الفصل الثاني عشر: هوشع وجومر، يهوه وشعبه

الفصل الثاني عشر:

هوشع وجومر، يهوه وشعبه

هناك نصوص(1) في الكتاب المقدّس لا تخضع لتحليلاتنا. فالشرّاح بمجهوداتهم ما استطاعوا حتّى الآن أن يقدّموا جوابًا مرضيٌّا لمسائل تطرحها هذه النصوص. ومنها خبر »زواج هوشع وقيمته الرمزيّة« (هو 1-3). فدراسات هذا المقطع عديدة(2) وقد نتساءل: ماذا يضيف مقال جديد؟(3) ولكنّ النهوج التفسيريّة تعرف تحوّلات هامّة إلى بعض الجديد الذي نكتشفه.

وطرح تأليفُ هذه الفصول الثلاثة أسئلة مختلفة. نجد فيها أوّلاً خبرَ زواج هوشع وولادة أبنائه الثلاثة في نصّ سيرويّ (هو 1). والفصل اللاحق يُعتبر عادة قولاً نبويٌّا (هو 2)، تصوَّر فيه، بشكل رمزيّ، علاقةُ يهوه بإسرائيل، والربّ بشعبه. وأخيرًا، في ف3، نعود إلى خبرة النبيّ نفسه، في نصّ سيرة ذاتيّة. وطرح الشرحُ التاريخيّ النقديّ سؤالين كبيرين: الأوّل، ماذا حصل في حياة هوشع؟ والثاني، ما هو التأليف الأدبيّ في هذه الفصول؟

حاول الشرّاح اكتشاف خبرة النبيّ الشخصيّة، فدرسوا مرارًا الفصلين الأوّل والثالث، ذاك الخبرَ السيرويّ. واتّفقوا على أننا لسنا أمام رؤية أو مثل من الأمثال، بل أمام خبرة عاشها النبيّ. ولكن ما الذي حصل حقٌّا في حياته الزوجيّة؟ أكّد بعض الشرّاح أنّنا أمام خبرين متوازيين، متكرّرين. فالفصلان واحد وثلاثة يرويان الدراما الواحدة. ولكنّ الفصل الأوّل يورد كلام تلاميذ النبيّ. والفصل الثالث ما قاله النبيّ عن نفسه. وقليلون هم الذين يعتبرون أنّ ف 3 يسبق ف 1(4). فهم يراعون بشكل عامّ ترتيب الكاتب بحيث يأتي ف 3 بعد ف 14، وذلك سواء كنّا أمام زواجين مختلفين مع امرأتين اثنتين، أو أمام زواج جديد مع جومر المرأة الأولى.

بحسب هذه الفرضيّة الأخيرة، نستطيع أن نوجز الخبر كما يلي: تزوّج هوشع جومر. فولدت له ثلاثة أولاد. ولكنّ جومر كانت خائنة، زانية (ف 1). غير أن  النبيّ استعادها بعد حقبةٍ تنقّت هي فيها عبر المحنة(5) (ف 3). في هذه المقاربات، يُترك جانبًا ف 2 الذي يُدرَس بعد إيجاد حلّ لمسألة زواج هوشع. اعتُبر هذا الفصل أقوالاً نبويّة جاءت مستقلّة قبل أن تُجمَع بشكل فيه بعض المنطق(6)، هذا ما نسمّيه المقاربة الدياكرونيّة (التطويريّة، حيث يتطوّر النصّ مع الزمن).

ويُطرح السؤال: هل ينجح البحث عن »هوشع التاريخيّ«؟ وهل هذا ما رَمى إليه النصّ؟ فالأسئلة العديدة التي تبقى بدون جواب، تدعونا لأن نترك هذا البحث الذي يتوخّى أن يعرف »بدقّة«(7) ما حصل. ونودّ أن نعرف تفاصيل أكثر عن اسم المرأة (3: 1). أو: لمن دفع النبيّ المال لكي يقتنيها أو يسترجعها؟ (3: 2). لا يقدّم لنا النصّ هذه المعلومات التي تبدو غريبة عن اهتماماته.

إنّ المقاربة الدياكرونيّة للنصّ، على أهمّيّتها، هي خيار بين خيارات أخرى. فنلاحظ في الوقت الحاضر اتّجاهًا تفسيريٌّا من أجل قراءة سنكرونيّة تتوقّف عند النصّ في شكله التامّ، النهائيّ. وكانت محاولات عديدة لقراءة ف 2. وبدلاً من أن نتوقّف عند اللاتناسقات في النصّ، يلفت انتباهَنا تماسكُه البنيويّ(8) والموضوعيّ(8). وراح بعضهم يتكلّمون عن وحدة منذ البداية، فأبرزوا بنيات متداورة مستندين إلى المواضيع أو إلى الألفاظ(9).

أمّا موقع تحليلنا ففي هذا الاتّجاه الأخير: قراءة سنكرونيّة، إجماليّة للنصّ، قراءة متواقتة، متزامنة (لا كلام عن تطوّر في النصّ، فكأنّه منزَل). نأخذ هذا النصّ في أيدينا كما هو في وضعه الحاليّ. أمّا إعادة البناءات التطوّريّة، فتحمل فرضيّات قد لا ترضي الجميع(10). فهناك أمرٌ لا جدال فيه: أمامنا نصّ محدّد. ونودّ أن نواصل دراساتٍ حصرت نفسها في هو 2، وطبّقته على هو 1 و3(11). فقد بيّن هذان الكاتبان أنّهما تركا موقّتًا الرباط بين ف 2 وما يحيط به (ف 1، 3). والحال أنّ ف 2 هو جزء واضح في هو 1-3. والرباطات واضحة بين هذه الفصول الثلاثة، ودراستنا المتواقتة يمكن أن تكون تحليلاً بنيويٌّا أو تأليفيٌّا.

في قسم أوّل، نُبرز البنية الإجماليّة في ف 1-3: كيف يتوزّع هذا النصّ؟ وما الذي يجعله متماسكًا؟ نحصر كلامنا في الترابطات الكبرى دون أن ندخل في جميع التفاصيل، بعد أن قام آخرون بهذا العمل. وفي قسم ثانٍ، نستخلص في قراءتنا بعضَ الاستنتاجات التعليميّة واللاهوتيّة.

1- بنية هو 1-3

أ- خبرة هوشع الشخصيّة: 1: 2-9 (2: 1-3)

يتألّف الجزء الأوّل من أمرٍ وجّهه الربّ إلى هوشع: »امضِ خذْ لك امرأة« (آ 2). نال هذا الأمر شرحًا: »لأن زنت الأرض« (خانت الربّ، تركته). ونفَّذ النبيّ ما طُلب منه: »فذهب وأخذ جومر« (آ3). هي بنية معروفة في الأخبار التي تتضمّن رسالة: إمضِ... فمضى. والشرح المضافُ يدلّ أيضًا أنّ هذه الرسالة هي عمل رمزيّ. إنّ العلاقة بين هوشع وجومر، تُشير بعض الشيء إلى العلاقة بين يهوه وشعبه.

وتُستعَاد البنيةُ عينُها جزئيٌّا من أجل الأسماء التي تُعطى للأولاد الثلاثة. هناك الأمر: »ادعُه« (آ4، 6، 9). ثمّ الشرح: »لأنّ«. لا يُذكر تنفيذُ الأمر بصريح العبارة، ولكنّه يُفترَض.

هذا القسم الأوّل من النصّ يستعرض الممثّلين: هوشع، جومر، الأولاد الثلاثة: يزرعيل، لامحبوبة. لاشعبي. واضحٌ منذ البداية أنّ هؤلاء الممثّلين لهم قيمة رمزيّة. يهوه وإسرائيل، الأرض. الأولاد الثلاثة، السلالة، الشعب. وتدلّ رمزيّة الاسم أنّ المستقبل ليس بواعد. هو كلام عن الخيانة وعن العقاب.

وما يلي من النصّ يدهشنا، لأنّنا نجد فيه وعدًا بالسعادة (2: 1-3). اعتبر شرّاح كثيرون هذه القطعة على أنّها مضافة. ثمّ يجب أن نشرح لماذا جُعلت هنا. إنّ هذه الآيات الثلاث تعلن انقلابًا في الشقاء الآتي. والكارثة لن تكون الكلمة الأخيرة. أمّا الشقاء فيتحوّل إلى سعادة. نحن هنا أمام استباق لم يحصل بعد.

ب- أقوال شقاء (2: 4-15)

ويتواصل النصّ: »حاكموا أمَّكم حاكموها. فما هي امرأتي ولا أنا رجلها« (آ4). هنا يبدأ موضوع الشقاء الذي أُعلن في 1: 2-9. ولكن قُطع في استباق لإعادة الهناء (2: 1-3). تدلّ قراءة أولى إلى النصّ على أنّ النبيّ يتوجّه إلى أبنائه الثلاثة، ويدعوهم إلى اتّهام أمِّهم (امرأته) ومحاكمتها. لا شيء في هذه الآية يشير أنّنا على مستوى الرموز. رذل هوشع امرأته جومر ودعا أولادَه ليحكموا عليها كما هو حكَمَ، بل هو سيطلق تهديداته تجاهها: »سأعرّيها عريانة وأردّها إلى أصلها كما كانت في يوم ولادتها« (آ5أ)

ويتواصل هذا التهديد: »أجعلها شبيهة بالقفر« (آ 5ب). هنا تختفي امرأة هوشع، وتحلّ الأرضُ محلَّها. وهكذا ننتقل إلى مستوى الرمز. كان هوشع قد أُمِرَ بأن يتزوّج جومر »لأنّ الأرض تَركت الربّ« (1: 2). والانتقال من محاكمة جومر إلى محاكمة إسرائيل يتمّ في قلب آ5(12). وهذا ما تثبتُه الآيةُ التالية: »لا أُحبّ بنيها«. فلو كان هوشع يتكلّم بعد، لقرأنا: »لن أحبّكم«. وذلك لأنّ هوشع تحدّث إلى أبنائه مباشرة في صيغة المخاطب الجمع: »حاكموا أنتم« (آ 4).

هي مهمّة دقيقة أن نحدّد موقع هذه الانتقالات في نصوص أمثاليّة، رمزيّة. غير أنّنا نخطئ إن أردنا أن نفهم آ4 بواسطة الآيات التالية. فإذا تنبّهنا إلى مسيرة النصّ، نلاحظ القَطْع في منتصف آ5: نترك وضع النبيّ ليحلّ يهوه محلّه. ونلاحظ أيضًا تبديلاً آخر: صيغة الغائب في ف 1، حلّت محلّها صيغةُ المتكلّم.

لهذا يجب أن نحافظ على القطع في هذا الموضع. حينئذ نكتشف فاعلاً آخر في خبر زواج هوشع وجومر. اتّهم هوشع امرأته بالزنى والبغاء (آ4). إذًا، الممثّلون هم هوشع، جومر، الأولاد، العشّاق. ويقابل هؤلاء الأشخاص في الرمزيّة الأمثاليّة: يهوه، إسرائيل (الأرض)، أولاد إسرائيل (الملكيّة، الشعب)، بعل.

امتلك 2: 4-15 ميزات أقوال الشقاء(13). نجد عناصر معروفة: إتّهام بسبب خطايا مقترفة، ثم إعلان العقاب. ويبدأ هذا الجزء الثاني من القول بالأداة »ل ك ن«، لذلك. هذا ما يدلّ على الرباط بين العلّة والنتيجة: الذنوب هي التي تحرّك العقاب. هناك ثلاثة أقوال تتعاقب في هذا المقطع:

* القول الأوّل: آ4-6

- إتّهام بالخيانة بشكل دعوى: اتّهموا، حاكموا (آ4).

- إعلان مشروط يتطوّر نحو إعلان العقاب: وإلاّ، لئلاّ (آ5، 6)

* القول الثاني: آ7-9

- إتّهام جديد بشكل توصيف (آ7)

- إعلان العقاب مع »ل ك ن«، لذلك (آ 8-9).

* القول الثالث: آ10-15

- إتّهام جديد بشكل شكوى (آ10)

- إعلان عقاب مع »ل ك ن«، لذلك (آ 11-15)

كلّ هذه المجموعة تنتهي مع »يقول يهوه« (آ15)، وهي عبارةُ تنهي عادةً القولَ النبويّ وتبدو هنا وكأنّها نقطة تختم ثلاثة أقوال الشقاء.

ج- قول انتقالة (2: 16-17)

ومع ذلك يتواصل النصّ، ومع الأداة »ل ك ن«، لذلك (آ 16). في ما سبق، بدأت »ل ك ن« مرّتين، فأعلنَتْ الشقاء كما في عدد كثير من الأقوال النبويّة عن الشقاء. وانتهت آ15 مع شكوى: »نسيتني«. إذًا، إعلان عقاب جديد يأتي في وقته. ويبدأ القول النبويّ: »لذلك سأفتنها وأجيء بها إلى البرّيّة« (آ16). هذا يعني: الجفاف، الجوع، العطش. وفجأة يتسرّب تبدّلٌ في الآية، كما في آ 5أ وآ 5ب. وتتواصل الآية: »وأخاطب قلبها« (آ16). وفي آ17: »أُعيد إليها كرومها«. وتتواصل الآية: »فتجيب هناك«(14). انتظر القارئ إعلان شقاء، فوجد إعلان بناء جديد.

د- أقوال سعادة (2: 18-25)

إنّ القول النبويّ في آ16-17 يشكّل جسرًا بين مقطعين. من جهة، يرتبط بأقوال الشقاء السابقة (آ14-15). ومن جهة ثانية، يعلن البناء الجديد، كما تتوسّع فيه الآيات اللاحقة (آ18-25). تتألّف هذه القطعةُ (آ18-25) من ثلاثة أقوال سعادة. وكلّ قول يبدأ بعبارة: في ذلك اليوم. ويضيف القولان الأوّل والثالث: نأمة يهوه (يقول الربّ بصوت هامس). هذا يبيّن أنّ هذه الأقوال الثلاثة تتميّز تميّزًا واضحًا عن القول السابق (آ16-17) الذي اعتبرناه قولاً انتقاليٌّا.

هذه الأقوال الثلاثة عن السعادة لها بنية مماثلة، وميّزاتُها ميّزات فنّ أدبيّ معروف: أقوال سعادة(15). هناك وعدٌ بعمل خلاصيّ يقوم به الله، وهو وعدٌ يحرّك جواب الخضوع من قبل الإنسان(16).

* القول الأوّل: آ18-19: في ذلك اليوم... نأمة يهوه.

- الوعد (آ18-19أ)

- الخضوع: فلا تذكره من بعد باسمه (آ 19ب). وكان استباق في آ18: تدعوني

* القول الثاني: آ20-22: في ذلك اليوم

- الوعد (آ20-22أ)

- الخضوع: »فتعرفين أنّي أنا الربّ« (آ22ب)

* القول الثالث: آ23-25: في ذلك اليوم... نأمة يهوه.

- الوعد (آ23-25أ)

- الخضوع: »وهو يقول لي: أنت إلهي (آ25ب)

إذًا، بُني هو 2 في بنى متوازية. هناك ثلاثة إعلانات شقاء تجد ما يقابلها في ثلاثة أقوال سعادة. وإذا قابلنا تأليف قول الشقاء مع تأليف قول السعادة، نلاحظ بنية متصالبة: في هذين النوعين من الأقوال، نعود إلى عمل إسرائيل وإلى عمل الله، ولكن بشكل معاكس. فقول الشقاء يبدأ بخيانات إسرائيل التي تحمل إليه عقابَ الله. أمّا قول السعادة، فهو عمل الله الخلاصيّ يدعو إسرائيل إلى الخضوع: من الإنسان إلى الله، ومن الله إلى الإنسان.

إنطلاقًا من 2: 5ب، الرمزيّة الزوجيّة لدى هوشع تتوسّع في هذه الأقوال. فهي تعالج قبل كلّ شيء العلاقات بين يهوه وإسرائيل. سيعاقَب إسرائيل بسبب خيانته. ولكنّ الله يعيد بناء شعبه، بنعمة منه. في القول الأخير (2: 23-25)، تعود الأسماء الرمزيّة التي أعطاها هوشع لأولاده، وينقلبُ بُعدُها السلبيّ، كما سبق وأُعلن 2: 1-3. وإذ يذكر النصّ ثلاثة أسماء: يزرعيل، لامحبوبة، لاشعبي، يقودنا إلى ما وراء الرموز ليذكّرنا بأولاد حقيقيّين يحملون هذه الأسماء، أسماء أولاد النبيّ. وهكذا يدعونا النصّ لكي نعود إلى وضع النبيّ نفسه. وفي هذا الخطّ يواصلُ النصّ مسيرته.

ه- خبرة هوشع الشخصيّة (3:1-5)

بعد الأقوال النبويّة، يأتي الخبر الذي هو سيرة ذاتيّة، وقد سجَّل جدالات عديدة بسبب خبر البداية (1: 2-9)، الخبر السيرويّ. فمجمل هو 1-3 مليء بهذه التبدّلات اللامتوقّعة والانسيابات. ففي جميع الأقوال التي سبقت، نجد دومًا صيغة المتكلّم المفرد (أنا) حتّى في 2: 4. وسبق ولاحظنا أنّ الآية الأخيرة في هذه الأقوال تتضمّن شكل حوار. أنا أقول أنت شعبي. وهو يقول: إلهي (2: 25). إذًا من الطبيعيّ أن نجد »أنا« في هذا الحوار الجديد بين الربّ وهوشع.

بنيةُ هذا الجزء الأخير معروفة أقلّه جزئيٌّا. هناك الأمر: امضِ (ل ك) وأضيف تشبيهٌ يعطيه قوّة فيدعو بحرارة إلى التنفيذ: »كما يحبّ الربّ« (آ1) ويلي ذاك تلبيةُ الأمر (آ2: فاشتريتها). ولا يُذكر اسمُ المرأة. من هنا الجدالات لتحديد الموضوع. حين نتبع مسيرة النصّ والتشبيه، لن نجد الكثير من المسائل. قال التشبيه: »كما يحبّ الربّ بني إسرائيل، فيما هم يحوّلون وجوههم إلى آلهة أخر« (آ1). إذًا الممثّلون، الفاعلون الثلاثة هم هنا: يهوه، إسرائيل، بعل. وينطلق النصّ من خبرة هوشع فيقول: »محبوبةُ آخر، فاسقة«، تستسلم للزنى (آ1). بما أنّ النصّ يقابل وضعين مع الأداة »كما«، يدفعنا الأمرُ لكي نعتقد أنّنا هنا أمام الممثّلين الثلاثة الذين صادفناهم في البداية: هوشع، جومر، العشّاق(17). وكما في أقوال السعادة وعدَ الربّ بإعادة البناء (2: 18-25)، كذلك طُلب من هوشع أن يفعل بالنسبة إلى جومر.

مع أنّ هوشع استعاد امرأته، فقد أخضعها إلى فترة من التنقية. »تقعدين معي أيّامًا كثيرة« (آ3). ويتواصل النصّ فيطبق الرمز كما في ف 1: »فبنو إسرائيل يقعدون أيّامًا كثيرة« (آ 4-5). فزمنُ المحنة يسبق إعادة البناء. يتضمّن هذا الطلب الثاني الذي وجّهه الربّ إلى هوشع، عملاً رمزيٌّا. هو يشبه الطلب الأوّل.

بالرغم من الصعوبات الحقيقيّة أو الوهميّة، تبدو مجموعة هو 1-3 وحدة أدبيّة حاولنا أن نتبع التسلسل فيها. وقد لاحظنا تداخلاً متواصلاً بين وضع هوشع وجومر، والتطبيق الرمزيّ على يهوه وإسرائيل. هذا ما تشير إليه الأداة »لأنّ«، ك ي (1: 2، 4، 6، 9؛ 3: 4) والأداة »كما« (الكاف 3: 1). هذه القراءة المتوازنة لا تتيح لنا ربّما أن نقول بتأكيد ما حصل في حياة النبيّ، ولكن أن نكتشف ما يقول النصّ عنه. فهذا النصّ يكوّن سردًا كاملاً نستطيع أن نتصوّره في رسمة سريعة:

أ- خبرة هوشع

ب- ثلاثة أقوال شقاء

ج- أقوال انتقاليّة

ب ب- ثلاثة أقوال سعادة

أ أ- خبرة هوشع

سبق وبيّنّا كيف أنّ كلّ قسم يرتبط بالآخر عبر انسيابات دقيقة. من وضع هوشع الشخصيّ (2: 5أ) ننتقل إلى الرمزيّة (2: 5ب). ومن الشقاء (2: 16أ) ننتقل إلى السعادة (2: 16أ). وذكرُ أسماء الأولاد في القول الأخير (2: 23-25) يهيّئ العودة إلى خبرة هوشع (3: 1).

انطلق السرد من وضع أوّل: زواج بين هوشع وجومر. وتوقّف عند وضع أخير: عودة الزواج بين هوشع وجومر. وما حرّك الخبر هو خيانة جومر بحيث أبعدها هوشع وطلّقها. لا تُروى هذه الخيانة بشكل صريح، بل يتضمّنها الاتّهام (2: 4) وأمرُ الله إلى النبيّ بأن يستعيدها (3: 1). ففي قلب خبر هوشع وجومر، وفي موازاته، يسير خبر الربّ وشعبه.

وينتقل الخبر باستمرار من إعلان شقاء إلى الوعد بخلاص، ولكنّه يندرج بشكل خاصّ. فيعيد توصيف مُسبَق لعنصر من العناصر، يعود النصّ إلى الوراء. فالقسم الأوّل (1: 2-9) عن الزواج والأولاد يُعلن الشقاءَ الآتي. وحالاً بعد ذلك، نقرأ تحوّل أسماء الأولاد إلى وعد بإعادة البناء (2: 1-3). ولكنّنا سبّقنا الكلام عن هذه السعادة. فالنصّ يعود إلى موضوع الشقاء في الأقوال الثلاثة التالية (2: 4-16أ) التي ستغلبها ثلاثةُ أقوال من السعادة (2: 16ب-25). واستعادة العهد بين يهوه وشعبه تكون مثالاً لهوشع فتدعوه لأن يستعيد امرأته (3: 1-2). ويذكر الخبرُ في نظرة أخيرة إلى الوراء، أنّ فترة من التنقية (3: 3-4) تسبق إعادة البناء الأخير (3: 5). وهكذا تكون رسمة مثلّثة: شقاء – سعادة، شقاء – سعادة، شقاء – سعادة.

2- استنتاجات تعليميّة

عديدة هي التعاليم التي نستطيع أن نستخلصها من هو 1-3. قالها الشرّاح وكرّروها. أمّا نحن فنتوقّف عند استنتاجين تعليميّين هامّين أوصلتهما المقاربة السنكرونيّة، المتواقتة، التي أتاحت لنا أن نكتشف الطريقة التي بها بُنيَ النصّ في جملته.

أ- النبيّ، عمل رمزيّ وكرازة

الأنبياء هم رجال الكلمة. هم يتكلّمون باسم الربّ. وحين يريدون أن يجعلوا تعليمهم مقنعًا، يضيفون إلى الكرازة فعلات رمزيّة. تتوخّى هذه الفعلات أن تمثّل الحدث بشكل منظور ورمزيّ. فالنبيّ أخيا الذي مضى للقاء يربعام، مزّق معطفه الجديد اثنتي عشرة قطعة. فأعطى عشرًا لمن سيكون ملك إسرائيل، ملك الشمال، وقال: »خذ لك عشر قطع، لأنّ الربّ إله إسرائيل يقول لك: ها أنا آخذ المملكة من سليمان وأعطيك عشرة أسباط« (1مل 11: 31). ونستطيع أن نورد أمثلة أخرى: أشعيا يمشي حافيًا، عريانًا (أش 20: 2-6) على مثال ما يحصل لمصر وكوش. وحزقيال يتمدّد على جنبه الأيسر (حز 4: 4ي).

حركات كثيرة كانت في طبيعتها فعلات عابرة. وأخرى اتّخذت طابع الاستمراريّة. فالأنبياء الذين يعطون اسمًا لأولادهم يقدّمون علامة تدوم. فيحمل الأولاد هذه الأسماء طوال حياتهم. ذاك هو وضع أولاد هوشع. وأخيرًا هناك فعلات رمزيّة عميقة. نستطيع أن ندعوها: خبرة حياة: عزوبة إرميا (إر 16: 1ي: لا تأخذ لك امرأة ولا يكون لك أولاد) وزواج هوشع. مثل هذه الخبرة الشخصيّة ليست فقط كرازة للآخرين، بل تؤثّر على النبيّ في حياته الحميمة. أن يشكّل زواج هوشع مثل هذا العمل الرمزيّ، نستنتجه من الأداة »لأنّ« التي قرأناها مرّاتٍ في الخبر (1: 2، 4، 6، 9؛ 3: 4). فزواج هوشع وجومر يعبِّر بعض الشيء عن علاقة الربّ بشعبه. وقد بيّن الشرّاح كيف أنّ هذه المحنة للنبيّ، أثّرت في كرازته كلّها(18). فالألم الذي سبّبته خيانةُ جومر، كشف للنبيّ مدى الجرح الذي سبّبه إسرائيل للربّ. وحين عزم هوشع أن يطلّق امرأته، وعي أنّ الصبر الذي أظهره الربّ لشعبه وصل إلى النهاية. سيحطّم يهوه عهده مع شعبه. ففعلةٌ رمزيّة، ملموسة، إنسانيّة، تعلّمنا الكثير عن تصرّف الله تجاه شعبه. وفي هذا، تحدّد موقعُ هوشع في خطّ سائر الأنبياء الذين لجأوا إلى هذا الأسلوب، أسلوب الفعلة النبويّة.

غير أنّ خبرة هوشع لا تتوقّف هنا. فإيمانُ هوشع بالربّ لا يمكن أن يتصّور أنّ العقاب سيكون الكلمة الأخيرة عند الله. بعد أقوال ثلاثة من الشقاء، تجرّأ النبيّ فأعلن أنّ يهوه يُعيد النظر في حكمه. فبالرغم من كلّ خيانات إسرائيل، يستعيد الربُّ شعبه بنعمة مجّانيّة من لدنه، ودون أيّ استحقاق لدى إسرائيل. حينئذ أضاف هوشع ثلاثة أقوال سعادة. واللقاء الجديد بين يهوه وإسرائيل سيكون »كما في أيّام الصبا« (2: 17). هي أيّام خطبة »إلى الأبد« (2: 21). لن يكون انفصالٌ بعدُ.

اعتقد هوشع اعتقادًا عميقًا بأنّ غفران الله أقوى من القصاص. وفي مكان آخر، عبّر النبيّ عن هذا الاعتقاد بشكل صريح: الله لا يريد أن يدمّر. »كيف أتخلّى عنك يا أفرائيم... قلبي يضطرب في صدري، وكلّ مراحمي تتّقد. لن أعاقبكم في شدّة غضبي، فأدمّركم بعد يا أفرائيم، لأنّي أنا الله، لا إنسان، وقدّوس بينكم فلا أعود أغضب عليكم« (11: 8-9) لكي أدمّركم. نستطيع أن نقابل هذا المقطع مع نصّ نبويّ آخر: »هكذا قال الربّ: أين كتاب طلاق أمّكم التي طلقتها«؟ (أش 50: 1).

إنطلق النبيّ من إيمانه بالله الغافر، فشرع الآن يتساءل حول حياته الخاصّة. أما يكون تصرّفُ الربّ تجاه شعبه دعوةً لكي يعيد هوشع النظر في موقعه تجاه امرأته جومر؟ ويعود الخبر إلى خبرة النبيّ الشخصيّة. كان هوشع قد عزم، بمبادرة منه، أن يرذل جومر الخائنة: »حاكموا أمَّكم، اتّهموا أمَّكم« (2: 4). ولكنّ إيمانه بهذا الإله الرحيم، يدعوه. أحسّ النبيّ بنداء مباشر يأتيه من الله. »قال لي الربّ: إذهب أيضًا« (3: 1). هذا يشرح لماذا ندعو النصّ سيرة ذاتيّة. هو كلام شخصيّ. فالطلب الثاني الذي تلقّاه النبيّ من الله، أكثر تطلّبًا وصعوبة من الطلب الأوّل، ساعة الزواج. وشدّد النصّ فقال إنّ هوشع دُعيَ ليفعل كما فعل الله: »كما أحبّ الربّ بني إسرائيل. مع أنّهم يحوّلون وجوههم إلى آلهة أخر« (3: 1). الأداة »كما« مهمّةٌ جدٌّا في الخبر. وهي تختلف عن »لأنّ« التي كشفناها في الفعلات الرمزيّة، في بداية الخبر (1: 2، 4، 6، 9).

وهكذا تفتحُنا هذه الفصولُ الثلاثة الأولى من سفر هوشع، على وجهة من الحياة النبويّة لا تُذكر مرارًا. لا شكّ في أنّ الخبرة التي عاشها النبيّ صارت تعليمًا للشعب حول تصرّف يهوه تجاهه. وهذا ما نقوله أيضًا عن كلّ الفعلات الرمزيّة. غير أنّ هذه الوجهة لا تغطّي سوى القسم الأوّل من المجموعة (1: 2 - 2: 61أ). فحين وعى النبيّ غفران الله وأعلن العودة إلى العهد وإعادة البناء، بدأ تعليمُه يواجهه حول حياته الشخصيّة (2: 16ب، 3: 5). إذًا، هناك علاقة متبادلة بين حياة النبيّ وكرازته. وهذا ما تبيّن لنا بنيَةُ المجموعة.

في سائر الأخبار النبويّة، نجد أوّلاً وصفًا للفعلة الرمزيّة، ثمّ التطبيق. ولكنّ الوضع يختلف هنا. فكما بيّنت رسمةُ الخبر، ننطلق من وضع النبيّ لننتقل إلى المعنى الرمزيّ، لكي نعود أيضًا إلى حياة النبيّ. فحياة النبيّ تعليم للآخرين. ولكنّ تعليمه بدّل حياته الخاصّة. من الصعب أن نعيش ما نكرز به. وقد قال يسوع: »فافعلوا كلّ ما يقولونه لكم واعملوا به، ولكن لا تعملوا مثل أعمالهم، لأنّهم يقولون ولا يفعلون« (مت 23: 3). وفهمَ هوشع أنّ عليه أن يجعل حياته توافق إيمانه وكرازته، إذا أراد أن يحافظ على مصداقيّته كنبيّ.

في تحليل الفعلات الرمزيّة، لا يهتمّ الشرّاح مرارًا بالواقع المرموز، وهذا ما حصل حين استخلاص تعليم هو 1-3. هم يشدّدون على التعليم الذي يجدون في هذا النصّ عن تصرّف يهوه تجاه شعبه. حين نحصر نفوسنا في هذه الوجهة، نخفّف من بُعد الخبر. فالفصول الثلاثة الأولى في هوشع تكشف، في جملتها، شيئًا عن الوظيفة النبويّة. فالنبيّ ليس فقط ذاك الذي يكلّم الآخرين، بل أيضًا ذاك الذي يمتلك الشجاعة فيترك كلمتَه تواجهُه، تسائله. فعلى النبيّ الحقيقيّ أن يسعى لكي تتناسق حياتُه الشخصيّة مع تعليمه النبويّ.

وفي النهاية، نستطيع أن نتساءل: أما تقول لنا هذه الفصول الثلاثة شيئًا عن الزواج(19)؟ فزواج هوشع رمزٌ إلى العهد بين الله وشعبه. ولكنّ هذا العهد صار بدوره رمزًا للزواج. وهكذا نُدعى لكي نطرح السؤال على نفوسنا حول قيم الزواج والانفصال والغفران واللقاء من جديد. دعا الربّ هوشع لكي يأخذ جومر (1: 2). ودعاه مرّة ثانية بعد أن طلّقها (3: 1). طلّقها هوشع بمبادرة خاصّة منه (2: 5). وها هو الربّ يدعوه لكي يستعيدها. هكذا يكون لنا خطّ سيوصلنا إلى كلام يسوع: »ما جمعه الله، لا يفرّقه الإنسان« (مت 19: 6).

ب- النبيّ والتقليد

في دراسة(20) ظهرت سنة 1979، برزت حرّيّة هوشع بالنسبة إلى التقليد التاريخيّ. نستطيع أن نتخيّل إلى أيّ حدّ راعى الشعبُ تقاليد الآباء. وبالتالي نلاحظ جرأة هوشع في كلامه. هذا النبيّ مارس رسالته في مملكة الشمال، حيث كان لوجه يعقوب الاحترام الكبير. غير أنّ سلوك يعقوب طرح أكثر من سؤال. عذره القدّيس أوغسطين في كذبه: »ما هو كذب، بل سرّ«(21). ما خاف هوشع أن ينتقد أبا الآباء هذا (12: 3-7، 13-14). قال: »فيعقوب وهو في البطن، قبضَ على عقب أخيه« (12: 4). أزاحه عن البكوريّة كما نقرأ في تك 25: 19-28. ويتابع النصّ: »وفي أوان رجولته، صارع الله« (آ4). هو تلميح إلى تك 32: 23-33. وتصرّفُ يعقوب الذي صار عبدًا من أجل امرأة (آ13) يلمّح إلى إقامة يعقوب لدى لابان (تك 29)، ويعارض معارضة كبيرة تصرّف موسى النبيّ (آ14). إذًا، لا يقدَّم جدُّ الشعب على أنّه بطلٌ مثاليّ بحيث نُخفي أخطاءه. تجرّأ هوشع فندّد بكذبه، ودعا الأشياء بأسمائها. فكلّ ما في تاريخ شعب إسرائيل ليس بصالح. والعهد القديم هو مسيرةُ خطيئة الإنسان وغفران الله.

وانتقاد هوشع للتقليد التاريخيّ في شعبه، يَبرز أيضًا في الاسم الذي أعطاه لولده الأوّل: »يزرعيل«، الله يزرع. »بعد وقت قصير، أعاقب بيت ياهو على الدماء التي سفكها في يزرعيل« (1: 4). حارب ياهو بيت عمري التي انتمى إليها آخاب وإيزابيل، اللذين أدخلا ديانة البعل إلى مملكة إسرائيل (2مل 9-10). وافق الشعب على ما فعله ياهو، لأنّه ردّة فعل من قبل الإيمان اليهويّ. أمّا هوشع فحكم على بيت ياهو. فالقتلُ الذي اقترفه خطير كأصناميّة أسلافه. وهكذا اختلف هوشع هنا كلّ الاختلاف عن النبيّ أليشع، ساعة حصلت هذه الأحداث الدامية (2مل 9: 1-10).

هنا دلّ هوشع على حرّيّته تجاه التقليد النبويّ، ولا سيّما في ف 1-3. فالقول النبويّ المتحدّث عن الشقاء، هو القول الأدبيّ التقليديّ عند الأنبياء22. وسوف ينتشر »التهديد« انتشارًا واسعًا بحيث يكاد يؤدّي إلى اليأس. ماذا بعد ذلك؟ ألا يرى النبيّ سوى الخطأ؟ وأين كلام التشجيع والرجاء؟ فكلّ هذا »التهديد« يتضمّن عنصرين: الاتّهام والخيانة. ثمّ: إعلان العقاب مع الأداة »ل ك ن«، لذلك، وكأنّ العقاب هو النتيجة الحتميّة للخطيئة. استعمل هوشع مرّتين هذه الطريقة، في السلسلة الأولى من أقواله، في القول الثاني (2: 7-9) وفي القول الثالث (2: 10-15). وما يلفت النظر، هو أنّ القول الانتقاليّ (2: 16-17) يقلب هذه البنية قلبًا تامٌّا. فبعد مجموعة أقوال الشقاء، التي تنتهي مع »وأنا نسيتني« (2: 15)، تابع النبيّ: »لذلك« (2: 15). وانتظرنا أن يُعلَن الشقاء. ولكنّه لم يُعلَن. بل توسّع القولُ النبويّ في إعلان السعادة. وهكذا نكون أمام قطيعة جذريّة مع التقليد.

فخيانةُ الشعب لا تحرّك العقاب، بل »لذلك«، بسبب خيانات إسرائيل عينها، الله يعد بالسعادة: »أردّ لها« (2: 17). هذا العطاء المجّانيّ يطلب جوابًا من قِبَل الخاطئ ويثير فيه رغبة بالعودة: »حينئذ تقول: أعود إلى زوجي الأوّل« (2: 9). ولكنّ الغفران المجّانيّ أكثر فاعليّة، وهذا أمر واضح. لأنّ العودة لا تبقى مجرّد رغبة، بل تصبح حقيقة وواقعًا: »هناك تجيب« (2: 17). أَعلن عددٌ من الأنبياء إعادة البناء فقالوا أقوال السعادة، ولكنّ الوضع الحالي يدهشنا. لا، »بالرغم من الخيانات«، بل »بسبب الخيانات«، منح الله غفرانَه. فالله يحتفظ لنفسه بالحقّ بأن يجعل فينا الدهشة والتعجّب. »أيجب أن تكون حسودًا لأنّي أنا صالح؟« (مت 20: 15).

كان هوشع حرٌّا بالنسبة إلى التقاليد التاريخيّة، والتقاليد النبويّة. وكان حرٌّا أيضًا تجاه تقليد الشريعة. اعتبر بعض الشرّاح أنّ عبارة »ما هي امرأتي ولا أنا زوجها بعد« (2: 4) تقابل عبارة الطلاق(23). لقد أعلن الزوج نهاية ارتباطه بزوجته ورأي الشرّاح أنّ لا حاجة إلى دعوة علنيّة أمام محكمة قانونيّة. فهو قرار اتُّخذ في قلب العائلة(24). والمرأة المطلّقة تعود في شكل طبيعيّ إلى أبيها (لا 22: 13؛ قض 19: 2). وبما أنّه ينبغي على الرجل أن يؤمّن اللباس لامرأته (خر 21: 10 مع الطعام وسائر الحقوق الزوجيّة)، فهو يقدر أن يستعيد، في وقت الطلاق، ما أعطاها(25). إذا الطلاق أُعلن بسبب الزنى، يُبرز هذا الطقسُ الطابعَ المشين لهذه الفعلة. حينئذ تعامَل المرأة كزانية وبغيّ (2: 12).

هل استند هوشع إلى حقّه هذا؟ يشير النصّ إلى أنّه وجّه إليها كلامًا أخيرًا »تنزع عن وجهها« (2: 4). ثمّ هدّد بأن يستعيد اللباس: »وإلاّ سأعرّيها« (2: 5). فالمرأة الزانية تُسحَق حتّى الموت، بحسب الشريعة (لا 20: 10). ما تعلّق هوشع بحقّه، أيٌّا كان الثمن. وما أراد أن يطالب في الحال ومن دون تأخير. ولكن هنا تمّت القطيعة مع الشريعة، ساعة استعاد زوجتَه الزانية. فنقرأ ما يُقال في سفر التثنية (24: 1-4): »إذا تزوّج رجل بامرأة، ولم تعد تجد حظوة في عينيه... ويصرفها من بيته... فإن تزوّجت رجلاً آخر، لا يحلّ لزوجها الأوّل الذي طلّقها أن يعود ويتزوّجها«. ارتبط سفر التثنية بإصلاح يوشيّا سنة 622 ق.م. فجاء بعد هوشع بمئة سنة ونيّف. ثمّ إنّ هذا السفر مرتكز على تقاليد قديمة قد تعود إلى مملكة الشمال حيث مارس هوشع رسالته. ربّما نحتفظ ببعض الشيء أمام تفصيل أو آخر من الشريعة، لا ينطبق على النبيّ. ومع ذلك، فهذه الشريعة تفهمنا أنّ الرجل لا يستعيد امرأته.

ذاك كان أيضًا موقف إرميا النبيّ، على ما يبدو: »إن طلّق رجلٌ امرأته فتركته وتزوّجت بآخر، فهل يحقّ بعد لها أن تعود إليه؟« (إر 3: 1). إذًا، تصرّف هوشع في شكل يعارض الشريعة. فكما غفر الربّ لإسرائيل الخائن، كذلك غفر هوشع لجومر الزانية. فالحبّ هو فوق الشريعة. وهكذا كان النبيّ هوشع سابقًا ليسوع المسيح الذي فيه تصبّ أقوال الأنبياء: »قالوا له: لماذا إذًا أمر موسى بأن تُعطى كتاب طلاق حين تطلّق؟« نجد هنا تلميحًا إلى شريعة تث 24: 1. وماذا كان جواب يسوع؟ »بسبب قساوة قلوبكم سمح لكم موسى بأن تطلّقوا نساءكم. ولكن لم يكن في البدء هكذا« (مت 19: 7-8). وهكذا يمكن أن نتساءل: أما تكون فعلة هوشع حين استعاد امرأته، الوجهة اللافتة في كلّ خبرته الزواجيّة، وهي تقدر أن تكلّمنا نحن اليوم؟

الخاتمة

حاولنا في هذه الدراسة أن نراعي النصّ كما هو في الكتاب. فاستعملنا مقاربة سنكرونيّة، تواقتيّة، فتسلسلت الأقسام تسلسلاً كاملاً. وأتاحت لنا انتقالاتٌ دقيقة أن ننتقل من قسم إلى آخر. ما طلبنا أن نُبرز كلَّ البنى التفصيليّة وتكرار الألفاظ، وسائر العناصر الأسلوبيّة، بعد أن سبَقنا آخرون إلى ذلك. فنستخلص من هذه المجموعة نتيجتين اثنتين. الأولى: حياة النبيّ هي كرازة. وكرازته بدّلت حياته الخاصّة. قَبِل النبيّ بأن يواجه نفسه ويسائلها بما يقوله للآخرين. النتيجة الثانية: تحطّمت التقاليد التاريخيّة والنبويّة والتشريعيّة، وتمّ تجاوُزها. فالخبر لا يصدر من شرّ يتكاثر فيه عدد القتلى. وحيث الخيانة تسبّب العقاب، نتجَ الوعد. وحين لا مجال للعودة بعد القطيعة، يتمّ الاجتماع ويعود الرباط الزوجيّ. في هذه الحالات الثلاث، أتيح للنبيّ بأن يتجاوز التقاليد: فالحبّ أقوى من الموت.

في خطّ أوّل، برزت أمانة النبيّ تجاه جومر، بالرغم من كلّ شيء، بل بسبب كلّ شيء. وفي خطّ ثانٍ، بانت حرّيّة النبيّ تجاه التقليد. هكذا يكون النبيّ الحقيقيّ: يمارس أمانة هي حرّيّة، ويمارس حرّيّة هي أمانة.

 

 

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM