الفصل العاشر: زيارة ملك سبأ إلى سليمان

الفصل العاشر:

زيارة ملك سبأ إلى سليمان

جاءت إلى أورشليم ملكة لا نعرف اسمها، وبقيت أرضُها سرًا(1) علينا، لكي تمتحن حكمة سليمان طارحة عليه الأحاجي والألغاز(2). انبهرت تلك الغريبة بأجوبة الملك كما بالغنى في بلاطه، فأخذتُ تُبارك إلهَ إسرائيل. ثم قدّمت للملك هدايا ثمينة قبل أن تعود إلى أرضها حاملة الهدايا التي قدّمها لها مضيفُها. أورد 1مل 10:1-13 هذا الخبر الشيّق، واستعاده 2 أخ 9:1-12 مع تعديلات طفيفة، خبر زيارة ملكة سبأ،الغريبة التصرّف، إلى سليمان، وهو في قمّة مجده، فجعلَنا كما في حلم، لا سيّما وأن النّص يترك وراءه عددًا من الأسئلة التي لم تلقَ لها جوابًا: ما هي الألغاز التي طرحتها الملكة؟ هل نقدر أن نتعرّف إلى مملكتها؟ أما نكون أمام »قصيدة حبّ« تولّدت من لقاء بين ملك وملكة غنيّين جدًا(3)؟ في أي حال، كان لهذا الخبر صداه في العهد الجديد(4)، وفي التقاليد الشعبيّة لدى عدد كبير من شعوب الشرق الأوسط وأفريقيا.

أما أنا فأكتفي بنصّ سفر الملوك الأول، الذي هو في أساس جميع التقاليد اللاحقة. وأعالجه من خلال ثلاث زوايا متكاملة: أولاً، في السياق الأدبيّ لخبر سليمان. ثانيًا، في ديناميّته الداخليّة. ثالثًا: أتساءل حول أصل النّص وما حصل فيه من تحوّل.

1- زيارة ملكة سبأ في إطار خبر سليمان

إن الحدث الذي فيه تتدخّل ملكة سبأ، نقرأه في خبر سليمان (1 مل 1-11)، بل في نهاية الخبر تقريبًا (10:1-11). جاءت الملكة تتحقّق من حكمة ملك بلغت شهرتُه إليها. أمّا هذه الحكمة وهذه الشهرة فتحدّث عنهما 3:1-5:14، الذي هو جزء ينتهي بهذه الجملة: »كانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا (ل.ش م ع. رج »ش م ع«، السمع والشهرة، أي ما يُسمع عن انسان من خبر، 1مل 10:1) حكمة سليمان: ]فتلقّى الجزية[(5) من جميع ملوك الأرض الذين سمعوا بحكمته (أو: سمعوا حكمته 5:14). إن التقابل بين 10:1 و 5:14 واضح.

روى 1 مل 1-2 كيف اعتلى سليمان العرش، وكيف جرت أعماله في ظروف دراماتيكيّة سال فيها الدمُ مدرارًا. فسليمان الذي دلّ عليه يهوه (1 مل 2:15؛ رج 2 صم12: 24-25)، لم يكن وارثَ داود المنتظر. فأُجبر على مواجهة أدونيّا، شقيقه من أبيه، الذي يسانده يوآب، قائد الجيش منذ زمن بعيد. فما أن وصل سليمان إلى الحكم، حتى قتل قائد الجيش هذا. إن ف 11 يقابل هذا الخبر، لأنه يتكلّم عن يهوه الذي رذل سليمان، فحرّك عليه عددًا من الخصوم، ومنهم يربعام. فحاول سليمان أن يقتله كما قتل أدونيا ويوآب. وفي قلب هذه المجموعة نجد بناء الهيكل، الذي هو أعظم أعمال سليمان. كل هذا نستطيع أن نراه في لوحة لافتة للنظر(6).

أ      1:1-2:46 اعتلاء سليمان للعرش. حين أراد سليمان الحصول على عرش داود أبيه، وجب عليه أن ينتصر على أدونيا مزاحمه، الذي يسانده يوآب. ما تردّد في إزالة هذين الخصمين. أما حلفاؤه هو، فهم أمه بتشابع، والنبي ناتان. وينتهي هذا القِسم بمقتل شمعي الذي ارتبط ببيت شاول، والذي يمثّل الخطر الآتي من قبائل الشمال.

ب    3:1-5:14   حكمة سليمان العظيمة. نال سليمان هذه الحكمة خلال حلم في جبعون (3:4-15)، ومارسها حالاً حين حكَمَ بين بغيّين تتخاصمان على ابن واحد (3:16-28)، وحين نظّم مملكته. أتاحت له هذه الحكمةُ غنى كبيرًا (4:1-5:8)، واشتملت معرفة واسعة أقرّ بها العالمُ كله (5:9-14).

