الفصل الثاني: بين شاول الطرسوسي وبولس الفريسي

الفصل الثاني

بين شاول الطرسوسي وبولس الفريسي

حين أعلن قداسة البابا بنديكتُس السادس عشر هذه السنة (2008-2009) سنة بولسيَّة، بيَّن الدور الكبير الذي لعبه ذاك الرسول في بناء الكنيسة الأولى. فهو الذي انطلق من أورشليم عبر أنطاكية وصولاً إلى أقاصي الأرض، إلى رومة قلب العالم الوثنيّ في ذلك الزمان. وهو من كتب لنا أوَّل نصٍّ نقرأه في العهد الجديد، عنيتُ بها الرسالة الأولى إلى تسالونيكي، بل هو قدَّم لنا مجمل رسائله قبل أن يصدر أوَّل إنجيل في الكنيسة، إنجيل مرقس. وهو أخرج الجماعة المسيحيَّة الأولى من قوقعتها وفتحها على العالم الوثنيّ فقال: »لا يهوديّ ولا وثنيّ، لا عبد ولا حرّ، لا رجل ولا امرأة«. إلى بولس الرسول نتعرَّف في ثلاثة خطوط: هو ابن طرسوس، هو ابن العالم اليهوديّ، هو رسول يسوع المسيح.

1- ابن طرسوس

وُلد بولس في مدينة طرسوس، من أعمال كيليكية على ما قال هو عن نفسه أمام القائد الرومانيّ: »أنا مواطن رومانيّ من طرسوس وهي مدينة معروفة جدٌّا« (أع 21: 39). هي مدينة كبيرة تَعدُّ قرابة ربع مليون نسمة، وهذا رقم كبير في تلك الأيّام. ومدينة جامعيَّة تعلَّم فيها مَن سوف يصير رسول المسيح، الشعر اليونانيّ والفلسفة اليونانيَّة. وهكذا استطاع أن ينطلق إلى العالم الذي لا يعرف اللغة الآراميَّة الخاصَّة بفلسطين والتي تكلَّم بها يسوع فقال مثلاً لابنة يائيرُس: »طليتا قومي« أي: يا صبيَّة قومي. ما اكتفى بولس بهذه اللغة التي عرفها بطرس ويوحنّا ويعقوب وأندراوس، بل درس اللغة اليونانيَّة وعرف أسرارها.

واحتاج بولس إلى الحضارة اليونانيَّة لكي يناقش فلاسفة أثينة الذين اعتبروا أنَّ معرفة الفلسفة تكفي: »اعرَف نفسك«. هذا شيء هامّ جدٌّا. ولكن هل تستطيع أن تعرف نفسك وحدك؟ من هنا يقول القدِّيس أوغسطين مصلِّيًا: »أعطني أن أعرفك يا ربّ، وأن أعرف نفسي«. فالربُّ فيَّ وهو يعلِّمني.

لا، الفلسفة وحدها لا تكفي، ولا كلُّ علوم الكون. فما هو من هذا العالم يبقى في هذا العالم. أمّا المؤمن العائش في هذا العالم فهو يحيا منذ الآن في الأبديَّة مع الربّ. يتعمَّد فينال حياة ثانية. يتناول القربان المقدَّس فيتَّحد بالربِّ المسيح الذي هو إله وإنسان، الذي أخذ بشريَّتنا وأعطانا لاهوته، الذي أخذ موتنا وأعطانا القيامة. لهذا سوف يقول بولس بعد اهتدائه إلى المسيح: كلُّ هذا حسبته خسرانًا من أجل المسيح. حسيتُه مثل الزبل، مثل النفاية. أنت متعلِّم! أنت غنيّ، أنت ابن عائلة كبيرة؟ كلُّ هذا حسبه بولس نفاية لكي يربح المسيح ويُوجَد فيه. ولكن هذا يستعيد قيمته شرط أن نكون للمسيح. قال الرسول: »كلُّ شيء لكم وأنتم للمسيح والمسيح لله«. عندئذٍ نعرف أنَّ كلَّ شيء لنا، حيث الدنيويّ يكون في مكانه والروحيّ في مكانه. ما هو لقيصر يكون لقيصر، وما هو للمسيح يكون للمسيح. ربُّنا لا يمكن أن يكون المال، لأنَّنا سوف نصبح عبيدًا له. لا ربٌّ لنا سوى يسوع المسيح.

بولس هو ذلك المتعلِّم، فجعل كلَّ علمه في خدمة البشارة. بولس هو ذلك المواطن الرومانيّ، استفاد من هذه المواطنيَّة لكي يمضي إلى رومة ويشهد ليسوع المسيح. حين كان في أثينة، عاصمة الفلسفة، استطاع أن يكلِّم أهلها على الساحة العامَّة التي لا يحقُّ لكلِّ إنسان أن يتكلَّم فيها. كلُّ هذه الوزنات التي منحه الربُّ، سوف تنمو وتنمو فتجعل من هذا الذي جاء الأخير إلى الرسالة، وبعد الاثني عشر بكثير، رسول الأمم.

وُلد بولس حوالي السنة 6-8 بعد المسيح. هذا يعني أنَّنا نعيِّد له الآن ألفي سنة على ولادته. وتوفّي على ما يبدو سنة 67م شهيدًا عند طريق أوستيا القريبة من رومة. ولكنَّه ما زال حيٌّا بسيرته التي دوَّنها لوقا في سفر الأعمال، وبكتاباته التي هي رسائل توجَّهت إلى كنائس زارها أو عرف بها، وهي تتوجَّه اليوم  إلينا وتدعونا إلى القراءة والتأمُّل: »أشكر إلهي لأجلكم دومًا على النعمة التي وهبها لكم في المسيح يسوع« (1 كو 1: 4). هكذا كلَّم مثلاً أهل كورنتوس، تلك المدينة اليونانيَّة التي ما زالت موجودة إلى اليوم.

2- ابن العالم اليهوديّ

اسمه شاول على اسم أوَّل ملك على القبائل العبرانيَّة، وقبل الملك داود. معنى اسمه: سألتْ أمُّه الربّ، طلبتْ فأعطيَت ولدًا هو ابن سؤالها، ابن طلبها: شاول. قال في الرسالة إلى فيلبّي: »أنا مختون في اليوم الثامن لمولدي، وأنا من بني إسرائيل، من عشيرة بنيامين، عبرانيّ ابن عبرانيّ، أمّا في الشريعة فأنا فرّيسيّ، وفي الغيرة فأنا مضطهد الكنيسة، وفي التقوى حسب الشريعة بلا لوم« (فل 3: 5-6).

هو من بني إسرائيل الذين ارتبطوا بالآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب. لا إسرائيل الجسد، بل إسرائيل الروح. لا الذي يرتبط به الإنسان برباط خارجيّ، بالختانة التي هي جرح في الجسد، بل الذي هو مختون في قلبه وأذنيه. أذناه مفتوحتان لسماع الكلمة، وقلبه مفتوح ليفهم ويعمل. وحدَّد أيضًا هويَّته: من عشيرة بنيامين. هذا كان الأصغر بين أولاد يعقوب. وفي أرضه بُنيَ الهيكل. من عشيرة بنيامين خرج أوَّلُ ملك على القبائل، شاول. وأخيرًا هو عبرانيّ ابن عبرانيّ. أي لست دخيلاً، بل أنا يهوديّ أبًا عن جدّ. ولماذا قال بولس هذه الأقوال؟ لأنَّ البعض افتخروا أنَّهم يهود، من نسل المسيح الجسديّ، فقال لهم: وأنا أيضًا أستطيع أن أفتخر هذا الافتخار. ولكنَّ هذا لا ينفع من أجل الرسالة: »ما كان لي ربح (يومَ كنتُ يهوديٌّا) حسبتُه خسارة من أجل المسيح، بل أحسبُ كلَّ شيء خسارة من أجل الربح الأعظم، وهو معرفة المسيح يسوع ربّي« (آ7-8).

وهكذا عاش بولس الإنجيل حيث يطلب المسيح منّا أن نترك كلَّ شيء ونتبعه »من أحبَّ أبًا أو أمٌّا أكثر منّي فلا يستحقُّني، ومن لا يحمل صليبه ويتبعني لا يستحقُّني«. كم مرَّة نؤخذ بالعاطفة البنويَّة فنضيِّع رسالتنا؟ وكم مرَّة الوالدون يمنعون أولادهم من الانطلاق في الحياة. بل أقارب يسوع حسبوه أضاع رشده فأرادوا أن يعودوا به إلى البيت.

شابه بولس ذاك الغنيّ الذي جاء إلى يسوع يسأله: »ماذا أعمل لكي أرث الحياة الأبديَّة؟«. قال له يسوع: »احفظ الوصايا«. فأجاب: »حفظتها منذ صغري«. هكذا كان بولس الذي كان اسمه في العالم اليهوديّ شاول. فقال عن نفسه: »وفي التقوى حسب الشريعة فأنا بلا لوم«. أما هكذا أجاب الشابُّ الغنيّ فنظر إليه يسوع وأحبَّه؟ ويسوع أحبَّ بولس أيضًا واختاره فلبّى بولس الاختيار. أمّا ذاك الشابُّ فلمّا قال له يسوع: »اتبعني، مضى حزينًا لأنَّه كان ذا مال كثير«. يا للخسارة! خسر يسوع المسيح. فيا ليته خسر أمواله كلَّها من أجل المسيح، لكان له كنز لا يفنى حيث لا يأتي السوس ولا يسلب السارقون.

وبولس هو فرّيسيّ من الفرّيسيّين. هم جماعة انفصلوا عن الشعب وأرادوا أن يمارسوا الشريعة ممارسة دقيقة، مثلاً، على مستوى الطهارة، لا يجلسون إلى المائدة إلاّ ويغسلون أيديهم، لا طلبًا للنظافة فقط، بل تخلُّصًا من النجاسة. لهذا هاجموا التلاميذ الذين »يتناولون الطعام بأيدٍ نجسة، أي غير مغسولة« (مر 7: 2). بل لاموا يسوع لأنَّه لا يُفهم التلاميذ »واجباتهم« وأي واجبات: هي تقاليد القدماء، لا شريعة الوصايا التي أعطيَتْ على جبل سيناء. وهم ولا يعملون عملاً يوم السبت، حتّى قطْف سنبلة بين الزروع. فقالوا ليسوع: »أنظر! لماذا يعمل تلاميذك ما لا يحلُّ في السبت؟« (مر 2: 24).

من هذه الفئة كان شاول (بولس). فما اكتفى بأن يتعلَّم مبادئ الديانة في المجمع اليهوديّ، في ما يُسمّى بيت الدراسة، ويأخذ شهادة وهو ابن اثني عشر عامًا. بل هو مضى إلى أورشليم، بعد أن صار »ابن الوصيَّة« أو ذاك الذي يحفظ الوصايا ويعمل بها وأوَّلها الحجُّ إلى أورشليم كما عمل يسوع وهو ابن اثنتي عشرة سنة (لو 2: 42). وفي أورشليم درس مع معلِّم كبير اسمه غملائيل. هذا قال في المجمع عن الرسل: »إن كان هذا العمل من الناس فهو يزول. أمّا إذا كان من عند الله فلا يمكنكم أن تزيلوه لئلاّ تصيروا أعداء الله« (أع 5: 38-39).

تعلَّم بولس اللغة العبريَّة التي فيها كُتبت الأسفار المقدَّسة، لأنَّ بطرس ويوحنّا اللذين ما كانا يعرفانها، حُسبا أمِّيَّين، لا يعرفان القراءة والكتابة (أع 4: 13). بل تساءل اليهود عن يسوع: كيف يعرف الكتب؟ هم أخطأوا في شأنه أكثر من مرَّة، وأرادوا أن يشرح لهم الكتب كما يشرحها الكتبة والفرّيسيّون. فلو فعل لكان تعليمه مثل تعليمهم، ولما تعجَّب الناس: »هو تعليم جديد يُلقى بسلطان« (مر 1: 27). من تلك الفئة كان بولس، ولكنَّه انتقل. وكما ترك اسم شاول في أوَّل رحلة رسوليَّة، وكان في قبرص (أع 13: 9)، هكذا ترك التيّار الفرّيسيّ والاهتمام بالشريعة اهتمامًا حرفيٌّا، وتعلَّق بيسوع المسيح. كانت حياته الشريعة، فصارت حياته المسيح: هو يتنفَّس المسيح، يفكِّر المسيح، يتكلَّم المسيح، بحيث حُسب مجنون يسوع المسيح. ما أسعده!

3- رسول يسوع المسيح

اعترف بولس أنَّه اضطهد كنيسة المسيح، واضطهدها بقساوة. وتساءل: كيف قبل به المسيح رسولاً بين رسله؟ والجواب: نعمته عملت فيَّ. حوَّلتني من محارب ليسوع إلى منادٍ بأنَّ يسوع هو المسيح، ومن مضطهد للكنيسة إلى أكبر رسول في الكنيسة. عملَتْ فيَّ نعمته، وما كانت باطلة. وقال مفتخرًا بضعفه وما عمل المسيح فيه: »عملتُ أكثر منهم جميعًا.«

متى كان هذا الانقلاب في حياة بولس؟ على طريق دمشق. كان صراع بينه وبين يسوع. هو لا يريد أن يسمع أحدًا يتلفَّظ بهذا الاسم، على ما طلب المجلس اليهوديّ من الرسل: »أمرناكم بشدَّة أن لا تعلِّموا بهذا الاسم« (أع 5: 28)، اسم يسوع المسيح. كان جواب بطرس: نحن نطيع الله لا الناس أو المؤمن يرفض ينال الاضطهاد. أو هو يمتنع عن ذكر اسم يسوع وعن وضع أيِّ إشارة تدلُّ على انتمائه، فيبدو أنَّه ينكر ربَّه قدّام الناس.

ذاك كان بولس. قال عنه سفر الأعمال: »أمّا شاول، فكان ينفث صدره تهديدًا وتقتيلاً لتلاميذ الرب« (أع 9: 1). وبعد أن لاحقهم في أورشليم، طلب أن يلاحقهم في دمشق، لهذا طلب الرسائل »ليعتقل الرجال والنساء الذين يجدهم هناك« (آ2). ما هذا الحقد؟ ما هذا الاندفاع نحو الشرِّ والموت؟ لأنَّه يقاتل يسوع باسم الشريعة. حكم اليهود على يسوع باسم الشريعة، فمات يسوع. فيجب أن يبقى ميتًا وإلاّ كانت الشريعة مهدَّدة. وكيف يكون عكس ذلك؟ حين يقول الرسل: إنَّه حيّ، إنَّه قام من بين الأموات ونحن شهود على ذلك. لهذا يجب أن يُقفَل كلُّ فم يذكر اسم الربِّ يسوع. نحو هذا الهدف سار شاول، ووجهته دمشق. مضى في »فرقة« تشبه تلك التي أتت لتقبض على يسوع في بستان الزيتون.

في بستان الزيتون بدا يسوع ضعيفًا. رفض العنف. رفض الاستعانة بالملائكة (مت 26: 53) وقال: »من يأخذ بالسيف، بالسيف يهلك«. أمّا على طريق دمشق فهو الأقوى. وقف في طريق بولس ومنعه من متابعة »الاجتياح«. أشرق عليه »شمسًا« أين منها كلُّ الشموس! »سطع حوله بغتة نور من السماء« (أع 9: 3). ونتخيَّل »مبارزة« بين شخصين. غُلب شاول »فوقع على الأرض« (آ4). وكان السؤال: »شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟« هذا الذي مضى يحاربه، يعرف اسمه، ويناديه مرَّتين، لا مرَّة واحدة، وكأنَّه يحذِّره. فهذه المعركة لن تكون رابحة. قتل إسطفانس وهذا يكفي. لاحق المؤمنين في أورشليم وفي اليهوديَّة، وهو الآن يلاحقهم في دمشق. كلاّ. حسبتَ نفسك، يا شاول، تضطهد الناس، فإذا أنت تضطهد الله، تقاوم الله. فإلى أيِّ حدٍّ يصل بك تمرُّدك؟ »صعب عليك أن تقاومني« (آ5). وفي لغة الفارس وخيله: »صعب عليك أن ترفس المناخس«. فالمنخس يكون في حذاء الفارس الذي ينخس الفرس لكي تسرع. فماذا يقدر الجواد أن يفعل؟ لا شيء. وهكذا شاول. ما عاد يقدر على شيء. سقط أرضًا. أضاع عينيه فاحتاج إلى من يقوده بعد أن كان قائد »فرقة« ماضية إلى دمشق. قال الرسول: »حاولت أن أدرك المسيح فأدركني«. حاولت أن أتغلَّب على يسوع فتغلَّب عليّ. ذاك ما حصل مثلاً مع القدّيس أوغسطين وفرنسيس الأسّيزيّ وعدد كبير من الذين سقطوا في »الصراع« مع يسوع. ولكنَّهم ربحوا الربح الأعظم. أرادوا أن يُحيوا نفوسهم فأهلكوها. وقال يسوع: »من أراد أن يخلِّص نفسه يهلكها، ومن يهلك نفسه من أجلي فهذا يخلِّصها« (لو 9: 24). وهذا ما قبله بولس الرسول. قبل أن يخسر كلَّ شيء حتّى نفسه، فربح كلَّ شيء، وصار رسول يسوع المسيح.

الخاتمة

لو رفض شاول أن يتجاوب مع الربّ، لو أنَّه ما قال له: »ماذا تريد أن أفعل؟« (أع 9: 6). لو أنَّه مضى حزينًا مثل ذاك الشابِّ الغنيّ (مر 10: 22). لو أنَّه فعل مثل نيقوديمس الذي أتى ليلاً ومضى ليلاً، لأنَّه اعتبر أنَّه يعرف (يو 3: 2). لو فعل شاول كذلك، لبقي شاول، ذاك الفرّيسيّ المحافظ على الشريعة، العامل في حياكة القماش، الذاهب من وقت إلى وقت إلى ساحة المدينة ليسمع الخطباء والشعراء. لو فعل ذلك لكانت حياتُه تافهة وذكرُه ضائعًا. مثل آلاف الفرّيسيّين ومنهم شاول! مثل ألاف الحائكين ومنهم شاول! لا. فشاول هو غير هذه البطانة. كان جاهلاً حين اضطهد المسيح، أمّا الآن وقد عرف المسيح، فهو يترك ما وراءه وينبطح إلى أمامه لكي يتجاوب مع الدعوة التي دُعيَ إليها. هكذا يكون الرسول.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM