الفصل السادس عشر:
هذا اليوم يومٌ مقدس للرب (نح 8:10-11)
إذا أردنا أن نعرف كيف كان اليهود يصلُّون في زمن المنفى وبعده، ساعة صار الهيكل بعيدًا، والذبائح توقَّفت، نعود إلى ما نقرأه في سفر نحميا: »وقف الجميع، فبارك الكاهنُ عزرا الربّ، فأجاب الشعبُ كلُّه: ''آمين! آمين!''« ما الذي يدلُّ على انتماء المؤمنين إلى شعب الله الواحد الذي كان مركزه في أورشليم، قبل دمار المدينة وتهجير سكّانها سنة 587 ق.م.؟ هناك الختان بلا شكّ، وهناك بشكل خاصّ الاجتماع الأسبوعيّ في المجامع التي توزَّعت في المدن العديدة، وهذا الاجتماع يتمّ في يوم محدَّد، هو يوم الربّ؛ يسمّيه النصّ: »يوم مقدَّس« (عز 8: 9 و11).
1- قراءة الشريعة
جاء نح 8 بعد عز 7-8 على المستوى الأزمانيّ، فرسم حدثًا رئيسيٌّا، هو إعلان الشريعة التي حملها عزرا إلى أورشليم، وذلك بعد وصوله بشهرَين. فنحن نقرأ في عز 7: 8-9: »في السنة السابعة للملك أرتحششتا (أي سنة 397 ق.م.)، وصل (عزرا) إلى أورشليم في الشهر الخامس (تمّوز- آب)«. اليوم الأوّل من الشهر السابع، كان عيد رأس السنة في روزنامة (كلندار) تلك الحقبة. وهكذا انتظر عزرا يومَ العيد ذاك ليتلو الشريعة أمام الشعب كلِّه.
يُقسَم نح 8 هذا إلى قسمين: يَرسم القسم الأوّل (آ1-12) مشهدًا فيه يقرأ عزرا واللاويّون جزءًا من الشريعة، في اليوم الأوّل من أيّام العيد. والقسم الثاني (آ13-18) يرسم ما حدث في الأيّام التالية للاحتفال بعيد المظالّ. قدَّم القسم الأوّل احتفالاً ليتورجيٌّا وشعيرةَ عبادة، ستصبح نموذجًا لدى يهود الشتات، بانتظار أن تُبنى المجامع في فلسطين (لو 4: 16-27)، بل في أورشليم نفسها. لسنا بعدُ في مبنى يضمُّ المصلِّين الذين يقلُّ عددُهم عن عشرة رجال، بل في الهواء الطلق. وقد جُعل للمناسبة »منبر« من خشب، وقف عليه القارئ لكي يراه الجميع ويَصل صوتُه إلى الحاضرين. وقبل أن يفتح القارئ كتاب الشريعة، كانت عبارة المباركة التي وجَّهها عزرا إلى الربّ العظيم (آ6): »تبارك الربُّ إله آبائنا« (عز 7: 27). وكان الشعب واقفًا تجاه المنصّة، فأجاب بصوت واحد: »آمين! آمين!« لا يذكر الكاتب الصلاة التي تُليت في ذلك الوقت (وقد تكون شبيهة بصلوات عديدة اعتاد الكهنة أن يتلوها في يوم السبت)، بل يذكر الحركات التي قام بها الحاضرون، علامة عن مشاركتهم في الصلاة: رفعوا أيديهم يطلبون؛ ركعوا أمام الربِّ خاشعين؛ سجدوا للربِّ بوجوههم إلى الأرض ليدلّوا على خطيئتهم أمام الله القدُّوس. وبعد ذلك الاستعداد، بدأوا يتلون الشريعة، كما هي في أسفار موسى الخمسة، وقد صارت دستور الشعب اليهوديّ، تجاه دستور الشعوب التي حرَّرها الفرس، وأعادوها إلى بلادها بعد أن احتلَّ كورش بابل.
نشير إلى أنَّ تلاوة الشريعة امتدَّت على سبعة أيّام. في معنى أوَّل، احتاج الشعب إلى كلِّ هذا الوقت، لأنَّه مضى عليه زمن طويل ترك فيه قراءة أسفار موسى. فلو ظلَّ يقرأها سبتًا بعد سبت، لما احتاج إلى سبعة أيّام متتالية. وفي معنى ثانٍ العدد سبعة هو عدد الكمال؛ هذا يعني أنّ الحاضرين قرأوها كلَّها وفهموها، فلم يبقَ لهم سوى أن يمارسوها. وهذا ما نراه في ما بعد مع الزواجات المختلطة بين يهود وغير يهود.
اجتمع الشعب كلُّه. هذا ما يرتبط بالمعنى العبريّ (»عِدَهْ«) للمجمع: تواعُدٌ ولقاء. شهادة يقدِّمها جمهور كامل، فيدلّ على عهده مع الربّ وتعلُّقِه به. اجتمع من أجل العيد. فالربُّ هو الذي يبادر ويدعو المؤمنين، وهم حين يأتون إنّما يلبّون النداء. يكونون معًا، في مكان واحد. وحضورُهم الخارجيّ معًا يدلّ على مشاركتهم وتضامِنهم في حياة واحدة وعمل واحد. هذا ما يذكِّرنا بالجماعة الأولى في أورشليم: »كان جميع المؤمنين معًا... يلازمون الهيكل بنفس واحدة« (أع 2: 44-46). كان اليهود يجتمعون في يوم من أيّام الأسبوع، هو السبت، يوم الراحة، فصار المسيحيّون يجتمعون يوم الأحد الذي هو يوم قيامة الربِّ من بين الأموات وحلول الروح القدس.
2- يوم مقدَّس
بكى الشعب عند سماع كلام الشريعة، ولا سيّما عندما سمعوا من يترجمها لهم ليفهموها؛ بكوا وضْعَهم السابق، بعد أن نسوا كلام الربّ الذي أوصله إلى شعبه منذ ظهوره في جبل سيناء. فدعا عزرا واللاويّون الشعب أن يمتنعوا عن البكاء، فهذا اليوم يوم مقدَّس، يوم مكرَّس للربّ. هكذا عادوا إلى الوصايا العشر: »قدِّس يوم الربّ«.
نتذكّر أوَّلاً معنى »اليوم«؛ ففي تاريخ الشعب العبريّ، ترتبط الأيّام دومًا بأعمال الله في شعبه، وهي أعمال خلاص وبركة. مثلاً، تحدَّث مي 7: 14 عن الأيّام القديمة، فأشار إلى زمن تحرير الشعب من مصر. وأشار أشعيا إلى الفرح الذي ينتظر الشعب، بعد زوال الظلام (احتلال الأرض على يد الأشوريّين وانطفاء كلِّ نور)، وحلول النور (بعد أن عاد العدوّ إلى أرضه بقدرة الله)، وذكّرهم بيوم مديان، وفيه انتصر جدعون على الذين اجتاحوا البلاد ودمَّروا وخرَّبوا.
و»يوم الربّ«، في المفهوم البيبليّ، هو يوم يفتقد فيه الله شعبه، فيحمل إليه السعادة والبركة. ولكنّ هذا المفهوم تبدَّل بعد عا 5: 18-20، وذلك بسبب خطيئة الشعب. غير أنّ النهاية سوف تبدِّل الأمور: »ها أيّام تأتي، يقول الربّ، يلحق فيها الفالح بالحاصد، ودائس العنب بباذرالزرع، وتقطر الجبال خمرًا، وتسيل جميع التلال« (عا 7: 13).
ويقول النصّ في نح 8: 9 و11: »اليوم هو يوم مقدَّس«. هذا اليوم الذي نعيشه الآن. نحن لا نعود إلى الماضي الذي لم يَعُد في أيدينا، بل نسمع اليوم كلام الربّ يقول لنا: »إن سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم« (مز 95: 7-8).
»هذا اليوم مقدَّس«، أي مكرَّس للربّ. وحين يحفظ الإنسان هذا اليوم، يقتدي بالله الذي قدَّس هذا اليوم، في بداية الكون، ليكون خاتمة الأيّام الستّة. وحين يقدِّس المؤمن هذا اليوم، ينال قداسة من عند الله (خر 20: 12). وبما أنّ هذا اليوم مقدَّس، فهو يخصّ الله؛ لذلك لا يستطيع المؤمن أن يتصرَّف به كما يشاء. في هذا قال سفر اللاويّين: »في ستّة أيّام تعمل عملاً، وفي اليوم السابع عطلة مقدَّسة تحتفلون به، ولا تعملوا عملاً في جميع دياركم، فهو سبت للربّ« (23: 3). وقد نظّمت الشريعة ذلك اليوم، فمنعت حتّى إشعال النار (خر 35: 3)، وجمع الحطب (عد 15: 32)، وتهيئة الطعام (خر 16: 32). لا شكّ في أنّ الفرائض الخاصّة بالسبت ستكون كثيرة، وسيحرِّر يسوعُ اليهودَ منها، وسوف يعلن الأنبياء أنّ ممارسة هذا اليوم هي شرط لتحقيق المواعيد في نهاية الأزمنة: »إن توقّفت عن عملك في السبت، عن قضاء حاجتك في يومِي المقدَّس...، تبتهج بي أنا إلهك، وعلى مشارف الأرض أرفعك« (أش 58: 13-14).
3- يوم الفرح والبهجة
شعب يعيش في المنفى، هل يستطيع أن ينشد، فيعبِّر عن فرحه في منطق البشر؟ كلاّ! حين طلب الناس من المنفيّين أن يُنشدوا، على أنهار بابل، رفضوا، لأنَّهم علّقوا كنّاراتهم على الصفصاف، ورفضوا أن يستعملوها ما داموا في أرض غربة (مز 137: 1-4). شعبٌ ترك شريعة ربِّه مدّة طويلة، أما يجب أن يبكي؟ شعب ابتعد عن الهيكل، هل يحقّ له أن يعيِّد (مز 42: 5)؟ هو يكتئب في نفسه، ويبكي في داخله (مز 42: 6)، ويصلّي إلى الإله الحيّ قائلاً له: »لماذا نسيتني؟« (آ10).
ومع ذلك، فإنّ عزرا يدعو الناس إلى الفرح؛ ففي الفرح قوّة. قال لهم: »أُسكتوا، ولا تبكوا بعد، لأنَّ اليوم يوم مقدَّس، فلا تحزنوا« (نح 8: 12). أجل، يوم الربّ هو يوم الفرح، لا يوم الحزن، يوم تُهيَّأ فيه وليمة تجمع الأقارب والأصحاب؛ يوم يأكلون فيه الطيِّب ويشربون الحلو؛ يوم المشاركة والعطاء، و»الربّ يحبُّ المعطي الفرحان« (أم 22: 8؛ رج 2كو 9: 7).
ذاك هو يوم الربّ؛ بما أنّه كذلك، فلا يمكن إلاّ أن يحمل بركة الربّ. هنا نتذكّر في الأناجيل المرّات العديدة التي فيها شفى يسوع مرضى يوم السبت الذي كان يوم الربّ عند اليهود: رجل يده يابسة، شفاه يسوع يوم السبت وما انتظر يومًا آخر (مر 3: 1)؛ مخلَّع قضى في مرضه ثمانية وثلاثين عامًا، شفاه يسوع (يو 5: 5)؛ والمسألة ليست مسألة تأخير يوم أو تقديم يوم، فالمسألة هي أنّ يوم الربّ هو يوم الفرح، فلماذا لا يفرح هذا الرجل بيده التي صارت صحيحة؟! ولماذا لا يحمل هذا المخلَّع سريره، فيركض ويقفز في كلِّ مكان، شأنه شأن الأطفال؟!
نداء يُطلَق نحونا اليوم، نحن المأخوذين بالهموم اليوميّة، الساعين وراء لقمة العيش على صعوبتها. نداء يدعونا إلى أن نفهم أنّ يوم الربّ في المسيحيّة ارتبط بالقيامة، فحوَّل حزن تلميذي عمّاوس إلى فرح، فاحترق قلبهما في صدرهما حين رافقا الربّ، ونسيا الليل والتعب والحزن السابق، وعادا إلى الرفاق. هكذا يتقدَّس، في الواقع، هذا اليوم الذي أعطانا الربُّ إيّاه لنُسَرَّ ونفرحَ فيه (مز 118: 14). يا ليتنا نعود إلى الإيمان والرجاء، فنتجاوز ما يقف في وجهنا من صعوبات! ويا ليتنا لا نفرح وحدنا، بل نُطعم الجائع، ونسقي العطشان، ونزور المريض، ونفتقد السجين! هكا تظهر محبّة الله في العالم، وهكذا تثبت محبّة الله فينا (1يو 3: 17).
خاتمة
انطلقنا من احتفال قام به عزرا مع أناس عرفوا الحزن والألم، فدعاهم إلى الفرح. كانت كلمة الله الدافع لهم لكي يفهموا أهميّة يومٍ تقدّسَ ببركة الله وحضوره. ووصلنا إلى يوم الأحد، يوم القيامة، اليوم الذي فيه انتصر يسوع على الشرِّ والألم والموت. إنّ يسوع يدعونا، ونحن نلبّي نداءه. لا نقدِّس ذاك اليوم، بل نقدِّس أيضًا كلّ يوم من أيّام حياتنا. ولكن يبقى هذا اليوم إكليلاً لسائر الأيّام، لأنّ الربَّ اصطفاه لنفسه، جعله يوم الراحة؛ فماذا ننتظر للدخول في هذه الراحة (عب 4: 11)؟