ج     5:15-9:25  بناء الهيكل. يشكّل هذا القسم الطويل (حيث يُبنى القصر الملكي مع الهيكل) قلبَ خبر سليمان. ونحن نتميّز فيه البنية التالية:

ج أ،  بناء المعبد بمساعدة حيرام، ملك صور، وباللجوء إلى السخرة (5:15-7:51).

ج ب، نقل تابوت العهد وحلول مجد يهوه في المعبد (8:1-12).

ج ج، اجتماع ليتورجي، يخطب خلاله سليمان في الشعب، ويرفع صلاة إلى يهوه، ويقدّم ذبائح (8:13-66).

ج ب ب، ظهور الله لسليمان: وعد ووعيد بالنسبة إلى الهيكل (9:1-9).

ج أ أ، معاهدة مع حيرام وأعمال السخرة من أجل البناء (9:10-24).

خاتمة: خدمة الهيكل (9:25).

ب ب    9:26-12:29 حكمة سليمان وغناه. »فاق الملك سليمان بحكمته وغناه جميع ملوك الأرض« (10:24). فجاءت زيارة ملكة سبأ تُثبّت هذا الغنى وهذه الحكمة. جمع الملكُ الخيل والمركبات (آ 26)، كما سبق له وجمع الأقوال المأثورة والأناشيد (5:12). يتضمّن هذا القسم العناصر التالية:

أ - غنى سليمان الذي يغذّيه أسطول عصيون جابر.

ب - زيارة ملكة سبأ.

ج - غنى سليمان الذي يغذّيه أسطول ترشيش وحيرام.

أ أ         11:1-40  نهاية سليمان. انجذب الملك في شيخوخته من الوثنيّة بواسطة نسائه الغريبات العديدات اللواتي أحبّهن (آ 1-8)، فرذلَه يهوه (آ 9-13)، وحرّك عليه هدد الأدومي ورزون (آ 14-25)، ثم يربعام الذي أعانه النبي أحيا الشيلوني (آ 26-40). أراد سليمان أن يقتل يربعام الذي جرّ قبائل الشمال إلى الانفصال، ولكنه لم يقدر.

11:41-43         نهاية الملك.

يلفت نظرنا القسم المركزيّ المكرّس للهيكل (ج)، الذي تحيط به توسّعات حول غنى (ب) سليمان وحكمته (ب ب). وهكذا يبدو الرباط واضحًا بين الهيكل والغنى: فتمويل هذا المشروع يتطلّب المواد الثمينة والأموال الطائلة. للوهلة الأولى، لا نتوقّع رباطًا بين الهيكل والحكمة. ومع ذلك، فهو جوهريّ بلا شكّ، لأن كليهما يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بالنظام الكونيّ. ففي أصول الحكمة المشرقيّة، نجد مراقبة الطبيعة، حيث الانسان المستنير يكتشف نواميس هذه الطبيعة: فالكواكب تسير سيرة معروفة لا تحيد عنها. والزمن تسوسه تحرّكات القمر (الشهر) والشمس (اليوم، السنة). في هذا الخطّ، توسّعت حكمةٌ واسعة تحاول أن ترتّب عناصر الطبيعة. وهكذا، تكلّم سليمان عن الأشجار، من الأرز الذي في لبنان، إلى الزوفى النابت في الحائط. وتكلّم أيضًا عن البهائم والطيور والزحّافات والأسماك (1 مل 5:13). ويبدو أن مثل هذه الحكمة تجتذب شعوب الأرض وملوكها (آ 14). والأمثال، التي هي عبارة أخرى كبيرة عن الحكمة القديمة، تندرج في الخطّ عينه: فالموضوع هو تحديد النتائج الثابتة لأعمال الانسان ومواقفه. هذا يعني تمييز »نواميس« تصرّفات البشر، التي تشبه نواميس الكواكب. فالهيكل هو قفل القبّة في ذات النظام الكونيّ(7)، كما تحاول الحكمة أن تعرفه(8). هو بيت يقيم فيه اللاهوت. وهو أيضًا مكان تتلامس فيه السماء والأرض (على المستوى العموديّ(9)). ومركز المساحة الجغرافيّة (على المستوى الأفقي(10)). وفي الوقت عينه، الهيكل هو تمثّل الكون. لهذا، تفصّل نصوصُ البيبليا(11) شكله وأبعاده ومواده، كما تفعل نصوص أخرى ترتبط بالحضارات المشرقيّة. فوجبتْ من أجل بناء الهيكل، معرفةٌ تامّة للنظام الكونيّ، أي حكمة خارقة. مثلُ هذه الحكمة جاءت ملكةُ سبأ لكي تراها في سليمان. فالجمع بين الهيكل والحكمة أمر صريح، ولا سيّما حين يقول الراوي إن »ملكة سبأ رأت حكمة سليمان والبيت الذي بناه« (آ 4).

وخبر زيارة ملكة سبأ، يرتبط أيضًا ارتباطًا بالقسم أ أ، وبشكل خاص بموضوع زواج سليمان من نساء غريبات. منذ 3:1، كان الراوي تحدّث عن زواج الملك بابنة فرعون. وهذا الموضوع سوف يعود في 7:8؛ 9:16؛ 11:1، فيرتبط ينجاح سليمان الذي صار مساويًا لأعظم الملوك. ولكن في ف 11، نرى النساء الغريبات يحوّلن قلبَ الملك عن يهوه، ويجتذبنه إلى عبادة الأوثان (آ 1-8)، كما ستفعل ايزابيل، أميرة صور، مع زوجها آخاب، ملك السامرة. في الخط عينه، يجعل أم (ف 2؛ 5-7) وسي 9:8 من المرأة الغريبة نقيض الحكمة التي هي أمانة للشريعة. بما أنها تُجسّد الجهالةَ (الجنون)، فهي تقود إلى الموت أولئك الذين تخلبهم. تجاه هذه الصورة السلبيّة، نجد نساء أخرى مثل تامار، وبغيّ أريحا التي أتاحت لبني اسرائيل الدخول إلى أرض الموعد، وراعوت الموآبية التي تضامنت مع شعب اسرائيل فصارت جدّة داود. هؤلاء صرنَ في المقابل، خادمات لعمل يهوه تجاه شعبه.

وملكة سبأ، كما في الخبر البيبلي، ليست تلك التي تغوي الملك، مهما رسمت عنها التقاليد اللاحقة من صُوَر خياليّة. ففي صعودها إلى أورشليم، توخّت فقط أن تُكرم حكمة سليمان. وفي النهاية، امتدحت يهوه، إله اسرائيل (1مل 10:9)، فبدت مختلفة كل الاختلاف عن نساء الملك الغريبات. من خلال هذه الصور النسائيّة، نقرأ مسألةَ علاقةِ اسرائيل بسائر الأمم. فعديدة هي النصوص البيبليّة التي تتحدّث عن علاقة من العداوة والمزاحمة والتنافر، بل الحرب. مثلاً، نرى جمهورًا كبيرًا من جميع الأمم الوثنيّة يهجمون مع ملوكهم على أورشليم(12). أما ملكة سبأ فهي سفيرة العالم الوثني، الصاعد إلى أورشليم، وهو يحمل التقادم للمدينة المقدّسة وهيكلها. نقرّب كل هذا من حج 2:6-9؛ أش 60: 1ي، ومن لوحة المصالحة بين شعوب جاؤوا إلى جبل يهوه لكي يسمعوا شريعته (أش 2:2-5؛ مي 4:1-4).

2 - ديناميّة الخبر

أتاح لنا السياقُ الأدبيّ لحكم سليمان أن نُلقي ضوءًا لا بأس به، على حدث زيارة ملكة سبأ. والآن، نُلقي نظرة أكثر دقّة إلى الخبر نفسه. فالمقطوعة التي يحيط بها مجيء الملكة ورواحُها، تشكّل كلاً محدّدًا. ولكن كيف تنتظم؟ إن التكرارات والتقابلات تُعيننا على قراءة النّص واكتشاف بنية متداورة(13) فيه.

1 أ وملكة سبأ سمعت سماعًا(14) (بشهرة) بسليمان باسم يهوه.

1 ب فجاءت تمتحنه بأحاج.

2 أ وجاءت إلى أورشليم بموكب(15) عظيم جدًا، بجمال حاملة أطيابًا وذهبًا كثيرًا جدًا وحجارة كريمة(16).

2 ب وجاءت إلى سليمان، وكلّمته بكل ما في قلبها.

3 أ   فأخبرها سليمان بكل كلامها.

3 ب وما كانت كلمة مخفيّة عن الملك إلاّ وأخبرها بها.

4 أ          ورأت ملكة سبأ كل حكمة سليمان

4 ب والبيت الذي بناه

5 أ      وطعام مائدته، ومسكن عبيده، وثيابَ خدَمه ولباسهم،               وسُقاته، ومحرقاته التي كان يُصعدها في بيت يهوه

5 ب فلم يبق فيها روح بعد

6 أ          فقالت للملك:

»صادقة كانت الكلمة التي سمعتُها في أرضي

6 ب      على كلماتك وعلى حكمتك.

7 أ          لم أصدّق هذه الكلمات حتى جئتُ ورأتْ                      عيناي: وها لم أخبرَ إلاّ بالنصف!

7 ب      زدتَ حكمة وطيبة (صلاحًا) على السماع                    (الشهرة) الذي سمعتُه.

8 أ          طوبى لرجالك، طوبى لعبيدك هؤلاء

8 ب      الواقفين أمامك دائمًا، السامعين حكمتك!

9 أ              ليكن مباركًا يهوه إلهك الذي سُرّ بك                          وجعلك على عرش اسرائيل،

9 ب          بمحبّة يهوه لاسرائيل إلى الأبد، وأقامك                           مَلكًا لتصنع الحكم والبرّ«.

10 أ         وأعطت الملك مئة وعشرين وزنة ذهب،                         وأطيابًا كثيرة جدًا، وحجارة كريمة.

10 ب         ولم يجئ بعد مثلُ ذلك الطيب، في الكثرة،                      الذي أعطَتْه ملكةُ سبأ للملك سليمان.

11 أ         وأيضًا سفينة حيرام التي حملت ذهبًا من أوفير

11 ب         جاءت من أوفير بخشب الصندل(17) كثيرًا جدًا                    وبحجارة كريمة.

12 أ         فعمل الملك بخشب الصندل درابزينًا(18) لبيت يهوه                  ولبيت الملك، وكنارات وأعوادًا للمغنّين،

12 ب    ولم يجئ ولم يُرَ مثل خشب الصندل ذلك إلى هذا                   اليوم.

13 أ      والملك سليمان أعطى ملكة سبأ كل مشتهاها الذي سألت، عدا                  ما أعطاها إياه حسب يد(19) الملك سليمان

13 ب   وانصرفت وذهبت إلى أرضها، هي وعبيدها.

قدّمنا بنية النص بشكل تعاكس، ولكن تقديمنا هذا ليس مطلقًا، لأننا قرأنا عددًا كبيرًا من تكرارات أخرى. غير أننا نلاحظ تقابلات لها معناها

-  بين وصول الملكة وذهابها (آ 1-2 و آ 13 ب).

-   بين العملين (الوحيدين) اللذين قام بهما سليمان: أخبر الملكة بكل شيء (آ 3). قدّم لها هدايا من كل نوع (آ 13أ).

-   بين ورود لفظ »بيت« أربع مرات في آ 4-5 (ما رأت الملكة) وفي آ 11-12 (ما صنع لها الملك). وفي كل مرة، بدا اللفظ وكأنه يدلّ أولاً على القصر الملكيّ، ثم على الهيكل.

-   بين كلام الملكة (آ 6-9: »قالت للملك«، آ 6أ) وعملها (آ 10: »وأعطت الملك«، آ 10أ).

في قلب كلام الملكة، تتميّز آ 9، لأنها تنتقل من الاعجاب بالملك إلى مديح يهوه، مع ذكر اسرائيل مرّتين، وهذا أمر لا نجده في سائر الآيات. لهذا، نقترح أن نرى في هذه الآية قلب المقطوعة كلها. ونحن نسند هذه الفرضيّة إلى اعتبار آخر: موضوع »الحكمة« يُشرف على آ 3-8، حيث يرد اللفظ (ح ك م ه) أربع مرات ولن يعود في آ 10- 13. وموضوع العطاء (ن ت ن) الذي غاب من الجزء الأول من النص، يرد أربع مرات في آ 10-13 أ فيُشرف عليها. في قلب المقطوعة، تنسب آ 9 فعل العطاء إلى يهوه. وإن كانت لا تستعمل لفظ »ح ك م ه«، فهي تنسب إلى سليمان مهمة إقامة »الحق والعدل« من قِبَل الربّ، وهذا ما يعود بنا إلى الحكمة (رج المشهد في 1 مل 3). إذن، نعتبر أن آ 9 هي الذروة في هذه المقطوعة. وهذا ما يدعونا إلى معالجة ما يسبقها (آ 3-8) وما يليها (آ 10-13) قبل أن نعود إليها (آ 9).

* تروي آ 1-8 كيف جاءت ملكة سبأ إلى أورشليم لكي تتحقّق من شهرة سليمان، وتمتحن الحكمة العظيمة التي نُسبت إليه(20). فالملكة »سمعت« مَن يتكلّم عن شهرته (آ 1-6-7). والآن، يُخبرها سليمان، ويقدّم الجواب على أحاجيها (آ 3). وهي قد »رأت« حكمته، وقصْره، وحياته اليوميّة، والذبائح التي يقدّمها في الهيكل (آ4-7). أرادت أن تتحقّق، فكان لها ما رجت وأكثر: فحكمة الملك أعظم مما قيل لها. نلاحظ أن »المحنة« كانت على »أقوال« و»حكمة« الملك (آ 6أ)، لا على شيء آخر: بالأحاجي تحقّقت من هذه الحكمة. كنّا نظنّ أن الجواب على أسئلة طرحتها الملكة (آ 3) يكفي لكي ينجح الملك في الامتحان. غير أن الملكة لم تكتف بالنظر إلى حكمة سليمان، بل رأت أيضًا غناه العظيم جدًا، ونشاط العبادة في الهيكل. هذا يعني أن هذه العناصر الأخيرة هي علامات عن حكمته، شأنها شأن الجواب على الأحاجي. إن النجاح الماديّ الذي يشهد له غنى القصر وعظمة الولائم الملكيّة، هو نتيجة ملموسة للحكمة. ذاك كان في مكان آخر مرمى المجموعات المصريّة الكبيرة حول التعليم الحكمي(21). وعديدة هي الأمثال البيبليّة(22) التي تسير في هذا الخطّ.

هذا من جهة. ومن جهة أخرى، وكما سبق وقلتُ عن خبر سليمان في جملته، يشكّل الهيكلُ، وشعائرُ العبارة التي تقام فيه، تمثّلاً مميّزًا للكون وعلاقته بالله. وهذا النظام الكونيّ هو الذي يكوّن الموضوع الخاص بكل حكمة مشرقيّة. إذن، نخطئ بعض الشيء حين نقابل بشكل قاس مختلف أنماط الحكمة في 1مل 3: 14-15 (فنّ الحكم)، 3:16-28 (فنّ ممارسة العدالة)، 5:12-13 (ترتيب عناصر الطبيعة)، 10:1-13 (فنّ حلّ الأحاجي): نحن هنا أمام وجهات متنوّعة لمعرفة واحدة بالنظام الكونيّ، وهي معرفة تتُيح للملك أن يكون عملُه ناجحًا في مختلف الميادين بحيث يحصل على الغنى الكبير.

* أما آ 10-13 فنقرأها في إطار العطاء. هكذا يبدأ النص مع فعل »أعطت«. ففي آ 10، قدّمت الملكة لسليمان العطايا الضخمة. وفي آ 13أ، قدّم سليمان بدوره للملكة الهدايا الثمينة. في الحالتين، يُشير الراوي إلى أن لا شيء ضاهى هاتين الهديّتين. قد يعتبر القارئ أن الهديّتين تتقابلان، فيتحدّث عن »تبادل« على مستوى التجارة(23). ولكن ليس هذا ما يقوله النّص، الذي يتكلّم فقط عن العطايا، أي عن خيرات قُدّمت بشكل مجاني، وبحريّة تامّة. فالذهب والأطياب والحجارة الثمينة، التي حملتها ملكة سبأ، لا تُعتبر أجرًا لمعلومات قدّمها الملك سليمان، أو لأسرار سلّمها إلى ضيفته. والخيرات التي قدّمها الملك ليست تعويضًا عمّا تلقاه من عطايا(24). فهدايا الملكة بدت بالأحرى علامة تكريم مجرّدة لرجل حكيم التقت به. في آ 23-25، سوف نرى أيضًا أن »كل الأرض« قدّمت الهدايا لسليمان بسبب حكمته الآتية من عند الله. تندرج هذه العطايا في منطق الحكمة التقليديّة: فالخبرة تعلّمنا أن الحكيم يجتذب إليه تعاطف الآخرين، خصوصًا بسخائه، وفي النهاية ينال أكثر ممّا يكون طلب(25). إذن، غنى انسان من الناس يدلّ على حكمته، وهذه الحكمة تجلب له المال. فإن كان سليمان قدّم بدوره الهدايا للملكة، فعملُه لم يكن إيفاء لدين، بل لأنه رأى فيها أيضًا شيئًا من حكمته.

* تشكّل آ 9 قلب الخبر حيث يتداخل الحكم والحقّ (م شم ف ط. و. ص د ق ه)، وهذا ما يجعلنا قريبين من الموضوع المسيطر في آ 3-8 (الحكمة)، وذاك المسيطر في آ 10-13 (العطيّة). أنشدت الملكةُ الغريبة مديح يهوه(26) الذي جعل سليمان على عرش اسرائيل. إذن، شعبُ اسرائيل ورباطه المميّز (ا هـ ب ه، المحبة) مع يهوه، هما في صدر هذه المقطوعة. والخبر لا يجعل الغريبة تتكلّم إلا لكي تجعل شعب اسرائيل في الوسط، في جوار يهوه، بحيث تصبح هي على الحدود. فلا نقلّل من أهميّة البعد الشامل للخبر، إلا لنرى فيه نظرة على مستوى الكون، حيث يشكّل الشعب وملكه في ارتباطهما مع الهيكل، صدره ومركزه. عرفت الأممُ حكمة ملك أورشليم وجاءت تعبّر له عن احترامها. وإن كانت وحدة شعوب الأرض ستتمّ، فهذا سيكون حول يهوه وشعبه الخاص. هذه النظرة ستعود بشكل خاص في أش 60.

3 - فرضيّات حول مسيرة الخبر الأدبيّة

من دوّن مثل هذا الخبر، وما كان هدفه؟ قبل أن نجيب عن هذا السؤال، يجب أن نتساءل إذا كان هذا النصّ، شأنه شأن نصوص عديدة في الأدب البيبليّ،  عرف تاريخًا أدبيًا توزّع على مرحلتين أو ثلاثة. إذن، نبدأ فنحلّ الخيوط المتشابكة في تدوين النٌّص.

أ - النقد الأدبيّ

حسب معرفتي، أدقّ بحث في هذا الموضوع، حتى الآن، كان بحث باكا سركيو(27) الذي استعاد قسمًا كبيرًا من طروحات أرنست ورتفاين(28)، فجاء بحثُه امتدادًا لما سبق. نبدأ فنتفحّص بشكل خاص فرضيّاته

اعتبر الكاتب أولاً أن حدث زيارة ملكة سبأ يقطع التواصل بين 9:26- 28 و 10: 16-17(29)، وأنه أُقحم بشكل ثانوي في سياق أقدم منه(30). في الواقع، نستطيع أن نقرأ هذين المقطعين الواحد بعد الآخر: نظّم سليمان أسطولاً جاء بالذهب، وهذا الذهب استُعمل لصناعة التروس. فخبرُ مملكة سبأ، الذي انتمى أولاً إلى ينبوع مستقلّ فظهر بعد 1 مل 5:10، 14، قد يكون أقحمه هنا مدوّنٌ اشتراعيّ توخّى أن يبيّن منابع أخرى لغنى الملك. هل هذا الشرح يفرض نفسه؟ إنه يرتبط بدراسة إجماليّة لخبر سليمان، تتجاوز كل التجاوز هذا العرض. كما يمكننا أن نتخيّل حلاً معاكسًا: انتمى جوهر خبر ملكة سبأ إلى الرواية الأولى لحكم سليمان (1 مل 3-10) حيث كوّن امتدادًا لما في ف 3. ثم أضيف فيما بعد إلى هذا الحديث، موضوعُ الغنـى الكبير للملك، فأعطاه بُعدًا أوسع.

في نهاية آ 1أ، شكّلت العبارة »ل ش م. ي هـ و ه« (لاسم يهوه أو من أجل اسم يهوه)، بلا شكّ، إضافة: فهذه العبارة تدخل بصعوبة في النص. وهي أيضًا غائبة من النص الموازي في 2 أخ 9:1. إذن، من المعقول أن لا يكون المؤرّخ  (الذي كتب 1 أخ، 2 أخ) قرأ هاتين اللفظتين في النص الأوّلاني. هذا يعني أننا أمام حاشية متأخّرة جدًا، قد يكون وضعها قارئ أراد أن يفسّر آ 4ب، فحدّد أن »البيت« الذي بناه سليمان هو الهيكل، لا القصر(31).

وكوّنت آ 9 عنصرًا آخر حديثًا، وهذا ما نلاحظه من الألفاظ التي وصفها عدد من الشرّاح(32) بأنها »اشتراعيّة«.ولكننا نعرف أن هذه الألفاظ استعادها كتّاب متأخّرون(33). مثلاً العبارة »ع ل. ك س ا.ي س ر ا ل (على كرسيّ اسرائيل، على عرش اسرائيل) تظهر أيضًا في 1مل 8:25 و 9:5، بيد كاتب واحد عاش في الحقبة الفارسيّة(34). ونقول الشيء عينه عن موضوع محبّة (ا هـ ب ه) يهوه لاسرائيل. فهو ليس محصورًا في التقليد الاشتراعيّ. فنحن نجده أيضًا في نصوص بعدمنفاويّة، مثل هو 3:1(35) أو أش 63:9. وفعل (الله) »يُسرّ« (ح ف ص) مع حرف الجر (ب) والضمير (ك)، لا يُقال إلاّ في نصوص متأخّرة(36) هذا إذا وضعنا جانبًا آ 9 وما يوازيها في كتاب الأخبار.أما التشديد على الدوام (ل.ع ل م ، إلى الأبد)، فيقابل نصوصًا مثل 2 صم 7:18-29 أو مز 89 و 132، التي تفسّر قول ناتان النبويّ في سياق من القلق عرفته الحقبة الفارسيّة(37).

والآيتان 11-12 اللتان تبدوان بشكل استطراد (لا حديث عن الملكة، بل عن حيرام، ملك صور)، تشكّلان عنصرًا آخر مضافًا(38). هل نرى فيهما شرحًا كما في 9:26-28، حيث الكلام أيضًا عن ذهب أوفير الذي جاءت به سفن حيرام(39)؟ في هذه الفرضيّة، نستطيع أن نتساءل: لماذا أُقحمت هاتان الآيتان في هذا الموضع من النّص، بعد أن ابتعد عن الآيات المشروحة؟ يبدو لنا من المعقول أن نفهم آ 11-12 في معنى امتداد لما في آ 10، مع استعادة الموضوع الأخيرة: »لم يأت بعد مثل ذلك الطيّب« (ط و ب)(40). إلاّ إذا كان هو نفسه دوّن هاتين الآيتين، فعرف أيضًا 9:26-28 واستلهمه. في أي حال، إن الاضافة تفسّر غنـى سليمان على أنه مَعدّ لشعائر العبادة، وهذا ما يتوافق مع اهتمامات الجماعة المؤمنة، في أورشليم، في الحقبة الفارسيّة(41). عندئذ لا شيء يمنع أن تنتمي آ 9، 11-12 إلى ذات التدوين.

ونتوقّف أيضًا عند مسألة تطرحها آ 5أ: »ومحرقته التي أصعدها في بيت الربّ«. لا يتوافق هذا العنصر النصوصيّ كل التوافق مع ما سبق: البزخ في القصر، ولا سيّما الولائم التي يقدّمها الملك. فموضع الذبائح هو الهيكل لا القصر الملكيّ. ونفهم أيضًا أن الملكة »لم يبق فيها روح« من الدهشة والاعجاب، حين رأت مثل هذا الغنى. ولكنها لم تتأثّر كثيرًا بالمحرقات التي عُرفت معرفة في الشرق القديم(42). إذن، تشكّل آ 5أ عنصرًا مضافًا(43). ونلاحظ مرّة أخرى الاهتمام بشعائر العبادة. ففي النّص الحالي، ما يجعل الملكة تدهش هو رؤية المحرقات. وهكذا نكون في خط الإضافة التي نقرأها في آ 9، 11-12.

واكتشف سركيو أيضًا إضافتين آخريين، فبدا اكتشافه أقلّ يقينًا(44). في آ 2أ، نعرف أن ملكة سبأ جاءت بقافلة كبيرة تحمل أغنى الأشياء، وأنها قدّمتها إلى سليمان، في آ 10. نجد صعوبتين في هذا العنصر. من جهة، هو يحطّم التسلسل الطبيعيّ بين آ 1ب (جاءت تمتحنه بالأحاجي) و آ 2ب (وكلّمته بكل ما كان بقلبها)(45). ومن جهة ثانية، إن كانت الملكة غنيّة جدًا، لا نفهم دهشتها أمام ما ترى في القصر الملكي. فبالرغم ممّا يريد الراوي أن يقنعنا به، فقصرُ سليمان، شأنه شأن أرض يهوذا، لم يعرف البذخ الكبير، ولكن الأجيال اللاحقة(46) تخيّلت ترفًا كبيرًا. هكذا خفّت الصعوبة، وفهِمْنا أن هذه الايات ثانويّة. هل دوّنها الكاتب الذي دوّن آ 5ب، 9، 11-12؟ يحقّ لنا أن نتردّد. غير أن غياب كل إشارة إلى العبارة، يدعونا إلى الحلّ الذي عرضه سركيو: جاءت الاضافة أقدم، فعادت إلى الحقبة الملكيّة.

وهكذا أعيد تكوين النّص الأولاني: سمعت ملكة سبأ بشهرة سليمان، فجاءت تمتحن حكمته (آ 1). عرضت عليه الأحاجي (ا 2ب)(47)، فأعطاها الملك جميع الأجوبة المنتظرة(آ 3). رأت الملكة غنى القصر وبزخ الحاشية (آ 4-5أ)، فلم يبقَ لها روح (آ 5 ب). فعبَّرت عن إعجابها بحكمة الملك، وهنّأت الذين ينعمون بها (آ 6-8). عندئذ قدّم لها الملك هدايا (آ 13أ). وعادت الملكة إلى أرضها مع عبيدها (آ 13ب).

هل يورد هذا الخبر، بطريقته الخاصة، حدثًا تاريخيًا؟ ليس الأمر بمستحيل وإن كنّا لا نمتلك برهانًا على ذلك. ظنّ سركيو أن »ملكة سبأ« كانت في الواقع امرأة تنتمي إلى قبيلة من البدو، في شرقي الأردن. فتلك التي لم تكن تعرف سوى الحياة القاسية في الصحراء، انبهرت بالغنى الذي رأته في قصر أورشليم(48). ولكن قد يكون الخبر قديمًا جدًا، ولو استنبطه الكاتب استنباطًا(49). وربّما يكون دُوّن منذ عهد سليمان، في إطار كتاب يحمل الدعاية السياسيّة(50). في أي حال، رُوي هذا الخبر ليُبرز رفعة الملك العظيم الذي تسلّم حكمة آتية من عند الله (حلم جبعون) جعلته جديرًا بالحكم. وهذا ما يُثني كل محاولة يقوم بها أحد ليعترض على مثل هذا الملك.

ب - نسخة ثانية للنّص

في مرحلة ثانية، اغتنى الخبر حين ذكرَ قافلةً ترافق الملكة (آ 2أب)، وموضوع الهدايا الثمينة التي قدّمتها لسليمان (آ 10). وعرض سركيو، مرّة أخرى، شرحًا معقولاً لهذه الإضافة المزدوجة، التي يجعل تاريخ تدوينها في القرن السابع: حين عُرف الغنى العظيم في عرابية الجنوبيّة التي ازدهرت تجارتُها، تماهت »ملكةُ سبأ« مع ملكة تلك الأرض البعيدة. وبالتالي تكيّف النصّ: صارت تلك الأميرة (في الأصل) ملكة غنيّة جدًا. جاءت إلى أورشليم، وغمرت سليمان بهداياها التي اشتهرت سبأ بالاتجار بها (حز 27:22). لم يكن لهذه النسخة الثانية هدف سياسيّ أو لاهوتيّ جديد.

 

ج - نسخة ثالثة للنّص

إن إضافة آ 5أ، 9، 11-12، حوّلت العبرة من النّص بشكل ملحوظ، فأعطتها وجهة جديدة. فهذه الاضافات المختلفة، التي جاء بها مدوِّن عاش في الحقبة الفارسيّة، توخّت أن تجعل غنى سليمان في خدمة الهيكل: فهو الذي يقدّم المحرقة في بيت يهوه (آ 5أ). وهذا العمل هو الذي يدهش ملكة سبأ، فينقطع نفَسها ولا تعود تقدر أن تتكلّم. فالحكمة الحقيقيّة هي حكمة الشريعة، التي تفرض شعائر عبادة تشكّل النشاطَ المركزيّ في جماعة اسرائيل. ومثّلت الملكةُ العالم الوثني، فأنشدت مدائح إله اسرائيل، الذي يدلّ هكذا، على حبّه لشعبه (آ 9).

د - حاشية متأخّرة

والعنصر الأخير في النص يبدو بشكل حاشية في آ 1أ: »باسم يهوه«. إذا كانت هاتان اللفظتان لم تدخلا في النسخة الثالثة، وهذا ليس بمستحيل، فيجب أن نرى فيهما حاشية هامشيّة تفسّر مرّة أخرى الخبر وتجعله في خط عباديّ. فالقارئ يبدو وكأنه يفهم أن »البيت« الذي تتحدّث عنه آ 4ب يدلّ على الهيكل.

خاتمة

إن خبر 1 مل 10:1-13 الذي هو في أساس كل التوسّعات اللاحقة حول التقليد المتعلّق بملكة سبأ، ليس بالخبر الرومانسي(51). فهو يتميّز بإيجازه. ومع ذلك، فهو أكثر من طرفة نادرة(52) أو تذكّر مفروض لزيارة تاريخيّة قامت بها ملكةٌ في بلاط أورشليم، في منتصف القرن العاشر ق م. فبُعد الخبر، كما هو في البيبليا العبريّة، هو لاهوتيّ قبل كل شيء: إنه يُبرز تكريم العالم الوثني لإله اسرائيل، الذي منح لملك أورشليم حكمةً لم يكن لها مثيل (تث 4:6). كما يتوخّى أن يجعل من العبادة الذبائحيّة في الهيكل التعبيرَ المميّز عن هذه الحكمة. فهيكلُ أورشليم الذي هو أعظم عمل قام به ملك حكيم جدًا مثل سليمان، هو قلب العالم، ومفتاح قبّة النظام الكونيّ. فالوثنيّون أنفسهم دُهشوا به، وحملوا إليه تقادمهم، ورأوا في يهوه الالهَ الواحد الحقيقيّ، وفي اسرائيل شعبَه المقدّس. في هذا المعنى، يُصبح خبر ملكة سبأ لقرّائه في اسرائيل، وعدًا بمستقبل زاهر.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM