريقًا إلى الحياة. أجل، الشرّ تحوَّل إلى خير في يد الربّ كما قال يوسف بن يعقوب لإخوته (تك 50: 20). والله يحوِّل كلَّ شيء لخير الذين يحبّونه (رو 8: 28)، كما قال بولس الرسول. وأضاف القدّيس أوغسطين: »حتّى الخطيئة«. ففي مخطَّط الله الخلاصيّ، كلُّ شيء ينضمّ إلى صليب المسيح الذي يريد أن يجمع في شخصه كلَّ ما في السماء وما على الأرض.

1. كلمة الصليب عند الهالكين جهالة

حين كتب بولس إلى أهل كورنتوس، بدأ الكلام عن الصليب وكأنَّ الصليب ينبغي أن يُشرف على الحياة المسيحيَّة كلِّها. قال: »فالبشارة بالصليب جهالة عند الذين يسلكون طريق الهلاك. وأمّا عندنا نحن الذين يسلكون طريق الخلاص، فهو قدرة الله« (1 كو 1: 18).

ماذا يعني هذا الكلام في وجه ما نعرف أنَّ لفظ »البشارة« يعني الخبر المفرح، كما أنشده الملائكة عند ولادة الطفل الإلهيّ: »المجد لله في العلى... والمسرَّة للناس الذين أرضوه بحياتهم« (لو 2: 14). والملاك سبق فقال لهم: »ها أنا أبشرِّكم بخبر عظيم يفرح له الشعب كلُّه« (آ 10). فكيف تترافق »البشارة« مع »الصليب«؟ الشرق القديم عرف الصليب منذ القديم. أمّا الصلب بهذا العدد الكبير فأتى من بلاد فارس فمارسه الرومان بكثرة واليونان قبلهم، تجاه المجرمين الكبار والعبيد، لا تجاه المواطنين من يونان ورومان. والصليب يسبقه التعذيب وكأنَّ »الجلاّدين« يريدون أن يصبُّوا عنفهم على هذا الذاهب إلى الموت، فيجلدونه الجلد المبرح ويهزأون به قدر استطاعتهم. وإذا أرادت الإمبراطوريَّة أن تقمع ثورة من الثورات رفعت الصلبان بالآلاف على قارعة الطريق، وهكذا يرتعب الناس ويخضعون. أمّا اليوم فحين نقول »الصليب« فلا نفكِّر إلاَّ بصليب المسيح الذي به صار العالم مصلوبًا وصرتُ أنا مصلوبًا بالنسبة إلى العالم (غل 6: 14).

الصليب يمكن أن يكون طريق الخلاص للذين يريدون ذلك. فهو قدرة الله. ظنَّ الصالبون أن يسوع المعلَّق بين الأرض والسماء بين لصَّين هو ضعيف جدٌّا، بحيث لا يقدر أن ينزل عن الصليب. ولكنَّهم أخطأوا وأوَّل من أخطأ اللصان اللذان يرافقان يسوع: ماذا ينتظر لكي يخلِّصنا؟ في الواقع، يسوع على صليبه كان العلامة على قدرة الله الفائقة. فبالصليب كان خلاص البشريَّة. نقول في النؤمن: »من أجلنا ومن أجل خلاصنا تألَّم ومات وقُبر وقام«. ويقول الرسول باسمه الشخصيّ: »أحبَّني وبذل نفسه عنّي«. وقال باسم المؤمنين: »يسوع المسيح الذي بذل نفسه من أجل خطايانا لينقذنا من هذا العالم الشرّير« (غل 1: 4). أجل، الشرّ يملأ العالم، فقيل عن الشيطان إنَّه »سيِّد هذا العالم«. هل نتراخى ونتراجع؟ كلاّ. بل نستند إلى قدرة الله. وحين كتب الرسول إلى تلميذه تيموتاوس، ذكر »الوسيط بين الله والناس... الذي ضحّى بنفسه فدى لجميع الناس« (1 تم 2: 6). هو ما استثنى أحدًا لأنَّه يريد للجميع أن يخلصوا »ويصلوا إلى معرفة الحق« (آ4). فلا يميِّز بين يهوديّ وغير يهوديّ، بين يونانيّ وغير يونانيّ، بين عبد وحرّ، بين رجل وامرأة. كلُّهم مدعوُّون إلى الخلاص باسم يسوع. »فلا خلاص إلاَّ به. وما من اسم آخر تحت السماء وهبه الله للناس نقدر به أن نخلص« (أع 4: 12). وكيف يكون الخلاص؟ سبق بطرس فقال لليهود: »هذا الرجل (هذا الشعب) يقف معافى باسم يسوع المسيح الناصريّ الذي صلبتموه أنتم وأقامه الله من بين الأموات« (آ10).

الصليب خلاص لمن يريد الخلاص. ولكنَّه هلاك للذين يطلبون شيئًا آخر، للذين يحسبونه »حماقة«، »جهالة«. وكلَّم الرسول فئتين. الفئة الأولى اليهود. والفئة الثانية اليونان. أمّا اليهود فرفضوا الصليب في حياة المسيح. هم ينتظرون مَلكًا ممجَّدًا يأتي على سحاب السماء (دا 7: 14)، ولا يعرف الألم والوجع والموت. هو ينتصر بمجرَّد وجوده فيدحر الأعداء الرومان الذين احتلُّوا الأرض وروَّعوا السكّان وفرضوا الضرائب الباهظة.

أخطأوا في تفكيرهم. فحين كلَّم يسوع تلاميذه »أنَّه يجب أن يذهب إلى أورشليم ويتألَّم كثيرًا على أيدي شيوخ الشعب ورؤساء الكهنة ومعلِّمي الشريعة، ويموت قتلاً، وفي اليوم الثالث يقوم« (مت 16: 21). حين قال لهم هذا الكلام، انتفض سمعان بطرس، بل عاتب الربّ »ولامه«: »لا سمح الله أن تلقى هذا المصير« (آ22). وهكذا كان بطرس »عقبة« في طريق المسيح (آ23).

رفض اليهود آلام المسيح، فطلبوا الآيات والمعجزات. ومع أنَّهم رأوا المعجزات الكثيرة، إلاّ أنَّهم ما زالوا يطلبون »آية من السماء« لكي يؤمنوا. مثلاً، أن تتحرَّك الشمس وتصبح ظلامًا أو تتساقط النجوم. كما حصل ساعة صلب يسوع (مت 27: 45). رفضوا أوَّلاً أن يكون يسوع ابن الناصرة والنجّار ابن النجّار أن يكون المسيح، أن يكون ابن الله. كلُّ شيء أعدَّهم لهذه القفزة النوعيَّة التي تتعدَّى النظر البشريّ. لفعل الإيمان هذا الذين ينقلهم من عالم إلى عالم، من الأمور التي تُرى إلى الأمور التي لا تُرى. وهكذا »اصطدموا بحجر العثرة« (رو 9: 32). هذا الحجر الذي هو رأس الزاوية (مت 21: 42) والذي عليه نبني حياتنا: »من آمن به لا يخيب« (رو 9: 33). إذًا تبقى كلمة الإيمان.

وكما اليهود كذلك اليونان. نقصهم هذا الإيمان خصوصًا حين حدَّثهم الرسول عن القيامة: »استهزأ به بعضهم. وقال له آخرون: سنسمع كلامك في هذا الشأن مرَّة أخرى« (أع 17: 32). فالإنسان يموت فيصبح شبحًا من الأشباح، كما ظنَّ الرسل يسوع بعد قيامته (لو 24: 37).

فالأساس في حياة اليونانيّ هي الحكمة والحكمة العالميَّة. هي الفلسفة التي تنطلق من الواقع ولا تريد أن تخرج منه، كما فعل أرسطو. أو هي تخرج من الواقع فتجعلنا في عالم المُثُل الذي ينقل الإنسان إلى الخيال ولا يربطه بالحياة اليوميَّة. والإبيقوريّون بحثوا عن الراحة والسعادة واللذَّة، وسعوا أن يتوقَّفوا قبل أن تتحوَّل اللذَّة إلى ألم. أمّا الرواقيّون، تلاميذ زينون الفينيقيّ، فاعتبروا أنَّهم يسيطرون على الألم بإرادتهم. يكفي أن ينتظر الإنسان الألم لكي يعتبر أنَّ هذا الألم غير موجود، أو هو أمرٌ عرضيٌّ في حياة الإنسان.

انتظر اليهود ذاك المسيح وما زالوا ينتظرون لأنّهم لم يخرجوا من ذواتهم ومن تقاليدهم، وفي النهاية اعتبروا أنَّ الله »نقض« عهده معهم. هم رفضوا الصليب فرفضوا معه الخلاص المقدَّم لهم. »زلَّت قدمُهم فسقطوا« (رو 11: 11). وتطلَّع اليونانيّون إلى حكمة تضاف إلى حكمة، فلبثوا على مستوى الكلام والبحث وما وصلوا إلى عمق الحياة بما فيها من ألم ووجع.

أمّا نحن المسيحيّين »فننادي بالمسيح مصلوبًا، وهذا عقبة لليهود وحماقة في نظر الوثنيّين. وأمّا الذين دعاهم الله من اليهود واليونانيّين، فالمسيح هو قدرة الله وحكمة الله. فما يبدو أنَّه حماقة من الله هو أحكم من حكمة الناس، وما يبدو أنَّه ضعف من الله هو أقوى من قوَّة الناس« (1 كو 1: 23-25). اعتبروا الصليب حماقة فإذا هو الحكمة كلُّ الحكمة. واعتبروا الصليب ضعفًا فإذا هو قدرة إلهيَّة لا تقف في وجهها قدرة على الأرض. فأيُّ جانب يأخذ المؤمن؟

2. الصليب تجاه غضب الله

ما هو الغضب؟ نقرأ في القاموس، غضب عليه: أبغضه وأحبَّ الانتقام منه وهذا الفعل يرتبط برَغمَ أي قهر وقسر وكره. والغضب هو حالة من العنف العابر ينتج عن الشعور بأنَّ أحدًا أساء إلينا أو أهاننا. هل مثل هذه العاطفة تكون عند الله؟ حاشا. بل هي عند الإنسان. ولكن لماذا الكلام في الكتاب عن »غضب الله«؟ لأنَّنا نتصوَّر الله على شاكلة الإنسان. وبما أنَّ غضب القويّ يكون قويٌّا، فماذا يكون غضب الله الذي هو كلِّيّ القدرة؟

قال الرسول: »غضب الله مُعلَن من السماء على كفر البشر وشرِّهم، يحجبون الحقَّ بمفاسدهم« (رو 1: 18). وبما أنَّ البشر هم على هذه الدرجة من الشرّ »أسلمهم الله بشهوات قلوبهم إلى الفجور يُهينون بها أجسادهم، فاتَّخذوا الباطل بدل الحقّ الإلهي« (آ24-25). وواصل الرسول كلامه: »ولأنَّهم رفضوا أن يحتفظوا بمعرفة الله، أسلمهم الله إلى فساد عقولهم يقودهم إلى كلِّ عمل شائن« (آ28).

لوحة مريعة رسمها بولس قدَّامنا، فربط كلَّ شيء بغضب الله الذي عاقب الأمم الوثنيَّة التي راحت عميقًا في عبادة الأصنام، والتي استطاعت أن تعرف الله فما أرادت، والتي عرفت الله، لم تتصرَّف في امتداد هذه المعرفة: »زاغت عقولهم وملأ الظلام قلوبهم الغبيَّة« (آ21).

لا نستطيع القول إنَّ الله هو سبب هذا الشرِّ الذي اصاب البشريَّة في القرن الأوَّل المسيحيّ، فراحت في الزنى والفجور والحسد والقتل والخصام. وهو يصيب البشريَّة اليوم، ويضيف العنف بأشكاله والقتل على كلِّ المستويات ولأجل أسباب وأسباب. فالشرُّ هو عمل الإنسان وحده. والربُّ لا يرضى بذلك. قتل قايين هابيل، فقال له الربّ: »دمُ أخيك يصرخ إليَّ من الأرض« (تك 4: 10). ومن قطف النتيجة؟ قايين: صار شريدًا، طريدًا (آ12). خاف أن يُقتَل. كانوا يقولون: بشِّر القاتل بالقتل ولو بعد زمان. هذا ليس منطق الله: جعل على قايين علامة تقول: هذا يخصُّني. والويل لمن يمدُّ عليه يدًا. أترى الله يشجِّع الخطأ والجريمة؟ لا. ولكنَّ القتل يقابل القتل، والانتقام يتفاقم بحيث نقتل سبعة ساعة تقتلون واحدًا. ونقتل سبعة وسبعين ساعة تقتلون سبعة. أما هكذا »أنشد« لامك ابن قايين (آ24). أمّا إذا رفض الله الموت للإنسان، ولو قاتلاً، فلكي يدعوه  إلى التوبة. ذاك ما قال بولس في الرسالة إلى رومة: »الله يريد برأفته (بلطفه)، أن يقودك إلى التوبة« (رو 2: 4). وقال بطرس في رسالته الثانية: »الله يصبر عليكم لأنَّه لا يريد أن يهلك أحد، بل أن يُقبل الجميعُ إلى التوبة« (2 بط 3: 9).

ظنَّت القبائل العبرانيَّة أنَّ الله »سيِّد« يمسك عصاه، فيغضب على الشعب، إن هو تركه وعبد البعل والعشتاروت. أمّا إن هو تاب إلى الربّ، يزول الغضب، ويعود السلام والبركة إلى البلاد. نقرأ مثلاً في مقدِّمة خبر جدعون، أحد القضاة الاثني عشر: »وعمل بنو إسرائيل الشرَّ في عيني الربّ، فسلَّمهم إلى قبيلة مديان سبع سنين (أي عددًا كبيرًا من السنين) فضايقهم المديانيّون، فلجأوا إلى المغاور التي في الجبال والكهوف والحصون هربًا منهم« (قض 6: 1-2). ذُلَّ الشعب أمام الله، فصرخوا إلى الربّ. ولما صرخوا إلى الربِّ بسبب ظلم المديانيّين لهم »أرسل الربُّ إليهم نبيٌّا« (آ6-7). كلُّ صنم يحمي جماعته، وكلُّ إله يحارب عن حزبه. لهذا يجب التعبُّد له والخضوع، لأنَّه »غيور« فلا يسمح لأحد أن ينازعه سلطانه. في الماضي، كانت آلهة الحجر والخشب تعبِّر عن خوف الناس الضعفاء من رئيس أو قائد، فيكون التمثال صورة عن حضور هذا القائد. أما كان أبو الهول صورة عن الفرعون؟ ومن المؤسف أن لا تكون الأمور تبدَّلت بحيث »نؤلِّه« الأشخاص ونعبدهم ونسجد لهم ونضحّي بالغالي والنفيس في سبيلهم. وما نلاحظ في أثينة، في رفقة القدّيس بولس، هو هيكل على اسم »الإله المجهول«. من يدري متى يأتي هذا الإله وينتقم من الشعب لأنَّه لم يحسب له حسابًا؟

ومن هنا انطلقت الميتولوجيا اليونانيَّة فألَّهت الأبطال وجعلتهم يتقاتلون ويتصارعون في الأعالي. بل صارت رومة إلاهة تُعبَد ويكون صنمها في ساحة كلِّ مدينة من مدن الإمبراطوريَّة. ثمَّ أُلِّه الإمبراطور وهو حيّ. وما قولكم بإله مثل »نيرون« أو »كاليغولا« وغيرهم من »المرضى« الذين يريدون أن يعطوا الخاضعين لهم الصحَّة والحياة؟

كلُّ هذا يمكن أن ندعوه »الغضب« في المعنى المجازيّ، وهو البغض والانتقام والقتل والسلب والنهب، الذي يمكن أن يقود البشريَّة إلى الفناء. ذاك رمز الطوفان كما دوَّنه الكاتب الملهم: العنف جعل البشر يفنون في شرِّهم. ماذا تكون العاقبة حين »تكثر مساوئ الناس على الأرض، فيتصوَّرون الشرَّ في قلوبهم ويتهيَّأون له نهارًا وليلا« (تك 6: 5)؟ ونقرأ هنا أيضًا عاطفة بشريَّة تُعطى لله: »ندم الربُّ أنَّه صنع الإنسان على الأرض وتأسَّف في قلبه« (آ6).

هل يُمحى الإنسان عن الأرض؟ كلاّ. فالطوفان كان فيضانًا بسيطًا على نهر دجلة، فبدا تنبيهًا. وهو لا شيء إذا قابلناه بالحرب العالميَّة الثانية التي تركت وراءها قرابة ستّين مليون قتيلاً معظمهم من المدنيّين. إذا الإنسان هو على صورة الله ومثاله (تك 1: 26)، فكيف يلغي الله صورته؟ بل يريد أن يجدِّدها. يريد أن يخلق البشريَّة خلقًا جديدًا، ولهذا أرسل ابنه الذي عرف العنف منذ طفولته حين أراد هيرودس له الموت (مت 2: 16). وابنُه هذا شاركنا في حياتنا وصولاً إلى الصليب.

هل غضب الله علينا؟ كلاّ. بل نحن »غضبنا« عليه ونسبنا إليه كلَّ شرورنا. هل أبغضنا الله لأنَّنا خاطئون؟ كلاّ. هنا يجيب الرسول: »الله برهن عن محبَّته لنا بأنَّ المسيح مات من أجلنا ونحن بعدُ خاطئون. فكم بالأولى الآن بعدما تبرَّرنا بدمه أن نخلص به من غضب الله« (رو 5: 8-9). نلاحظ، ما طلب الله أن يموت البشر عن ابنه، بل أن يموت ابنه عن البشر.

كنّا ضعفاء فمات المسيح من أجلنا (آ6). كنّا »أعداء« أو بالأحرى »معادين لله«، فطلب هو أن يصالحنا، وما انتظرنا لأنَّه عارف ما في قلبنا. فهو أبٌ والأب يمضي إلى أولاده حيث هم، فيردُّهم إليه كما الراعي يردُّ الخراف الضالَّة.

حسب الإنسان نفسه ملعونًا بسبب الخطايا التي اقترف، على ما نقرأ مثلاً في سفر التثنية: »إن لم تسمعوا كلام الربّ إلهكم وتحفظوا وصاياه وفرائضه التي أنا آمركم بها اليوم... تحلُّ عليكم هذه اللعنات كلُّها وتشملكم. ملعونًا تكون في المدينة. ملعونًا تكون في الحقل، ملعونًا يكون سلُّكم ومعجنكم...« (تث 28: 15-17). هكذا تخيَّلوا، وانتظروا أن يأتي الربّ يسوع إلى أرضنا لكي ينفِّذ هذه اللعنة! لا. بل جاء يأخذ هذه اللعنة على عاتقه. أين؟ على الصليب. كانوا يقولون: »ملعون من عُلِّق على خشبة« (تث 21: 23). وطبَّق القدّيس بولس هذا الكلام على يسوع الذي أخذ لعنتنا كما قال النبيّ إشعيا (53: 8: ضُرب لأجل معصية شعبه): »المسيح حرَّرنا من لعنة الشريعة بأن صار لعنة من أجلنا« (غل 3: 13). إذًا، لا مجال بعد اليوم لليأس وكأنَّ الله حكم علينا. ثمَّ إنَّ اللعنة مع يسوع تتحوَّل إلى بركة. مثل الصليب الذي كان علامة العار فصار علامة الافتخار، كما قال بولس: »أمّا أنا فلن أفاخر إلاَّ بصليب ربِّنا يسوع المسيح« (غل 6: 14).

وحسب الإنسانُ نفسه خاطئًا، فوجب عليه أن يقدِّم الذبيحة الخاصَّة في يوم التكفير السنويّ، كما قال سفر اللاويّين (ف 16). مثل هذه الذبيحة لا تنفع. لأنَّه لو نفعت ما كانت تتكرَّر كلَّ سنة، كما قالت الرسالة إلى العبرانيّين. فجاء المسيح بذبيحته الواحدة فصار »خطيئة من أجلنا«. قالت الرسالة: »لأنَّ الذي ما عرف الخطيئة جعله الله خطيئة من أجلنا لنصير به أبرارًا عند الله« (2 كو 5: 21). جعله الله ذبيحة عن الخطيئة بحيث لا نعود نحتاج بعدُ إلى ذبائح. في هذا المجال، قالت الرسالة إلى رومة: »وما عجزت عنه الشريعة (بممارساتها وطقوسها)، لأنَّ »البدن« أو اللحم والدم، مع الضعف البشريّ والميل إلى الخطيئة أضعفها (جعلها عاجزة)، حقَّقه الله حين أرسل ابنه في شبه بشريَّة الخطيئة (أو: بدن الخطيئة)، ليحكم على الخطيئة في البدن (في الجسم البشريّ)« (رو 8: 3). هذا الحكم الذي تحقَّق في بشريَّة المسيح المصلوب هو نهائيٌّ وفريد. وهو يضع حدٌّا لسلطان الخطيئة على »بشريَّة« المؤمن بعد أن تضامن مع المسيح في طاعته ومحبَّته.

أجل ما أراد الله »أن يحاسبنا على زلاّتنا« (2 كو 5: 19). وتواصل الكلام في الرسالة إلى أفسس: »لنا في الابن الحبيب ''الفداء'' بدمه، أي غفران الخطايا على مقدار غنى نعمته« (أف 1: 7). ومع أنَّنا كنّا أمواتًا بخطايانا... أحيانا الله مع المسيح وصفح لنا عن جميع خطايانا. ومحا الصكَّ الذي علينا... وأزاله مسمِّرًا إيّاه على الصليب (كو 2: 13-14).

3. نحمل الصليب فيحملنا

قال الآباء الروحيّون: إن حملتَ الصليب حملك، وإن تركته سحقك. الصليب هو هنا، شئنا أم أبينا. وإذا كان المسيح حمل صليبه، فلكي يقتدي بنا ويكون بقربنا. كما يساعدنا على حمل صليبنا الذي هو الأوجاع والآلام والمصائب. لهذا قال لنا الإنجيليّ بفم يسوع: »من أراد أن يتبعني ينكر نفسه ويحمل صليبه كلَّ يوم ويتبعني« (لو 9: 23). لا مرَّة من المرّات، ولا فترة من الفترات، بل »كلَّ يوم«. قد يكون الصليب ثقيلاً أو خفيفًا، يكفي أن نضع يدنا بيد الربِّ فيصبح النير سهلاً والحمل خفيفًا (مت 11: 30). وقال الربُّ أيضًا: »من لا يحمل صليبه ويتبعني لا يقدر أن يكون لي تلميذًا« (لو 14: 27). هو خيار نأخذه أو نرفضه. وهنيئًا لنا إن شابهنا سمعان القيرينيّ وحملنا الصليب وسرنا وراء يسوع (لو 23: 26).

فنحن حين نحمل الصليب نتشبَّه بالربّ: هو الذي كان في صورة الله فاتَّخذ صورة العبد. »تواضع فأطاع حتّى الموت، الموت على الصليب. ولكنَّ الله رفعه وأعطاه اسمًا فوق كلِّ الأسماء« (فل 2: 8-9). وإذ نحن نتألَّم نشارك الربَّ في آلامه. بل نكمِّل آلام الربِّ من أجل خلاص العالم. هنا أعلن الرسول في الرسالة إلى أهل كولوسّيّ: »وأنا الآن أفرح بالآلام التي أعانيها لأجلكم، فأكمِّل في جسدي ما نقص من آلام المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة« (كو 1: 24). وهكذا نعود إلى الفرح، لأنّ الهدف من آلامنا صار ساميًا جدٌّا، صار جزءًا من آلام يسوع على الصليب. مثل هذا القول غير مقبول على المستوى البشريّ. والله نفسه لا يريد المرض والحرب والموت، وهو الذي شفى المرضى خلال حياته على الأرض. ولكنَّ المؤمن وحده يعرف كيف يصبر على صعوبات الحياة، فالربُّ قال لنا: »يعمُّ الفساد، وتبرد المحبَّة في أكثر القلوب. ومن يثبت إلى النهاية يخلص« (مت 24: 12-13). وقال لنا أيضًا: »بصبركم تقتنون نفوسكم« (لو 21: 19).

الخاتمة

وننهي كلامنا كما بدأناه بصورة الحيَّة المرفوعة على سارية في البرِّيَّة، يتطلَّع فيها الذين عضَّتهم الحيَّات المحرقات فيُشفون. تلك صورة بعيدة عن الصليب ومن رُفع عليه. يكفي أن ننظر إليه. قال الإنجيل: »وكما رفع موسى الحيَّة في البرِّيَّة، كذلك يجب أن يُرفَع ابن الإنسان« (يو 3: 14) على الصليب، وفي المجد. وهو من قال: »أنا إذا ما ارتفعت رفعتُ إليَّ العالم، جذبتُ إليَّ الناس أجمعين« (يو 12: 32). ويشرح الإنجيليّ: »قال هذا مشيرًا إلى الميتة التي سيموتها« (آ33). وهكذا يُرفَع ابن الإنسان »لينال كلُّ من يؤمن به الحياة الأبديَّة« (يو 3: 15). ولماذا هذه التضحية العظيمة الآتية من قلب الثالوث؟ المحبَّة، محبَّة الله، وهو الذي لا يريد أن يهلك أحد. وقال الإنجيل: »هكذا أحبَّ الله العالم حتّى وهب ابنه الوحيد، فلا يهلك كلُّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديَّة. والله أرسل ابنه إلى العالم لا ليدين العالم (ويحكم عليه) بل ليخلِّص به العالم« (آ16-17). أجل، من أجل هذا رُفع الصليب، جُعل على مشارف الكون. ويكفي المؤمنين أن ينظروا إليه ليكون لهم الخلاص.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM