الفصل السابع عشر: العهد بين الله وشعبه

الفصل السابع عشر:

العهد بين الله وشعبه

ئفي كل سعي لله تجاه البشريّة، نجد أكثر من بحث عن صداقة. نجد بحثاً عن حياة حميمة تنتهي بأعراس يصوّرها سفر الرؤيا على أنها »أعراس الحمل« ويهنّئ المدعوّيين إليها. فمنذ البداية، يشبَّه ملكوتُ السماوات بملك يَصنع عرساً لابنه. فسعيُ الله حدثٌ يندرج في تاريخ يصوّر الكتابُ المقدّس حدودَه. وسعيُ الله سرٌّ يعرّفنا بمخطّطه الخفيّ وهدفه الإلهيّ. في هذا السعي الزواجيّ، سعي العريس (الله) إلى عروسه (الشعب)، يطلب الله الانسان، يعرّفه إلى نفسه، يبدأَ الحوار معه، يرتبط به في حياة حميمة وسعيدة. تلك هي مسيرة الحبّ. ذاك هو عهد الله مع شعبه وعهد المسيح مع كنيسته.

1 - العهد أو الله عريس شعبه

حين نقرأ نشيد الأناشيد، نكتشف شخصين رئيسيّين: العريس والعروس. العريس يدلّ على الله المقيم في الهيكل وسط أرضه. والعروس هي الشعب الذي يبحث عن ربّه ويسأل: هل رأيتم من يحبّه قلبي؟ كيف بدت العلاقة في هذا »الزواج« الالهيّ، حيث يخطب الله شعباً من الشعوب بانتظار أن يخطب جميع الشعوب؟

أ - غيرة الله

منذ بداية مسيرة الشعب مع الله، كان عهدُ حبّ بين الاثنين، حيث يكون الواحد للآخر. قال الربّ لشعبه: »أنا الربّ، وأنا أخرجكم من تحت نير المصريّين... وأتّخذكم لي شعباً وأكون لكم إلهاً« (خر 6:7). هنا نتذكّر ما قالته عروس الأناشيد: »أنا لحبيبي وحبيبي لي«. نجد نفوسنا هنا في حفلة زواج، حيث العطاء متبادل، لا من جهة المرأة دون الرجل. فالله يطلب حبّ شعبه، ويقدّم للشعب حبّه: »تعلّق قلبُ الله بأبائك، فأحبّهم واختار ذرّيتهم من بعدهم« (تث 10:15).

ويدلّ الله على حبّه حين يتحدّث عن غيرته. أجل، الله يغار على عروسه، على شعبه وأرضه، كما يغار العريس على عروسه. في هذا المجال، يقول الربّ في سفر الخروج: »أنا الرب إلهك... لا يكن لك آلهة سواي« (20:1، 3). لا تبحث عن آلهة أخرى »لأني أنا الربّ إلهك إله غيور« (آ 5). هذا الاله »ينتقم« لحبّه على ثلاثة أجيال أو أربعة، ولكنه يقابل الحب بالحبّ إلى ألف جيل، إلى ما لا نهاية. فالله يطلب من المؤمنين أن يستبعدوا كل إله غريب يمكن أن يزاحمه  في القلوب. هذا الاله الذي عرفوه قوّة سريّة، وإله الآباء، وربّ العاصفة والرعد والمطر، والمحارب الرهيب من قمّة سيناء، هو الاله الشخصيّ الذي اختار شعبه اختياراً حراً، وتحنّن عليه، وقدّسه (خر 2:6) ليكون خاصته.

كم نحن بعيدون في هذا الوحي الذي يكشف لنا وجه الله المثاليّ، عن السياق الدينيّ في ذلك العصر. كانت الآلهة الوثنيّة مصنوعة على صورة الانسان، رجلاً وامرأة، تمّوز وعشتار (بابل)، بعل وعشتاروت، ايزيس وأوزيريس (مصر). هم يلدون كزوج وزوجة. وتدفعهم الشهوة فيمضون إلى البشر على مثال ما فعل زوش حيث تحوّل إلى ثور وخطف »أوروبة« إلى جزيرة كريت كما يختطف عريس عروسه للزواج. أما يهوه فهو الفريد. لا زوجة له، ولا أنثى تعمل معه. وإذ يقترب من الانسان، يدلّ على نعمة مجانيّة من قِبَله تحترم حرّيتنا أكبر احترام.

هذا العهد سوف يعيشه الشعب، قبل أن يفكّر فيه أو يكتشف غناه الخفيّ. مثل ولد لا يقدر أن يفهم الحبّ الذي يحيط به، كذلك بدا شعب الله، حين حرّره الله من العبوديّة. »من مصر دعوت ابني« (هو 11:1). أنا الذي علّمه المشي... وحنا عليه. فبعد مسيرة البريّة، اكتشف العبرانيّون الطريق التي سلكوها، والعناية التي نعموا بها فكانت ثمرة حبّ الله لهم. لهذا، سيعمل الأنبياء، ليجعلوا الشعب يكتشف هذا الحبّ، بشكل زواج (وعهد) بين الله وشعبه.

ب - حبّ محطّم

تلك كانت الخبرة الأولى، في بريّة سيناء، حيث قال الربّ لشعبه، كما يقول العريس لعروسه: »أتزوّجكِ إلى الأبد. أتزوّجك بالصدق والعدل والرأفة والرحمة. أتزوّجك بكل أمانة، فتعرفين أني أنا الربّ« (هو 2:21 - 22). ولكن الشعب خائن، زانٍ. شوّه حبّ الله له، فتركه ومضى »يزني« مع الآلهة الغريبة، ولا سيّما مع بعل إله المطر والخصب. قالت الأمّة الخائنة: »أتبع عشّاقي الذين يعطونني خبزي ومائي، وصوفي وكتاني، وزيتي وشرابي« (هو 2:7).

دعا الربّ شعبه إلى العودة، فرفض. »أطلبوا الربّ حتى يجيء ويريكم ما هو حقّ« (هو 10:12). »توبوا، يا بني يعقوب، وتمسّكوا بالرحمة والعدل. تقوّوا بإلهكم كل حين« (12:7). »توبوا، يا بني اسرائيل، إلى الربّ إلهكم، فأنتم بإثمكم عثرتم. إرجعوا إلى الربّ« (14:2). ولكن ظلّ النداءُ بدون جواب، وامتدّت الخيانة وما توقّفت. فنفد حبُّ الله. وتحوّل الحبّ الذي تجاهله الشعب، إلى غضب وانتقام. بدا الله وكأنه يتراجع عن حبّه. »حاكموا أمّكم حاكموها، فما هي امرأتي ولا أنا رجلها«. أريدها أن »تزيح (علامة) زناها عن وجهها، وفسقها من بين ثدييها، لئلاّ أفضح عريَها وأردّها إلى أصلها كما كانت في يوم ميلادها، وأجعلها كقفر، وأقطع عنها المطر، كأرض قاحلة، وأُميتها بالعطش« (2:4 - 5). كل هذه الصور تدلّ على أن ما حدث للشعب من انقطاع مطر، كان تنبيهاً لعروس لم تعد محبوبة، ولشعب لم يعد شعب الله.

ولكن إن خان الشعب الحبّ، فالله يبقى أميناً، تكفيه عودة سريعة، عودة سطحيّة، ليشتعل حبّه من جديد. سيحبّ تلك التي كانت لفترة لامحبوبة. لا ينتظرها أن تعود العودة التامة، بل هو يمضي إليها. يعيد لها كرومها، يفتنها. يذكّرها بحياة الخطوبة، ساعة كانت معه في البريّة، عندئذ تعرفه كما عرفها. اتّخذ الله المبادرة مرّة أولى، فتراجعت العروس. وها هو يتّخذ المبادرة مرة ثانية، ويحوّل قلب العروس لكي تعرف كيف تحبّ. وما كان لها من »معجزات« في زمن الخروج، سيعود إليها: من خصب الأرض، إلى وفرة المياه، إلى سلام مجيد.

وسار إرميا في خطّ هوشع، فتحدّث عن ضعف العروس، عن عجزها بأن تكون أمينة. قالت: »أعدني فأعود« (إر 31:18). فاستجاب الله لها وجعلها تطلبه (آ 22). لهذا، أعطاها »قلباً جديداً تعرف به الربّ وتعود« (24:7). وما يفعل في قلب العروس، هو نداء حبّ يكشف متطلّباته. عندئذ يبرز الطابعُ الشخصيّ الذي يوحّد الله بشعبه في عهد جديد. »أجعل شريعتي في ضمائرهم، وأكتبها على قلوبهم، وأكون لهم إلهاً ويكونون لي شعباً« (31:33). ويتابع النبيّ متحدّثاً باسم الله: »أعطيهم قلباً واحداً وطريقاً واحداً ليخافوني دائماً لخيرهم وخير بنيهم من بعدهم. وأعاهدهم عهداً أبدياً أني لا أتحوّل عنهم، بل أحسن إليهم، وأجعل مخافتي في قلوبهم لئلاّ يبتعدوا عني. وأفرح بأن أحسن إليهم، وأغرسهم في هذه الأرض، بكل قلبي وكل نفسي، وأكون أميناً لهم« (32:39 - 41).

ج - نحو خطوبة جديدة

مرّ الشعب في خبرة المنفى الذي امتدّ خمسين سنة تقريباً (587 - 538)، فأحسّت عروسُ الربّ بخطأها. صارت مثل أرملة. عرفت العبوديّة والذلّ، فما عاد أحد يعرفها، بعد أن زال عنها كل مجدها. عندئذ تطلّعت إلى الله وطلبت منه أن يحرّرها، طلبت نعمة التوبة، »أعدنا إليك فنعود، وجدّد أيامنا كالقديم« (مرا 5:21). ولكن الربّ لا يعيد القديم كما كان، بل هو يجعله أجمل ممّا كان.

في نهاية المنفى، سمع الشعب البشرى التي أعادت إليهم الحياة وهيّأتهم للعودة. »طيّبوا قلب أورشليم، بشّروها بنهاية تأديبها، وبالعفو عمّا ارتكبت من إثم« (أش 40:2).

يدعوها الربّ إلى النهوض، بعد أن كانت ملتصقة بالأرض (أش 51:17). كانت قد قالت: »تركني الربّ! تركني ونسيَني السيد«! فأجاب الرب: »أتنسى المرأة رضيعها؟ الا ترحم ثمرة بطنها؟ ولكن، ولو أنها نسيَت، فأنا لا أنساكِ يا أورشليم. ها على كفّي رسمْتك« (أش 49:14 - 16). ظنّت العروس أنها أرملة، فإذا عريسها لا ينساها. وظنّت أنها عاقر، لا أولاد لها، فدعاها الربّ إلى الفرح: »تطلّعي وانظري حولك! بنوك اجتمعوا كلّهم وعادوا. حيّ أنا، يقول الربّ. تلبسينهم جميعاً كالحليّ، وتتقلّدين بهم كالعروس« (49:18).

بعد أن عزّى الربّ عروسه، أعادها إليه مجيدة، »سيكون كل بنيك تلامذة لي أنا الربّ، ويكون سلامهم عميماً، تتثبّتين في العدل فيبعُد عنكِ الظِلمُ، ولا تخافين الرعب ولا يدنو منك« (54:13 - 14).

إن استعارة الخطوبة والزواج هي جزء من لاهوت العهد. فلا بدّ من أن ترافقها صورة الأب والابن، الراعي والقطيع، السيّد والكرم. ولكنها ساعدتنا على اكتشاف حبّ الله، والخطيئة، والخلاص. كل هذا يُرسم في رسمة سريعة وسريّة، وهو يقودنا إلى ينبوع رجاء يجعلنا نكتشف زواج المسيح والكنيسة.

2 - المسيح عريس الكنيسة

نصوص قليلة حول العريس نقرأها في العهد الجديد. ولكنها غنيّة. وفيها يتمّ تحوّل هام: صار المسيح العريس. والكنيسة، شعب الله الجديد، أخذت سمات العروس. والاحتفال بالعرس بدا في وجهين: فإن كان زمن العرس تدشّن وخُتم العهدُ بدم الصليب، فالعروس لا تلتقي التقاء كاملاً بعريسها إلاّ في المجيء.

أ - الفرح في العرس

بدأ يسوع رسالته العلنيّة فقال: »تمّ الزمان، واقترب ملكوت الله« (مر 1:15). لهذا، حين وبّخ تلاميذ يوحنا والفريسيون الذين يستعدون للملكوت بالتوبة، تلاميذَ يسوع لأنهم لا يصومون، أجابهم يسوع: »أتنتظرون من أهل العريس أن يصوموا، والعريس بينهم« (مت 9:15)؟ قدّم لنا يسوع في جواب واحد ثلاثة موضوعات نبويّة، قد تمّت فيه: قابل الملكوت بوليمة (أش 25:6؛ أم 9:1 ي). تحدّث عن الخلاص الاسكاتولوجيّ في استعارة الأعراس. وقال: الأزمنة المسيحانيّة ينبوع فرح (أش 9:2؛ 49:13؛ 55:12). إذن كلام يسوع واضح: إن يسوع، بحضوره، دشّن الملكوت، وحمل الفرح المسيحاني، وافتتح زمن الأعراس كعريس شعبه.

بعد هذا الجدال السريع (مت 9:14 - 15 وز)، نقرأ مثل المدعوّين إلى العرس (مت 22:1 - 14). الجميع مدعوّون إلى وليمة العرس. الله الآب هو ذاك الملك الذي أعدّ كل شيء من أجل ابنه يسوع. فلا يمكن التأخّر. ولكن يبقى الموضوع المركزيّ، موضوع المدعوّين الذين انقسموا فئتين متمايزتين: أُرسلت الدعوة مرّتين إلى الأوّلين، إلى اليهود، فرفضوا وبالتالي استبعدوا نفوسهم فاستحقّوا العقاب (دمّرت مدينتهم). ثمّ أرسلت إلى الآخرين، إلى الخطأة والوثنيين، دُعوا في الساعة الأخيرة، فلبّوا الدعوة الملكيّة باندفاع. في هذا المثل، حلّ مثلُ المدعوّين محلّ موضوع العروس (شعب الله). والشعب اليهودي الذي هو العروس، جعل نفسه في الخارج، شأنه شأن الابن الأكبر في مثَل الابن الضال (هو 15:28). في ليلة الآلام والموت، جعل يسوع من الأعراس تجمّعاً كونياً دعا إليه البشريّة، ولا سيّما الوثنيين.

ومثَلُ العذارى العشر يدور حول النداء الحاسم: »ها العريس آت« (مت 25:6) خُطف العريس، فتأخّرت الأعراس. لهذا، نحن ننتظر عودة العريس لنحتفل بالعرس، الذي يتماهى مع الملكوت الذي سيتمّ في نهاية الأزمنة.

ها العروس آت. هذه الصرخة في الليل، هي يقين الحدث الذي يعلنه المثل (مت 25:1 - 13). يعود المسيح، لا كالسيّد، لا كالملك وابن الانسان، بل كالعريس الذي يُدخل إلى الوليمة، المدعوّين الذين انتظروه واستعدّوا لمجيئه. لهذا، لا بدّ من الذهاب إلى لقائه. لا يكفي أن نُدعَى، بل يجيب أن نستعدّ ونكون ساهرين.

ب - الكنيسة، عروس جديدة

توقّفنا عند الأناجيل الإزائيّة، فاكتشفنا مع يسوع زمن الأعراس الذي تدشّن في الفرح. العريس هنا. والدعوات أرسلت. غير أن العريس خُطف. لهذا، نحن ننتظره في السهر ونتعرّف إلى لقائه. والآن، ننتقل إلى رسائل القديس بولس الذي يحدّثنا عن كنيسة كورنتوس، »العذراء الطاهرة« التي يقدّمها للمسيح، عن سارة الجديدة التي صار أولادها أكثر عدداً مع أنها لم تعرف ألم الولادة، وعن جسد المسيح.

قال الرسول: »فأنا أغار عليكم غيرة الله، لأني خطبتكم لرجل (العريس) واحد وهو المسيح« (1 كو 11:2). ما زالت كنيسة كورنتوس فتاة سريعة العطب، متقلّبة، ضعيفة. هي ابنة حواء الحقيقيّة. وقد تجرّها التعاليم الكاذبة. لهذا يسهر بولس عليها، لا لأنه يحسبها له. فلا كنيسة لبولس، ولا كنيسة لأبلوس. الكنيسة هي كنيسة المسيح خطيبها. أمّا بولس فيعرف واجباته تجاه تلك التي ولدها في الإيمان (1 كو 4:15) وخطبها للمسيح، وها هو يهتمّ بأن يقدّمها له في كل نقائها. الزمن زمن الخطوبة، وما جاء بعدُ زمنُ الأعراس. الزمن زمن الانتظار، وما جاء بعدُ زمن اللقاء. يبقى على الكنيسة أن تحافظ على طهارةٍ نالتها بالإيمان والعماد فتستعدّ لمجيء عريسها، المسيح، آدم الجديد.

وحين واجه بولس المسيحيين الآتين من العالم اليهوديّ، أراد أن يبيّن لهم أن العهد وممارساته عفّاها الزمن، فقدّم لهم استعارة سارة وهاجر (غل 4:21 - 31) حيث رأى صورة عهدين اثنين. عهد سيناء، وتمثّله هاجر. ونحن نراه اليوم في أورشليم الحالية. كانت عروساً في زمانها، ولكن في نظام العبوديّة الذي ما زال يُثقل على أبنائها، اليهود. أما العهد الثاني فتمثّله سارة، المرأة الحرّة، أورشليم السماويّة، مع عهد جديد يجعل من الكنيسة عروساً تحرّرت من الشريعة الموسويّة فارتبطت بالحبّ بعريسها. هي عروس وأولادها هم المسيحيون. هي الكنيسة، الشعب الجديد، وارثة المواعيد، بعد أن نالت امتيازات العروس الأولى، بل نالت امتيازات على امتيازات، لأن عريسها هو ابن الله بالذات.

وهكذا نصل إلى الرسالة إلى أفسس (5:21 - 32) مع كلام عن جسد المسيح. انطلق الكاتب من العلاقة بين المسيح وكنيسته، ليقدّم هذه العلاقة كنموذج حياة من أجل الأزواج. وجاءت مقاربته في ثلاث مراحل. المسيح رأس الكنيسة. له ملء السلطة. والكنيسة تخضع له (1 كو 11:3؛ أف 1:22). المسيح أحبّ الكنيسة »وبذل نفسه عنها ليقدّسها ويطهّرها بماء الاغتسال وبالكلمة، حتى يزفّها إلى نفسه كنيسة مجيدة لا عيب فيها ولا تجعّد ولا ما أشبه ذلك، بل مقدّسة لا عيب فيها« (أف 5:25 - 27). فمن أجل اللقاء في يوم العرس، ليست الكنيسة هي التي تستعدّ، تعدّ نفسها، بل هو المسيح يُتمّ فيها طقس الزواج، يغسلها بالمعموديّة غسلاً في نبع يتفجّر من الصليب فيعطيها العربون السامي لحبّه (كو 1:22؛ تي 3:5؛ 1 كو 6:11؛ عب 10:22). وفي مرحلة ثالثة، نفهم أن هذه الكنيسة هي جسد المسيح (أف 5:28 - 33). كما يحبّ الرجل جسده، كذلك يحبّ المسيح كنيسته. فالكنيسة، حواء الجديدة، تقف تجاه المسيح، آدم الجديد، بعد أن خرجت من جنبه على الصليب في سرّ الدم والماء. هي جسده. وفيه كل خصب فيها. ويُنهي الرسول كلامه: »هذا السرّ عظيم، وأعني به سرّ المسيح والكنيسة« (آ 13). شخصان منفصلان متّحدان. المسيح والكنيسة. منفصلان في شكل موقت، بعد أن ابتعد يسوع عن الأرض وصعد إلى السماء، وجلس من يمين الآب. بلغ ملء المجد، إلى كمال النظام الجديد. أما الكنيسة عروسه فما زالت على الأرض. إنها جسده الخاص الذي ما زال في طور النموّ بانتظار الوصول إلى ملء قامته. هذه العروس يجتذبها عريسها، يدعوها، يهيّئها فتتوق إلى يوم تقدَّم له في الأعراس الأبديّة، وتقول له »تعال« بصوت واحد مع الروح القدس: يا ربّنا تعال.

ج - سرّ العرس على ضوء الروح القدس

وهكذا نصل إلى ما تركه لنا يوحنا الرسول من كتابات. بيده أو في مدرسته. إنه يُدخلنا، على ضوء الروح القدس، إلى ملء حقيقة هذه الأعراس، فيكشف لنا أعماقها الخفيّة (يو 16:13).

نكتشف حدثين في الانجيل الرابع. الأول، كلام يوحنا المعمدان الذي أعلن عن نفسه أنه »صديق العريس« (3:29)، رفيق العريس. فالعريس هو يسوع المسيح. ودورُ يوحنا يكمن في أن يقود العروس إلى عريسها. وحين تنتهي مهمّته، يختفي. ويكون فرحه كاملاً حين يعرف أن هذا الشعب الذي أعدّه هو الآن لعريسه، في ولادة جديدة (3:26) بالكلمة والاغتسال. والثاني، مشهد قانا وساعة أعراس ابن الله مع شعبه. بدأ العرس في قانا، وانتهى على الصليب حين اجتذب يسوع إليه جميع البشر (12:32). فهذا العرس في قرية من قرى الجليل، وجّه أنظارنا إلى عرس آخر تمّ حين ضحّى الابن بدمه من أجل عروسه لتكون له طاهرة، بغير عيب ولا ما أشبه ذلك.

وإذا انتقلنا إلى سفر الرؤيا، نرى الكنيسة المضطَهدة تعيش زمن الانتظار. تتطلّع إلى المجد العظيم الذي تأمَله، والذي لا يقابَل بالضيق الذي تعيشه الآن (2 كو 4:17)، هي في ليل المحنة. ومنذ الآن يُشرق عليها نور الأعراس الأبديّة. فكيف لها أن تخاف أو تيأس! في هذا المجال نتوقّف عند وصف لأعراس الحمل، وآخر لأورشليم السماويّة، أورشليم الجديدة.

»وخرج من العرش صوت يقول: ''سبّحوا إلهنا، يا جميع عباده والذين يخافونه من صغار وكبار''. ثم سمعتُ ما يُشبه صوت جمهور كبير أو هدير مياه غزيرة أو خرير رعد جديد يقول: ''هللويا! المُلك للربّ إلهنا القدير. لنفرح ونبتهج! ولنمجّده، لأن عرس الحمل جاء وقته، وتزيّنت عروسه، وأعطيَت أن تلبس الكتّان الأبيض الناصع''. والكتّان هو أعمال القدّيسين الصالحة. ثمّ قال لي الملاك: أكتب: ''هنيئاً للمدعوّين إلى وليمة عرس الحمل''. وقال أيضاً: ''هذه أقوال الله الصادقة''« (رؤ 19:5- 9).

العريس هو المسيح. يظهر هنا كما في كل سفر الرؤيا، كالحمل. هذه الاستعارة التي نقرأها في يو 1:29، 36، ترتبط بحمل الفصح (خر 12)، كما ترتبط بعبد الربّ الذي تحدّث عنه أشعيا (ف 53). مع حمل الفصح يُسفَك الدم. ومع عبد الربّ، نكتشف موتاً تكفيرياً يُزيل الخطايا. لهذا بدا الحمل مذبوحاً (رؤ 5:6، 12؛ 13:8)، فطهّر بدمه المختارين ومنحهم الغلبة (7:14؛ 12:11). وهكذا نلتقي مع ما قاله الانجيل الرابع: احتفل المسيح العريس بأعراسه على الجلجلة، فقطع العهد الجديد في دمه. أما الآن، فالعريس دخل في المجد، ونحن نشاهده جالساً عن يمين الله، ومرتدياً قدرته كديّان، ومتقبّلاً من المسيحيين السجود والشكر في ليتورجيا احتفاليّة وأبديّة (5:7؛ 19:6).

في رؤ 19:5 - 9، رأينا العريس، وفي رؤ 21:2 - 27، نرى العروس: »تعال فأريك العروس، زوجة الحمل« (21:9). ولكن انتظرنا امرأة، فإذا نحن أمام مدينة هي أورشليم الجديدة. هي امرأة جميلة »تزيّنت واستعدّت للقاء عريسها« (21:2). أُعطيَ لها أن تلبس الكتّان النقيّ. الله هو الذي ألبسها، مع العلم أن »الكتّان هو أعمال القدّيسين الصالحة« (19:8). بياض ثوبها، الذي يدلّ على الانتصار، جاءها من دم الحمل (17:4). وهي مدينة. فالكنيسة هي أورشليم الجديدة. استعارت سمات اسكاتولوجيّة نقرأها في أشعيا (ف 60 - 62) وحزقيال (ف 40 - 48). هي »جديدة« بالنسبة إلى »القديمة«. ولكنها جديدة بشكل خاص لأنها تنتمي إلى نهاية الأزمنة. يخلقها الله من جديد (21:1، 5). إنها تنزل من السماء، من عند الله (21:2).

الكنيسة تبدو بصورة امرأة، أولادها عديدون. وبصورة مدينة بسكانها. هي مدينة القدّيسين. ففي الأعراس، يكون المدعوّون هذا الجمهور الكبير والشامل، الذي يرافق الحمل. شاهده يوحنا فقال: »ثمّ نظرت فرأيت جمهوراً كبيراً لا يُحصى، من كل أمّة وقبيلة وشعب ولسان، وكانوا واقفين أمام العرش وأمام الحمل، يلبسون ثياباً بيضاً ويحملون بأيديهم سعف النخل« (7:9). جاؤوا من المحنة العظيمة (7:14) التي نجوا منها، وظلّوا »أبكاراً« (14:4) في قلب الاضطهاد، فحافظوا على إيمانهم، وما تعلّقوا بآلهة غريبة. بالاستشهاد وسفك الدم (6:11) غسلوا ثيابهم بدم الحمل (7:15)، وخُتموا بختمه. لهذا أُعلنت سعادتُهم ودُعوا إلى الوليمة. ماتوا مع المسيح (14:13) فقاموا معه (20:6) وشاركوه في انتصاره. منذ الآن هم يملكون معه، وسيملكون إلى الأبد.

غير أن هذه الصورة الرائعة لم تتحقّق بعد بالنسبة إلى الكنيسة. فإن كان المسيحُ الحملَ المذبوح والجالس في المجد، فالعروس لم تنضمّ بعد إليه. فوضعُها في السماءِ حيث ترى نفسها العروس المثاليّة والمجيدة، والآتية إلى لقاء عريسها، يبقى موضوع إيمان ورجاء. فالأعراس الأبديّة لم تتحقّق كل التحقّق، والعروس ما زالت بعيدة. فما تعرفه الآن هو وضع كنيسة تقيم على الأرض وهي تنتظر نهاية الأزمنة في ليل المحنة، وتسمع صوت المسيح: »ها أنا آتٍ قريباً« (22:20).

خاتمة

هذا ما اكتشفناه في سرّ الكنيسة. في إطار عهد بين الله وشعبه، سيصبح العهدَ الجديد والنهائيّ بين المسيح وكنيسته، وهو عهد يتمّ في دمّ ابن الله. صُورٌ واستعارات قرأناها في العهد القديم، فكانت الأساس لما قاله العهدُ الجديد، ولا سيّما في موضوع الأعراس. منذ النبي هوشع، بانَ الله على أنه العريس، والشعب العروس. فكانت الأمانة علامة الإيمان، والزنى علامة الخيانة والابتعاد عن الله الواحد. وفي العهد الجديد، بدا يسوع العريس الذي يدعو عروسه، يطهّرها بماء الاغتسال ويهيّئها لنفسه. إلى هذه الأعراس نحن مدعوّون، بل نحن أبناء العرس لأننا أبناء الكنيسة. باغتسال العماد تطهّرنا، وتسلّمنا لباساً نحفظه نقياً. بهذا السر العظيم صرنا أعضاء في جسد المسيح، وبدأنا نستعدّ في كل عشاء من عشاواتنا إلى العشاء الأخير، ساعة يدقّ الربّ الباب فنفتح له ونتعشّى معه وهو يتعشّى معنا (رؤ 3:20). وبانتظار تلك الساعة، يجب علينا أن نمشي مع الربّ في طريق عماوس. ففي النهاية، يجمعنا الربّ في أورشليم الجديدة، في كنيسة زال منها الموت والحزن والصراخ، زالت منها الأشياء القديمة وصار كل شيء جديداً.ئ

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM